الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي تَرِكَة السُّلْطَان وَوصف أخلاقه رحمه الله
ذكر القَاضِي ابْن شَدَّاد أَنه لما مَاتَ لم يخلف فِي خزانته من الذَّهَب وَالْفِضَّة إِلَّا سَبْعَة وَأَرْبَعين درهما ناصرية وجرما وَاحِدًا ذَهَبا صوريا وَلم يخلف ملكا لَا دَارا وَلَا عقارا وَلَا بستانا وَلَا قَرْيَة وَلَا مزرعة يَعْنِي لَا فِي الْبَلَد مسقفا وَلَا ظَاهرا مستغلا من أَنْوَاع الْأَمْلَاك
وَقَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْفَتْح خلف السُّلْطَان صَلَاح الدّين رحمه الله سَبْعَة عشر ولدا ذكرا وَابْنَة صَغِيرَة وَأبقى لَهُ مآثر أثيرة ومحاسن كَثِيرَة وَلم يخلف فِي خزانته سوى دِينَار وَاحِد وَسِتَّة وَثَلَاثِينَ درهما فَإِنَّهُ كَانَ بِإِخْرَاج مَا يدْخل من الْأَمْوَال فِي المكرمات والغرامات مغرما
وَكَانَ يجود بِالْمَالِ قبل الْحُصُول ويقطعه عَن خزانته بالحوالات عَن الْوُصُول وَإِذا عرف بوصول حمل وَقع عَلَيْهِ بأضعافه وَخص الْآحَاد من ذَوي الْغناء فِي الْجِهَاد بآلافه وَلَا جبه
أحدا بِالرَّدِّ إِذا سَأَلَهُ بل تلطف لَهُ كَأَنَّهُ استمهله فَإِنَّهُ يَقُول مَا عندنَا شَيْء السَّاعَة وَمَفْهُومه أَنه يُعْطي وَإِن كَانَ يبطي وَأَنه يُصِيبهُ بالنوال وَلَا يخطي
وَكَانَ مشغوفا فِي سَبِيل الله بالانفاق مَوْقُوفا عزمه فِي الْأَعْدَاء بادناء الْآجَال وَفِي الْأَوْلِيَاء باجراء الأرزاق وَمَا عقر فِي سَبِيل الله فرس أَو جرح إِلَّا وَعوض مَالِكه مثله وزاده من زَاده فضلَة
وَحسب مَا وهبه من الْخَيل العراب والأكاديش الْجِيَاد للحاضرين مَعَه فِي صف الْجِهَاد مُدَّة ثَلَاث سِنِين وَشهر مذ نزل الفرنج على عكا فِي رَجَب سنة خمس وَثَمَانِينَ إِلَى يَوْم انفصالهم بالسلم فِي شعْبَان سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ فَكَانَ تَقْدِيره اثْنَي عشر ألف رَأس من حصان وَحجر وإكديش وَذَلِكَ غير مَا أطلقهُ من المَال فِي أَثمَان الْخَيل المصابة فِي الْقِتَال
وَلم يكن لَهُ فرس يركبه إِلَّا وَهُوَ موهوب أَو مَوْعُود بِهِ وَصَاحبه ملازم فِي طلبه وَمَا حضر اللِّقَاء إِلَّا اسْتعَار فرسا فَرَكبهُ وهجر جياده فَإِذا نزل جَاءَ صَاحبه واستعاده فكلهم يركب خيله وَيطْلب خَيره وَهُوَ يستعير جوادا ويستعر فِي الْجِهَاد اجْتِهَادًا
وَقَالَ فِي الْبَرْق وَحَضَرت بعده عِنْد بعض الْمُلُوك وَقد
قيدت إِلَيْهِ عراب فَقيل لَهُ كَانَ السُّلْطَان يضيع هَذِه وَمَا عِنْده لَهَا حِسَاب ونسبوا جوده بهَا إِلَى السَّرف وعدوه من معايبه وأعرضوا عَن ذكر مفاخره ومناقبه وبمثل ذَلِك استتبت لَهُ الْفتُوح وخلصت لَهُ طَاعَة كتائبه
قَالَ فِي الْفَتْح وَكَانَ لَا يلبس إِلَّا مَا يحل لبسه وتطيب بِهِ نَفسه كالكتان والقطن وَالصُّوف وَكسوته يُخرجهَا فِي إسداء الْمَعْرُوف
وَكَانَت محاضره مصونة من الْحَظْر وخلواته مُقَدَّسَة بِالطُّهْرِ ومجالسه منزهة من الهزء والهزل ومحافله حافلة آهلة بِأَهْل الْفضل وَمَا سَمِعت لَهُ قطّ كلمة تسْقط وَلَا لَفْظَة فظة تسخط ويغلظ على الْكَافرين الفاجرين ويلين للْمُؤْمِنين الْمُتَّقِينَ
ويؤثر سَماع الْأَحَادِيث بِالْأَسَانِيدِ ويكلم الْعلمَاء عِنْده فِي الْعلم الشَّرْعِيّ الْمُفِيد وَكَانَ لمداومة الْكَلَام مَعَ الْفُقَهَاء ومشاركة الْقُضَاة فِي الْقَضَاء أعلم مِنْهُم بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة والأسباب المرضية والأدلة المرعية
وَكَانَ من جالسه لَا يعلم أَنه جليس السُّلْطَان بل يعْتَقد أَنه جليس أَخ من الإخوان وَكَانَ حَلِيمًا مقيلا للعثرات متجاوزا عَن الهفوات تقيا نقيا وفيا صفيا ويغضي وَلَا يغْضب ويبشر وَلَا
يتقطب مَا رد سَائِلًا وَلَا صد نائلا وَلَا أخجل قَائِلا وَلَا خيب آملا
قَالَ وَمن جملَة مناقبه أَنه تَأَخّر عَنهُ فِي بعض سفراته الْأَمِير أَيُّوب بن كنان فَلَمَّا وصل سَأَلَهُ عَن سَبَب تخلفه فَذكر دينا فأحضر غرماءه وَتقبل بِالدّينِ وَكَانَ أثني عشر ألف دِينَار مصرية وكسرا
قَالَ وَلما كُنَّا بالقدس فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ كتب إِلَيْهِ سيف الدولة بن منقذ نَائِبه بِمصْر أَن وَاحِدًا ضمن مُعَاملَة بمبلغ فاستنض مِنْهَا ألفي دِينَار وتسحب وَرُبمَا وصل إِلَى الْبَاب فتحيل وتمحل وَكذب فجَاء من أخبر السُّلْطَان بِأَن الرجل بِالْبَابِ فَقَالَ قل لَهُ إِن ابْن منقذ يطلبك فاجتهد أَن لَا تقع فِي عينه فعجبنا من حلمه وَكَرمه بعد أَن قُلْنَا قدم الرجل إِلَى حِينه بقدمه
قَالَ وَمِمَّا أذكرهُ لَهُ فِي أول سفرتي مَعَه إِلَى مصر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين أَنه حُوسِبَ صَاحب ديوانه عَمَّا تولاه فِي زَمَانه فَكَانَت سِيَاقَة الْحساب عَلَيْهِ سبعين ألف دِينَار بَاقِيَة عَلَيْهِ فَمَا طلبَهَا وَلَا ذكرهَا وَأرَاهُ أَنه مَا عرفهَا على أَن صَاحب الدِّيوَان مَا أنكرها
وَكَانَ يرضى من الْأَعْمَال بِمَا يحمل صفوا عفوا وَيحصل عذبا حلوا وَكله يخرج فِي الْجُود وَالْجهَاد ثمَّ لم يرض لَهُ بالعطلة فولاه ديوَان جَيْشه
قَالَ وَلما كُنَّا بِظَاهِر حران عَم بصدقاته الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَكتب إِلَى نوابه فِي الولايات بِإِخْرَاج الصَّدقَات وَقَالَ لي اكْتُبْ إِلَى الصفي بن الْقَابِض بِدِمَشْق أَن يتَصَدَّق بِخَمْسَة آلَاف دِينَار صورية فَقلت لَهُ الذَّهَب الَّذِي عِنْده مصري فَقَالَ فَيتَصَدَّق بِخَمْسَة آلَاف دِينَار مصرية وأشفق من صرف الْمصْرِيّ بالصوري فَيكون حَرَامًا ويرتكب فِي كسب الْأجر آثاما فسمح ومنح وتاجر الله وَربح
وَلما عزم على الرحيل من حران أَفَاضَ بهَا الْفضل وَبث الاحسان وَقَالَ لي انْظُر يَوْم الرحيل كم بَقِي بِالْبَابِ من الوافدين أَبنَاء السَّبِيل وَهَذِه ثَلَاث مئة دِينَار اقسمها عَلَيْهِم بالقلم على أقدارهم وَكَانُوا عدَّة يسيرَة لم تبلغ عشرَة فعينت لكل اسْم قسما فَبلغ أَربع مئة دِينَار فأعلمته وَقلت أنقص من كل اسْم ربعا فَقَالَ أجر مَا جرى بِهِ الْقَلَم
قَالَ وَكَانَ رحمه الله إِذا أطلق لعاف عارفه وَقلت لَهُ هَذِه مَا تكفيه ردهَا مضاعفة
قَالَ وَكَانَ يغْضب للكبائر وَلَا يغضي عَن الصَّغَائِر ويرشد إِلَى الْهدى وَيهْدِي إِلَى الرشاد ويسدد الْأَمر وَيَأْمُر بالسداد فَكَانَ مماليكه وخواصه بل أمراؤه وأجناده أعف من الزهاد والعباد
قَالَ وَرَأى لي يَوْمًا دَوَاة محلاة بِالْفِضَّةِ فأنكرها فَقلت لَهُ إِن الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد وَالِد أبي الْمَعَالِي قد ذكر وَجها فِي جَوَازهَا ثمَّ لم أكتب بهَا عِنْده بعْدهَا
وَكَانَ محافظا على الصَّلَوَات الْخمس فِي أَوَائِل أَوْقَاتهَا مواظبا على أَدَاء مفروضاتها ومسنوناتها فَمَا رَأَيْته صلى إِلَّا فِي جمَاعَة وَلم يُؤَخر لَهُ صَلَاة من سَاعَة إِلَى سَاعَة وَكَانَ لَهُ إِمَام راتب ملازم مواظب فَإِن غَابَ يَوْمًا صلى بِهِ من حَضَره من أهل الْعلم إِذا عرفه متقيا متجنبا للاثم
وَكَانَ يَأْخُذ بِالشَّرْعِ وَيُعْطِي بِهِ وَلم يكن إِلَى المنجم مصغيا وَلم يزل لقَوْله ملغيا وَلَا يتعيف وَلَا يتطير وَلَا يعين وَلَا يتَخَيَّر بل إِذا عزم توكل على الله فَلَا يفضل يَوْمًا على يَوْم وَلَا زَمَانا على زمَان إِلَّا بتفضيل الشَّرْع وَمَا زَالَ ناصرا للتوحيد وقامعا جمع أهل الْبدع بالتبديد