الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفرق مَجْمُوعَة فِي رَجَاء الرِّجَال وَأعَاد الْأُسَارَى إِلَى أَرْبَابهَا واحتوت عَلَيْهَا بِدِمَشْق أَيدي أَصْحَابهَا وَحفظ الصَّلِيب السليب ورده إِلَى مَكَانَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى صوانه لَا لعزه بل لهوانه فَإِنَّهُ لَا مصاب عِنْدهم أعظم من استيلائنا عَلَيْهِ وامتداد أَيْدِينَا إِلَيْهِ وَقد بذل فِيهِ الرّوم ثمَّ الكرج بذولا وأنفذوا بعد رَسُول رَسُولا فَمَا وجدوا قبولا وَلَا صادفوا سولا
وَمن كتاب عمادي عَن السُّلْطَان فِي ذَلِك
وللكرام آجال وَالْحَرب سِجَال وَللَّه من الْمُؤمنِينَ رجال والآن فقد ثارت الحميات وهبت النخوات وَوَجَب على كل مُسلم أَن ينْهض لنصرة الْإِسْلَام ويتدارك مَا حدث من الْكسر والوهن بالجبر والاحكام وَيُعِيد مَا وهى من عقدَة الْفتُوح إِلَى النظام فَأَيْنَ ذَوُو الأنفة وَالْحمية والهمم الْعلية والنفوس الأبية
أما يغتمون لمصرع من اسْتشْهد من إخْوَانهمْ أما يثورون لثأر إِيمَانهم أما تبْكي الْعُيُون لمن قتل من أماثلهم وأعيانهم فَإِن مصابهم عَظِيم ومقامهم عِنْد رَبهم الْكَرِيم كريم وَأَرَادَ الله بذلك تَنْبِيه الهمم الراقدة وإثارة العزائم الراكدة
فصل فِيمَا جرى بعد انْفِصَال أَمر عكا
قَالَ الْعِمَاد ثمَّ إِن الفرنج رحلت صوب عسقلان مستهل
شعْبَان وَسَار السُّلْطَان فِي عراضهم والمسلمون يخطفونهم وَيقْتلُونَ مِنْهُم وَيَأْسِرُونَ ويجرحون ويسلبون وَيَسْرِقُونَ وكل أَسِير أُتِي بِهِ السُّلْطَان أَمر بقتْله ووصلوا إِلَى حيفا فأقاموا بهَا وَنزل الْمُسلمُونَ بالقيمون وَقدم السُّلْطَان ثقله إِلَى مجدل يابا وأضحى نازلا على النَّهر الْجَارِي إِلَى قيسارية وودع الْفَاضِل السُّلْطَان وَسَار إِلَى دمشق لِأَنَّهَا مدرج الوافدين من الأكابر والنواب بهَا رُبمَا جبنوا عَن إِقَامَة الْوَظَائِف وَكَانَ الْأَمر الفاضلي عِنْدهم كالأمر السلطاني فَإِذا استشاروه خلصوا من كل تبعة ودرك
وَفِي تَاسِع شعْبَان جَاءَ الْخَبَر بِأَن الفرنج ركبُوا وتألبوا وهم يَسِيرُونَ فِي السَّاحِل بالفارس والراجل وَعَن يمينهم الْبَحْر وَعَن يسارهم الرمل وَكَانَت الرجالة حَولهمْ كالسور وَعَلَيْهِم الكبورة الثخنية والزرديات السابغة المحكمة بِحَيْثُ يَقع فيهم النشاب وَلَا يتأثرون وهم يرْمونَ بالزنبورك فتجرح خُيُول الْمُسلمين وَغَيرهم
قَالَ القَاضِي وَلَقَد شاهدتهم وَفِي ظهر الْوَاحِد مِنْهُم النشابة وَالْعشرَة مغروزة وَهُوَ يسير على هينته من غير انزعاج وَثمّ قسم آخر من الرجالة مستريح يَمْشُونَ على جَانب الْبَحْر وَلَا قتال عَلَيْهِم فَإِذا تَعب هَؤُلَاءِ الْمُقَاتلَة أَو أثخنتهم الْجراح قَامَ مقامهم
الْقسم المستريح واستراح الْقسم الْعمَّال
هَذَا والخيالة فِي وَسطهمْ لَا يخرجُون عَن الرجالة إِلَّا فِي وَقت الحملة لَا غير وَقد انقسموا أَيْضا ثَلَاثَة أَقسَام الأول الْملك الْعَتِيق جفري وَجَمَاعَة الساحلية مَعَه فِي الْمُقدمَة والانكتار والفرنسيسية مَعَه فِي الْوسط وَأَوْلَاد السِّت أَصْحَاب طبرية وَطَائِفَة أُخْرَى فِي السَّاقَة وَفِي وسط الْقَوْم برج على عجلة وعلمهم على مَا وَصفته من قبل يسير أَيْضا فِي وَسطهمْ على عجلة كالمنارة الْعَظِيمَة وَسَارُوا على هَذَا الْمِثَال وسوق الْحَرْب قَائِمَة بَين الطَّائِفَتَيْنِ والمسلمون يرمونهم من جوانبهم بالنشاب ويحركون عزائمهم حَتَّى يخرجُوا وهم يحفظون نُفُوسهم حفظا عَظِيما ويقطعون الطَّرِيق على هَذَا الْوَضع ويسيرون سيرا رَفِيقًا ومراكبهم تسير فِي مقابلتهم فِي الْبَحْر إِلَى أَن أَتَوا الْمنزل فنزلوا وَكَانَت مَنَازِلهمْ قريبَة لأجل الرجالة فَإِن المستريحين مِنْهُم كَانُوا يحملون أثقالهم وخيمهم لقلَّة الظّهْر عَلَيْهِم
قَالَ فَانْظُر إِلَى صَبر هَؤُلَاءِ الْقَوْم على الْأَعْمَال الشاقة من غير ديوَان وَلَا نفع وَطَاف الجاليش حَولهمْ من كل جَانب ولزوهم بالنشاب وَكلما ضعف قسم عاونه الَّذِي يَلِيهِ وهم يحفظ بَعضهم بَعْضًا والمسلمون محدقون بهم من ثَلَاثَة جَوَانِب
وَرَأَيْت السُّلْطَان وَهُوَ يسير بِنَفسِهِ بَين الجاليشية ونشاب الْقَوْم يتجاوزه وَلَيْسَ مَعَه إِلَّا صبيان بجنيبين لَا غير وَهُوَ يسير من طلب إِلَى طلب يحثهم على التَّقَدُّم وَيَأْمُرهُمْ بمضايقة الْقَوْم والصياح بالتهليل وَالتَّكْبِير يرْتَفع والعدو على أتم ثبات على ترتيبهم لَا يتغيرون وَلَا ينزعجون وَجَرت حملات كَثِيرَة ورجالتهم تجرح الْمُسلمين وخيولهم بالزنبورك والنشاب إِلَى أَن أَتَوا إِلَى نهر الْقصب فنزلوا عَلَيْهِ وَقد قَامَ قَائِم الظهيرة وضربوا خيامهم وتراجع النَّاس عَنْهُم فانهم كَانُوا إِذا نزلُوا أيس النَّاس من أَمر يتم مَعَهم
وَفِي ذَلِك الْيَوْم قتل من فرسَان الْمُسلمين وشجعانهم أياز الطَّوِيل وَهُوَ من مماليك السُّلْطَان وَكَانَ قد فتك بهم وَقتل خلقا من خيالتهم وشجعانهم وَكَانَ قد استفاضت شجاعته بَين العسكرين بِحَيْثُ إِنَّه جرت لَهُ وقعات كَثِيرَة صدقت أَخْبَار الْأَوَائِل وَصَارَ بِحَيْثُ إِنَّه إِذا عرفه الفرنج فِي مَوضِع تجافوا عَنهُ فاتفق أَن تقطر بِهِ فرسه فاستشهد فِي ذَلِك الْيَوْم وَدفن على تل مشرف على الْبركَة وحزن الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ حزنا عَظِيما وَقتل عَلَيْهِ مَمْلُوك لَهُ
وَنزل السُّلْطَان بالثقل على الْبركَة وَهُوَ مَوضِع تَجْتَمِع فِيهِ مياه كَثِيرَة ثمَّ رَحل بعد الْعَصْر وأتى نهر الْقصب فَنزل عَلَيْهِ أَيْضا فَكُنَّا نشرب من أَعْلَاهُ والعدو يشرب من أَسْفَله لَيْسَ بَيْننَا إِلَّا مَسَافَة
يسيرَة وَبَات الْفَرِيقَانِ هُنَاكَ
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَت نوبَة اليزك لعز الدّين إِبْرَاهِيم ابْن الْمُقدم فِي السَّاقَة وَكَانَت الفرنج قد أنست بِانْقِضَاء الْحَرْب فَخرج مِنْهَا جمَاعَة مسترسلين وتقدموا على اليزكية مشرفين فَبَصر بهم ابْن الْمُقدم فَعبر إِلَيْهِم من ورائهم هُوَ وَمن مَعَه النَّهر وهم لم يَأْخُذُوا من خَلفهم الحذر ففجأهم وفجعهم وَفرغ من شغلهمْ قبل أَن يدركهم الصَّرِيخ وسلبهم وغنمهم ثمَّ نَهَضَ الفرنج إِلَيْهِ وحملوا عَلَيْهِ وَجَرت وقْعَة شَدِيدَة لحزب الضلال مبيدة جلبت لنا غنيمَة وَعَلَيْهِم هزيمَة
وأحضر الْأُسَارَى عِنْد السُّلْطَان بحزام الذل والهوان فَأخْبرُوا أَنهم جرح مِنْهُم بالْأَمْس ألف وسرى فيهم وَهن وَضعف ثمَّ رَحل السُّلْطَان وَعبر شعراء أرسوف وَنزل على قَرْيَة تعرف بدير الراهب
وَطلب ملك الإنكلتير الِاجْتِمَاع بِالْملكِ الْعَادِل خلْوَة فاجتمعا فَأَشَارَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَاصِل كَلَامه أَنه قد طَال بَيْننَا الْقِتَال وَنحن جِئْنَا فِي نصْرَة إفرنج السَّاحِل فَاصْطَلَحُوا أَنْتُم وهم وكل منا يرجع إِلَى مَكَانَهُ
فَقَالَ على مَاذَا يكون الصُّلْح قَالَ على أَن يسلم إِلَى أهل السَّاحِل مَا أَخذ مِنْهُم من الْبِلَاد فَأبى الْملك الْعَادِل وَأخْبرهُ أَن دون ذَلِك قتل كل فَارس وراجل فَرجع مغضبا
وَفِي يَوْم السبت رَابِع عشر شعْبَان كَانَت وقْعَة أرسوف تأهب الْمُسلمُونَ للقائهم فأزعجوهم وأبلوهم ببلائهم فَلَمَّا رأى الْعَدو مَا هُوَ فِيهِ من الضيقة احتموا وحملوا حَملَة وَاحِدَة فانكشف من كَانَ قدامهم واندفعوا وَثَبت ذَلِك الْيَوْم الْعَادِل وَأَصْحَابه وقايماز النجمي وعسكر الْموصل ثمَّ كرت العساكر إِلَيْهِم وَجَرت النوائب عَلَيْهِم فجرت بَين الفئتين مقتلة عَظِيمَة فلجؤوا إِلَى جدران أرسوف وَلَوْلَا ذَلِك لاستوعبت فيهم الحتوف فَنزل السُّلْطَان على نهر العوجاء ورحل الْعَدو إِلَى يافا فنزلوها والمسلمون على الْعَادة فِي عراضهم مُقِيمَة على تبديد جموعهم واعتراضهم
وَقتل يَوْم أرسوف لَهُم كند كَبِير تَحت حكمه من الفرنج عدد كثير وَكَانَ من عظم شَأْنه وفخامة مَكَانَهُ أَنه يَوْم صرع قَاتل دونه جمَاعَة من المقدمين فَمَا قتل حَتَّى قتلوا وَلَا بذل روحه حَتَّى بذلوا
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد رَأَيْتهمْ وَقد اجْتَمعُوا فِي وسط الرجالة وَأخذُوا رماحهم وصاحوا صَيْحَة الرجل الْوَاحِد وَفرج لَهُم رجالتهم وحملوا حَملَة وَاحِدَة من الجوانب كلهَا فَانْدفع النَّاس
بَين أَيْديهم وَلم يبْق فِي طلب السُّلْطَان إِلَّا سَبْعَة عشر مُقَاتِلًا والأعلام بَاقِيَة والكوس يدق لَا يفتر فَلَمَّا رأى السُّلْطَان مَا نزل بِالْمُسْلِمين سَار حَتَّى أَتَى طلبه فَوقف فِيهِ وَالنَّاس يفرون من الجوانب وَكلما رأى فَارًّا أَمر من يحضرهُ عِنْده فَاجْتمع فِي الطّلب خلق عَظِيم ووقف الْعَدو قبالتهم على رُؤُوس التلول والروابي وَخَافَ الْعَدو أَن يكون فِي الشُّعَرَاء كمين وثابت العساكر كلهَا فتراجع الْعَدو إِلَى مَنْزِلَته وَجلسَ السُّلْطَان ينْتَظر النَّاس من الْعود من السَّقْي والجرحى يحْضرُون بَين يَدَيْهِ وَهُوَ يتَقَدَّم بمداواتهم وَحَملهمْ وَقتل رجالة كَثِيرَة وجرح جمَاعَة من الطَّائِفَتَيْنِ وصدم الْملك الْأَفْضَل وَانْفَتح دمل كَانَ فِي وَجهه وسال مِنْهُ دم كثير على وَجهه وَهُوَ صابر محتسب فِي ذَلِك كُله وَقتل من الْعَدو جمَاعَة وَأسر وَاحِد فأحضر وَأمر بِضَرْب عُنُقه
وَفِي بعض الْكتب السُّلْطَانِيَّة سَار الْعَدو من عكا على قصد عسقلان وسقنا لمعارضتهم فِي كل طَرِيق ومضايقتهم فِي كل مضيق ومنازلتهم فِي كل منزل ومدافعتهم عَن كل منهل وهم يَسِيرُونَ الْبَحْر الْبَحْر لَا يفارقون ساحله وَلَا يتجاوزون مراحله والمواضع مضائق وشعراء ورمال وَمَا لِلْقِتَالِ فِيهَا مجَال وَمَا وجدنَا فسحة إِلَّا وضايقناهم فِيهَا وأخذنا عَلَيْهِم فِي نَوَاحِيهَا
من جملَة أيامنا الْمَشْهُورَة المشهودة ومواسمنا الْمَعْرُوفَة المحمودة يَوْم الِاثْنَيْنِ تَاسِع شعْبَان عِنْد رحيلهم من قيسارية فَذكر الْوَاقِعَة السابقه وفيهَا أَنه نفق من خيلهم ألف رَأس ثمَّ ذكر يَوْم أرسوف وَحسن عَاقِبَة الْمُؤمنِينَ بعد الْيَأْس
ثمَّ رَحل السُّلْطَان سَابِع عشر شعْبَان وَنزل بالرملة وَاجْتمعت الأثقال كلهَا بهَا فِي تِلْكَ الرحلة ورحل لَيْلًا وَأصْبح على يبْنى وجاوزها إِلَى نهر أَمر أَن الْخيام عَلَيْهِ تبنى
قَالَ وزرنا بيبنى قبر أبي هُرَيْرَة رضوَان الله عَلَيْهِ وبادر النَّاس بالتيمن بِهِ إِلَيْهِ
قلت اعْتمد الْعِمَاد فِي هَذَا على مَا اشْتهر بَين الْعَامَّة من ذَلِك وَأما أهل الْعلم المصنفون فِي أَخْبَار الصَّحَابَة رضي الله عنهم كَابْن سعد وَغَيره فَذكرُوا أَن أَبَا هُرَيْرَة توفّي بِالْمَدِينَةِ وَلم يذكرُوا غَيره على مَا ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمته فِي التَّارِيخ وَالله أعلم
قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان وَنزل بِظَاهِر عسقلان عبد الْعَصْر وَشرع فِيمَا عزم عَلَيْهِ من الْأَمر وَكَانَ لما نزل بالرملة أحضر عِنْده أَخَاهُ الْعَادِل وأكابر الْأُمَرَاء وشاور فِي أَمر عسقلان ذَوي الآراء فَأَشَارَ علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر بخرابها للعجز عَن حفظهَا على مَا بهَا وَوَافَقَهُ الْجَمَاعَة وَقَالُوا قد ضَاقَ عَن صونها الِاسْتِطَاعَة فان هَذِه يافا قد نزلُوا بهَا وَسَكنُوا فِيهَا وَهِي مَدِينَة بَين الْقُدس وعسقلان متوسطة وَلَا سَبِيل إِلَى حفظ المدينتين فأعمد إِلَى أشرف الْمَوْضِعَيْنِ فحصنه وأحكمه فاقتضت الآراء إِقَامَة الْعَادِل بِقرب يافا مَعَ عشرَة من الْأُمَرَاء حَتَّى إِذا نحرك الْعَدو كَانُوا مِنْهُ على علم
قَالَ القَاضِي أشاروا عَلَيْهِ بخراب عسقلان خشيَة أَن يستولي عَلَيْهَا الفرنج وَهِي عامرة فيتلفوا من بهَا من الْمُسلمين ويأخذوا بهَا الْقُدس الشريف ويقطعوا بهَا طَرِيق مصر
وخشي السُّلْطَان من ذَلِك وَعلم عجز الْمُسلمين عَن حفظهَا لقرب عَهدهم من عكا وَمَا جرى على من كَانَ مُقيما بهَا فَسَار حَتَّى أَتَى عسقلان وَقد ضربت خيامه شماليها فَبَاتَ هُنَاكَ مهموما بِسَبَب خراب عسقلان وَمَا نَام تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا قَلِيلا وَلَقَد دَعَاني
قَالَ الْعِمَاد ورحل السُّلْطَان وَنزل بِظَاهِر عسقلان بعد الْعَصْر وَشرع فِيمَا عزم عَلَيْهِ من الْأَمر وَكَانَ لما نزل بالرملة أحضر عِنْده أَخَاهُ الْعَادِل وأكابر الْأُمَرَاء وشاور فِي أَمر عسقلان ذَوي الآراء فَأَشَارَ علم الدّين سُلَيْمَان بن جندر بخرابها للعجز عَن حفظهَا على مَا بهَا وَوَافَقَهُ الْجَمَاعَة وَقَالُوا قد ضَاقَ عَن صونها الِاسْتِطَاعَة فَإِن هَذِه يافا قد نزلُوا بهَا وَسَكنُوا فِيهَا وَهِي مَدِينَة بَين الْقُدس وعسقلان متوسطة وَلَا سَبِيل إِلَى حفظ المدينتين فاعمد إِلَى أشرف الْمَوْضِعَيْنِ فحصنه وأحكمه فاقتضت الآراء إِقَامَة الْعَادِل بِقرب يافا مَعَ عشرَة من الْأُمَرَاء حَتَّى إِذا تحرّك الْعَدو كَانُوا مِنْهُ على علم
قَالَ القَاضِي أشاروا عَلَيْهِ بخراب عسقلان خشيَة أَن يستولي عَلَيْهَا الفرنج وَهِي عامرة فيتلفوا من بهَا من الْمُسلمين ويأخذوا بهَا الْقُدس الشريف ويقطعوا بهَا طَرِيق مصر
وخشي السُّلْطَان من ذَلِك وَعلم عجز الْمُسلمين عَن حفظهَا لقرب عَهدهم من عكا وَمَا جرى على من كَانَ مُقيما بهَا فَسَار حَتَّى أَتَى عسقلان وَقد ضربت خيامه شماليها فَبَاتَ هُنَاكَ مهموما بِسَبَب خراب عسقلان وَمَا نَام تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا قَلِيلا وَلَقَد دَعَاني
إِلَى خدمته سحرًا وَكنت فارقته بعد مُضِيّ نصف اللَّيْل فَحَضَرت وَبَدَأَ بِالْحَدِيثِ فِي معنى خرابها وأحضر وَلَده الْأَفْضَل وشاوره فِي ذَلِك وَطَالَ الحَدِيث وَلَقَد قَالَ لي رحمه الله وَالله لِأَن أفقد أَوْلَادِي بأسرهم أحب إِلَيّ من أَن أهدم مِنْهَا حجرا وَاحِدًا وَلَكِن إِذا قضى الله بذلك وعينه لحفظ مصلحَة الْمُسلمين طَرِيقا فَكيف أصنع
قَالَ ثمَّ استخار الله تَعَالَى فأوقع فِي نَفسه أَن الْمصلحَة فِي خرابها فَاسْتَحْضر الْوَالِي وَأمره بذلك فِي تَاسِع عشر شعْبَان وَلَقَد رَأَيْته وَقد اجتاز بِالسوقِ والوطاق بِنَفسِهِ يستنفر النَّاس للخراب وَقسم السُّور على النَّاس وَجعل لكل أَمِير وَطَائِفَة من الْعَسْكَر بَدَنَة مَعْلُومَة وبرجا مَعْلُوما يخربونه وَدخل النَّاس إِلَى الْبَلَد وَوَقع فِيهِ الضجيج والبكاء وَكَانَ بَلَدا نضرا خَفِيفا على الْقلب مُحكم الأسوار عَظِيم الْبناء مرغوبا فِي سكناهُ فلحق النَّاس عَلَيْهِ حزن عَظِيم
وَكَانَ هُوَ بِنَفسِهِ وَولده الْأَفْضَل يستعملان النَّاس فِي الخراب خشيَة أَن يسمع الْعَدو فيحضر وَلَا يُمكن من خرابها وأباح النَّاس الهري الَّذِي كَانَ ذخيرة فِي الْبَلَد للعجز عَن نَقله وضيق الْوَقْت وَالْخَوْف من هجوم الفرنج وَأمر بحريق الْبَلَد فأضرمت النَّار فِيهِ وَالْأَخْبَار تتواتر من جَانب الْعَدو بعمارة يافا
وَخرب من سور عسقلان معظمه وَكَانَ عَظِيم الْبناء بِحَيْثُ إِنَّه كَانَ فِي مَوضِع تسع أَذْرع وَفِي مَوضِع عشرا وَذكر بعض الحجارين للسُّلْطَان وَأَنا حَاضر أَن عرض البرج الَّذِي ينقبون فِيهِ مِقْدَار رمح فَلم يزل الخراب والحريق يعْمل فِي الْبَلَد وأسواره إِلَى سلخ شعْبَان
وَعند ذَلِك وصل من جرديك كتاب يذكر فِيهِ أَن الْقَوْم قد تَفَسَّحُوا وصاروا يخرجُون من يافا ويغيرون على الْبِلَاد الْقَرِيبَة مِنْهَا فَلَو تحرّك السُّلْطَان لَعَلَّه يبلغ مِنْهُم غَرضا فِي غرتهم فعزم على الرحيل وعَلى أَن يخلف فِي عسقلان حجارين وَمَعَهُمْ خيل تحميهم يستقصون فِي الخراب ثمَّ رأى أَن يتَأَخَّر بِحَيْثُ يحرق البرج الْمَعْرُوف بالاسبتار وَكَانَ برجا عَظِيما مشرفا على الْبَحْر كالقلعة المنيعة وَلَقَد دَخلته وطفته فَرَأَيْت بناءه أحكم بِنَاء لَا تعْمل فِيهِ المعاول وَإِنَّمَا أحرق ليبقى بالحريق قَابلا للخراب وَبقيت النَّار تشعل فِيهِ يَوْمَيْنِ بليلتيهما
قَالَ الْعِمَاد وَنقص مِنْهَا الأبراج الَّتِي على سَاحل الْبَحْر ودخلتها فرأيتها أحسن مَدِينَة منيعة حَصِينَة فطال بُكَائِي على رسومها وفض ختومها وَقبض أرواحها من جسومها وحلول الدَّوَائِر بدورها ونزول السوء بسورها فَمَا برح السُّلْطَان مِنْهَا حَتَّى رَأينَا طلولها دوارس ورسومها طوامس والرؤوس حَيَاء من معاهدها نواكس