الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشوبك والصلت والبلقاء وخاصة بِمصْر بعد النُّزُول عَن خبزه وَعَلِيهِ فِي كل سنة سِتَّة آلَاف غرارة غلَّة تحمل للسُّلْطَان من الصَّلْت والبلقاء إِلَى الْقُدس
فصل فِي عزم الفرنج على قصد الْقُدس وَسَببه
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَكَانَ تقدم السُّلْطَان إِلَى عَسْكَر مصر بِالْمَسِيرِ وأوصاهم بالاحتراز عِنْد مقاربة الْعَدو فأقاموا ببلبيس أَيَّامًا حَتَّى اجْتمعت القوافل إِلَيْهِم واتصل خبرهم بالعدو ثمَّ سَارُوا طالبي الْبِلَاد والعدو يترقب أخبارهم ويتوصل إِلَيْهِم بالعرب المفسدين
وَلما تحقق الْعَدو أَمر القفل أَمر عسكره بالانحياز إِلَى سفح الْجَبَل وَركب فِي ألف رَاكب مُردفِينَ ألف راجل فَأتى تل الصافية فَبَاتَ ثمَّ سَار حَتَّى أَتَى مَاء يُقَال لَهُ الْحسي فأنفذ السُّلْطَان إِلَى الْقَافِلَة ينذرهم نهضة الْعَدو وَأمرهمْ أَن يبعدوا فِي الْبَريَّة
وَركب الإنكلتير الملعون مَعَ الْعَرَب بِجمع يسير وَسَار حَتَّى أَتَى القفل وَطَاف حوله فِي صُورَة عَرَبِيّ ورآهم ساكنين قد غشيهم النعاس فَعَاد واستركب عسكره وَكَانَت الكبسة قريبَة الصَّباح
فبغت النَّاس وَوَقع عَلَيْهِم بخيله وَرجله فَكَانَ الشجاع الأيد الْقوي الَّذِي ركب فرسه وَنَجَا بِنَفسِهِ
وانقسم القفل ثَلَاثَة أَقسَام قسم قصدُوا الكرك مَعَ جمَاعَة من الْعَرَب وَقسم أوغلوا فِي الْبَريَّة مَعَ جمَاعَة من الْعَرَب وَقسم استولى الْعَدو عَلَيْهِم فساقهم بجمالهم وأحمالهم وَجَمِيع مَا مَعَهم وَكَانَت وقْعَة شنعاء لم يصب الْإِسْلَام بِمِثْلِهَا من مُدَّة مديدة وتبدد النَّاس فِي الْبَريَّة ورموا أَمْوَالهم وَكَانَ السعيد مِنْهُم من نجا بِنَفسِهِ وَجمع الْعَدو مَا أمكنه جمعه من الْخَيل وَالْبِغَال وَالْجمال والأقمشة وَسَائِر أَنْوَاع الْأَمْوَال وكلف الجمالين خدمَة الْجمال والخربندية خدمَة البغال والساسة خدمَة الْخَيل وَسَار فِي جحفل من غنيمَة يطْلب عسكره
وَلَقَد حكى من كَانَ أَسِيرًا مَعَهم أَنه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَقع فيهم الصَّوْت أَن الْعَسْكَر السلطاني قد لحقهم فتركوا الْغَنِيمَة وأنهزموا وبعدوا عَنْهَا زَمَانا ثمَّ انْكَشَفَ الْأَمر فعادوا وَقد هرب جمع من الأسرى وَكَانَ الحاكي مِنْهُم وَأخْبر أَن الْأُسَارَى خمس مئة وَالْجمال تناهز ثَلَاثَة آلَاف جمل
وَوصل الْعَدو إِلَى مخيمه سادس عشر جُمَادَى الْآخِرَة وَكَانَ يَوْمًا عَظِيما عِنْدهم وَصَحَّ عزمهم على الْقُدس وقويت نُفُوسهم بِمَا حصلوا عَلَيْهِ من الْأَمْوَال وَالْجمال الَّتِي تنقل الْميرَة والأزواد ورتبوا
جمَاعَة على لد يحفظون الطَّرِيق على من ينْقل الْميرَة وأنفذوا الكند هري إِلَى صور وأطرابلس وعكا يستحضر من فِيهَا من الْمُقَاتلَة ليصعدوا إِلَى الْقُدس حرسه الله تَعَالَى
وَلما عرف السُّلْطَان ذَلِك مِنْهُم عمد إِلَى الأسوار فَقَسمهَا على الْأُمَرَاء وَتقدم إِلَيْهِم بتهيئة أَسبَاب الْحصار وَأخذ فِي إِفْسَاد الْمِيَاه ظَاهر الْقُدس فخرب الصهاريج والجباب بِحَيْثُ لم يبْق حول الْقُدس مَاء يشرب أصلا وَأَرْض الْقُدس لَا يطْمع فِي حفر بِئْر فِيهَا مَاء معِين فِي جَمِيعهَا لِأَنَّهَا جبل عَظِيم وَحجر صلب وسير إِلَى العساكر يطْلبهَا من الجوانب والبلاد
قَالَ وَلما كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس تَاسِع عشر جُمَادَى الْآخِرَة أحضر السُّلْطَان الْأُمَرَاء عِنْده فَحَضَرَ الْأَمِير أَبُو الهيجاء السمين بِمَشَقَّة عَظِيمَة وَجلسَ على كرْسِي فِي خدمَة السُّلْطَان وَحضر المشطوب والأسدية بأسرهم وَجَمَاعَة الْأُمَرَاء ثمَّ أَمرنِي أَن أكلمهم وأحثهم على الْجِهَاد
فَذكرت مَا يسر الله من ذَلِك وَكَانَ مِمَّا قلته أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما اشْتَدَّ بِهِ الْأَمر بَايعه الصَّحَابَة - رضوَان الله عَلَيْهِم - على الْمَوْت فِي لِقَاء الْعَدو وَنحن أولى من تأسى بِهِ صلى الله عليه وسلم والمصلحة الِاجْتِمَاع عِنْد الصَّخْرَة والتحالف على الْمَوْت فَلَعَلَّ ببركة هَذِه النِّيَّة ينْدَفع هَذَا الْعَدو فَاسْتحْسن الْجَمَاعَة ذَلِك ووافقوا عَلَيْهِ
ثمَّ شرع السُّلْطَان بعد أَن سكت زَمَانا فِي صُورَة فكر وَالنَّاس سكُوت كَأَن على رؤوسهم الطير ثمَّ شرع وَقَالَ
الْحَمد لله وَالصَّلَاة على رَسُول الله اعلموا أَنكُمْ جند الْإِسْلَام الْيَوْم ومنعته وَأَنت تعلمُونَ أَن دِمَاء الْمُسلمين وَأَمْوَالهمْ وذراريهم معلقَة فِي ذممكم وَأَن هَذَا الْعَدو لَيْسَ لَهُ من الْمُسلمين من يلقاه إِلَّا أَنْتُم فان لويتم أعنتكم - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - طوى الْبِلَاد كطي السّجل للْكتاب وَكَانَ ذَلِك فِي ذمتكم فَإِنَّكُم أَنْتُم الَّذين تصديتم لهَذَا كُله وأكلتم مَال بَيت مَال الْمُسلمين فالمسلمون فِي سَائِر الْبِلَاد متعلقون بكم وَالسَّلَام
فَانْتدبَ لجوابه سيف الدّين المشطوب وَقَالَ يَا مَوْلَانَا نَحن مماليكك وعبيدك وَأَنت الَّذِي أَنْعَمت علينا وكبرتنا وعظمتنا وأعطيتنا وأغنيتنا وَلَيْسَ لنا إِلَّا رقابنا وَهِي بَين يَديك وَالله مَا يرجع أحد منا عَن نصرتك إِلَى أَن يَمُوت
فَقَالَ الْجَمَاعَة مثل مَا قَالَ وانبسطت نفس السُّلْطَان بذلك الْمجْلس وطاب قلبه وأطعمهم ثمَّ انصرفوا
ثمَّ انْقَضى يَوْم الْخَمِيس على أَشد حَال فِي التأهب والاهتمام حَتَّى كَانَ الْعشَاء الْآخِرَة اجْتَمَعنَا فِي خدمته على الْعَادة وسمرنا حَتَّى مضى هزيع من اللَّيْل وَهُوَ غير منبسط على عَادَته ثمَّ صلينَا الْعشَاء وَكَانَت الصَّلَاة هِيَ الدستور الْعَام فصلينا وأخذنا فِي
الِانْصِرَاف فدعاني رحمه الله وَقَالَ أعلمت مَا الَّذِي تجدّد قلت لَا قَالَ إِن أَبَا الهيجاء السمين أنفذ إِلَيّ الْيَوْم وَقَالَ إِنَّه اجْتمع عِنْدِي جمَاعَة المماليك الْأُمَرَاء وأنكروا علينا موافقتنا لَك على الْحصار وَالتَّأَهُّب لَهُ وَقَالُوا لَا مصلحَة فِي ذَلِك فانا نَخَاف أَن نحصر وَيجْرِي علينا مَا جرى على أهل عكا وَعند ذَلِك تُؤْخَذ بِلَاد الْإِسْلَام جمعا والرأي أَن نلقى مصَاف فَإِن قدر الله أَن نهزمهم ملكنا بَقِيَّة بِلَادهمْ وَإِن تكن الْأُخْرَى سلم الْعَسْكَر وَمضى الْقُدس وَقد انحفظت بِلَاد الْإِسْلَام بعساكرها مُدَّة بِغَيْر الْقُدس
وَكَانَ رحمه الله عِنْده من الْقُدس أَمر عَظِيم لَا تحمله الْجبَال فشق عَلَيْهِ هَذِه الرسَالَة وأقمت تِلْكَ اللَّيْلَة فِي خدمته حَتَّى الصَّباح وَهِي من اللَّيَالِي الَّتِي أَحْيَاهَا فِي سَبِيل الله رحمه الله وَكَانَ مِمَّا قَالُوهُ فِي الرسَالَة إِنَّك إِن أردتنا نُقِيم فَتكون مَعنا أَو بعض أهلك حَتَّى نَجْتَمِع عِنْده وَإِلَّا فالأكراد لَا يدينون للأتراك والأتراك لَا يدينون للأكراد
وانفصل الْحَال على أَن يُقيم من أَهله مجد الدّين بن فرخشاه صَاحب بعلبك وَكَانَ رحمه الله يحدث نَفسه بالْمقَام ثمَّ مَنعه رَأْيه عَنهُ لما فِيهِ من خطر الْإِسْلَام
فَلَمَّا قَارب الصُّبْح أشفقت عَلَيْهِ وخاطبته فِي أَن يستريح سَاعَة لَعَلَّ الْعين تَأْخُذ حظها من النّوم وانصرفت عَنهُ إِلَى دَاري فَمَا وصلت إِلَّا والمؤذن قد أذن فَأخذت فِي أَسبَاب الْوضُوء فَمَا فرغت إِلَّا وَالصُّبْح قد طلع وَكنت أُصَلِّي الصُّبْح مَعَه فِي غَالب الْأَحْوَال فعدت إِلَى خدمته وَهُوَ يجدد الْوضُوء فصلينا ثمَّ قلت لَهُ قد وَقع لي وَاقع أعرضه فَأذن لي فِيهِ
فَقلت الْمولى فِي اهتمامه وَمَا قد حمل نَفسه من هَذَا الْأَمر مُجْتَهد فِيمَا هُوَ فِيهِ وَقد عجزت أَسبَابه الأرضية فَيَنْبَغِي أَن ترجع إِلَى الله تَعَالَى وَهَذَا يَوْم الْجُمُعَة وَهُوَ أبرك أَيَّام الْأُسْبُوع وَفِيه دَعْوَة مستجابة فِي صَحِيح الْأَحَادِيث وَنحن فِي أبرك مَوضِع نقدر أَن نَكُون فِيهِ فِي يَوْمنَا هَذَا فالسلطان يغْتَسل للْجُمُعَة وَيتَصَدَّق بِشَيْء خُفْيَة بِحَيْثُ لَا يشعرأنه مِنْك وَتصلي بَين الْأَذَان والاقامة رَكْعَتَيْنِ تناجي فيهمَا رَبك وتفوض مقاليد أمورك إِلَيْهِ وتعترف بعجزك عَمَّا تصديت لَهُ فَلَعَلَّ الله يَرْحَمك ويستجيب دعاءك
قَالَ وَكَانَ رحمه الله حسن العقيدة تَامّ الايمان يتلَقَّى الْأُمُور الشَّرْعِيَّة بأكمل انقياد وَقبُول ثمَّ انفصلنا فَلَمَّا كَانَ وَقت الْجُمُعَة صليت إِلَى جَانِبه فِي الْأَقْصَى وَصلى رَكْعَتَيْنِ ورأيته سَاجِدا وَهُوَ يذكر كَلِمَات ودموعه تتقاطر على مُصَلَّاهُ رحمه الله
ثمَّ انْقَضتْ الْجُمُعَة بِخَير فَلَمَّا كَانَ عشيتها وَنحن فِي خدمته على الْعَادة وصلت رقْعَة جرديك - وَكَانَ فِي اليزك - يَقُول فِيهَا إِن الْقَوْم ركبُوا بأسرهم ووقفوا فِي الْبر على ظهر ثمَّ عَادوا إِلَى خيامهم وَقد سيرنا جواسيس تكشف أخبارهم
وَلما كَانَ صَبِيحَة السبت وصلت رقْعَة أُخْرَى يخبر فِيهَا أَن الجواسيس رجعُوا واخبروا أَن الْقَوْم اخْتلفُوا فِي الصعُود إِلَى الْقُدس والرحيل إِلَى بِلَادهمْ فَذهب الفرنسيسية إِلَى الصعُود إِلَى الْقُدس وَقَالُوا نَحن إِنَّمَا جِئْنَا من بِلَادنَا بِسَبَب الْقُدس وَلَا نرْجِع دونه وَقَالَ الانكتار إِن هَذَا الْموضع قد أفسدت مياهه وَلم يبْق حوله مَاء أصلا فَمن أَيْن نشرب قَالُوا لَهُ نشرب من نهر نقوع وَبَينه وَبَين الْقُدس مِقْدَار فَرسَخ فَقَالَ كَيفَ نَذْهَب إِلَى السَّقْي فَقَالُوا ننقسم قسمَيْنِ قسم يذهب إِلَى السَّقْي مَعَ الدَّوَابّ وَقسم يبْقى على الْبَلَد مَعَ اليزك وَيكون الشّرْب فِي الْيَوْم مرّة
فَقَالَ الإنكلتير إِذا يُؤْخَذ الْعَسْكَر البراني الَّذِي يذهب مَعَ الدَّوَابّ وَيخرج عَسْكَر الْبَلَد على البَاقِينَ وَيذْهب دين النَّصْرَانِيَّة