المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في قدوم الملوك وحريق الأبراج - الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية - جـ ٤

[أبو شامة المقدسي]

فهرس الكتاب

- ‌ثمَّ دخلت سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي دُخُول السُّلْطَان رحمه الله السَّاحِل الآخر وَفتح مَا يسر الله تَعَالَى من بِلَاده

- ‌فصل فِي فتح أنطرطوس

- ‌فصل فِي فتح جبلة وَغَيرهَا

- ‌فصل فِي فتح اللاذقية

- ‌فصل فِي فتح صهيون وَغَيرهَا

- ‌فصل فِي فتح بكاس والشغر وسرمانية

- ‌فصل فِي فتح حصن برزيه

- ‌فصل فِي فتح حصن دربساك

- ‌فصل فِي فتح بغراس

- ‌فصل فِي عقد الْهُدْنَة مَعَ صَاحب أنطاكية وعود السُّلْطَان

- ‌فصل فِي فتح الكرك وحصونه

- ‌فصل فِي فتح صفد

- ‌فصل فِي فتح حصن كَوْكَب

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي فتح شقيف أرنون

- ‌فصل

- ‌فصل فِي نزُول الفرنج - خذلهم الله - على عكا

- ‌فصل فِي المصاف الْأَعْظَم على عكا وَهِي الْوَقْعَة الْكُبْرَى الَّتِي بدأت بالسوأى وختمت بِالْحُسْنَى

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة بمرج عكا وَغَيره

- ‌فصل

- ‌فصل فِي وُرُود خبر خُرُوج ملك الألمان

- ‌ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي قدوم الْمُلُوك وحريق الأبراج

- ‌فصل فِيمَا كَانَ من أَمر ملك الألمان

- ‌فصل فِي الْوَقْعَة العادلية على عكا ظهر يَوْم الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي إِدْخَال البطس إِلَى عكا

- ‌فصل

- ‌فصل فِي إحراق مَا حوصر بِهِ برج الذبان وتحريق الْكَبْش

- ‌فصل فِي حوادث أخر مُتَفَرِّقَة فِي هَذِه السّنة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي نُسْخَة الْكتاب إِلَى ملك الْمغرب والهدية

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي ذكر خُرُوج الفرنج - خذلهم الله - على عزم اللِّقَاء ووصولهم إِلَى رَأس المَاء

- ‌فصل فِي وقْعَة الكمين وَغَيرهَا وَدخُول الْبَدَل إِلَى عكا

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي مضايقة الْعَدو - خذله الله - لعكا - يسر الله فتحهَا - واستيلائهم عَلَيْهَا

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد انْفِصَال أَمر عكا

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد خراب عسقلان

- ‌فصل فِي بقايا حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي عزم الفرنج على قصد الْقُدس وَسَببه

- ‌فصل فِي تردد رسل الإنكلتير فِي معنى الصُّلْح وَمَا جرى فِي أثْنَاء ذَلِك إِلَى أَن تمّ وَللَّه الْحَمد

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد الْهُدْنَة

- ‌فصل فِي مسير السُّلْطَان رحمه الله من الْقُدس إِلَى دمشق

- ‌فصل فِي ذكر أُمُور جرت فِي هَذِه السّنة من وفيات وَغَيرهَا

- ‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي مرض السُّلْطَان ووفاته أحله الله بحبوحة جناته

- ‌فصل فِي تَرِكَة السُّلْطَان وَوصف أخلاقه رحمه الله

- ‌فصل

- ‌فصل فِي انقسام ممالكه بَين أَوْلَاده وَإِخْوَته وَبَعض مَا جرى بعد وَفَاته

- ‌فصل فِي وَفَاة صَاحب الْموصل وتتمة أَخْبَار هَذِه الْفِتْنَة بِبِلَاد الشرق

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌وَدخلت سنة أَربع وَتِسْعين وَخمْس مئة

- ‌وَدخلت سنة خمس وَتِسْعين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَتِسْعين وَخمْس مئة

- ‌فَصل

- ‌فصل فِي وَفَاة جمَاعَة من الْأَعْيَان فِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة سِتّ وَتِسْعين

- ‌فصل فِي وَفَاة القَاضِي الْفَاضِل رحمه الله

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبع وَتِسْعين وَخمْس مئة

الفصل: ‌فصل في قدوم الملوك وحريق الأبراج

ويدرجها على الطيران من الْبعد وَكُنَّا نقُول مَا لهَذَا الولع بِمَا لَا ينفع حَتَّى جَاءَت نوبَة عكا فنفعت وشفت الغليل ونقعت وَأَتَتْ بالكتب سارحة شارحة وَكُنَّا نطلبها مِنْهُ مَعَ اللَّيْل وَالنَّهَار حَتَّى قل وجودهَا عِنْده لِكَثْرَة الارسال وَلَقَد عطب عوامون فَمَا ارتدع الْبَاقُونَ وَمِنْهُم من سلم مرَارًا من الْقَوْم فاجترأ وَأنس بالعوم

‌فصل فِي قدوم الْمُلُوك وحريق الأبراج

قَالَ الْعِمَاد وَلما انْقَضى الشتَاء وَانْفَتح الْبَحْر وحان زمَان الْقِتَال جَاءَت العساكر الإسلامية من الْبِلَاد فَكَانَ أول من وصل الْملك الْمُجَاهِد أَسد الدّين شيركوه صَاحب حمص والرحبة وسابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وَعز الدّين إِبْرَاهِيم بن الْمُقدم ووفد مَعَهم جموع من الأجناد والأعيان وحشود من الْعَرَب والتركمان

فَرَحل السُّلْطَان وَتقدم وعزم على طلب الْعَدو وصمم وَنزل على تل كيسَان يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن عشر ربيع الأول ورتب عسكره فَكَانَ تَقِيّ الدّين فِي آخر الميمنة والعادل فِي آخر

ص: 119

الميسرة وَالْأَفْضَل فِي أول ميمنة الْقلب وَأَخُوهُ الظافر فِي أول الميسرة على الْجنب

ثمَّ وصل الظَّاهِر فِي عَسَاكِر حلب وعماد الدّين مَحْمُود بن بهْرَام الأرتقي صَاحب دَارا وَغَيرهم من الْمُلُوك والمقاتلين وَوصل رَسُول الْخَلِيفَة يَوْم الِاثْنَيْنِ سادس عشر ربيع الأول وَهُوَ الشريف فَخر الدّين نقيب مشْهد بَاب التِّبْن بِبَغْدَاد وَوصل مَعَه حملان من النفط الطيار وحملان من القنا الخطار وتوقيع بِعشْرين ألف دِينَار يقترض على الدِّيوَان الْعَزِيز من التُّجَّار وَخَمْسَة من الزراقين النفاطين المتقنين صناعَة الاحراق بالنَّار فاعتد السُّلْطَان بِكُل مَا أحضرهُ وأخلص الدُّعَاء للديوان الْعَزِيز وشكره غير أَنه أبدى رد التوقيع وَقَالَ كل مَا معي من نعْمَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَوْلَا صرف أَمْوَال هَذِه الْبِلَاد إِلَى الْجِهَاد لكَانَتْ مَحْمُولَة إِلَى الدِّيوَان

وأركب الرَّسُول مَعَه مرَارًا وَأرَاهُ مبارك النزال ومعارك الْقِتَال حَتَّى يشْهد بِمَا يُشَاهد ويتبين لَهُ الْمُجْتَهد والمجاهد وَأقَام طَويلا ثمَّ اسْتَأْذن فِي الْعود فَرجع

وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد قبل السُّلْطَان جَمِيع مَا وصل مَعَ الرَّسُول واستعفى من الرقعة والتثقيل بهَا

قَالَ وَفِي ذَلِك الْيَوْم بلغ السُّلْطَان أَن الفرنج قد زحفوا على

ص: 120

الْبَلَد وضايقوه فَركب إِلَيْهِم ليشغلهم بِالْقِتَالِ عَن الْبَلَد فَقَاتلهُمْ قتالا شَدِيدا إِلَى اللَّيْل وَخَافَ السُّلْطَان أَن يهجم الْعَدو الْبَلَد فانتقل إِلَى تل الحجل فِي خَامِس عشر ربيع الأول للقرب

قَالَ وَفِي صَبِيحَة هَذَا الْيَوْم وصل من الْبَلَد عوام مَعَه كتب تَتَضَمَّن أَنه قد طم الْعَدو بعض الخَنْدَق وَقد قوي عزم الْعَدو على منازلة الْبَلَد ومضايقته فجدد السُّلْطَان الْكتب إِلَى العساكر بالحث على الْوُصُول

وَفِي سحر لَيْلَة الْجُمُعَة سَابِع عشري ربيع الأول وصل وَلَده الظَّاهِر وَفِي آخر ذَلِك الْيَوْم وصل مظفر الدّين وَكَانَ السُّلْطَان رحمه الله مَا تقدم عَلَيْهِ عَسْكَر إِلَّا ويعرضهم ويسير بهم إِلَى الْعَدو وَينزل بهم فِي خيمته ويمد لَهُم الطَّعَام وينعم عَلَيْهِم بِمَا تطيب بِهِ قُلُوبهم إِذا كَانُوا أجانب ثمَّ تضرب خيامهم حَيْثُ يَأْمر وينزلون بهَا مكرمين

قَالَ وَكَانَ الْعَدو قد اصْطنع ثَلَاثَة أبرجه من خشب وحديد وألبسها الْجُلُود المسقاة بالخل على مَا ذكر بِحَيْثُ لَا تنفذ فِيهَا النيرَان وَكَانَت هَذِه الأبراج كَأَنَّهَا الْجبَال نشاهدها من مواضعنا عالية على الأسوار وَهِي مركبة على عجل يسع الْوَاحِد مِنْهَا من الْمُقَاتلَة مَا يزِيد على خمس مئة نفر على مَا قيل ويتسع سطحه لِأَن

ص: 121

ينصب عَلَيْهِ منجنيق وَكَانَ ذَلِك قد عمل فِي قُلُوب الْمُسلمين وأودعها من الْخَوْف على الْبَلَد مَالا يُمكن شَرحه وأيس النَّاس من الْبَلَد بِالْكُلِّيَّةِ وتقطعت قُلُوب الْمُقَاتلَة فِيهِ وَكَانَ قد فرغ عَملهَا وَلم يبْق إِلَّا جرها إِلَى قريب السُّور

وَكَانَ السُّلْطَان رحمه الله قد أعمل فكرة فِي إحراقها وإهلاكها وَجمع الصناع من الزراقين والنفاطين وباحثهم فِي الِاجْتِهَاد فِي إحراقها وَوَعدهمْ عَلَيْهِ بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة وَضَاقَتْ حيلهم عَن ذَلِك

وَكَانَ من جملَة من حضر شَاب نُحَاس دمشقي فَذكر أَن لَهُ صناعَة فِي إحراقها وَأَنه إِن مكن من الدُّخُول إِلَى عكا وَحصل لَهُ الْأَدْوِيَة الَّتِي يعرفهَا أحرقها

فَحصل لَهُ جَمِيع مَا طلبه وَدخل إِلَى عكا وطبخ تِلْكَ الْأَدْوِيَة مَعَ النفط فِي قدور من النّحاس حَتَّى صَار الْجَمِيع كَأَنَّهُ جَمْرَة نَار ثمَّ ضرب البرج الْوَاحِد يَوْم وُصُول الْملك الظَّاهِر بقدرفاشتعل من سَاعَته وَوَقته وَصَارَ كالجبل الْعَظِيم من النَّار طالعة ذؤابته نَحْو السَّمَاء فاستغاث الْمُسلمُونَ بالتهليل وَالتَّكْبِير وغلبهم الْفَرح حَتَّى كَادَت عُقُولهمْ تذْهب فَبَيْنَمَا النَّاس ينظرُونَ ويتعجبون إِذْ رمى البرج الثَّانِي بِالْقُدْرَةِ الثَّانِيَة وَالثَّالِث بالثالثة فاحترقا كَالْأولِ

ص: 122

وَركب السُّلْطَان والعساكر وَسَار إِلَيْهِم وانتظرأن يخرجُوا فيناجزهم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم من فتح لَهُ بَاب خير فلينتهزه فَلم يظْهر الْعَدو من خيامهم وَحَال بَين الطَّائِفَتَيْنِ اللَّيْل وَاسْتمرّ ركُوب السُّلْطَان إِلَيْهِم فِي كل يَوْم وَطلب نزالهم وقتالهم وهم لَا يخرجُون من خيامهم لعلمهم بتباشير النَّصْر وَالظفر بهم والعساكر الإسلامية تتواتر وتتواصل فوصل فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر عماد الدّين زنكي بن مودود بن زنكي صَاحب سنجار وَهُوَ ابْن أخي نور الدّين رحمه الله وصهره زوج ابْنَته فَلَقِيَهُ السُّلْطَان بالاحترام والتعظيم ورتب لَهُ الْعَسْكَر فِي لِقَائِه وَسَار بِهِ حَتَّى وَقفه على الْعَدو وَعَاد مَعَه إِلَى خيمته وأنزله عِنْده

وَكَانَ صنع لَهُ طَعَاما لائقا بذلك الْيَوْم فَحَضَرَ هُوَ وَجَمِيع أَصْحَابه وَقدم لَهُ من التحف واللطائف مَا لَا يقدر عَلَيْهِ غَيره وَكَانَ قد أكْرمه بِحَيْثُ طرح لَهُ طراحة مُسْتَقلَّة إِلَى جَانِبه وَبسط لَهُ ثوبا اطلس عِنْد دُخُوله وَضربت خيمته على طرف الميسرة على جَانب النَّهر

وَفِي سَابِع جُمَادَى الأولى وصل ابْن أَخِيه صَاحب الجزيرة معز الدّين سنجر شاه بن سيف الدّين غَازِي بن مودود بن زنكي فَلَقِيَهُ السُّلْطَان وأنزله إِلَى جَانب عَمه عماد الدّين

ص: 123

وَفِي تَاسِع جُمَادَى الأولى وصل ابْن صَاحب الْموصل وَهُوَ عَلَاء الدّين خرم شاه بن عز الدّين مَسْعُود بن مودود بن زنكي نَائِبا عَن أَبِيه ففرح السُّلْطَان بِهِ فَرحا شَدِيدا وتلقاه عَن بعيد هُوَ وَأَهله وَاسْتحْسن أدبه واستنجبه وأنزله عِنْده فِي الْخَيْمَة وكارمه مكارمة عَظِيمَة وَقدم لَهُ تحفا حَسَنَة وَأمر بِضَرْب خيمته بَين ولديه الْأَفْضَل وَالظَّاهِر

وَفِي أَوَاخِر الشَّهْر وصل صَاحب إربل زين الدّين يُوسُف بن زين الدّين عَليّ فَأكْرمه السُّلْطَان وأنزله عِنْد أَخِيه مظفر الدّين يَعْنِي فِي الميسرة

وَذكر الْعِمَاد قدوم هَؤُلَاءِ الْمُلُوك بِمَعْنى مَا تقدم قَالَ وَكَانَ الفرنج مذ نزلُوا على عكا صمموا على الْإِقَامَة والحصر فشرعوا فِي بِنَاء الأبراج الْعِظَام الْعَالِيَة ونقلوا فِي الْبَحْر آلاتها وأخشابها الجافية وأقطاع الْحَدِيد وبنوا ثَلَاثَة أبراج عالية فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع من أقطار الْبَلَد فتعبوا فِيهَا سَبْعَة أشهر فَلم يفرغوا مِنْهَا إِلَّا فِي ربيع الأول فعلت كَأَنَّهَا ثَلَاثَة أطواد قد ملئت طبقاتها بِعَدَد وأعداد وكل برج لَا بُد لَهُ فِي أَرْكَانه من أَربع أسطوانات عاليات غِلَاظ جافيات طول كل وَاحِدَة خَمْسُونَ ذِرَاعا ليشرف على ارْتِفَاع سور الْبَلَد وبسطوها على دوائر الْعجل ثمَّ كسوها بعد الْحَدِيد والوثوق الشَّديد بجلود الْبَقر والسلوخ وكل يَوْم يقربونها

ص: 124

وَلَو ذِرَاعا على حسب التَّيْسِير فِي تيسيرها وسقوها بالخل وَالْخمر وكشفوا من جوانبها الثَّلَاثَة سور الْبَلَد وشرعوا فِي طم الخَنْدَق

وَجَاء عوام من عكا فَأخْبر السُّلْطَان فَركب بالعسكر ولازمهم من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة يقاتلهم صباحا وَمَسَاء ليشغلهم فافترقوا قسمَيْنِ فريق لِلْقِتَالِ وفريق آخر مَعَ الأبراج فأشفى الْبَلَد وَبَقِي لَهُ رَمق ضَعِيف ورميت الأبراج بِكُل قَارُورَة نفط فَمَا أثرت

وَلم نشعر يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من ربيع الأول بالأبراج إِلَّا وَقد اشتعلت والتهبت وَوَقعت وَكَانَت آيَة من قدرَة الله تَعَالَى ظَهرت وَذَلِكَ أَنه كَانَ بعكا شَاب من أهل دمشق يعرف بعلي ابْن عريف النحاسين وَكَانَ أبدا بِجمع آلَات الزراقين مُولَعا ولتحصيل عقاقيرها متتبعا وكل من عرفه عذله وينكر عمله وَكَانَ قد ألف مِنْهَا مقادير وقدورا وملأ بغيظ من أهل تِلْكَ الصِّنَاعَة صدورا وَلم يكن النفط من صناعته وَلَكِن الله وَفقه لسعادته

فَلَمَّا كَانَ يَوْم حريقها جَاءَ إِلَى أَمِير قراقوش وَهُوَ مغتاظ وأخلاقه فظاظ غِلَاظ وَقَالَ تَأذن لي فِي تصويب المنجنيق لأحرق البروج وَالله ولي التَّوْفِيق

فزجره وزبره وَنَهَاهُ ونهره وَقَالَ صناع هَذَا الشّغل قد

ص: 125

خاروا وحاروا وَبَعْدَمَا أنجدوا غاروا فَقَالَ النَّاس دَعه وشأنه وَمَا يدْريك أَن الله وَفقه وأعانه

فَرمى ابْن العريف البرج الأول قدور نفط خَالِيَة من نَار حَتَّى عرف أَنه سقَاهُ وَرَوَاهُ ثمَّ رَمَاه بِقدر محرقة وأردفها بِأُخْرَى مزهقة فتسلطت النَّار على طبقاتها فأضرم على أهل السعير سعيرا وَكَانَ يَوْمًا على الْكَافرين عسيرا

ثمَّ أحرق الثَّانِي وَالثَّالِث فَاجْتمع عَلَيْهِ الْأَصْحَاب يفدونه وَمن أَوْلِيَاء الله يعدونه وَحَمَلُوهُ بعد ذَلِك إِلَى السُّلْطَان فَلم يقبل عَطاء وَقَالَ عملته لله فَمَا أُرِيد بِهِ سواهُ جَزَاء وَقيل احْتَرَقَ فِي البرج الأول سَبْعُونَ فَارِسًا بعدتها فحبطت أَعْمَالهم وخابت آمالهم وَخرج رجالنا من الْبَلَد فنظفوا الخَنْدَق وسدوا الثغر وأظهروا الْقدر بِظُهُور الْقدر وجاؤوا إِلَى مَوَاضِع الأبراج وأماكنها وَاسْتَخْرَجُوا الْحَدِيد من مكامنها ونبشوا الرماد عَن الزرديات الَّتِي انسبكت وكشفوا عَن الستائر الَّتِي تهتكت فَأخذُوا مَا وجدوا وحصلوا مَا نشدوا

ص: 126

قَالَ وَكَانَ السُّلْطَان قد كتب بالاستظهار من شواني الأسطول والاسراع بِهِ فِي الْوُصُول فوصل الْخَبَر بوصوله يَوْم الْخَمِيس ثامن الشَّهْر فاستظهر بِهِ الأسطول الأول الَّذِي بالثغر فَركب السُّلْطَان بِجَمِيعِ كتائبه وأحاط بالْكفْر من جَمِيع جوانبه واشتغل الفرنج عَنَّا بِمَا دهمهم فِي الْبَحْر فجدوا فِي الْأَمر وجهزوا أسطولا بِعَدَد الرِّجَال وَعدد الْقِتَال وَخرج لتلقي الأسطول الْوَاصِل وَقَابَلُوا الْحق بِالْبَاطِلِ وَجَاءَت شواني الْمُسلمين فنطحت وطحنت وَأخذت مركبا لِلْعَدو بِرِجَالِهِ وَأخذُوا لنا قِطْعَة وَمَا زَالَت الْحَرْب قرعَة وقرعة وصرعة وصرعة حَتَّى دخل اللَّيْل فتحاجز الْفَرِيقَانِ وتفرق الأسطولان وَكَانَت المقتلة فِي الْكفْر شَدِيدَة والسطوة مبيدة

وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما كَانَ ظهيرة يَوْم وُصُول عَلَاء الدّين ابْن صَاحب الْموصل ظَهرت فِي الْبَحْر قلوع كَثِيرَة وَكَانَ رحمه الله فِي نظرة وُصُول الأسطول من مصر فَإِنَّهُ كَانَ قد أَمر بتعميره ووصوله فَعلم أَنه هُوَ فَركب وَالنَّاس فِي خدمته وتعبى تعبية الْقِتَال وَقصد مضايقة الْعَدو ليشغله عَن قصد الأسطول

وَلما علم الْعَدو بالأسطول استعد لَهُ وَعمر أسطوله لقتاله وَمنعه من دُخُول عكا

ص: 127

وَخرج أسطول الْعَدو وَاشْتَدَّ السُّلْطَان فِي قِتَالهمْ من خَارج وَسَار النَّاس على جَانب الْبَحْر تَقْوِيَة للأسطول وايناسا لَهُ ولرجاله والتقى الأسطولان فِي الْبَحْر والعسكران فِي الْبر واضطرمت نَار الْحَرْب واستعرت وَبَاعَ كل فريق روحه براحته الأخروية وَجرى قتال شَدِيد أقشع عَن نصْرَة الأسطول الإسلامي وَأخذ مِنْهُ شيني وَقتل من بِهِ وَنهب جَمِيع مَا فِيهِ وظفر من الْعَدو بمركب أَيْضا كَانَ واصلا من قسطنطينية وَدخل الأسطول الْمَنْصُور إِلَى عكا وَكَانَ قد صَحبه مراكب من السَّاحِل فِيهَا مير وذخائر وَطَابَتْ قُلُوب أهل الْبَلَد بذلك وانشرحت صُدُورهمْ فَإِن الضائقة كَانَت قد أخذت مِنْهُم

واتصل الْقِتَال بَين العسكرين من خَارج الْبَلَد إِلَى أَن فصل بَينهمَا اللَّيْل وَعَاد كل فريق إِلَى خيمه وَقد قتل من عَدو الله وجرح فِي ذَلِك الْيَوْم خلق عَظِيم فَإِنَّهُم قَاتلُوا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فَإِن أهل الْبَلَد اشتدوا فِي قِتَالهمْ ليشغلوهم عَن الأسطول أَيْضا والأسطولان يتقاتلان والعسكر من الْبر يقاتلهم وَكَانَ النَّصْر بِحَمْد الله للْمُسلمين

قَالَ الْعِمَاد وقتلنا مِنْهُم مُدَّة مقامنا على عكا فِي سنتَيْن أَكثر من سِتِّينَ ألف وزرناهم بِكُل حتف وَكلما بادوا فِي الْبر زادوا من

ص: 128