الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجال مُسلمُونَ ونصارى من أهل بيروت وَأَرَادُوا أَن تشتبه ببطس الْعَدو فِي الْبَحْر وشدوا زنانير واستصحبوا خنازير وَسَارُوا بهَا فِي الْبَحْر بمراكب الفرنج مختلطين وَإِلَى محادثتهم ومجاذبتهم منبسطين وَلما حاذوا بهَا عكا صوبوا بهَا نَحْوهَا وَالرِّيح تسوقها والفرنج من مراكبها تَقول مَا هَذِه طريقها
وَهِي كالسهم النَّافِذ قد سدد فَوْقهَا فَدخلت الثغر واجتزأ الْبَلَد بهَا نصف شهر وَظَهَرت رَابِع عشر شعْبَان من ثبج الْبَحْر ثَلَاثَة مراكب كَأَنَّهَا ثَلَاث هواضب فَجَاءَت فَجْأَة أعلامها كالأعلام طائرة كالسهام وَلم تبال بمراكب الْعَدو فخرقتها وَقربت مِنْهَا سفينة فغرقتها وعبرت وَعين الْكفْر عبرى وامتلأ الثغر بهَا وأثرى
فصل
قَالَ الْعِمَاد وَوصل ملك الألمان ورام أَن يظْهر بمجيئه وَقعا ويبدي بِهِ نفعا فدبوا فِي راجل كَرجل الدبى وخيل أغصت الوهاد والربى وقربوا من تل العياضية وَعَلِيهِ خيم اليزكية والنوبة فِيهَا للحلقة المنصورة الناصرية والعصبة الموصلية فثارت إِلَيْهِم ودارت عَلَيْهِم وَركب السُّلْطَان وَتقدم إِلَى تل كيسَان وَلم تزل الْحَرْب إِلَى أَن جن الظلام وكف الْكفْر وَسلم
الْإِسْلَام وَكَانَت الدائرة على الْكَفَرَة
قَالَ القَاضِي وَقتل مِنْهُم وجرح خلق عَظِيم وَالسيف يعْمل فِي بَقِيَّتهمْ وهم هاربون حَتَّى وصل المخيم غرُوب الشَّمْس من ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ لَا يعْتَقد سَلامَة نَفسه من شدَّة خَوفه وَقتل من الْمُسلمين فِي ذَلِك الْيَوْم اثْنَان وجرح جمَاعَة كَثِيرَة
وَمن كتاب إِلَى بَغْدَاد قد بلي الْإِسْلَام مِنْهُم بِقوم قد استطابوا الْمَوْت واستجابوا الصَّوْت وفارقوا المحبوبين الأوطان والأوطار وهجروا المألوفين الْأَهْل والديار وركبوا اللجج ووهبوا المهج كل ذَلِك طَاعَة لقسيسهم وامتثالا لأمر مركيسهم وغيرة لمتعبدهم وحمية لمعتقدهم وتهالكا على مقبرتهم وتحرقا على قمامتهم الظبي
لَا يطْلبُونَ مَعَ شدَّة الاملاق مَالا وَلَا يَجدونَ مَعَ كَثْرَة المشاق ملالا بل يتساقطون على نيران الظبي تساقط الْفراش ويقتحمون الردى متدرعي الصَّبْر متثبتي الجاش حَتَّى خرجت النِّسَاء من بلادهن متبرزات وسرن إِلَى الشَّام فِي الْبَحْر وَالْبر متجهزات وَكَانَت مِنْهُنَّ ملكة استتبعت خمس مئة مقَاتل فَارس وراجل رامح ونابل والتزمت بمؤنتهم فصودف مركبها بِقرب الاسكندرية فَأخذت برجالها وأراح الله من شَرّ احتفالها
ومنهن ملكة وصلت مَعَ ملك الألمان وَذَوَات المقانع من الفرنج مقنعات دارعات يحملن إِلَى الطعان الطوارق والقنطاريات وَقد وجدت فِي الوقعات الَّتِي جرت عدَّة مِنْهُنَّ بَين الْقَتْلَى وَمَا عرفن حَتَّى سلبن
وَإِن البابا الَّذِي برومية قد حرم عَلَيْهِم مطاعمهم ومشاربهم وَقَالَ من لَا يتَوَجَّه إِلَى الْقُدس مستخلصا فَهُوَ عِنْدِي محرم لَا منكح لَهُ وَلَا مطعم فلأجل هَذَا يتهافتون على الْوُرُود ويتهالكون على يومهم الْمَوْعُود وَقَالَ لَهُم إِنِّي وَاصل فِي الرّبيع جَامع على الاستنفار شَمل الْجَمِيع وَإِذا نَهَضَ هَذَا الملعون فَلَا يقْعد عَنهُ أحد ويصل مَعَه بأَهْله وَولده كل من يَقُول لله أهل وَولد
فَهَذَا شرح هَؤُلَاءِ وتعصبهم فِي ضلالتهم ولجاجتهم فِي غوايتهم بِخِلَاف أهل الْإِسْلَام فَإِنَّهُم يتضجرون وَلَا يصبرون بل يتفللون وَلَا يَجْتَمعُونَ ويتسللون وَلَا يرجعُونَ وَإِنَّمَا يُقِيمُونَ ببذل نَفَقَة وَإِذا حَضَرُوا حَضَرُوا بقلوب غير متفقة ليعلم أَن الْإِسْلَام من عِنْد الله مَنْصُور وَأَن الْكفْر بارادة الله محسور ومدحور
قَالَ القَاضِي وَلما عرف ملك الألمان مَا جرى على أَصْحَابه من اليزك الَّذِي هُوَ من الْعَسْكَر رأى أَن يرجع إِلَى قتال الْبَلَد ويشتغل بمضايقته فَاتخذ من الْآلَات العجيبة والصنائع الغريبة مَا هال النَّاظر إِلَيْهِ وَخيف على الْبَلَد مِنْهُ فمما أحدثه آله
عَظِيمَة تسمى دبابة يدْخل تحتهَا من الْمُقَاتلَة خلق عَظِيم ملبسة بصفائح الْحَدِيد وَلها من تحتهَا عجل تحرّك بهَا من دَاخل وفيهَا الْمُقَاتلَة حَتَّى يَنْطَح بهَا السُّور وَلها رَأس عَظِيم بِرَقَبَة شَدِيدَة من حَدِيد وَهِي تسمى كَبْشًا يَنْطَح بهَا السُّور بِشدَّة عَظِيمَة لانه يجرها خلق عَظِيم فتهدمه بتكرار نطحها
وَآلَة أُخْرَى وَهِي قبو فِيهِ رجال تسحب ذَلِك إِلَّا أَن رَأسهَا محدد على مِثَال السِّكَّة الَّتِي يحرث بهَا وَرَأس الْكَبْش مدور هَذَا يهدم بثقله وَتلك بحدتها وثقلها وَهِي تسمى سفودا وَمن الستائر والسلالم الْكِبَار الهائلة وَأَعدُّوا فِي الْبَحْر بطسة هائلة وصنعوا فِيهَا برجا بخرطوم إِذا أَرَادوا قلبه على السُّور انْقَلب بالحركات وَيبقى طَرِيقا إِلَى الْمَكَان الَّذِي يَنْقَلِب عَلَيْهِ يمشي عَلَيْهِ الْمُقَاتلَة وعزموا على تقريبه إِلَى برج الذبان ليأخذوه بِهِ
قَالَ وَنصب الْعَدو على الْبَلَد منجنيقات هائلة حاكمة على السُّور وتواترت حجارتها حَتَّى أثرت فِيهِ أثرا بَينا وَخيف من غائلته فَأخذ سَهْمَان من سِهَام الجرخ الْعَظِيم وأحرق نصلاهما حَتَّى بقيا كالشعلة من النَّار ثمَّ رميا فِي المنجنيق الْوَاحِد فعلقا فِيهِ واجتهد الْعَدو فِي اطفاء النَّار فَلم يقدر على ذَلِك وهبت ريح شَدِيدَة فاشتعل اشتعالا عَظِيما واتصلت لهبته بِالْآخرِ فَأَحْرَقتهُ وَاشْتَدَّ ناراهما بِحَيْثُ لم يقدر أحد أَن يقرب مكانهما ليحتال فِي
إطفائهما وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما اشْتَدَّ فِيهِ فَرح الْمُسلمين وغم الْكَافرين
قَالَ وَمن نَوَادِر هَذِه الْوَقْعَة ومحاسنها يَعْنِي نَوَادِر مَا جرى فِي الْقِتَال على عكا أَن عواما مُسلما كَانَ يُقَال لَهُ عِيسَى كَانَ يدْخل الْبَلَد بالكتب والنفقات على وَسطه لَيْلًا على غرَّة من الْعَدو وَكَانَ يغوص وَيخرج من الْجَانِب الآخر من مراكب الْعَدو
وَكَانَ ذَات لَيْلَة شدّ على وَسطه ثَلَاثَة أكياس فِيهَا ألف دِينَار وَكتب للعسكر وعام فِي الْبَحْر فَجرى عَلَيْهِ أَمر أهلكه وَأَبْطَأ خَبره عَنَّا وَكَانَت عَادَته إِذا دخل الْبَلَد طَار طَائِر عرفنَا بوصوله فَأَبْطَأَ الطَّائِر فاستشعر هَلَاكه فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام بَينا النَّاس على طرف الْبَحْر فِي الْبَلَد وَإِذا الْبَحْر قد قذف إِلَيْهِم مَيتا غريقا فافتقدوه فوجدوه عِيسَى الْعَوام ووجدوا على وَسطه الذَّهَب ومشمع الْكتب وَكَانَ الذَّهَب نَفَقَة الْمُجَاهدين فَمَا رئي من أدّى الْأَمَانَة فِي حَال حَيَاته وَقدر الله لَهُ أداءها بعد وَفَاته إِلَّا هَذَا الرجل وَكَانَ ذَلِك فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَجَب أَيْضا
وَقَالَ الْعِمَاد فَعدم يَعْنِي عِيسَى وَلم يسمع لَهُ خبر وَلم يظْهر لَهُ أثر فظنت بِهِ الظنون وَمَا تيقنت الْمنون وَكَانَت لَهُ لَا شكّ عِنْد الله منزلَة فَلم يرد أَن تبقى حَاله وَهِي مجملة مُحْتَملَة