الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لصَاحب سنجار وأنفذ الْخَلِيفَة رسله فَأصْلح الْأَمر وانتظم الصُّلْح وَللَّه الْحَمد
فصل
وَأما رِسَالَة الْعِمَاد الْكَاتِب الْمَعْرُوفَة بالعتبى والعقبى الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فِي آخر كتاب الْبَرْق فِيمَا جرى بعد وَفَاة السُّلْطَان إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين فقد وقفت عَلَيْهَا وَحَاصِل مَا فِيهَا أَن قَالَ
لما توفّي السُّلْطَان رحمه الله وملكت أَوْلَاده كَانَ الْعَزِيز بِمصْر يقرب أَصْحَاب أَبِيه ويكرمهم وَالْأَفْضَل بِدِمَشْق يفعل ضد ذَلِك يقرب الْأَجَانِب وَيبعد الْأَقَارِب وَأَشَارَ عَلَيْهِ بذلك جمَاعَة داروا حوله كالوزير الْجَزرِي الَّذِي استوزه
قلت هُوَ الضياء ابْن الْأَثِير أَخُو عز الدّين المؤرخ ومجد الدّين أبي السعادات وَفِيه يَقُول الشهَاب فتيَان الشاغوري
(مَتى أرى وزيركم
…
وَمَا لَهُ من وزر)
(يقلعه الله فَذا
…
أَوَان قلع الجزر)
قَالَ الْعِمَاد فَلَمَّا طلب من الْأُمَرَاء أَن يحلفوا لَهُ أظهرُوا لَهُ أيمانا وهم قد أضمروا الْحِنْث فِيهَا وَلم يخف ذَلِك عَلَيْهِ وَلما رأى الْفَاضِل أُمُور الْأَفْضَل مختلة تَركه وَسَار إِلَى مصر وَشرع الْوَزير الْجَزرِي فِي تَفْرِيق الْعصبَة الناصرية وَمَا مِنْهُم إِلَّا من فَارق إِلَى الديار المصرية
وَكَانَ قد أُشير على الْأَفْضَل باخلاء الْبَيْت الْمُقَدّس لنواب الْعَزِيز بِأَعْمَالِهِ حذرا عَلَيْهِ من تكاليفه وأثقاله فَأجَاب إِلَى ذَلِك وَقد كَانَت نابلس وأعمالها قد وقف السُّلْطَان ثلثهَا على مصَالح الْقُدس وباقيها على ابْن الْأَمِير عَليّ بن أَحْمد المشطوب فشاركه أحد الْأُمَرَاء الأكراد فِيهِ فمدوا أَيْديهم إِلَى الْوَقْف وَسَاءَتْ سيرتهم وتخوفوا من إِنْكَار الْملك الْعَزِيز عَلَيْهِم فلجؤوا إِلَى الْأَفْضَل فأفضل عَلَيْهِم وَسكن إِلَيْهِم فتأثر الْملك الْعَزِيز لذَلِك
وَأقوى الْأَسْبَاب فِيمَا حدث من النفار نفار الْأُمَرَاء الناصرية الْكِبَار ومفارقتهم دمشق إِلَى مصر على سَبِيل الِاضْطِرَاب والاضطرار فأعزهم الْعَزِيز ورفعهم فاتفقوا على أَن تكون كلمة الْإِسْلَام مجتمعة على الْملك الْعَزِيز لاحياء سنة وَالِده فِي الْجُود والبأس وَالْكَرم
وَمن جملَة الْأَسْبَاب الباعثة تسلم الفرنج ثغر جبيل من بعض مستحفظيه وَضعف الْأَفْضَل عَن استخلاصه فَقيل للعزيز إِن توانيت استولت الفرنج على الْبِلَاد
فَخرج الْعَزِيز بعساكره وَبلغ الْأَفْضَل فَضَاقَ صَدره وَاجْتمعَ بِمن فِي خدمته من الْأُمَرَاء بِرَأْس المَاء وَأَرَادَ أَن يستعطف قايماز النجمي وَكَانَ فِي إقطاعه بِالسَّوَادِ وَكَانَ بَينه وَبَين الْأَفْضَل شقَاق وعناد فَأرْسل إِلَيْهِ فَلم يقبل ورحل إِلَى عَسْكَر الْعَزِيز وَرَأى الْأَفْضَل أَن يكْتب إِلَى أَخِيه بِكُل مَا يحب من إعلاء كَلمته والاجتماع عَلَيْهِ وَيكون الْأَفْضَل من بعض القائمين بَين يَدَيْهِ طلبا لتسكين الْفِتَن ورغبة فِي ذهَاب الاحن فأشير عَلَيْهِ بِغَيْر الصَّوَاب وَقيل أَنْت الْكَبِير وَإِلَيْك التَّدْبِير فجد واجتهد وَلَا تعلم أَصْحَابك بِهَذَا الخور الَّذِي داخلك والجبن الَّذِي نازلك وَنحن بَين يَديك وكلنَا عاقدون بالخناصر عَلَيْك
وَوصل رَسُول الْملك الظَّاهِر والكتب من الْمُلُوك الأكابر بالانجاد المتظاهر للأفضل وسير الْأَفْضَل إِلَى عَمه الْعَادِل وَهُوَ بحران والرها كتبا ورسلا فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ سير عز الدّين عُثْمَان بن الزنجيلي على نجيب ليسرع وَيَأْتِي بِهِ عَن قريب وَكتبه واصلة بعزمه على نَصره ونجدته وَذَلِكَ فِي أَوَائِل جُمَادَى الْآخِرَة من شهور سنة تسعين وَلم يشْعر الْأَفْضَل إِلَّا والعزيز بعساكره قد وصل إِلَى الفوار فَعجل الرحيل وَقد خالطت عَسَاكِر الْعَزِيز ساقة جَيش الْأَفْضَل فأسرع وَدخل دمشق يَوْم الْجُمُعَة خَامِس جُمَادَى وَنزل الْعَزِيز يَوْم
السبت بالكسوة وَنزل على دمشق يَوْم الْأَحَد فَلم يزل الْأَفْضَل يمانع ويدافع حَتَّى وصل عَمه الْعَادِل فَكتب إِلَى الْعَزِيز يسْأَله الِاجْتِمَاع فتواعدا واجتمعا راكبين بصحراء المزة فعذله فِي أَخِيه واستنزله عَمَّا كَانَ فِيهِ فَقَالَ عَليّ رضاك وَاتِّبَاع هَوَاك فَقَالَ نفس عَن الْبَلَد الخناق وَكَانَ قد بلي الْبَلَد مِنْهُم بِمَا لَا يُطَاق من قطع الْأَنْهَار وقطف الثِّمَار فَتَأَخر الْعَزِيز إِلَى صوب داريا والأعوج
وَكَانَ قد اجْتمع عِنْد الْأَفْضَل من الْمُلُوك عَمه الْعَادِل والمجاهد أَسد الدّين شيركوه بن نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه بن شاذي صَاحب حمص والأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب بن شاذي صَاحب بعلبك والمنصور نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن تقيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب صَاحب حماة ثمَّ وصل الْملك الظَّاهِر غياث الدّين غَازِي بن السُّلْطَان فاتفقوا على عقد يُؤَكد وعهد يمهد
ورحل الْعَزِيز إِلَى مرج الصفر لكَون الْمقَام بِهِ أرْفق فَمَرض حَتَّى أيس مِنْهُ ثمَّ أَفَاق وَأرْسل من جَانِبه الْأَمِير فَخر الدّين أياز جركس وَاعْتمد عَلَيْهِ فِي هَذِه النّوبَة فوصل إِلَى الْعَادِل فِي تَعْدِيل الْأُمُور فتقرر بَينهم الصُّلْح وَتزَوج الْعَزِيز ابْنة عَمه الْعَادِل
وَخرج الْمُلُوك لتوديع الْملك الْعَزِيز فِي أول شعْبَان وَاحِدًا بعد
وَاحِد فَخرج الظَّاهِر أَولا والتقيا وَنزلا بمرج الصفر وَبَات عِنْده لَيْلَة ثمَّ رَجَعَ وَخرج الْعَادِل ثمَّ الْأَفْضَل فَلَمَّا اجْتمع بأَخيه فَارقه وَمَا ثوى وَرجع كل إِلَى بَلَده
وَلما اسْتَقر الْأَفْضَل بِدِمَشْق قضى حُقُوق الْجَمَاعَة وشكرهم ورحل الظَّاهِر صوب حلب رَابِع عشر شعْبَان وَأقَام الْعَادِل إِلَى تَاسِع شهر رَمَضَان ورحل إِلَى بَلَده الرها وحران
ثمَّ إِن الْأَفْضَل نظم أبياتا يَكْتُبهَا إِلَى أَخِيه الْعَزِيز فِي استعطافه واستمالته وَقَالَ كنت فَارَقت أخي مذ تسع سِنِين وَمَا الْتَقَيْنَا إِلَّا فِي هَذِه السّنة
(نظرتك نظرة من بعد تسع
…
تقضت بالتفرق من سِنِين)
(وغض الدَّهْر عَنْهَا طرف غدر
…
مَسَافَة قرب طرف من جبين)
(وَعَاد إِلَى سجيته فَأجرى
…
بفرقتنا الْعُيُون من الْعُيُون)
(فويح الدَّهْر لم يسمح بوصل
…
يعود بِهِ الهجوع إِلَى الجفون)
(فراقا ثمَّ يعقبه ببين
…
يُعِيد إِلَى الحشا عدم السّكُون)
(وَلَا يُبْدِي جيوش الْقرب حَتَّى
…
يرتب جَيش بعد فِي كمين)
(وَلَا يدني محلي مِنْك إِلَّا
…
إِذا دارت رحى الْحَرْب الزبون)
(فليت الدَّهْر يسمح لي بِأُخْرَى
…
وَلَو أمضى بهَا حكم الْمنون)
قَالَ ثمَّ كثر الشَّرّ مِمَّن حول الْأَفْضَل فِي حق الْأُمَرَاء الْكِبَار ذَوي الأقدار فأنفوا من ذَلِك وأزمعوا على الِانْفِصَال لسوء تِلْكَ
الْحَال فَمِمَّنْ سَار إِلَى مصر عز الدّين سامة وحرض الْعَزِيز على الْقيام لنصرة الدولة الناصرية وعرفه أَن أَخَاهُ الْأَفْضَل مسلوب الِاخْتِيَار مَعَ من حوله من الأشرار
وَمِمَّنْ سَار إِلَى مصر القَاضِي محيي الدّين مُحَمَّد بن أبي عصرون وَتَوَلَّى بعد أشهر قَضَاء الْقُضَاة بِمصْر وأعمالها وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين فاستمرت ولَايَته إِلَى أَن عَاد الْعَزِيز من الشَّام وَتَبعهُ الْعَادِل فَصَرفهُ وَأعَاد الْقَضَاء إِلَى زين الدّين عَليّ بن شرف الدّين يُوسُف الدِّمَشْقِي وَكَانَ نَائِبا لصدر الدّين عبد الْملك بن عِيسَى بن درباس ثمَّ اسْتَقل ثمَّ عزل بِابْن أبي عصرون ثمَّ أُعِيد إِلَيْهِ
وَكَانَ الْأَفْضَل قد اشْتغل بعد انصراف أَخِيه باللذات وتشاغل عَن أُمُور النَّاس بادمان الشَّرَاب مَعَ من حوله من الْأَصْحَاب ثمَّ أقلع عَن ذَلِك وَتَابَ وجد فِي الذّكر والزهد وأناب وَشرع فِي كتب مصحف بِخَطِّهِ وَحسنت طَرِيقَته وَظَهَرت حَقِيقَته وَذَلِكَ فِي أَوَائِل سنة إِحْدَى وَتِسْعين
وَفِي هَذِه السّنة فِي ربيع الآخر وصل الْخَبَر بِأَن الْعَزِيز قادم
لحصر دمشق ثَانِيَة فَاشْتَدَّ غم الْأَفْضَل فأشير عَلَيْهِ بِأَن يرحل إِلَى عَمه الْعَادِل وَيَأْتِي بِهِ لدفع هَذَا الْقَضَاء النَّازِل فَرَحل رَابِع عشر جُمَادَى الأولى والتقى بِعَمِّهِ بصفين وَطلب مِنْهُ الرُّجُوع مَعَه إِلَى دمشق فَفعل وَوصل الْعَادِل إِلَيْهَا تَاسِع جُمَادَى الْآخِرَة وتخلف عَنهُ الْأَفْضَل وَقد قصد حلب للاستظهار بأَخيه الظَّاهِر فوثق مَعَه الْأَيْمَان على مَا كَانَا عَلَيْهِ من الصفاء وَكَذَلِكَ فعل بِابْن تَقِيّ الدّين بحماة وَوصل إِلَى دمشق وَاجْتمعَ مَعَ عَمه الْعَادِل
وَكَانَ الْعَادِل أبدا يُشِير بِصَرْف الْوَزير الْجَزرِي وَكَانَ قد استولى على الْأَفْضَل فَلم يقبل فَكَانَ الْعَادِل أبدا مغتما لذَلِك فَبَالغ الْأَفْضَل فِي إكرام عَمه وَإِزَالَة غمه حَتَّى ترك لَهُ سنجقه وَصَارَ يركب فِي خدمَة عَمه وضاق أَخُوهُ الظافر من هَذِه الْحَال
وَكَانَ الظَّاهِر قد نفر عَلَيْهِ جمَاعَة من الْمُلُوك والأمراء مِمَّن هم فِي طَاعَته من جُمْلَتهمْ صَاحب حماة وَعز الدّين بن الْمُقدم صَاحب بارين فراسلا الْعَادِل فِي الِاعْتِصَام بِهِ وَكَانَ من جَمَاعَتهمْ بدر الدّين دلدرم بن بهاء الدولة بن ياروق صَاحب تل بَاشر فاعتقله الظَّاهِر وَبني عَمه وَطلب مِنْهُ تَسْلِيم حصنه فشفع الْعَادِل فيهم وكفل أَنه يَكفهمْ ويكفيهم واستصحبهم إِلَى دمشق فَطلب مِنْهُ الظَّاهِر الْوَفَاء بضمانه فَتعذر عَلَيْهِ ردهم وتيسر لَهُ ودهم فَغَضب الظَّاهِر لذَلِك وراسل الْعَزِيز يحثه على الاسراع فِي الْقدوم فَأقبل الْعَزِيز وخيم بالفوار
وَشرع الْعَادِل فِي تَدْبِير أُمُور الْأَفْضَل فكاتب الْأُمَرَاء الأَسدِية من أَصْحَاب الْعَزِيز يحثهم على تَركه والانقطاع إِلَى حزب الْأَفْضَل وسلكه وَكَانَت الأَسدِية أبدا فِي عناء من تقدم الناصرية عَلَيْهَا وراسل الْعَادِل أَيْضا الْعَزِيز بخوفه من قبل الأَسدِية ويعرفه مَا انطوت عَلَيْهِ قُلُوبهم من الغل فَكَانُوا إِذا لَقِيَهُمْ عرفُوا فِي وَجهه التَّغَيُّر عَلَيْهِم فرغبوا عَنهُ وحسنوا للأكراد مرافقتهم فِي الِانْصِرَاف عَنهُ فَفَعَلُوا
وَكَانَ أَمِير أُمَرَاء الأكراد أَبُو الهيجاء السمين فدارت الأكراد حوله وَقَالُوا لَا نَأْمَن عَلَيْك من الناصرية فأبرموا أَمرهم وعجلوا رحيلهم فَرَحل أَبُو الهيجاء والمهرانية والأسدية عَشِيَّة الِاثْنَيْنِ رَابِع شَوَّال وَكَانُوا أَكثر الْعَسْكَر وَعلم الْعَزِيز بهم فَمَا بالى بانصرافهم وَقَالَ صُفُونا من أكدارهم وَلم يَأْمر أَصْحَابه باتبَاعهمْ وردهم وَبَقِي فِي خواصه مُقيما فِي تِلْكَ اللَّيْلَة ثمَّ رَحل عَائِدًا إِلَى مصر فجَاء رَسُول أبي الهيجاء السمين إِلَى الْعَادِل يُعلمهُ برحيل الْعَزِيز خَائفًا ويأمره بالقدوم ليلحقوه ويأخذوه ويتسلموا ملك الديار المصرية فتحالف الْعَادِل وَالْأَفْضَل على ملك مصر على أَن يكون للعادل الثُّلُث وللأفضل الثُّلُثَانِ وخرجا يَوْم الْأَرْبَعَاء فِي الجيوش واستناب الْأَفْضَل بِدِمَشْق أَخَاهُ الْأَصْغَر قطب الدّين مُوسَى
وَأما الْعَزِيز فَإِنَّهُ سَار وَأخذ طَرِيق اللجون والرملة وَفرق من
الأَسدِية الَّذين بِالْقَاهِرَةِ أَن يَفْعَلُوا فعل إخْوَانهمْ فيمنعوه من دُخُول الْبَلَد وَكَانَ مقدمهم الْأَمِير بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ أكبر الْأُمَرَاء الأَسدِية قد استنابه الْعَزِيز بالديار المصرية فَهُوَ مُقيم على الصفاء والمودة وإلاخاء فَلَمَّا وصل الْعَزِيز تلقوهُ وَإِلَى ذرْوَة سلطنته رقوه
وَأما الْعَادِل وَالْأَفْضَل فاجتمعا بالمتخلفين عَن الْعَزِيز وحرصت الأَسدِية أَن يسْبقُوا الْعَزِيز فَلم يقدروا واجتهدوا أَن يدركوه ويتقدموا فتأخروا فَأَمرهمْ الْعَادِل بالثبات وتسلم الْقُدس وأعماله وَمَا يجاوره من أَعمال السَّاحِل أَبُو الهيجاء السمين بِأَمْر الْأَفْضَل والعادل فرتب فِيهَا نوابه وأسكنها أَصْحَابه وصحبهم إِلَى الديار المصرية لمحالفة الأَسدِية وَمُخَالفَة الناصرية فَنزل الْعَادِل بهم على بلبيس وَكَانَ أَوَان أَخذ زِيَادَة النّيل فِي الِانْتِهَاء والسعر غال وَظَهَرت ندامة الأَسدِية وضعفت معونتهم وضوعفت مؤونتهم فخاف من مَكْرهمْ والعدول إِلَى مستقرهم فَأرْسل إِلَى القَاضِي الْفَاضِل يستوفده للاستزارة ويسترشده بالاستشارة
فألزمه الْعَزِيز باجابة سُؤَاله فَخرج إِلَيْهِ واستبشر النَّاس بِخُرُوجِهِ رَجَاء الصُّلْح وَركب الْعَادِل وتلقاه على فراسخ واجتمعا وأصلحا الْأُمُور على مَا يحب الْفَرِيقَانِ وَعَفا الْعَزِيز عَن الأَسدِية وَأقَام الْعَادِل عِنْد الْعَزِيز
وَأما الْأَفْضَل فَإِن الْعَزِيز خرج إِلَيْهِ وودعه فَانْصَرف وَمَعَهُ
أَبُو الهيجاء السمين وَتَوَلَّى الْقُدس وَوصل الْأَفْضَل إِلَى دمشق غرَّة الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين
ثمَّ إِن الْأَفْضَل لَازم صِيَامه وقيامه وقلل شرابه وَطَعَامه وَحسن شعاره واستوى ليله ونهاره ووزيره الْجَزرِي قد بلي النَّاس مِنْهُ ببلايا وَهُوَ فِي غَفلَة عَن تِلْكَ القضايا وَكَانَ يدْخل إِلَيْهِ ويوهمه من قبل أَقوام أَنهم عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ يميلون إِلَى أَخِيه فيصدقه الْأَفْضَل فِيمَا يَدعِيهِ
فَصَارَ يبلغ الْعَادِل عَنهُ أَحْوَال مَا تعجبه بل تغضبه وَصَارَ يتَّصل بِهِ كل من هَاجر من الشَّام إِلَى مصر وَمَا مِنْهُم إِلَّا من يشكو من الْوَزير الْجَزرِي وَكَانَ قايماز النجمي قد لصق بالعادل وَكَذَلِكَ عز الدّين سامة وصاهر الْعَادِل وَظَاهره وَكَانَ الْعَادِل بِمصْر مستوطنا للقصر فوعد الْجَمَاعَة بازالة يَد الْوَزير الْجَزرِي ورده إِلَى بِلَاده وَقرر مَعَ الْعَزِيز تسيير عسكره مَعَه إِلَى الشَّام ليمهد لَهُ قَاعِدَة الْملك فِي سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام فَأخْرج الْعَادِل العساكر إِلَى بركَة الْجب وَخرج الْعَزِيز لتشييعه وَذَلِكَ مستهل ربيع الأول
وَوصل الْملك الزَّاهِر مجير الدّين دَاوُد من حلب إِلَى أَخِيه الْعَزِيز من جَانب الظَّاهِر لتسكين هَذَا الرهج الثائر وَمَعَهُ سَابق الدّين عُثْمَان صَاحب شيزر وَالْقَاضِي بهاء الدّين بن شَدَّاد
ثمَّ إِن الْعَادِل أَشَارَ على الْعَزِيز بِأَن يُوَافقهُ على الْمسير ويرافقه فِيهِ فَرَآهُ عين التَّدْبِير فسارا بالعساكر نَحْو الشَّام وَلما انصرفت رسل الظَّاهِر من مصر بِمَا طلبُوا مروا بِدِمَشْق فأعلموا الْملك الْأَفْضَل بِمَا أبرم من الْأَمر فَضَاقَ صَدره وَطَالَ فكره وَاسْتَشَارَ أَصْحَابه فَأَشَارَ عَلَيْهِ شُيُوخ الدولة بِأَن يسْتَقْبل أَخَاهُ وَعَمه وَيسلم لَهما حكمه
وَأَشَارَ الْجَزرِي وَأَصْحَابه بالتصميم على مُخَالفَة وَترك المجاملة والملاطفة ثمَّ دخل عَلَيْهِ أَخُوهُ الْملك الظافر خضر فشجعه وَصَبره وَتَوَلَّى أَسبَاب التحصين وحلفوا الْأُمَرَاء والمقدمين وَقَطعُوا مَا فَوق الْمصلى عِنْد مَسْجِد فلوس بفصيل ورتبوا رجَالًا حوالي الْبَلَد يتناوبون لحفظه فِي البكرة والأصيل وتفرق الْأُمَرَاء على الأسوار والأبراج وَجَاءَت الرُّسُل الظَّاهِرِيَّة لاظهار المظاهرة وَندب الْأَفْضَل فلك الدّين أَخا الْعَادِل إِلَيْهِ مِنْهُ رَسُولا فوصل إِلَى الْعَسْكَر العزيزي بالداروم وغزة وَلَقي عِنْد الْعَزِيز من قبُوله الْعِزَّة فَبَقيَ فلك الدّين هُنَاكَ أَيَّامًا فِي إصْلَاح ذَات الْبَين وَلَا شكّ أَنهم اشترطوا على الْأَفْضَل شُرُوطًا وردوه بهَا وَأَقَامُوا ينتظرون الْجَواب فنفذ من ذكر أَن الْأَفْضَل أَبى ذَلِك فَلَمَّا رأى الأكابر وشيوخ الدولة أَن الْأَفْضَل لَا يسمع من رَأْيهمْ وَأَنه عازم على الْمُحَاربَة وَلَا يعدل عَن رَأْي وزيره مَعَ مَا قد عرفه من شُؤْم
تَدْبيره شرعوا فِي إصْلَاح أُمُورهم فِي الْبَاطِن فراسلوا الْعَزِيز والعادل وَاسْتظْهر كل لنَفسِهِ
وَأقَام الْعَسْكَر مذ عَاشر رَجَب على الْبَلَد مستظهرا بِالْعدَدِ وَالْعدَد لَا يحدث حَدثا وَلَا يعبث بِالْبَلَدِ إِلَّا عَبَثا فَكتب الْأَوْلِيَاء من الْبَلَد إِلَى الْعَزِيز والعادل بانتهاز الفرصة فَرَكبُوا وتأهبوا يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّادِس وَالْعِشْرين من رَجَب وَسَاقُوا فَمَا صدهم عَن قصد الْبَلَد أحد وَمَا كَانَ فِي طريقهم إِلَّا الْملك الظافر وَمَعَهُ عَسْكَر حلب فقاتل على ظن قتال الْجَمَاعَة وَمَا عِنْده علم بِمَا دبروه من المخامرة فجاوزا وَلم يكترثوا
وَوصل الْعَزِيز إِلَى الميدان الْأَخْضَر وَوصل الْعَادِل إِلَى بَاب توما وَكَانَ الْأَمِير الْأمين بِهِ قد استنهضه إِلَيْهِ بكتبه ففتحه لَهُ فَدخل الْعَادِل وَأَصْحَابه من بَاب توما وَالْبَاب الشَّرْقِي وَبَات الْعَادِل فِي الدَّار الأَسدِية وَدخل الْعَزِيز من بَاب الْفرج وَبَات فِي دَار عمته الحسامية وَخرج إِلَيْهِ الْأَفْضَل ولقيه وتجرع من هم زَوَال ملكه مَا سقيه
فَلَمَّا ملك الْعَزِيز دمشق أَقَامَ أَيَّامًا بالميدان الْأَخْضَر الْكَبِير إِلَى أَن انْتقل الْأَفْضَل من القلعة بأَهْله وَأَصْحَابه وَأخرج وزيره الْجَزرِي مخفيا فِي صناديقه إشفاقا عَلَيْهِ من قَتله وتحريقه وتحول الْأَفْضَل تِلْكَ الْأَيَّام إِلَى مَسْجِد خاتون وَمَا يجاوره وَمَعَهُ وزيره فهرب لَيْلًا إِلَى بِلَاده وَقد ادخر فِيهَا أَمْوَال دمشق وأعمالها ثَلَاث سِنِين
قَالَ وَكَانَ الْعَزِيز قرر مَعَ الْعَادِل أَن يُقيم الْعَزِيز بِدِمَشْق
ويستنيب الْعَادِل بِمصْر فَلَمَّا ملك دمشق نَدم على مَا قَرَّرَهُ وَرجع عَمَّا دبره وَنفذ إِلَى أَخِيه الْأَفْضَل فِي السِّرّ يعْتَذر إِلَيْهِ وَيُشِير عَلَيْهِ بِمَا كَانَ اشْترط عَلَيْهِ فأظهر الْأَفْضَل هَذَا السِّرّ لصحبه والمخصوصين بِقُرْبِهِ فَقَالُوا لَا تنخدع بِهَذَا القَوْل فَرُبمَا كَانَت خديعة وأطلع عمك الْعَادِل على هَذَا السِّرّ فَإِنَّهُ يرى ذَلِك عين الْبر
فَأرْسل إِلَى الْعَادِل من أعلمهُ بذلك فعزت عَلَيْهِ مراسلة الْعَزِيز الْأَفْضَل وَاجْتمعَ بالعزيز وعتبه وقرعه بِمَا أنبئ بِهِ وأنبه وَقَالَ أبني وتهدم وأوجد مصالحك وتعدم
فَأنْكر الْحَال وأحالها وانتقض الْأَمر قبل إبرامه وَوجه إِلَى الْأَفْضَل من أزعجه وَإِلَى صرخد أخرجه وسد طَرِيق الاستنصار على أَخِيه الظافر حَتَّى أسلم فِي تَسْلِيم بصرى الظفر بسلامته وبذلها وَلم يتبعهَا بندامته ورحل إِلَى حلب وَأظْهر الظَّاهِر الاحتفال بِهِ
وَأما الْأَفْضَل فَإِنَّهُ سَار إِلَى قلعة صرخد وسكنها وحول أَهله وأخاه قطب الدّين إِلَيْهَا وتوطنها وَعند خُرُوج الْأَفْضَل من قلعة دمشق دخل الْعَزِيز إِلَيْهَا يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع شعْبَان وَجلسَ يَوْم الْجُمُعَة فِي دَار الْعدْل واعتقد النَّاس أَنه يطول مقَامه عِنْدهم فَلم يشعروا بِهِ إِلَّا وَقد برز للرحيل وَتقدم إِلَى الْعَادِل بِأَن يتَوَلَّى الْبِلَاد وَفَارق دمشق عَشِيَّة الِاثْنَيْنِ تَاسِع الشَّهْر وَنزل بالمخيم فَوق