الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت ولجعفر ابْن شمس الْخلَافَة من قصيدة رثاء بهَا
(أَلَسْت ترى كَيفَ انبرى الْخطب ثائرا
…
وَمد يدا مِنْهُ إِلَى دَافع الْخطب)
(إِلَى النَّاصِر الْملك الَّذِي ملئت بِهِ
…
قُلُوب البرايا من رَجَاء وَمن رعب)
(كريم أَتَاهُ الْمَوْت ضيفا فَلم يكن
…
لينزله إِلَّا على السهل والرحب)
(وَلَو خَابَ مِنْهُ قبل ذَلِك سَائل
…
لخاب وَلَيْسَ الْبُخْل من شيم السحب)
(قضى فَقضى الْمَعْرُوف وانقرض الندى
…
وحطت رحال الْوَفْد فِي الشرق والغرب)
(أَفَاضَ على الدُّنْيَا سِجَال نواله
…
فَفَاضَتْ عَلَيْهِ أعين الْعَجم وَالْعرب)
(وَلَو أَنه يبكى على قدر حَقه
…
أسَال دموع المزن من أعين الشهب)
(جزاه عَن الْإِسْلَام خيرا إلهه
…
فَمَا كل عَنهُ من دفاع وَمن ذب)
(تَدَارُكه بعد ابتذال فقد غَدا
…
وَكَانَ شَدِيد الْخَوْف فِي أمنع الْحجب)
(وَأصْبح للبيت الْمُقَدّس منقذا
…
بأصلب عزم من مُقَارنَة الصلب)
(أذلّ لَهُ الله العدى مذ أطاعه
…
وَسَهل مِنْهُم كل مُمْتَنع صَعب)
(فَفِي الْخلد عِنْد الله دَار مقره
…
يمتع مِنْهُ بالجوار وبالقرب)
فصل فِي انقسام ممالكه بَين أَوْلَاده وَإِخْوَته وَبَعض مَا جرى بعد وَفَاته
قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الْبَرْق خلف السُّلْطَان سَبْعَة عشر ولدا
أكبرهم الْملك الْأَفْضَل نور الدّين أَبُو الْحسن عليّ ومولده بِمصْر يَوْم عيد الْفطر سنة خمس وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَتَوَلَّى بعده دمشق إِلَى أَن خرج مِنْهَا إِلَى صرخد وتولاها عَمه الْعَادِل فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين مُضَافَة إِلَى ممالكه بالبلاد الشرقية والجزيرة وديار بكر
ثمَّ الْملك الْعَزِيز عماد الدّين أَبُو الْفَتْح عُثْمَان ومولده بِمصْر ثامن جُمَادَى الأولى سنة سبع وَسِتِّينَ وَتُوفِّي بهَا فِي ملكه لَيْلَة الْأَحَد الْعشْرين من محرم سنة خمس وَتِسْعين وَتَوَلَّى بعده أحد أَوْلَاده الصغار
ثمَّ الْملك الظَّاهِر غياث الدّين غَازِي ومولده بِمصْر منتصف شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَتَوَلَّى حلب وأعمالها
قَالَ وَلَقَد أنشأت الرسَالَة الموسومة بالعتبى والعقبى فِيمَا طَرَأَ بعد السُّلْطَان إِلَى آخر سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين
وَقَالَ فِي كتاب الْفَتْح تولى الْملك الْأَفْضَل دمشق والساحل وَمَا يجْرِي مَعَ ذَلِك من الْبِلَاد وَهُوَ الَّذِي حضر وَفَاة وَالِده وَقَامَ بِسنة العزاء وَفرض الِاقْتِدَاء بِأَبِيهِ فِي إِيلَاء الآلاء وإدناء الْأَوْلِيَاء وخلع على الأماثل والأمراء والأفاضل وَالْعُلَمَاء وآوى إِلَيْهِ إخْوَته وَضم جماعته وجهز أَخَاهُ الظافر خضرًا مظفر الدّين وأنهضه لإنجاد عَمه الْعَادِل كَمَا سَنذكرُهُ وَكَانَت
حمص والمناظر والرحبة وبعلبك وَمَا يجْرِي مَعهَا فِي المملكة الْأَفْضَلِيَّة دَاخِلَة وَقدم عَلَيْهِ سلطاناهما الْملك الْمُجَاهِد والأمجد إِلَى دمشق فتأكدت بَينهم الْقَرَابَة والألفة
وَلما اسْتَقر الْأَفْضَل بِدِمَشْق فِي مقَام وَالِده قدم إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز نجابين بإنهاء الْحَال ثمَّ ندب ضِيَاء الدّين ابْن الشهرزوري فِي الرسَالَة وأصحبه عدَّة وَالِده فِي الْغُزَاة وسيفه وَدِرْعه وحصانه وأضاف إِلَى ذَلِك من الْهَدَايَا والتحف وَالْخَيْل العراب مَا استنفد وَسعه وإمكانه فَمَا تهَيَّأ مسير الرَّسُول إِلَّا فِي أَوَاخِر جُمَادَى الْآخِرَة حَتَّى حصل كل مَا أَرَادَ من الْهَدَايَا الفاخرة وَحَتَّى كَاتب مصر وحلب وَأعلم بمسير رَسُوله حَتَّى لَا يظنّ أَنه انْفَرد بسوله وَقصد مداراة إخْوَته وَفضل بِفضل نخوته وَذَلِكَ بعد أَن جدد نقش الدِّينَار وَالدِّرْهَم بسمتي أَمِير الْمُؤمنِينَ وَولي الْعَهْد عدَّة الدّين
وَقَالَ ابْن القادسي وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء مستهل رَمَضَان حمل ابْن الشهرزوري مَا كَانَ أَصْحَبهُ الْأَفْضَل من حمل الشَّام إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز وَهُوَ صَلِيب الصلبوت الَّذِي كَانَ قد أَخذه وَالِده وَذكر أَنه ذهب يزِيد على الْعشْرين رطلا مرصعا بالجواهر
وَمَعَهُ خَادِم مُخْتَصّ بخدمته وَحمل فرس أَبِيه وزرديته وخوذته وَكَانَت صفراء مذهبَة ودبوس حَدِيد وَسيف وَأَرْبع زرديات وَقَالُوا هَذِه تركته وَبهَا كَانَ يُقَاتل وتحفا جمة من الثِّيَاب وَحمل فِي جملَة التحف أَربع جوَار من بَنَات مُلُوك الرّوم فِيهِنَّ ابْنة بيرزان وَبنت صَاحب جبلة
قَالَ الْعِمَاد وَأَمرَنِي بإنشاء الْكتب وتحريرها وتقريب الْمَقَاصِد وتقريرها مِنْهَا أصدر العَبْد هَذِه الْخدمَة وصدره منشرح بِالْوَلَاءِ وَقَلبه معمور بالصفاء وَيَده مَرْفُوعَة إِلَى السَّمَاء للابتهال بِالدُّعَاءِ وَلسَانه نَاطِق بشكر النعماء وجنانه ثَابت من المهابة والمحبة على الْخَوْف والرجاء وطرفه مغض من الْحيَاء وَهُوَ للْأَرْض مقبل وللفرض متقبل وَهُوَ يمت بِمَا قدمه وأسلفه من الخدمات وذخره ذخر الأقوات لهَذِهِ الْأَوْقَات
وَقد أحاطت الْعُلُوم الشَّرِيفَة بِأَن الْوَالِد السعيد الشَّهِيد الشَّديد السديد المبير للشرك المبيد لم يزل أَيَّام حَيَاته وَإِلَى سَاعَة وَفَاته مُسْتَقِيمًا على جدد الْجد مستنيما فِي صون فَرِيضَة الْجِهَاد إِلَى بذل الْجهد ومصر بل الْأَمْصَار بِاجْتِهَادِهِ فِي الْجِهَاد شاهدة والأنجاد والأغوار فِي نظر عزمه وَاحِدَة وَالْبَيْت الْمُقَدّس من فتوحاته وَالْملك الْعَقِيم من نتائج عزماته
وَهُوَ الَّذِي ملك مُلُوك الشّرك وغل أعناقها وَأسر طواغيت الْكفْر وَشد خناقها وقمع عَبدة الصلبان وقصم أصلابها وَجمع كلمة الايمان وعصم جنابها ونظم أَسبَابهَا وسد الثغور وسدد الْأُمُور وَقبض وعدله مَبْسُوط وَأمره محوط ووزره محطوط وَعَمله بالصلاح مَنُوط
وَمَا خرج من الدُّنْيَا إِلَّا وَهُوَ فِي حكم الطَّاعَة الامامية دَاخل وبمتجرها الرابح إِلَى دَار المقامة راحل وَلم تكن لَهُ وَصِيَّة إِلَّا بالاستمرار على جادتها والاستكثار من مادتها وَإِن مضى الْوَالِد على طَاعَة إِمَامه فالمماليك أَوْلَاده وأخواه فِي مقَامه
قَالَ وَتَوَلَّى وَلَده الْملك الْعَزِيز أَبُو الْفَتْح عُثْمَان مصر وَجَمِيع أَعمالهَا وأبقاها على اعتدالها ونفاها من شوائب اختلالها واعتلالها وَأَحْيَا سنتي الْجُود والباس وَثَبت الْقَوَاعِد من حسن السياسة على الأساس وَأطلق كل مَا كَانَ يُؤْخَذ من التُّجَّار وَغَيرهم باسم الزَّكَاة وضاعف مَا كَانَ يُطلق برسم العفاة
وَقدم أَمر بَيت الله الْمُقَدّس وَعجل لَهُ عشرَة آلَاف دِينَار مصرية لتصرف فِي وُجُوه ضَرُورِيَّة ثمَّ أمده بِالْحملِ وأفاض عَلَيْهِ
من الْفضل وَقرر واليه عز الدّين جرديك على ولَايَته وقوى يَده برعايته ووالى حمل الغلات من مصر إِلَى الْقُدس وأبدل وحشته بوفاة وَالِده من وَفَاته بالأنس
ثمَّ أشْفق من غدر الفرنج فِي فسخ الْهُدْنَة فَأتى من تجهيز العساكر إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس بِكُل مَا فِي المكنة ثمَّ سمع بحركة المواصلة وَمن تَابعهمْ وبايعهم وشايعهم وَقد خَرجُوا فِي إِيمَانهم حانثين ولعقد أَيْمَانهم ناكثين فخيم ببركة الْجب وَاسْتَشَارَ أمراءه أهل الرَّأْي واللب وجهز جَيْشًا فوصلوا إِلَى دمشق وَقد فرغ الْعَادِل من حَرْب الْقَوْم وسلمهم وهز مِنْهُم أعطاف الاستكانة لَهُ بعد هَزَمَهُمْ فَرَأى أَن الْحَمد أَعُود وَالْعود أَحْمد
قَالَ وَتَوَلَّى حلب وأعمالها وحصونها ومعاقلها وكرائم الْبِلَاد وعقائلها الْملك الظَّاهِر غَازِي وَهُوَ برجاحته وسماحته الطود والجود الموازن الموازي وَملك مملكة أقطارها وَاسِعَة وأمصارها شاسعة فحماها وحواها وبماء الْعدْل رَوَاهَا وقواها وَأقر البيرة وأعمالها وَمَا يجْرِي مَعهَا على أَخِيه الْملك الزَّاهِر مجير الدّين دَاوُد وَدخل فِي أمره صَاحب حماه ابْن تَقِيّ الدّين فأعزه وحماه
قلت وَهُوَ مأوى ذُرِّيَّة وَالِده وَبَقِي الْملك مِنْهُم فِي عقبه وأنحاز كل من إخْوَته وَأَوْلَادهمْ إِلَيْهِ وعولوا فِي تمشية أُمُورهم عَلَيْهِ وَالْأَمر مُسْتَمر على ذَلِك فِي عقبه إِلَى الْآن وَالله تَعَالَى ولي الْإِحْسَان
ثمَّ زَالَ ملك هَذَا الْبَيْت فِي صفر سنة ثَمَان وَخمسين وست مئة بِسَبَب غَلَبَة التتار الْكَفَرَة على الْبِلَاد {وَالله بَصِير بالعباد}
وَمن كَلَام القَاضِي الْفَاضِل فِي جَوَاب كتاب ورد عَلَيْهِ مِنْهُ بعد موت السُّلْطَان مَتى رأى الْمَمْلُوك خطّ مَوْلَانَا طالعا فِي كتاب وطليعة على خطاب تمثل ذَلِك الشَّخْص الْكَرِيم وَذَلِكَ السُّلْطَان الْعَظِيم وَذَلِكَ الْخلق الْكَرِيم وَذَلِكَ الْعَهْد الْقَدِيم فحيي بعد مَوته وَسبح من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم وَرفع يَده بِمَا الله رافعه ودعا بِصَالح الله سامعه
قَالَ الْعِمَاد وَكَانَ الْملك الْعَادِل مَعَ السُّلْطَان فِي الصَّيْد قبل وَفَاته وَكَانَ موافقه ومرافقه فِي مقتضياته فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان إِلَى دمشق ودعه وَمضى إِلَى حصنه بالكرك فنابه النَّائِب وَلم يحضر وَقت احتضاره الْأَخ الْغَائِب فَلَمَّا عرف وصل إِلَى دمشق بعد أَيَّام وَلم يطلّ الْمقَام ورحل طَالبا لبلاده بالجزيرة حذرا عَلَيْهَا من أهل الجريرة
وَكَانَ السُّلْطَان جعل لَهُ كل مَا هُوَ شَرْقي الْفُرَات من الْبِلَاد والولايات فَلَمَّا وصل إِلَى الْفُرَات وجد مِمَّا خافه دَلَائِل الفترات فَأَقَامَ بقلعة جعبر وسير إِلَى الولايات الْوُلَاة ووصى برعاياه الرُّعَاة واستناب فِي ميافارقين وحاني وسميساط وحران والرها وشحنها بالشحن وَعلم العدى أَنه فِي خف فخفوا وعرضوا وصفوا وَكَانَ سيف الدّين بكتمر صَاحب خلاط قد استبشر بِمَوْت السُّلْطَان وتلقب بِالْملكِ النَّاصِر وَحدث أمله بجر العساكر وراسل صَاحِبي الْموصل وسنجار وطير إِلَيْهِم كتب الاستنفار وَضم إِلَيْهِ من ماردين ماردين وطار وطاش وارتاش وانتاش فَبينا هُوَ فِي أثْنَاء ذَلِك قتلته الاسماعيلية بخلاط رَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة تسع وَثَمَانِينَ
وَأول من بَدَأَ أمره بِالْخرُوجِ على بِلَاد السُّلْطَان مُتَوَلِّي ماردين وَنزل على حصن الموزر وَهَذَا الْحصن كَانَ السُّلْطَان اقتطعه عَن أَعمال ماردين حِين صَالح أَهلهَا وأضافه إِلَى نَائِبه بالرها ثمَّ تحرّك عز الدّين أتابك صَاحب الْموصل وَأَخُوهُ عماد الدّين زنكي صَاحب سنجار بنصيبين وَأَرْسلُوا إِلَى الْعَادِل تخرج من بِلَادنَا وَتدْخل فِي مرادنا
فَكتب إِلَى بني أَخِيه يستنجدهم ويستنفرهم فأنجدوه وَكَانَ إنجاد حلب أقرب وَتقدم ذكر نجدة الْأَفْضَل مَعَ أَخِيه الظافر ونجدة الْعَزِيز الْوَاصِلَة إِلَى دمشق بعد نجاز الْأَمر
ووصلت المواصلة إِلَى رَأس عين والعادل بحران وتقارب العسكران حَتَّى إِن الطَّلَائِع تتواجه وتتجابه فَمَرض صَاحب الْموصل وَلم يطق الاقامة فَعَاد وَرجع عماد الدّين أَخُوهُ وتضرع صَاحب ماردين وَتشفع بالأمراء الأكابر فَرضِي الْعَادِل عَنهُ
وبلغه قدوم ابْن أَخِيه الظافر إِلَى الْفُرَات فَكتب إِلَيْهِ بمنازلة سروج وَهِي من أَعمال ماردين وأمده بِابْن تَقِيّ الدّين وَابْن الْمُقدم فنزلوا عَلَيْهَا ثامن رَجَب وفتحوها تاسعه
ورحل الْعَادِل منتصف رَجَب إِلَى الرقة وتسلمها ثمَّ تملك بلد الخابور جَمِيعه وَجَاء إِلَى نَصِيبين فَنزل بظاهرها وَشرع فِي ضم ذخائرها فَجَاءَت الرُّسُل الْعمادِيَّة فِي طلب الصُّلْح فَرَحل وَنزل دَارا وَأَتَاهُ وَفَاة صَاحب الْموصل وَتَسْلِيم بَلَده إِلَى وَلَده نور الدّين أرسلان شاه وَجرى بَينهم وَبَينه صلح
ثمَّ كَاتبه أهل خلاط فَرَحل إِلَيْهَا فَرَأى أَن الْبرد يشْتَد وأمد الْحصار يَمْتَد فَعَاد إِلَى حران والرها وَأعْرض عَن مُخَالطَة خلاط وَتَأَخر إِلَى الرّبيع أمرهَا