الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي مضايقة الْعَدو - خذله الله - لعكا - يسر الله فتحهَا - واستيلائهم عَلَيْهَا
قَالَ الْعِمَاد لما كَانَ يَوْم الْخَمِيس رَابِع جُمَادَى الأولى زحف الفرنج إِلَى عكا ونصبوا عَلَيْهَا سَبْعَة مجانيق ووصلت كتب من عكا إِلَى السُّلْطَان بالاستنفار الْعَظِيم والتماس شغل الْعَدو عَنْهُم فَركب السُّلْطَان بعسكره وَكَانَ هَذَا دأبه مَعَهم كلما نابوا الْبَلَد نابهم فَإِذا زحف إِلَيْهِم رجعُوا عَن الْحصْر وَإِذا رَجَعَ عَنْهُم عَادوا وَكَانَ عَلامَة مَا بَين السُّلْطَان وَأهل الْبَلَد أَنه مَتى زحف الفرنج عَلَيْهِم دقوا كوسهم فَيدق كوس السُّلْطَان إِجَابَة لَهُم واستبعد السُّلْطَان مَنْزِلَته فتحول إِلَى تل العياضية تَاسِع جماد الأولى
وَوصل ملك الإنكلتير ثَالِث عشر جُمَادَى الأولى من قبرس وَمَعَهُ خمس وَعِشْرُونَ قِطْعَة وَهُوَ فِي جمع شَاك وجمر ذَاك فبلي الثغر مِنْهُ بِغَيْر الْبلَاء الأول هَذَا ومجانيق الْكفْر على الغي مُقِيمَة وللرمي مديمة وَتمكن الفرنج بهَا من الخَنْدَق فدنوا مِنْهُ دنو المحنق وشرعوا فِي هجمه وأسرعوا إِلَى طمه وداموا يرْمونَ فِيهِ جثث الْأَمْوَات وجيف الْخَنَازِير وَالدَّوَاب النافقات حَتَّى صَارُوا يلقون فِيهِ قتلاهم ويحملون إِلَيْهِ موتاهم وأصحابنا فِي مُقَاتلَتهمْ ومقابلتهم قد انقسموا فريقين وافترقوا قسمَيْنِ ففريق يلقِي من
الخَنْدَق مَا ألقِي فِيهِ وفريق يقارع الْعَدو ويلاقيه
قَالَ القَاضِي وَقد بلغ من مضايقتهم الْبَلَد ومبالغتهم فِي طم خندقه أَنهم كَانُوا يلقون فِيهِ موتى دوابهم وَكَانُوا إِذا جرح مِنْهُم وَاحِد جراحه مثخنة موئسة ألقوه فِيهِ وانقسم أهل الْبَلَد أقساما قسم ينزلون إِلَى الخَنْدَق ويقطعون الْمَوْتَى وَالدَّوَاب الَّتِي يلقونها فِيهِ قطعا ليسهل نقلهَا وَقسم ينقلون مَا يقطعهُ ذَلِك الْقسم ويلقونه فِي الْبَحْر وَقسم يَذبُّونَ عَنْهُم ويدافعون حَتَّى يتمكنوا من ذَلِك وَقسم فِي المنجنيقات وحراسة الأسوار وَأخذ مِنْهُم التَّعَب وَالنّصب وتواترت شكايتهم من ذَلِك
قَالَ وَهَذَا ابتلاء لم يبتل بِمثلِهِ أحد وَلَا يصبر عَلَيْهِ جلد
هَذَا وَالسُّلْطَان رحمه الله لَا يقطع الزَّحْف عَنْهُم والمضايقة على خنادقهم بِنَفسِهِ وخواصه وَأَوْلَاده لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى يشغلهم عَن الْبَلَد وصوبوا منجنيقاتهم إِلَى برج عين الْبَقر وتواترت عَلَيْهِ أَحْجَار المنجنيقات لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى أثرت فِيهِ الْأَثر الْبَين
وَكلما ازدادوا فِي قتال الْبَلَد ازْدَادَ السُّلْطَان فِي قِتَالهمْ وكبس خنادقهم والهجوم عَلَيْهِم ودام ذَلِك حَتَّى وصل ملك الإنكلتير
قَالَ وَفِي سادس عشر جُمَادَى وصلت بطسة من بيروت
عَظِيمَة هائلة مشحونة بالآلات والأسلحة والمير وَالرِّجَال الْأَبْطَال الْمُقَاتلَة وَكَانَ السُّلْطَان قد أَمر بتعبئتها فِي بيروت وتسييرها وَوضع فِيهَا من الْمُقَاتلَة خلقا عَظِيما حَتَّى تدخل مراغمة لِلْعَدو
وَكَانَ عدَّة رجالها الْمُقَاتلَة سِتّ مئة وَخمسين رجلا فاعترضها الإنكلتير الملعون فِي عدَّة شواني قيل إِنَّه كَانَ فِي أَرْبَعِينَ قلعا فاحتاطوا بهَا من جَمِيع جوانبها واشتدوا فِي قتالها وَجرى الْقَضَاء بِأَن وقف الْهَوَاء فقاتلوها قتالا شَدِيدا وَقتل من الْعَدو عَلَيْهَا خلق عَظِيم وأحرقوا على الْعَدو شانيا كَبِيرا فِيهِ خلق فهلكوا عَن آخِرهم وتكاثروا على أهل البطسة وَكَانَ مقدمهم رجلا جيدا شجاعا مجربا فِي الْحَرْب اسْمه يَعْقُوب من أهل حلب فَلَمَّا رأى أَمَارَات الْغَلَبَة عَلَيْهِم قَالَ وَالله لَا نقْتل إِلَّا عَن عز وَلَا نسلم إِلَيْهِم من هَذِه البطسة شَيْئا فوقعوا فِي البطسة من جوانبها بالمعاول يهدمونها حَتَّى فتحوها من كل جَانب أبوابا فامتلأت مَاء وغرق جَمِيع من فِيهَا وَمَا فِيهَا من الْآلَات والمير وَلم يظفر الْعَدو مِنْهَا بِشَيْء أصلا وتلقف الْعَدو بعض من كَانَ فِيهَا وأخذوه إِلَى الشواني من الْبَحْر وخلصوه من الْغَرق ومثلوا بِهِ وأنفذوه إِلَى الْبَلَد ليخبرهم بالواقعة
وحزن النَّاس لذَلِك حزنا شَدِيدا وَالسُّلْطَان يتلَقَّى ذَلِك بيد الاحتساب فِي سَبِيل الله تَعَالَى وَالصَّبْر على بلائه
قَالَ وَكَانَ الْعَدو المخذول قد صنع دبابة عَظِيمَة هائلة أَربع طَبَقَات الأولى من الْخشب وَالثَّانيَِة من الرصاص وَالثَّالِثَة من الْحَدِيد وَالرَّابِعَة من النّحاس وَكَانَت تعلو على السُّور وتركب فِيهَا الْمُقَاتلَة وَخَافَ أهل الْبَلَد مِنْهَا خوفًا عَظِيما وحدثتهم نُفُوسهم بِطَلَب الْأمان من الْعَدو وَكَانُوا قد قربوها من السُّور بِحَيْثُ لم يبْق بَينهَا وَبَين السُّور إِلَّا مِقْدَار خمس أَذْرع على مَا نشاهد وَأخذ أهل الْبَلَد فِي تَوَاتر ضربهَا بالنفط لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى قدر الله تَعَالَى حريقها واشتعال النَّار فِيهَا وَظهر لَهَا ذؤابة نَار نَحْو السَّمَاء
واشتدت الْأَصْوَات بِالتَّكْبِيرِ والتهليل وَرَأى النَّاس ذَلِك جبرا لذَلِك الوهن ومحوا لذَلِك الْأَثر ونعمة بعد نقمة وإيناسا بعد يأس وَكَانَ ذَلِك فِي يَوْم غرق البطسة
قَالَ الْعِمَاد فَكَانَ ذَلِك تسميتا لتِلْك العطسة
ثمَّ جرى بعد ذَلِك عدَّة وقعات فِي هَذَا الشَّهْر وَهُوَ جُمَادَى الأولى وهجم الْمُسلمُونَ خيام الْعَدو ونهبوها وَوصل رجل كَبِير من أهل مازندان يُرِيد الْغُزَاة فوصل وَالْحَرب قَائِمَة فَحمل حَملَة اسْتشْهد فِيهَا فِي تِلْكَ السَّاعَة
وَلم تزل الْأَخْبَار تتواصل من أهل الْبَلَد باستفحال أَمر الْعَدو والشكوى من ملازمتهم قِتَالهمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَذكر مَا ينالهم من التَّعَب الْعَظِيم من تَوَاتر الْأَعْمَال الْمُخْتَلفَة عَلَيْهِم من حِين قدوم الإنكلتير الملعون ثمَّ مرض مَرضا شَدِيدا أشفى فِيهِ على الْهَلَاك وجرح الافرنسيس وَلَا يزيدهم ذَلِك إِلَّا اصرارا وعتوا
وهرب إِلَى السُّلْطَان خادمان ذكرا أَنَّهُمَا لأخت ملك الإنكلتير وأنهما كَانَا يكتمان إيمانهما فقبلهما السُّلْطَان وأكرمهما
وهرب أَيْضا المركيس مِنْهُم إِلَى صور وَكَانَ قد استشعر مِنْهُم أَن يخرجُوا ملكهَا عَن يَده
قَالَ الْعِمَاد فِي الْبَرْق وَلما أعوزت الفرنج الْحِيَل وأعجزتهم تفاصيل تدابيرهم والجمل وَذَلِكَ أَن أبرجتهم الخشبية أحرقت وستائرهم ودباباتهم وكباشهم وزعت ومزعت
ومزقت أَقَامُوا قُدَّام خيامهم صوب عكا تَلا من التُّرَاب مستطيلا ورفعوه كثيبا مهيلا ثمَّ نقلوه وحولوه وَكَانُوا يقفون وَرَاءه ويحولون إِلَى قدامه ترابه ويرفعون إِلَى قرب الْبَلَد رقابه فهم من خَلفه من النكايات محجوبون يشبون ويذبون ويدبرون الْحَرْب الزبون والتل المتحول إِلَى الْبَلَد قد أعيا على أهل الْجلد لَا تعْمل فِيهِ النَّار وَلَا يصل إِلَى دَفعه الاقتدار حَتَّى صَار من الْمَدِينَة على نصف غلوة سهم وَرمي بِكُل جمر ورجم فَمَا يزِيد فِي كل يَوْم إِلَّا قربا وَمَا يجر فِي كل وَقت إِلَّا خطبا وحربا وَكَانَ الْأَصْحَاب يخرجُون من الْبَلَد إِلَيْهِ ويقاتلون عَلَيْهِ ويطيفون بحول الله حواليه
وَمن كتاب فاضلي إِلَى الدِّيوَان مَا قطع الْخَادِم الخدم إِلَّا أَنه قد أضجر وأسأم من المطالعة بِخَبَر هَذَا الْعَدو الَّذِي قد استفحل أمره واستشرى شَره فَإِن النَّاس مَا سمعُوا وَلَا رَأَوْا عدوا حاصرا محصورا غامرا مغمورا قد تحصن بخنادق تمنع الْجَائِز من الْجَوَاز وتعوق الفرص عَن الانتهاز وَلَا تقصر عدتهمْ عَن خَمْسَة آلَاف فَارس ومئة ألف راجل وَقد أفناهم الْقَتْل والأسر وأكلتهم الْحَرْب وَلَفْظهمْ النَّصْر وَقد أمدهم الْبَحْر بالبحار وأعان أهل النَّار أهل النَّار وَاجْتمعَ فِي هَذِه الجموع من الجيوش الغربية والألسنة الأعجمية من لَا يحصر معدوده وَلَا يصور فِي الدُّنْيَا وجوده فَمَا أحقهم بقول أبي الطّيب
(تجمع فِيهِ كل لسن وَأمة
…
فَمَا تفهم الحداث إِلَّا التراجم)
حَتَّى إِنَّه أسر الْأَسير وَاسْتَأْمَنَ الْمُسْتَأْمن احْتِيجَ فِي فهم لغته إِلَى عدَّة تراجم ينْقل وَاحِد عَن الآخر وَيَقُول ثَان مَا يَقُول أول وثالث مَا يَقُول ثَان وَالْأَصْحَاب كلوا وملوا وصبروا إِلَى أَن ضجروا وتجلدوا إِلَى أَن تبلدوا والعساكر الَّتِي تصل من الْمَكَان الْبعيد لَا تصل إِلَّا وَقد كل ظهرهَا وَقل وفرها وضاق بالبيكار صدرها وَلَا تستفتح إِلَّا بِطَلَب الدستور وَيصير ضجرها مضرا بالسمعة عِنْد الْعَدو المخذول وَلَهُم قَاتلهم الله تنوع فِي المكايد فَإِنَّهُم قَاتلُوا مرّة بالأبرجة وَأُخْرَى بالمنجنيقات ورادفة بالدبابات وتابعة بالكباش وآونة باللوالب وَيَوْما بالنقب وليلا بالسرابات وطورا بطم الْخَنَادِق وآنا بِنصب السلالم ودفعة بالزحوف فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَحَالَة فِي الْبَحْر بالمراكب
ثمَّ شرعوا فأقاموا فِي وسط خيامهم حَائِطا مستطيلا يشبه السُّور من التُّرَاب وتلالا تشبه الأبرجة مُدَوَّرَة ورفعوها بالأخشاب وعالوها بِالْحِجَارَةِ فَلَمَّا كملت أخذُوا التُّرَاب من وَرَائِهَا ورموه قدامها وهم يتقدمون أول أول وترتفع حَالا بعد حَال حَتَّى صَارَت مِنْهُ كَنِصْف غلوة سهم وَقد كَانَ الْحجر وَالنَّار تؤثران فِي أبرجة الْخشب وَهَذِه أبراج وستائر للرِّجَال والمنجنيقات من العطب لَا تُؤثر فِيهَا الْحِجَارَة الرامية وَلَا تعْمل فِيهَا النَّار الحامية
قَالَ وَوصل فِي آخر جُمَادَى الأولى من العساكر الإسلامية مُجَاهِد الدّين يرنقش وَمَعَهُ عَسْكَر سنجار
وَفِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة ابْن صَاحب الْموصل وَجَمَاعَة من أُمَرَاء مصر والقاهرة كعلم الدّين كرجي وَسيف الدّين سنقر الدووي وَغَيرهمَا من الأَسدِية والناصرية
وَأما عَسَاكِر دياربكر فَإِنَّهُم تَأَخَّرُوا وَاعْتَذَرُوا بالخوف من جوَار تَقِيّ الدّين وَكَانَ قد تعرض للسويداء وَغَيرهَا وصعب ذَلِك على السُّلْطَان وَقَالَ هَذَا من عمل الشَّيْطَان وَفِي مثل هَذَا الْوَقْت يتَعَرَّض لهَذَا المقت وَإِنِّي أَخَاف عَلَيْهِ فِي هَذِه السّنة حَيْثُ أَسَاءَ عِنْد إِمْكَان الْحَسَنَة
وَاشْتَدَّ مرض الإنكلتير بِحَيْثُ شغل الفرنج مَرضه عَن الزَّحْف وَكَانَ ذَلِك خيرة من الله عَظِيمَة فَإِن الْبَلَد كَانَ قد ضعف من فِيهِ ضعفا عَظِيما وهدمت المنجنيقات من السُّور مِقْدَار قامة الرجل فَكَانَ فِي هَذِه الفترة للبلد بَقَاء رَمق وَزَوَال فرق وانتعاش عَثْرَة وانجبار كسرة
قَالَ القَاضِي واللصوص يدْخلُونَ عَلَيْهِم إِلَى خيامهم وَيَسْرِقُونَ أقمشتهم ونفوسهم وَيَأْخُذُونَ الرِّجَال فِي عَافِيَة بِأَن يجيئوا إِلَى الْوَاحِد وَهُوَ نَائِم فيضعوا على حلقه السكين ويوقظونه وَيَقُولُونَ لَهُ بالاشارة إِن تَكَلَّمت ذبحناك ويحملونه وَيخرجُونَ بِهِ إِلَى عَسْكَر الْمُسلمين وَجرى ذَلِك مرَارًا كَثِيرَة
ثمَّ تَكَرَّرت الرسائل من الفرنج إِلَى السُّلْطَان شغلا للْوَقْت بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ مِنْهَا أَن ملك الإنكلتير طلب الِاجْتِمَاع بِهِ ثمَّ فتر بعده أَيَّامًا ثمَّ جَاءَ رَسُوله يطْلب الاسْتِئْذَان فِي إهداء جوارح جَاءَت من الْبَحْر وَيذكر أَنَّهَا قد ضعفت وتغيرت وَطلب أَن يحمل لَهَا دَجَاج وطير تَأْكُله لتقوى ثمَّ تهدى
ففهم أَنه مُحْتَاج إِلَى ذَلِك لنَفسِهِ لِأَنَّهُ حَدِيث عهد بِمَرَض ثمَّ نفذ أَسِيرًا مغربيا عِنْده فَأَطْلقهُ السُّلْطَان ثمَّ أرسل فِي طلب فَاكِهَة وثلج فَأرْسل إِلَيْهِ ذَلِك
وَكَانَ غرضهم من ذَلِك تفتير العزمات وتضييع الْأَوْقَات على الْمُسلمين وهم مشتغلون بالحصر وموالاة الرَّمْي وَالْجد بالزحف حَتَّى تبدلت قُوَّة الْبَلَد بالضعف وتخلخل السُّور وأنهك التَّعَب والسهر أهل الْبَلَد لقلَّة عَددهمْ وَكَثْرَة الْأَعْمَال عَلَيْهِم حَتَّى إِن جمَاعَة مِنْهُم بقوا ليَالِي عدَّة لَا ينامون أصلا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارا والعدو عدد كثير يتناوبون على قِتَالهمْ وَاشْتَدَّ ذَلِك عَلَيْهِم سَابِع جُمَادَى الْآخِرَة فَركب السُّلْطَان بالعسكر الإسلامي ورغبهم ونخاهم وزحف على خنادق الْعَدو حَتَّى دخل فِيهَا الْعَسْكَر
وَجرى قتال عَظِيم وَهُوَ كالوالدة الثكلى يُحَرك فرسه من طلب إِلَى طلب ويحث النَّاس على الْجِهَاد وينادي بِنَفسِهِ ياللاسلاماه وَعَيناهُ قد فارت بالدمع
وَكلما نظر إِلَى عكا وَمَا حل بهَا من الْبلَاء وَمَا يجْرِي على من بهَا من الْمُصَاب الْعَظِيم اشْتَدَّ فِي الزَّحْف والحث على الْقِتَال وَلم يطعم فِي ذَلِك الْيَوْم طَعَاما الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا شرب شَيْئا أَشَارَ بِهِ الطَّبِيب
وَلما هجم اللَّيْل عَاد إِلَى الخيم وَقد أَخذ مِنْهُ التَّعَب والكآبة والحزن ثمَّ ركب سحرًا وصبحوا على مَا أَمْسوا عَلَيْهِ
وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصلت مطالعة من الْبَلَد يَقُولُونَ فِيهَا إِنَّا قد بلغ بِنَا الْعَجز إِلَى غَايَة مَا بعْدهَا إِلَّا التَّسْلِيم وَنحن فِي الْغَد إِن لم تعملوا مَعنا شَيْئا نطلب الْأمان ونسلم الْبَلَد ونشتري مُجَرّد رقابنا وَكَانَ هَذَا أعظم خبر ورد على الْمُسلمين وأنكاه فِي قُلُوبهم فان عكا كَانَت قد احتوت على جَمِيع سلَاح السَّاحِل والقدس ودمشق وحلب ومصر أَيْضا فَرَأى السُّلْطَان مهاجمة الْعَدو فَلم يساعده الْعَسْكَر فَإِن الرجالة من الفرنج وقفُوا كالسور الْمُحكم الْبناء بِالسِّلَاحِ والزنبورك والنشاب من وَرَاء أسوارهم وهجم عَلَيْهِم بعض النَّاس من بعض أَطْرَافهم فثبتوا وذبوا غَايَة الذب
وَحكى بعض من دخل عَلَيْهِم أسوارهم أَنه كَانَ هُنَاكَ وَاحِد من الفرنج صعد سور خندقهم وَجَمَاعَة يناولونه الْحِجَارَة وَهُوَ يرميها على الْمُسلمين وَوَقع فِيهِ زهاء خمسين سَهْما وحجرا وَهُوَ يتلقاها وَلم يمنعهُ ذَلِك عَمَّا هُوَ بصدده من الذب حَتَّى ضربه زراق بنفط فأحرقه ورؤيت امْرَأَة عَلَيْهَا ملوطة خضراءفما زَالَت ترمي بقوس من خشب حَتَّى جرحت جمَاعَة ثمَّ قتلت وحملت إِلَى السُّلْطَان فَعجب من ذَلِك
وَلم تزل الْحَرْب إِلَى اللَّيْل وضعفت نفوس أهل الْبَلَد وَتمكن الْعَدو من الْخَنَادِق فملؤوها ونقبوا سور الْبَلَد وحشوه وأحرقوه فَوَقَعت بَدَنَة من الباشورة وَدخل الْعَدو إِلَيْهَا وَقتل مِنْهُم فِيهَا زهاء مئة وَخمسين نفسا وَكَانَ مِنْهُم سِتَّة أنفس من كبارهم فَقَالَ لَهُم وَاحِد مِنْهُم لَا تقتلوني حَتَّى أرحل الفرنج عَنْكُم بِالْكُلِّيَّةِ فبادر رجل من الأكراد وَقَتله وَقتل الْخَمْسَة الْبَاقِيَة
وَفِي الْغَد ناداهم الفرنج احْفَظُوا السِّتَّة فَإنَّا نطلقكم كلكُمْ بهم فَقَالُوا إِنَّا قد قتلناهم فَحزن الفرنج وبطلوا عَن الزَّحْف ثَلَاثَة أَيَّام
وَخرج سيف الدّين المشطوب بِنَفسِهِ بِأَمَان إِلَى ملك الافرنسيس وَهُوَ كَانَ مقدم الْجَمَاعَة فِي الرُّتْبَة وَقَالَ لَهُ إِنَّا قد أَخذنَا مِنْكُم بلادا عدَّة وَكُنَّا نهدم الْبَلَد وندخل فِيهِ وَمَعَ هَذَا إِذا
سألونا الْأمان أعطيناهم وحملناهم إِلَى مأمنهم وأكرمناهم وَنحن نسلم الْبَلَد وتعطينا الْأمان على أَنْفُسنَا فَقَالَ أرى فِيكُم رَأْيِي فَأَغْلَظ لَهُ المشطوب القَوْل وَانْصَرف عَنهُ
وَلما دخل المشطوب بِهَذَا الْخَبَر خَافَ جمَاعَة مِمَّن كَانُوا فِي الْبَلَد فَأخذُوا لَهُم بركوسا وَهُوَ مركب صَغِير وركبوا فِيهِ لَيْلًا خَارِجين إِلَى الْعَسْكَر الإسلامي مِنْهُم عز الدّين أرسل وحسام الدّين تمرتاش ابْن الجاولي وسنقر الوشاقي وَهُوَ من الأَسدِية الأكابر وَذَلِكَ فِي لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة
فَأَما أرسل وسنقر فتغيبا خوفًا من السُّلْطَان وَأما ابْن الجاولي فظفر بِهِ وَرمي فِي الزردخاناه وَكَانَ سَابًّا أول مَا توفّي وَالِده فَقطع السُّلْطَان إقطاعاتهم وأقطعها وَحبس عَنْهُم عِنْد الرِّضَا بعد مُدَّة مديدة بشاشة وَجهه ومنعها وَكَانَ من جملَة الهاربين عبد القاهر الْحلَبِي نقيب الجاندارية الناصرية فشفع فِيهِ على أَنه يضمن على نَفسه العودة فَعَاد من ليلته وَوَقع بعد ذَلِك فِي الاسار واستفكه السُّلْطَان بعد سنة بثماني مئة دِينَار
وَمن كتاب إِلَى صَاحب إربل مظفر الدّين لما عاين أَصْحَابنَا بِالْبَلَدِ مَا عَلَيْهِ من الْخطر وَأَنَّهُمْ قد أشفوا على الْغرَر فر من
جمَاعَة الْأُمَرَاء من قل بِاللَّه وثوقه وأعمى قلبه فجوره وفسوقه وَلَقَد خانوا الْمُسلمين فِي ثغرهم وباؤوا بوبال غدرهم وَمَا قوى طمع الْعَدو فِي الْبَلَد إِلَّا هَرَبهمْ وَمَا أرهب قُلُوب البَاقِينَ من مقاتلته إِلَّا رهبهم والمقيمون من أَصْحَابنَا الْكِرَام قد استحلوا مر الْحمام وَأَجْمعُوا أَنهم لَا يسلمُونَ حَتَّى يقتلُوا من الْأَعْدَاء أَضْعَاف أعدادهم وَأَنَّهُمْ يبذلون فِي صون ثغرهم غَايَة اجتهادهم
وَكَانُوا تحدثُوا مَعَ الفرنجي فِي التَّسْلِيم فاشتطوا واشترطوا فصبروا بعد ذَلِك وَصَابِرُوا ومدوا أَيْديهم فِي الْقَوْم وبسطوا فَتَارَة يخرجونهم من الباشورة وَتارَة من النقوب وَالله تَعَالَى يسهل تَنْفِيس مَا هم فِيهِ من الكروب
قَالَ القَاضِي وَفِي سحرة تِلْكَ اللَّيْلَة ركب السُّلْطَان مشعرا أَنه يُرِيد كبس الْقَوْم وَمَعَهُ الْمساحِي وآلات طم الْخَنَادِق فَمَا ساعده الْعَسْكَر على ذَلِك وتخاذلوا وَقَالُوا نخاطر بِالْإِسْلَامِ كُله
وَفِي ذَلِك الْيَوْم خرج من عِنْد الإنكلتير رسل ثَلَاثَة طلبُوا فَاكِهَة وثلجا وَذكروا أَن مقدم الاسبتارية يخرج فِي الْغَد يَعْنِي يَوْم الْجُمُعَة يتحدث وَيَتَحَدَّثُونَ مَعَه فِي معنى الصُّلْح فأكرمهم السُّلْطَان ودخلوا سوق الْعَسْكَر وتفرجوا فِيهِ وعادوا تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى عَسْكَرهمْ
وَفِي ذَلِك الْيَوْم تقدم إِلَى قايماز النجمي حَتَّى يدْخل هُوَ وَأَصْحَابه إِلَى أسوارهم عَلَيْهِم وترجل جمَاعَة من أُمَرَاء الأكراد كالجناح وَأَصْحَابه وَهُوَ أَخُو المشطوب ولفيفهم وزحفوا حَتَّى بلغُوا أسوار الفرنج وَنصب قايماز علمه بِنَفسِهِ على سورهم وَقَاتل عَن الْعلم قِطْعَة من النَّهَار
وَفِي ذَلِك الْيَوْم وصل عز الدّين جرديك النوري وسوق الزَّحْف قَائِمَة فترجل هُوَ وجماعته وَقَاتل قتالا شَدِيدا واجتهد النَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم اجْتِهَادًا عَظِيما
قَالَ الْعِمَاد وَبَات الْعَسْكَر تِلْكَ اللَّيْلَة على الْخَيل تَحت الْحَدِيد منتظرا لنجح الأمل الْبعيد وَلما عرف السُّلْطَان أَنه لَا سَلامَة وَأَن عكا عدمت الاسْتقَامَة نفذ إِلَى جمَاعَة عكا سرا وَقَالَ لَهُم خُذُوا من الْعَدو حذرا وَاتَّفَقُوا واخرجوا لَيْلًا من الْبَلَد يدا وَاحِدَة وسيروا على جَانب الْبَحْر وصادموا الْعَدو بالقهر وخلوا الْبَلَد بِمَا فِيهِ واتركوه بِمَا يحويه
فشرعوا فِي ذَلِك واشتغل كل مِنْهُم باستصحاب مَا يملكهُ وَلم يعلم أَن التهاءه بِهِ يهلكه فَمَا تمكنوا من المُرَاد حَتَّى أَسْفر الصَّباح وَلم يَصح ذَلِك فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة لمصير السِّرّ إِلَى الْعَلَانِيَة
قَالَ وَلَو صَحَّ ذَلِك لنجح الْمَقْصد لَكِن الفرنج اطلعوا على هَذَا السِّرّ فحرسوا الجوانب والأبواب وَكَانَ سَبَب علمهمْ اثْنَيْنِ من
غلْمَان الهاربين خرجا إِلَى الملاعين وأخبراهم بجلية الْحَال وعزيمة الرِّجَال
قَالَ وَخرج يَوْم الْجُمُعَة الْعَاشِر من الشَّهْر جمَاعَة من رسل الفرنج وَنحن على الْحَرْب ومحاولة الطعْن وَالضَّرْب وَفِيهِمْ صَاحب صيدا فَطلب نجيب الدّين الْعدْل وَكَانَ السُّلْطَان يعذق بِهِ فِي رسالات الفرنج العقد والحل وعول السُّلْطَان فِي سَماع الرسائل على وَلَده الْأَفْضَل وأخيه الْعَادِل وَتردد الْعدْل مرَارًا فِي الْخطاب وَالْجَوَاب فَلم ينْفَصل الْأَمر على الصَّوَاب وبذلنا لَهُم عكا على مَا فِيهَا دون من فِيهَا وَأَنا نطلق لَهُم أسرى بِعَدَد الْعدة الَّتِي تحويها فَأَبَوا غير الاشتطاط فزدناهم صَلِيب الصلبوت فَلم يحصل لَهُم بِهِ كَمَال الِاغْتِبَاط هَكَذَا قَالَ فِي الْبَرْق
وَقَالَ فِي الْفَتْح إِن ذَلِك كَانَ يَوْم السبت وَقَالَ اشترطوا إِعَادَة جَمِيع الْبِلَاد وَإِطْلَاق أساراهم من الأقياد وَضعف الْبَلَد وَعجز من فِيهِ ضعفا لَا يُمكن تلافيه ووقف كرام أَصْحَابنَا وسدوا الثغر بصدورهم وشرعوا فِي بِنَاء سور يقتطع جانبا حَتَّى يَنْتَقِلُوا إِلَيْهِ إِذا شاهدوا الْعَدو غَالِبا
وَكَذَا قَالَ ابْن شَدَّاد إِن ذَلِك كَانَ يَوْم السبت الْحَادِي عشر
وَقَالَ لبست الفرنج بأسرها لِبَاس الْحَرْب وتحركوا حَرَكَة
عَظِيمَة بِحَيْثُ اعْتقد أَنه رُبمَا كَانَ مصَاف وَاصْطَفُّوا وَخرج من الْبَاب الَّذِي تَحت الْقبَّة زهاء أَرْبَعِينَ نفسا واستدعوا جمَاعَة من المماليك وطلبوا مِنْهُم الْعدْل الزبداني وَذكروا أَنه يَعْنِي الْخَارِج صَاحب صيدا طليق السُّلْطَان فَذكر نَحْو مَا تقدم
قَالَ وتصرم نَهَار السبت وَلم ينْفَصل حَال
قَالَ وَلما كَانَ يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشر الشَّهْر وصل من الْبَلَد كتب يَقُولُونَ فِيهَا إِنَّا قد تبايعنا على الْمَوْت فاياكم أَن تخضعوا لهَذَا الْعَدو وتلينوا لَهُ فَأَما نَحن فقد فَاتَ أمرنَا وَذكر الْعَوام الْوَاصِل بِهَذِهِ الْكتب أَنه وَقع بِاللَّيْلِ صَوت انزعج مِنْهُ الطائفتان وَظن الفرنج أَن عسكرا عَظِيما قد عبر إِلَى عكا وَسلم وَصَارَ فِيهَا واندفع كيد الْعَدو فِي تِلْكَ الْأَيَّام بعد أَن كَانَ قد أشفى الْبَلَد على الْأَخْذ
وَوصل من عَسَاكِر الْإِسْلَام صَاحب شيزر سَابق الدّين وَبدر الدّين دلدرم وَمَعَهُ تركمان كثير كَانَ السُّلْطَان أنفذ إِلَيْهِ ذَهَبا أنفقهُ فيهم وَصَاحب حمص وَاشْتَدَّ ضعف الْبَلَد وَكَثُرت ثغر سوره فبنوا عوض الثلمة سورا من داخلها حَتَّى إِذا تمّ انهدامها قَاتلُوا عَلَيْهِ وَثَبت الفرنج - لعنهم الله - على أَنهم لَا يصالحون
وَلَا يُعْطون الَّذين فِي الْبَلَد أَمَانًا حَتَّى يُطلق جَمِيع الأسرى الَّذين فِي أَيدي الْمُسلمين وتعاد الْبِلَاد الساحلية إِلَيْهِم
وَفِي يَوْم الْجُمُعَة سَابِع عشر الشَّهْر خرج الْعَوام وَفِي كتبه أَن أهل الْبَلَد ضَاقَ بهم الْأَمر وتيقنوا أَنه مَتى أَخذ الْبَلَد عنْوَة ضربت رقابهم عَن آخِرهم وَأخذ جَمِيع مَا فِيهِ من الْعدَد والأسلحة والمراكب وَغير ذَلِك فصالحوهم على أَنهم يسلمُونَ إِلَيْهِم الْبَلَد وَجَمِيع مَا فِيهِ من الْآلَات وَالْعدَد والمراكب ومئتي ألف دِينَار وألفا وَخمْس مئة أَسِير مَجَاهِيل الْأَحْوَال ومئة أَسِير مُعينين من جانبهم يختارونهم وصليب الصلبوت على أَنهم يخرجُون بِأَنْفسِهِم سَالِمين وَمَا مَعَهم من الْأَمْوَال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم وَنِسَائِهِمْ وضمنوا للمركيس الملعون - فَإِنَّهُ كَانَ قد استرضي وَعَاد - عشرَة آلَاف دِينَار لانه كَانَ وَاسِطَة ولأصحابه أَرْبَعَة آلَاف دِينَار واستقرت الْقَاعِدَة على ذَلِك بَينهم وَبَين الفرنج
وَلما وقف السُّلْطَان على ذَلِك أنكرهُ وأعظمه وعزم على أَن يكْتب إِلَيْهِم فِي إِنْكَار ذَلِك عَلَيْهِم فَهُوَ فِي مثل هَذِه الْحَال وَقد جمع أُمَرَاء وَأَصْحَاب مشورته فَمَا أحس الْمُسلمُونَ إِلَّا وَقد ارْتَفَعت أَعْلَام الْكفْر وصلبانه وشعاره وناره على أسوار الْبَلَد وَذَلِكَ فِي ظهيرة نَهَار الْجُمُعَة سَابِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة
وَصَاح الفرنج صَيْحَة وَاحِدَة وعظمت الْمُصِيبَة على الْمُسلمين وَاشْتَدَّ حزن الْمُوَحِّدين وانحصر كَلَام الْعُقَلَاء من النَّاس فِي تِلَاوَة {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون}
وَغشيَ النَّاس بهتة عَظِيمَة وحيرة شَدِيدَة وَوَقع فِي الْعَسْكَر الصياح والعويل والبكاء والنحيب وَكَانَ لكل قلب حَظّ فِي ذَلِك على قدر إيمَانه وَلكُل إِنْسَان نصيب من هَذَا الْحَظ على مِقْدَار ديانته ونخوته وأقشعت الْحَال على أَن المركيس - لَعنه الله - دخل الْبَلَد وَمَعَهُ أَرْبَعَة أَعْلَام للملوك فنصب علما على القلعة وعلما على مئذنة الْجَامِع فِي يَوْم الْجُمُعَة وعلما على برج الداوية وعلما على برج الْقِتَال عوضا عَن علم الْإِسْلَام وحيز الْمُسلمُونَ إِلَى بعض أَطْرَاف الْبَلَد وَجرى على أهل الْإِسْلَام المشاهدين لتِلْك الْحَال مَا كثر التَّعَجُّب من الْحَيَاة مَعَه
قَالَ ومثلت بِخِدْمَة السُّلْطَان رحمه الله عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم وهوأشد حَالَة من الوالدة الثكلى والوالهة الحيرى فسليته بِمَا تيَسّر من التسلية وأذكرته الْفِكر فِيمَا قد استقبله من الْأَمر فِي معنى الْبِلَاد الساحلية والقدس الشريف وَكَيْفِيَّة الْحَال فِي ذَلِك وإعمال الْفِكر فِي خلاص الْمُسلمين فِي الْبَلَد وانفصل الْحَال
على أَن رأى التَّأَخُّر عَن تِلْكَ الْمنزلَة مصلحَة فَإِنَّهُ لم يبْق غَرَض فِي المضايقة
فَتقدم بِنَقْل الأثقال لَيْلًا إِلَى الْمنزلَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَولا بشفرعم وَأقَام هُوَ جَرِيدَة مَكَانَهُ لينْظر مَاذَا يكون من أَمر الْعَدو وَحَال أهل الْبَلَد فانتقل النَّاس فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى الصَّباح واشتغل الْعَدو بِالِاسْتِيلَاءِ على الْبَلَد وَأقَام السُّلْطَان إِلَى التَّاسِع عشر ثمَّ انْتقل إِلَى الثّقل وَوصل ثَلَاثَة نفر وَمَعَهُمْ أقوش حَاجِب بهاء الدّين قراقوش وَكَانَ لِسَانه فَإِنَّهُ كَانَ رجلا عَاقِلا - مستنجزين مَا وَقع عَلَيْهِ عقد الصُّلْح من المَال والأسرى فأقاموا لَيْلَة مكرمين وَسَارُوا إِلَى دمشق يبصرون الْأُسَارَى
قَالَ الْعِمَاد وَخرج سيف الدّين مشطوب وحسين بن باريك وأخذا أَمَان الفرنج يَعْنِي على القطيعة الْمُقدم ذكرهَا
قَالَ وَلم نشعر إِلَّا بالرايات الفرنجية على عكا مركوزة واعطاف أعلامها مهزوزة وَعم الْبلَاء وَتمّ الْقَضَاء وَعز العزاء وَقَنطَ الرَّجَاء وحضرنا عِنْد السُّلْطَان وَهُوَ مُغْتَم وبالتدبير للمستقبل مهتم فعزيناه وسليناه وَقُلْنَا هَذِه بَلْدَة مِمَّا فَتحه الله قد استعادها عداهُ وَقلت لَهُ إِن ذهبت مَدِينَة فَمَا ذهب الدّين وَلَا ضعف فِي نصر الله الْيَقِين
قَالَ ودخلوا عكا وتسلموها وَلم يقفوا على الشَّرَائِط الَّتِي أحكموها فَإِنَّهُم منعُوا أَصْحَابنَا من الْخُرُوج واحتاطوا عَلَيْهِم وعَلى أَمْوَالهم وبدؤوا بحبسهم واعتقالهم ثمَّ طلبُوا المَال فَجَمعه السُّلْطَان وكمله وأودعه خزانته بَعْدَمَا حصله وأحضر صليبهم الْمَطْلُوب المسلوب وَأتم شرطهم المخطوب فظهرت أَمَارَات غدرهم وبدت دَلَائِل مَكْرهمْ
وَفِي كتاب كتبه الْفَاضِل عَن السُّلْطَان إِلَى شمس الدولة بن منقذ وَهُوَ بالمغرب فِي الرسَالَة لقد تجاوزت عدَّة من قتل على عكا - يَعْنِي من الفرنج - الْخمسين ألفا قولا لَا يُطلقهُ التسمح بل يحزره التصفح فانبروا فِي هَذِه السّنة ملكا إفرنسيس وإنكلتير وملوك آخَرُونَ فِي مراكب بحريّة وحمالة حملُوا فِيهَا الْخُيُول والخيالة والمقاتلة والآلة ووصلت كل سفينة تحمل كل مَدِينَة وَأَحْدَقَتْ بالثغر فمنعت النَّاقِل بِالسِّلَاحِ إِلَيْهِ والداخل بالميرة عَلَيْهِ
ثمَّ قَالَ وَأخذ الْبَلَد على سلم كالحرب ودخله الْعَدو وَلَو لم يدْخلهُ من الْبَاب دخل من النقب وَمَا وَهنا لما أَصَابَنَا فِي سَبِيل الله وَمَا ضعفنا وَلَا رَجعْنَا وَرَاءَنَا وَلَا انصرفنا بل نَحن بمكاننا نَنْتَظِر أَن يبرزوا فنبارزهم ويخرجوا فنناجزهم وينتشروا فنطويهم وينبثوا فنزويهم وأقمنا على طرقهم وخيمنا على
مخنقهم وأخذنا بأطرار خندقهم وأحوج مَا كُنَّا الْآن إِلَى النجدة البحرية والأساطيل المغربية فَإِن عاريتنا بهَا ترد وعاديتنا بهَا تشتد
والأمير يبلغ مَا بلغه من خطب الْإِسْلَام وخطوبه وَيقوم فِي الْبَلَاغ يَوْم الْجُمُعَة مقَام خَطِيبه ويعجل العودة وَقبلهَا الاجابة ويستصحب السهْم ويسبق ببشرى الاصابة ويشعر أَن الرَّايَة قد رفعت لنصر تقدم بِهِ عرابه فَإِن للاسلام نظرات إِلَى الْأُفق الغربي يقلبها وخطرات من اللطف الْخَفي يقربهَا وَيَكْفِي من حسن الظَّن أَنَّهَا نظرة ردَّتْ الْهوى الشَّرْقِي غربا وخطرة أوهمت أَن تِلْكَ الهمة لَو تلم بالسفائن لأخذت كل سفينة غصبا
قَالَ الْعِمَاد وعزم الْملك إفرنسيس على الْمسير إِلَى بِلَاده لأمر اخْتَلَّ عَلَيْهِ فَأخذ قسما من الْأُسَارَى وسلمهم إِلَى المركيس ووكله فِي قبض نصِيبه وَرَضي بتدبيره وترتيبه
وَخرج الفرنج يَوْم الْخَمِيس انسلاخ الشَّهْر من جَانب الْبَحْر وانتشروا بالمرج ووصلوا إِلَى الْآبَار الَّتِي حفرهَا اليزك وتواقعوا واواقعوا مَعَ اليزك وأمدهم السُّلْطَان ففلوا الْعَدو وصرع مِنْهُم خَمْسُونَ فَارِسًا
قَالَ القَاضِي وجرح خلق عَظِيم وَلم يزل السَّيْف فيهم حَتَّى دخلُوا خنادقهم
قَالَ وَلم تزل الرُّسُل تَتَرَدَّد بَين الطَّائِفَتَيْنِ حَتَّى كَانَ يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع رَجَب فَخرج حسام الدّين حُسَيْن بن باريك المهراني وَمَعَهُ اثْنَان من أَصْحَاب الانكلتير فَأخْبر أَن ملك الافرنسيس صَار إِلَى صور وَذكروا أَشْيَاء من تَحْرِير أَمر الْأُسَارَى وطلبوا أَن يشاهدوا صَلِيب الصلبوت وَأَنه هَل هُوَ فِي الْعَسْكَر أَو حمل إِلَى بَغْدَاد
فأحضر صَلِيب الصلبوت وشاهدوه وعظموه ورموا نُفُوسهم إِلَى الأَرْض ومرغوا وُجُوههم على التُّرَاب وخضعوا خضوعا عَظِيما لم ير مثله وَذكروا أَن الْمُلُوك قد أجابوا السُّلْطَان إِلَى أَن يكون مَا وَقع عَلَيْهِ الْقَرار يدْفع فِي تروم ثَلَاثَة - أَي نُجُوم - كل ترم شهر
وَلم تزل الرُّسُل تتواتر فِي تَحْرِير الْقَاعِدَة وتنجيزها حَتَّى حصل لَهُم مَا التمسوه من الْأُسَارَى وَالْمَال الْمُخْتَص بذلك الترم وَهُوَ الصَّلِيب ومئة ألف دِينَار وَألف وست مئة أَسِير وأنفذوا
ثقاتهم وشاهدوا الْجَمِيع ماعدا الْأُسَارَى المعينين من جانبهم فَإِنَّهُم لم يَكُونُوا فرغوا من تعيينهم وَلم يكملوهم حَتَّى يحصلوا وَلم يزَالُوا يطاولون ويقضون الزَّمَان حَتَّى انْقَضى الترم الأول من ثامن عشر رَجَب
ثمَّ أنفذوا فِي ذَلِك الْيَوْم يطْلبُونَ ذَلِك فَقَالَ لَهُم السُّلْطَان إِمَّا أَن تنفذوا إِلَيْنَا أَصْحَابنَا وتتسلموا الَّذِي عين لكم فِي هَذَا الترم ونعطيكم رهائن على الْبَاقِي يصل إِلَيْكُم فِي ترومكم الْبَاقِيَة وَإِمَّا أَن تعطونا رهائن على مَا نسلمه إِلَيْكُم حَتَّى تخْرجُوا إِلَيْنَا أَصْحَابنَا فَقَالُوا لَا نَفْعل شَيْئا من ذَلِك بل تسلمون مَا نقبضه بِهَذَا الترم وتقنعون بأمانتنا حَتَّى نسلم إِلَيْكُم أصحابكم فَأبى السُّلْطَان ذَلِك لعلمه أَنهم إِن تسلموا المَال والصليب والأسرى وأصحابنا عِنْدهم لَا يُؤمن غدرهم
فَلَمَّا رَأَوْهُ قد امْتنع من ذَلِك أخرجُوا خيامهم إِلَى ظَاهر خنادقهم مبرزين فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين الإنكلتير وَجَمَاعَة من الخيالة والرجالة والتركبل وركبوا فِي وَقت الْعَصْر السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب وَسَارُوا حَتَّى أَتَوا إِلَى الْآبَار الَّتِي تَحت تل العياضية وَقدمُوا خيامهم إِلَيْهَا وَسَارُوا حَتَّى توسطوا المرج بَين تل كيسَان
وتل العياضية ثمَّ أحضروا من الْأُسَارَى الْمُسلمين من كتب الله شَهَادَته وَكَانُوا زهاء ثَلَاثَة آلَاف مُسلم فِي الحبال ووقفوهم وحملوا عَلَيْهِم حَملَة الرجل الْوَاحِد فَقَتَلُوهُمْ صبرا طَعنا وَضَربا بِالسَّيْفِ - رَحْمَة الله عَلَيْهِم - واليزك الإسلامي يشاهدهم وَلَا يعلم مَاذَا يصنعون لبعده عَنْهُم
وَكَانَ اليزك قد أنفذ إِلَى السُّلْطَان وأعلمه بركوب الْقَوْم ووقوفهم فأنفذ إِلَى اليزك من قواه وَبعد أَن فرغوا مِنْهُم حمل الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم وَجَرت بَينهم حَرْب عَظِيمَة جرى فِيهَا قتل وجرح من الْجَانِبَيْنِ ودام الْقِتَال إِلَى أَن فصل اللَّيْل بَين الطَّائِفَتَيْنِ وَأصْبح الْمُسلمُونَ يكشفون الْحَال فوجدوا الْمُسلمين الشُّهَدَاء فِي مصَارِعهمْ وَعرفُوا من عرفُوا مِنْهُم وَغشيَ الْمُسلمين بذلك حزن عَظِيم وَلم يبقوا من الْمُسلمين إِلَّا رجلا مَعْرُوفا مقدما أَو قَوِيا أيدا للْعَمَل فِي عمائرهم
قَالَ الْعِمَاد وَطلب السُّلْطَان مِنْهُم أَن يضمنهم الداوية فِي قبض المَال فَقَالَ الداوية مَا ندخل فِي الضَّمَان فاقنعوا مِنْهُم بالْقَوْل والأمان فَظهر من فحوى كَلَامهم الْخلف
ثمَّ ذكر قتل الْأُسَارَى قَالَ فشاهدناهم مستشهدين وبالعراء عرايا مجردين وَلَا شكّ أَن الله كساهم من سندس النَّعيم ونقلهم إِلَى دَار المقامة فِي الْعِزّ الْمُقِيم وَتصرف السُّلْطَان حِينَئِذٍ فِي الْحَال