الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ فِي الْبَرْق وَفِي مستهل ذِي القعده أذن لعلاء الدّين خرم شاه ابْن صَاحب الْموصل ونعت بِالْملكِ السعيد لما تفرس فِيهِ من أَمَارَات السعد وَأقَام بعده عَمه عماد الدّين وَابْن عَمه معز الدّين سنجر شاه وهما صاحبا سنجار والجزيرة وحبوا بالحباء الوافر والعطايا الغزيرة وَمَا فارقا إِلَّا فِي السّنة الْأُخْرَى فِي ثَالِث صفر
قَالَ وغلت الأسعار عِنْد الفرنج حَتَّى بلغت الغرارة أَكثر من مئة دِينَار والسعر من الزِّيَادَة لديهم فِي اسْتعَار وبلوا بِأُمُور صعبة وهرب إِلَيْنَا مِنْهُم عصبَة بعد عصبَة فاستأمنوا إِلَيْنَا لفرط جوعهم وَلما شَبِعُوا عندنَا لم يَرْغَبُوا فِي رجوعهم فَمنهمْ من أسلم فَحسن إِسْلَامه وَمِنْهُم من خدم فَوَافَقَ استخدامه وَمِنْهُم من حن إِلَى إلفه فَرجع الْقَهْقَرَى إِلَى خَلفه
فصل
كَانَ القَاضِي الْفَاضِل رحمه الله فِي هَذِه الْأَوْقَات بالديار المصرية يرتب للسُّلْطَان أُمُوره من تجهيز العساكر وتعمير الأسطول وَحمل المَال وَنقل المير إِلَى عكا وَالسُّلْطَان يكاتبه فِي مهماته وَترجع أجوبته بِأَحْسَن عباراته مُشِيرا وناصحا ومسليا وباحثا عَن مصَالح الْإِسْلَام متقصيا فَمن بعض كتبه
الْمَمْلُوك يُنْهِي أَن الله تَعَالَى لَا ينَال مَا عِنْده إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَلَا تفرج الشدائد إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ والامتثال لأمر شَرِيعَته والمعاصي فِي كل مَكَان بادية والمظالم فِي كل مَوضِع فَاشِية وَقد طلع إِلَى الله تَعَالَى مِنْهَا مَا لايتوقع بعْدهَا إِلَّا مَا يستعاذ مِنْهُ
وَقد أجْرى الله تَعَالَى على يَد مَوْلَانَا أبقاه الله من فتح الْبَيْت الْمُقَدّس مَا يكون بِمَشِيئَة الله لَهُ حجَّة فِي رِضَاهُ ونعوذ بِاللَّه أَن يكون حجَّة لَهُ فِي غَضَبه
بلغ الْمَمْلُوك من كل وَارِد مِنْهُ مُكَاتبَة ومخاطبة بِأَنَّهُ على صفة تقشعر مِنْهَا الأجساد وتتصدع بذكرها الأكباد والمملوك لَا يتَعَرَّض لتفصيل مَا بلغه من ظُهُور الْمُنْكَرَات فِيهِ وشيوع الْمَظَالِم فِي ضيَاعه وخراب الْبَلَد وَعدم الْقُدْرَة على المرمة لقبة الصَّخْرَة وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وبالغفلة من مرمتهما وبفقدهما فِي أشتية الْقُدس الْعَظِيمَة الجليلة المثلجة لَا يُؤمن سُقُوطهَا وافتضاح الْقُدْرَة فِي الْعَجز عَن إعادتهما والمرمة أقرب متناولا من الْإِنْشَاء والتجديد
وَلَا شُبْهَة أَن مَوْلَانَا عز نَصره فِي أشغال شاغلة وَأُمُور متشددة وقضايا غير وَاحِدَة وَلَا مُتعَدِّدَة وَلَكِن قد ابْتُلِيَ النَّاس فصبروا وأضجرتهم الْأَيَّام فَمَا ضجروا وَأي عبَادَة أعظم من عِبَادَته الَّتِي قَامَ بهَا وَالنَّاس عَنْهَا قعُود وصبر فِي طلب جنتها على نَارِي الْحَرْب وَالْوَقْت ذواتي الْوقُود غير أَن مَوْلَانَا إِذا ذكر نصِيبه من
الاقدام فَلَا ينسى نصِيبه من الحزم وَلَا يعجل فِي الْأُمُور الخطيرة وَلَا يقدم بِالْعدَدِ الْقَلِيل على الْعدة الْكَثِيرَة فالمولى إِذا قَاتل كَانَ وَاحِدًا وَإِذا دبر كَانَ بالخلق وَلَا يطْمع بِأَن يقوم بِهِ الْألف وليذكر الْمولى نوبَة الرملة الَّتِي كَانَ وُقُوعهَا من الله سُبْحَانَهُ أدبا لَا غَضبا وتوفيقا لَا اتِّفَاقًا وَلَا يكره الْمولى أَن تطول مُدَّة الِابْتِلَاء بِهَذَا الْعَدو فثوابه يطول وحسناته تزيد وأثره فِي الْإِسْلَام يبْقى وفتوحاته بِمَشِيئَة الله يعظم موقعها وَالْعَاقبَة للتقوى {ولينصرن الله من ينصره}
وَالله تَعَالَى يشْكر لمولانا جهاده بِيَدِهِ وبرأيه وبولده وبخاصته وبعامة جنده والاعداء فِي أعدائه كجهاده بِصَاحِب صيدا فِي الفرنج فَهُوَ جِهَاد قد أربى فِيهِ رَأْي الْمولى فرجح وَالْحَدِيد بالحديد يفلح وأكيد مَا قوتل بِهِ الْعَدو سلاحه وأسرع جنَاح طَار لقبضه جنَاحه ودولة مَوْلَانَا كالبحر كرما وَظُهُور عجائب وكالسماء مَطَرا وأسنة كواكب
وَمن كتاب آخر الْمَمْلُوك يقبل الأَرْض بَين يَدي مَوْلَانَا الْملك النَّاصِر لطف الله بِقَلْبِه وَحمل عَنهُ وروح سره وَوصل الرَّاحَة بِهِ ونسأل أَن يرحمه بِنَا الَّذِي رحمنا بِهِ فقد بلغت الْقُلُوب
وَقد وقفت فِي طرقنا الذُّنُوب وبينما نَحن لنتظر من كتب الْمولى مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَن قلب الْمولى قد طَابَ وَقصد الْعَدو قد خَابَ إِذْ ترد كتب يكون الْوُقُوف عَلَيْهَا قَاطعا للأكباد مفتتا للقلوب وَلَو أَنَّهَا جماد
ثمَّ ذكر البطس الَّذِي تقدم ذكرهَا الْوَاصِلَة إِلَى عكا لَيْلَة نصف شعْبَان فَقَالَ وَبينا نَحن نعتقد أَن البطس فِي عكا وصل الْخَبَر بِأَنَّهَا فِي دمياط وَيَوْم وصل الْخَبَر بِأَنَّهَا فِي دمياط نَحن على انْتِظَار خُرُوجهَا مِنْهُ وَكتب البطائق بالاستحثاث والاستعجال وتحذيرهم من تمادي الْمقَام وَمَا تَيَقنا أخرجت أم هِيَ بَاقِيَة كَأَن الرّيح فِي بَيت مَا خرجت مِنْهُ فِي هَاتين الجمعتين وَلها من تَارِيخ خُرُوجهَا من الاسكندرية وَإِلَى تَارِيخ تسطير هَذِه الْخدمَة خَمْسَة عشر يَوْمًا والعيون ممدودة وَالْأَيْدِي مَرْفُوعَة بِأَن يفرج الله عَنَّا وعنكم بوصولها فَمن شبع فِي هَذِه الْأَيَّام فَمَا واسى الْمُسلمين وَمن نَام ملْء عَيْنَيْهِ فَمَا هُوَ من أخوة الْمُؤمنِينَ
والمملوك شفيق على البطس فِي وَقت الدُّخُول حذر أَن يعْتَرض الْعَدو طريقها فيحول بَينهَا وَبَين الْوُصُول فينعكس المُرَاد بهَا وَيحدث من الْمضرَّة بحرمانها أَضْعَاف مَا يحدث من النِّعْمَة بالفرج الْمسير فِيهَا وأكد هَذِه الْحَال فِي نفس الْمَمْلُوك وُقُوفه
على كتب أَصْحَابنَا من عكا وَقد وَقع لَهُم هَذَا الْوَاقِع الَّذِي وَقع للمملوك من خوفهم عَلَيْهَا واستبعادهم دُخُولهَا فَمَا الْمَمْلُوك وكل من يعرف الْأَمر إِلَّا كَأَهل الصِّرَاط رب سلم رب سلم
فنسأل الله سُبْحَانَهُ أَلا يكلنا إِلَى أَنْفُسنَا فنعجز وَلَا إِلَى النَّاس فنضيع ومجهود أهل الأَرْض قد انْتهى وَبَقِي مَا يَفْعَله الله وَالْخَيْر منتظر مِنْهُ والفرج بالقوت قد سير فِي الْبَحْر من خَمْسَة عشر يَوْمًا والفرج بِالنَّفَقَةِ قد سير فِي الْبر من عشرَة أَيَّام وَالله يَا مَوْلَانَا مَا ينجز شَيْء من هَذِه الْأُمُور إِلَى أَن تضرب الْوُجُوه بالشوك وتستحلب الْحِجَارَة وينبه النوام وتبح الْأَصْوَات من التذْكَار وتحفى الأقلام من الْكِتَابَة ويخضع لمن يلْزمه الشّغل كالخضوع لمن لَا يلْزمه وَالله الْمُسْتَعَان فَلْيخْلصْ الْمولى نِيَّته فِي الِاسْتِعَانَة فالأعوان قَلِيل (وَقد كَانُوا إِذا عدوا قَلِيلا
…
فقد صَارُوا أقل من الْقَلِيل)
وَمن كتاب آخر وَمَا تجدّد لِلْعَدو من الشُّرُوع فِي آلَات الْحصار لعكا وَمَا أرجف بِهِ من النجدتين الفرنجيتين الْوَاصِلَة والبعيدة وافتراق العساكر فِي هَذَا الْوَقْت للضَّرُورَة والتماس الْعَسْكَر الشَّرْقِي الدستور للضجر وحاجة الْمولى من الانفاق إِلَى مَا لَا يَسعهُ التَّدْبِير ويضيق عَنهُ الامكان ومطالبة الْغَنِيّ بِالزِّيَادَةِ مَعَ
الْغَنِيّ والضعيف بِأَكْثَرَ مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ وضياع فرْصَة بعد فرْصَة وَاخْتِلَاف رَأْي بَين المستشارين من الْجَمَاعَة وجود الْأَلْسِنَة بالآراء وبخل الْأَيْدِي بالمعونة وانفراد الْمولى بالتعب واشتراك النَّاس فِي الرَّاحَة وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ الْمُسلمُونَ من مرض أظهروه ليَكُون لَهُم عذرا فِي الْقعُود وكتمه الْمولى على نَفسه لِئَلَّا يجلب لِأَصْحَابِنَا ضعف النُّفُوس
فَهَذِهِ الْأُمُور وَإِن كَانَت شَدَائِد وزائدات على العوائد فقد ألهم الله مَوْلَانَا فِيهَا سَعَة الصَّدْر وَحسن الصَّبْر ليشعره أَن صبره يعقبه النَّصْر وحسبته يعقبه الْأجر وَلَو لم ير الله تَعَالَى أَن قُوَّة مَوْلَانَا أكمل القوى وَعُرْوَة عزمه أوثق العرى لما أَهله لِأَن ينصر مِلَّة لَا يعرف الْمَمْلُوك غير الله ينصرها وَغير مَوْلَانَا يُبَاشر النُّصْرَة ويحضرها فَلَيْسَ إِلَّا التجرد للدُّعَاء والتجلد للْقَضَاء فَلَا بُد من قدر مفعول وَدُعَاء مَقْبُول وَمن الْأَمْثَال الْمَنْظُومَة
(نَحن الَّذين إِذا علوا لم يبطروا
…
يَوْم الْهياج وَإِن علوا لم يضجروا)
ومعاذ الله أَن يفتح علينا الْبِلَاد ثمَّ يغلقها وَأَن يسلم على يدينا الْقُدس ثمَّ ينصره ثمَّ معَاذ الله أَن نغلب على النَّصْر ثمَّ معَاذ الله أَن نغلب على الصَّبْر
واذا كَانَ مَا يقدم الله إِلَيْهِ المماليك قبله الْمولى لَا بُد
مِنْهُ وَهُوَ لِقَاء الله سُبْحَانَهُ فَلِأَن نَلْقَاهُ وَالْحجّة لنا خير من أَن نَلْقَاهُ وَالْحجّة علينا فَلَا تعظم هَذِه الفتوق على مَوْلَانَا فتبهر صبره وتملأ صَدره {فَلَا تهنوا وَتَدعُوا إِلَى السّلم وَأَنْتُم الأعلون وَالله مَعكُمْ}
وَهَذَا دين مَا غلب بِكَثْرَة وَلَا نصر بثروة وَإِنَّمَا اخْتَار الله تَعَالَى لَهُ أَرْبَاب نيات وَذَوي قُلُوب مَعَه وحالات فَلْيَكُن الْمولى نعم الْخلف لذَلِك السّلف {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} واشتدي أزمة تنفرجي والغمرات تذْهب ثمَّ لَا تجي وَالله تَعَالَى يسمع الْأذن مَا يسر الْقلب وَيصرف عَن الْإِسْلَام وَأَهله غاشية هَذَا الكرب ونستغفر الله الْعَظِيم فانه مَا ابتلى إِلَّا بذنب
وَمن كتاب آخر يَا مَوْلَانَا أعلم أَن الله تَعَالَى قد فعل لَك مَا فعله لنَفسِهِ وَدلّ على لطفه بك كَمَا دلّ على قدرته فانه تَعَالَى خلق الْخلق من غير مَادَّة وَأقَام السَّمَاء بِغَيْر عمد وَكَذَلِكَ فعل الله بك خلقك بِغَيْر شَبيه فِي الْمُلُوك كرما ودينا وَسَهل لَك من مصر مَالا من غير جِهَة وَحمى مِنْهَا بلادا بِغَيْر جند وَسكن لَك فِيهَا رعية بِغَيْر وُلَاة فاشكر الله وَلَا تحتقر خدمَة من يَبِيع الأنفاس وَالنَّوْم والراحة اجْتِهَادًا فِيمَا يريحك ويخفف عَنْك ثمَّ لَا يُرِيد الْعِوَض مِنْك إِنَّمَا يُريدهُ من الله عَنْك لِأَن خدمتك طَاعَة لَهُ
وَالْوُجُوه الَّتِي وَقعت الاشارة إِلَيْهَا خضنا فِيهَا وَفِي غَيرهَا فَمَا وجدنَا أَكثر مِمَّا بلغنَا إِلَيْهِ
يَا مَوْلَانَا لَيْسَ لَك فِي مصر إِلَّا الثغور وَمَا عملت فِي هَذِه السّنة إِلَّا بِقدر ثمن حبال مَا سير إِلَيْك من الأساطيل إِن الله آخذ بيد الْكَرِيم والمعونة بِحَسب الْمُؤْنَة فليهن الْمولى الْعَافِيَة من الْحساب فشتان مَا حِسَاب من كنز الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلم ينفقها فِي سَبِيل الله وحساب من قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا فِي سَبِيل الله
وَمن كتاب آخر وَمَا فِي نفس الْمَمْلُوك شَائِبَة إِلَّا بَقِيَّة هَذَا الضعْف الَّذِي بجسم مَوْلَانَا فانه بقلوبنا ونفديه بأسماعنا وأبصارنا
(بِنَا معشر الخدام مَا بك من أَذَى
…
وَإِن أشفقوا مِمَّا أَقُول فَبِي وحدي)
وَمن كتاب آخر إِنَّمَا أَتَيْنَا من قبل أَنْفُسنَا وَلَو صدقناه لعجل لنا عواقب صدقنا وَلَو أطعناه لما عاقبنا بعدونا وَلَو فعلنَا مَا نقدر عَلَيْهِ من أمره لفعل لنا مَا لانقدر عَلَيْهِ إِلَّا بِهِ فَلَا يستخصم أحد إِلَّا عمله وَلَا يلم إِلَّا نَفسه وَلَا يرج إِلَّا ربه وَلَا ينْتَظر العساكر أَن تكْثر وَلَا الْأَمْوَال أَن تحضر وَلَا فلَان الَّذِي يعْتَقد عَلَيْهِ أَن يُقَاتل وَلَا فلَان الَّذِي ينْتَظر أَنه يُشِير فَكل هَذِه مشاغل عَن الله لَيْسَ النَّصْر بهَا وَلَا نَأْمَن أَن يكلنا الله إِلَيْهَا والنصر بِهِ واللطف مِنْهُ وَالْعَادَة الجميلة لَهُ ونستغفر الله سُبْحَانَهُ من ذنوبنا فلولا أَنَّهَا تسد طَرِيق دعائنا لَكَانَ جَوَاب دعائنا قد نزل وفيض دموع
الخاشعين قد غسل وَلَكِن فِي الطَّرِيق عائق خار الله لمولانا فِي الْقَضَاء السَّابِق واللاحق
وَفِي كتاب آخر وصف فِيهِ الْملك الْعَزِيز عُثْمَان ابْن السُّلْطَان ثمَّ قَالَ وَلَو شَاهد مَوْلَانَا الْيَوْم شخصه الْكَرِيم وَصورته الجميلة وَنَفسه الطاهرة ونظرته المطرقة وصفحته الحيية وَسُكُون حركاته الموزونة لخلع مَوْلَانَا عَلَيْهِ فُؤَاده ووهبه عينه ورقاده
وَلَقَد يرد الْمولى عرصات الْقِيَامَة وثواب فِرَاقه لَهُ لوجه الله أعظم من ثَوَاب جهاده فِي سَبِيل الله وَإِن إِيمَانًا صبره عَن ذَلِك الْوَلَد الْكَرِيم لكريم وَإِن إِيمَانًا أسلى عَن ذَلِك الْملك الْعَظِيم لعَظيم
وَمن كتاب آخر وعسكرنا لَا يشكو وَالْحَمْد لله مِنْهُ خورا إِنَّمَا يشكو مِنْهُ ضجرا والقوى البشرية لَا بُد أَن يكون لَهَا حد والأقدار الالهية لَهَا قصد وكل ذِي قصد خَادِم قَصدهَا وواقف عِنْد حَدهَا وَإِنَّمَا ذكر الْمَمْلُوك هَذَا ليرْفَع الْمولى من خاطره مقت المتقاعس من رِجَاله كَمَا يثبت فِيهِ شكر المسارع من أبطاله قَالَ الله تَعَالَى {فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاورهم فِي الْأَمر}
يَا مَوْلَانَا أَلَيْسَ الله تَعَالَى اطلع على قُلُوب أهل الأَرْض فَلم يؤهل وَلم يستصلح وَلم يخْتَر وَلم يسهل وَلم يسْتَعْمل وَلم
يستخدم فِي إِقَامَة دينه وإعلاء كَلمته وتمهيد سُلْطَانه وحماية شعاره وَحفظ قبْلَة موحديه إِلَّا أَنْت
هَذَا وَفِي الأَرْض من هُوَ أَحَق للنبوة قرَابَة وَمن لَهُ المملكة وراثة وَمن لَهُ فِي المَال كَثْرَة وَمن لَهُ فِي الْعدَد ثروة فَأَقْعَدَهُمْ وأقامك وكسلهم ونشطك وقبضهم وبسطك وحبب الدُّنْيَا إِلَيْهِم وبغضها إِلَيْك وصعبها عَلَيْهِم وهونها عَلَيْك وَأمْسك أَيْديهم وَأطلق يدك وأغمد سيوفهم وجرد سَيْفك وأشقاهم وأنعم عَلَيْك وثبطهم وسيرك {وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين}
نعم وَأُخْرَى أهم من الأولى أَنه لما اجْتمعت كلمة الْكفْر من أقطار الأَرْض وأطراف الدُّنْيَا ومغرب الشَّمْس ومزخر الْبَحْر مَا تَأَخّر مِنْهُم مُتَأَخّر وَلَا استبعد الْمسَافَة بَيْنك وَبينهمْ مستبعد وَخَرجُوا من ذَات أنفسهم الخبيثة لَا أَمْوَال تنْفق فيهم وَلَا مُلُوك تحكم عَلَيْهِم وَلَا عَصا تسوقهم وَلَا سيف يزعجهم مهطعين إِلَى الدَّاعِي ساعين فِي أثر السَّاعِي وهم من كل حدب يَنْسلونَ وَمن كل بر وبحر يقبلُونَ كنت يَا مَوْلَانَا أبقاك الله كَمَا قيل (وَلست بِملك هازم لنظيره
…
وَلَكِنَّك الْإِسْلَام للشرك هازم)
هَذَا وَلَيْسَ لَك من الْمُسلمين كَافَّة مساعد إِلَّا بدعوة وَلَا مُجَاهِد مَعَك إِلَّا بِلِسَانِهِ وَلَا خَارج مَعَك إِلَّا بهم وَلَا خَارج بَين يَديك إِلَّا بِالْأُجْرَةِ وَلَا قَانِع مِنْك إِلَّا بِزِيَادَة تشتري مِنْهُم الخطوات شبْرًا بِذِرَاع وذراعا بباع تدعوهم إِلَى الله وكأنما تدعوهم إِلَى نَفسك وتسألهم الْفَرِيضَة وكأنك تكلفهم النَّافِلَة وَتعرض عَلَيْهِم الْجنَّة وكأنك تُرِيدُ أَن تستأثر بهَا دونهم
والآراء تخْتَلف بحضرتك والمشورات تتنوع بمجلسك فَقَائِل لم لَا نتباعد عَن الْمنزلَة وَآخر لم لَا نَمِيل إِلَى الْمُصَالحَة ومتندم على فَائت مَا كَانَ فِيهِ حَظّ ومشير بمستقبل مَا يلوح فِيهِ رشد ومشير بالتخلي عَن عكا حَتَّى كَأَن تَركهَا تغليق الْمُعَامَلَة وَمَا كَأَنَّهَا طَلِيعَة الْجَيْش وَلَا قفل الدَّار وَلَا خرزة السلك إِن وهت تداعى السلك وانبت فِي يَد الْملك فألهمك الله قتل الْكَافِر وَخلاف المخذل والتجلد وَتَحْت قدمك الْجَمْر وأفرشك الطُّمَأْنِينَة وَتَحْت جَنْبك الوعر
(وَلَكِن مَوْلَانَا صفيحة وَجهه
…
كضوء شهَاب القابس المتنور)
(قَلِيل التشكي للمهم يُصِيبهُ
…
كثير الْهوى شَتَّى النَّوَى والمسالك)
لَا شُبْهَة أَن الْمَمْلُوك قد أَطَالَ وَلَكِن قد اتَّسع المجال وَمَا مُرَاده إِلَّا أَن يشْكر الله على مَا اخْتَارَهُ لَهُ ويسره عَلَيْهِ وحببه إِلَيْهِ فَرب ممتحن بِنِعْمَة وَرب منعم عَلَيْهِ بِمَشَقَّة وَكم مغبوط بِنِعْمَة هِيَ داؤه ومرحوم من بلوى هِيَ دواؤه
وَيُرِيد الْمَمْلُوك بِهَذَا أَن لَا يتَغَيَّر لمولانا أبقاه الله وَجه عَن بشاشة وَلَا صدر عَن سَعَة وَلَا لِسَان عَن حَسَنَة وَلَا ترى مِنْهُ ضجرة وَلَا تسمع مِنْهُ نهرة فالشدة تذْهب وَيبقى ذكرهَا والأزمة تنفرج وَيبقى أجرهَا
وكما لم يحدث اسْتِمْرَار النعم لمولانا عز نَصره بطرا فَلَا تحدث لَهُ سَاعَات الامتحان ضجرا والمملوك يستحسن بَيْتِي حَاتِم ومولانا أبقاه الله وخلد سُلْطَانه وَملكه يحفظهما
(شربنا بكأس الْفقر يَوْمًا وبالغنى
…
وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا سقانا بِهِ الدَّهْر)
(فَمَا زادنا بغيا على ذِي قرَابَة
…
غنانا وَلَا أزرى بأحسابنا الْفقر)
والمملوك بِأَن يسمع أَن مَوْلَانَا عز نَصره على مَا يعهده من سَعَة صَدره أسر مِنْهُ بِمَا يسمعهُ من بشائر نَصره وياليتني كنت مَعَهم وماذا كَانَت تصنع الْأَيَّام إِمَّا شيبا من مُشَاهدَة الحروب فقد شبنا وَالله من سَماع الْأَخْبَار أَو غرما يُمكن خَلفه من الوفر فقد غرمنا فِي بعد مَوْلَانَا مَا لَا خلف لَهُ من الْعُمر أَو مرض جسم فخيره مَا كَانَ الطَّبِيب حاضره وَلَقَد مرضنا أَشد الْمَرَض لفراقه إِلَّا أَن التجلد ساتره
وَمن كتب أخر الْمَمْلُوك يُوصي الْمولى بِالْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَام هُوَ قلب الْمولى فيروحه وَلَا يحملهُ مَا يشْغلهُ ويثقله ويوصي الْمولى بقلوب الْمُسلمين وَقُلُوب الْمُسلمين جسم مَوْلَانَا أبقاه الله
من علم أَنه لَا توفيه رواتب الْحَيَاة اشْتغل قلبه واستطار لبه وضعفت نَفسه فيحسب الْمولى من جهاده تفقد جِسْمه وإلانة مطعمه وترويح خطراته فقد بلغ الْمَمْلُوك من حمله على نَفسه مَا يخْشَى على مَوْلَانَا الاثم فِيهِ وَإِنَّمَا نتجشم كل مشقة لنسلم مِنْهُ وَنحن فِي ضرّ قد مسنا وَلَا نرجو لكشفه إِلَّا من ابْتُلِيَ بِهِ وَفِي طوفان فتْنَة وَلَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم
وَلنَا ذنُوب قد سدت طَرِيق دعائنا فَنحْن أولى بِأَن نلوم أَنْفُسنَا وَللَّه قدر لَا سلَاح لنا فِي دَفعه إِلَّا أَن نقُول لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَقد أَشْرَفنَا على أهوال {قل الله ينجيكم مِنْهَا وَمن كل كرب} وَقد جمع الْعَدو لنا وَقيل لنا اخشوه فَقُلْنَا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل متنجزين بذلك مَوْعُود الانقلاب بِنِعْمَة من الله وَفضل فَمَا نرجو إِلَّا ذَلِك الْفضل الْعَظِيم وَلَيْسَ إِلَّا الِاسْتِعَانَة بِاللَّه فَمَا دلنا الله فِي الشدائد إِلَّا على الدُّعَاء لَهُ وعَلى طروق بَاب كرمه وعَلى التضرع إِلَيْهِ {فلولا إِذْ جَاءَهُم بأسنا تضرعوا وَلَكِن قست قُلُوبهم}
ونعوذ بِاللَّه من الْقَسْوَة وَمن الْقنُوط من الرَّحْمَة وَمن الْيَأْس من الْفرج فانه لَا ييأس مِنْهُ إِلَّا مسلوب الرشد مطرود عَن الله مَقْطُوع الْحَظ مِنْهُ
وَلَا حِيلَة إِلَّا بترك الْحِيلَة بل قصد من تمْضِي أقداره بِلَا حِيلَة سبحانه وتعالى
إِن علم الله من جند مَوْلَانَا أَنهم قد بذلوا المجهود فقد عذرهمْ فيعذرهم الْمولى وَإِن علم أَنهم قد ذخروا قُوَّة أَو قصروا فِي نصْرَة كلمة الله فيكفيهم مقت الله
الْمَمْلُوك يذكر الْمولى بصبره وبرحب صَدره وبفضل خلقه وبتقواه لرَبه وبمداراة مزاجه وببرء الْقُلُوب الإسلاميه ببرء جِسْمه {وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم} الْآيَة إِلَى {وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى} وَالْمولى أولى بِهَذَا الْبَيْت
(لَا بطر إِن تَتَابَعَت نعم
…
وصابر فِي الْبلَاء محتسب)
قيل للمهلب أَيَسُرُّك ظفر لَيْسَ فِيهِ تَعب فَقَالَ أكره عَادَة الْعَجز
وَلَا بُد أَن تنفذ مَشِيئَة الله فِي خلقه وَلَا راد لحكمه فَلَا يتسخط مَوْلَانَا بِشَيْء من قدره فَلِأَن يجْرِي الْقَضَاء وَهُوَ رَاض مأجور خير من أَن يجْرِي وَهُوَ ساخط موزور فيصطلي نَار الشدَّة أَعَاذَهُ الله مِنْهَا وَلَا يجد رَاحَة الثَّوَاب وفر الله حَظه مِنْهُ
من شكا بثه وحزنه إِلَى الله شكا إِلَى مشتكى واستغاث
بِقَادِر وَمن دَعَا ربه دُعَاء خفِيا اسْتَجَابَ لَهُ استجابة ظَاهِرَة فلتكن شكوى مَوْلَانَا إِلَى الله خُفْيَة عَنَّا وَلَا يقطع الظُّهُور الَّتِي لَا تشتد إِلَّا بِهِ وَلَا يضيق صدورا لَا تنفرج إِلَّا مِنْهُ وَمَا شرد الْكرَى وَأطَال على الأفكار ليل السرى إِلَّا ضائقة الْقُوت بعكا
لم يبْق إِلَّا ضعف نعم الْمعِين عَلَيْهِ ترويح النَّفس واعفاؤها من الْفِكر فقد علم مَوْلَانَا بِالْمُبَاشرَةِ أَنه لَا يدبر الدَّهْر إِلَّا بِرَبّ الدَّهْر وَلَا ينفذ الْأَمر إِلَّا بِصَاحِب الْأَمر وَأَنه لَا يقل الْهم إِن كثر الْفِكر
(قد قلت للرجل الْمقسم أمره
…
فوض إِلَيْهِ تنم قرير الْعين)
كل مقترح يُجَاب إِلَيْهِ إِلَّا ثغرا يصير نَصْرَانِيّا بعد أَن أسلم أَو بَلَدا يخرس فِيهِ الْمِنْبَر بعد أَن تكلم
يَا مَوْلَانَا هَذِه اللَّيَالِي الَّتِي رابطت فِيهَا وَالنَّاس كَارِهُون وسهرت فِيهَا والعيون هاجعة وَهَذِه الْأَيَّام الَّتِي يُنَادى فِيهَا يَا خيل الله ارْكَبِي وَهَذِه السَّاعَات الَّتِي تزرع الشيب فِي الرؤوس وَهَذِه الغمرات الَّتِي تفيض فِيهَا الصُّدُور بِمَائِهَا بل بنارها هِيَ نعْمَة الله عَلَيْك وغراسك فِي الْجنَّة ومجملات محضرك {يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت من خير محضرا} وَهِي مجوزاتك الصِّرَاط وَهِي مثقلات الْمِيزَان وَهِي دَرَجَات الرضْوَان
فاشكر الله عَلَيْهَا كَمَا تشكره على الفتوحات الجليلة وَاعْلَم أَن مثوبة الصَّبْر فَوق مثوبة الشُّكْر وَمن ربط جأش أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَوْله لَو كَانَ الصَّبْر وَالشُّكْر بَعِيرَيْنِ مَا باليت أَيهمَا ركبت
وبهذه العزائم سبقُونَا وتركونا لَا نطمع بالغبار وامتدت خطاهم ونعوذ بِاللَّه من العثار
مَا اسْتعْمل الله فِي الْقيام بِالْحَقِّ إِلَّا خير الْخلق وَقد عرف مَا جرى فِي سير الْأَوَّلين وَفِي أنباء النَّبِيين وَأَن الله تَعَالَى حرض نبيه صلى الله عليه وسلم أَن يَهْتَدِي بهداهم وَأَن يسْلك سبيلهم ويقتدي بأولي الْعَزْم مِنْهُم وَمَا تغلو الْجنَّة بِثمن وَمَا ابتلى الله سُبْحَانَهُ من عباده إِلَّا من يعلم أَنه يصبر وَأُمُور الدُّنْيَا ينْسَخ بَعْضهَا بَعْضًا وَكَأن مَا قد كَانَ لم يكن وَيذْهب التَّعَب وَيبقى الْآجر
(وَإِنَّمَا يقظات الْعين كَالْحلمِ
…
)
أهم الْوَصَايَا أَن لَا يحمل الْمولى هما يضعف بِهِ جِسْمه ويضر مزاجه وَالْأمة بُنيان وَهُوَ أبقاه الله قَاعِدَته وَالله يثبت تِلْكَ الْقَاعِدَة الْقَائِمَة فِي نصْرَة الْحق
وَمِمَّا يستحسن من وَصَايَا الْفرس إِن نزل بك مَا فِيهِ حِيلَة فَلَا تعجز وَإِن نزل بك مَا لَيْسَ فِيهِ حِيلَة وَالْعِيَاذ بِاللَّه فَلَا تجزع
وَرب وَاقع فِي أَمر لَو اشْتغل عَن حمل الْهم بِهِ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ مَعَ مَقْدُور الله لانصرف همه وكفي خطبه {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله}
هَذَا سُلْطَان هُوَ بحول الله أوثق مِنْهُ بسلطانه قَاتَلت الْمُلُوك بطمعها وَقَاتل هَذَا بايمانه وَإِذا نظر الله إِلَى قلب مَوْلَانَا لم يجد فِيهِ ثِقَة بِغَيْرِهِ وَلَا تعويلا على قُوَّة إِلَّا على قوته فهنالك الْفرج ميعاده واللطف مِيقَاته فَلَا يقنط من روح الله وَلَا يقل {مَتى نصر الله} وليصبر فَإِنَّمَا خلق للصبر بل ليشكر فالشكر فِي مَوضِع الصَّبْر أَعلَى دَرَجَات الشُّكْر وَليقل لمن ابتلى أَنْت الْمعَافي وليرض عَن الله سُبْحَانَهُ فَإِن الرضي عِنْد الله هُوَ الْمُسلم الراضي فَأَما أَخْبَار فتْنَة بِلَاد الْعَجم فسبحان من ألحق قُلُوبهم بألسنتهم {قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ}
وَكتب السُّلْطَان إِلَى القَاضِي الْفَاضِل كتابا من بِلَاد الفرنج يُخبرهُ عَمَّا لَاحَ لَهُ من أَمَارَات النَّصْر وَيَقُول مَا أَخَاف إِلَّا من ذنوبنا أَن يأخذنا الله بهَا
فَكتب إِلَيْهِ الْفَاضِل فَأَما قَول مَوْلَانَا إننا نَخَاف أَن نؤخذ بذنوبنا فالذنوب كَانَت مثبتة قبل هَذَا الْمقَام وَفِيه محيت والآثام كَانَت مَكْتُوبَة ثمَّ عُفيَ عَنْهَا بِهَذِهِ السَّاعَات وعفيت فَيَكْفِي مُسْتَغْفِرًا لِسَان السَّيْف الْأَحْمَر فِي الْجِهَاد وَيَكْفِي قارعا لأبواب الْجنَّة صَوت