الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ وإقليم الْيمن مُسْتَقر للْملك ظهير الدّين سيف الْإِسْلَام طغتكين بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان وَهُوَ هُنَاكَ سُلْطَان عَظِيم الشان مستول على جَمِيع الْبلدَانِ وَكَانَ قد وصل وَلَده مَعَ الْحَاج قبل وَفَاة السُّلْطَان بأيام فَلَمَّا اسْتَقر الْملك الْأَفْضَل على سَرِير أَبِيه كَاتب عَمه سيف الْإِسْلَام
فصل فِي وَفَاة صَاحب الْموصل وتتمة أَخْبَار هَذِه الْفِتْنَة بِبِلَاد الشرق
قَالَ عز الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن الْأَثِير لما وصل خبر وَفَاة صَلَاح الدّين إِلَى صَاحب الْموصل عز الدّين اسْتَشَارَ فِي الَّذِي يَفْعَله فَأَشَارَ عَلَيْهِ أخي مجد الدّين أَبُو السعادات بالاسراع فِي الْحَرَكَة وَقصد الْبِلَاد الجزرية فَإِنَّهَا لَا مَانع لَهَا مِنْهُ
وَقَالَ مُجَاهِد الدّين قايماز لَيْسَ هَذَا بِرَأْي فَإنَّا نَتْرُك وَرَاءَنَا مثل الْمولى عماد الدّين صَاحب سنجار ومعز الدّين صَاحب الجزيرة ومظفر الدّين صَاحب إربل ونسير إِنَّمَا الرَّأْي أَنا نراسلهم ونستميلهم ونأخذ رَأْيهمْ وَنَنْظُر مَا يَقُولُونَ
فَقَالَ أخي إِن كُنْتُم تَفْعَلُونَ مَا يشيرون بِهِ ويرونه فَاقْعُدْ فَإِنَّهُم لَا يرَوْنَ إِلَّا هَذَا لأَنهم لَا يؤثرون حركتكم وَلَا قوتكم إِنَّمَا الرَّأْي أَن يبرز هَذَا السُّلْطَان ويكاتبهم ويراسلهم ويستميلهم ويبذل
لَهُم الْيَمين على مَا بِأَيْدِيهِم وَيُعلمهُم أَنه على الْحَرَكَة فَلَيْسَ فيهم من يُمكنهُ يُخَالف خوفًا من قصد ولَايَته لَا سِيمَا إِذا رَأَوْا جدة وخلو الْبِلَاد الجزرية من مَانع وَحَام فهم لَا يَشكونَ أَنه يملكهَا سَرِيعا فيحملهم ذَلِك على مُوَافَقَته وَمَتى أَرَادَ الْإِنْسَان أَن يفعل فعلا لَا تتطرق إِلَيْهِ الِاحْتِمَالَات بطلت أَفعاله إِنَّمَا إِذا كَانَت الْمصلحَة أَكثر من الْمضرَّة أقدم وَإِن كَانَ الْعَكْس أحجم فظهرت أَمَارَات الغيظ على مُجَاهِد الدّين فَسكت أخي لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ مخدوم الْجَمِيع على الْحَقِيقَة وَالْحَاكِم فيهم وَاتبع المرحوم يَعْنِي صَاحب الْموصل قَول مُجَاهِد الدّين وَأقَام بالموصل عدَّة شهور يراسل الْمَذْكُورين فَلم يَنْتَظِم بَينه وَبَين أحد مِنْهُم حَال غير أَخِيه عماد الدّين فَإِنَّهُمَا اتفقَا على قَوَاعِد اسْتَقَرَّتْ بَينهمَا فَإلَى أَن انْفَصل الْحَال وصل الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب من الشَّام إِلَى حران وَأقَام هُنَاكَ وجاءته العساكر من دمشق وحمص وحماة وحلب وامتنعت الْبِلَاد بِهِ
وَسَار عز الدّين عَن الْموصل إِلَى نَصِيبين وَقد ابْتَدَأَ بِهِ إسهال قريب وَاجْتمعَ بهَا بأَخيه عماد الدّين وسارا فِي عساكرهما إِلَى تل موزن من شبختان لقصد الرها فَأرْسل الْعَادِل حِينَئِذٍ يطْلب الصُّلْح وَأَن تكون الْبِلَاد الجزرية الرها وحران والرقة وَمَا مَعهَا بِيَدِهِ على سَبِيل الاقطاع من عز الدّين فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك
وَقَوي الْمَرَض بِهِ وَاشْتَدَّ إِلَى أَن عجز عَن الْحَرَكَة فَعَاد إِلَى الْموصل فِي طَائِفَة يسيرَة من الْعَسْكَر فَلَمَّا وصل دنيسررأى ضعفا شَدِيدا فأحضر أخي وَكتب وَصِيَّة ثمَّ سَار إِلَى الْموصل فوصلها مَرِيضا بالاسهال وَبَقِي كَذَلِك إِلَى أَن توفّي فِي السَّابِع وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخمْس مئة
قَالَ وَلم أسمع عَن أحد من النَّاس بِمثل حَاله فِي مَرضه فَإِنَّهُ كَانَ لَا يزَال ذَاكِرًا لله تَعَالَى حَتَّى إِنَّه كَانَ إِذا تحدث مَعَ إِنْسَان يقطع حَدِيثه مرَارًا وَيَقُول أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيي وَيُمِيت وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَبده وَرَسُوله وَأشْهد أَن الْمَوْت حق وَعَذَاب الْقَبْر حق وسؤال مُنكر وَنَكِير حق والصراط حق وَالْمِيزَان حق {وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور} وَيَقُول لمن عِنْده يخاطبه أشهد لي بِهَذَا عِنْد الله تَعَالَى ثمَّ يعود إِلَى حَدِيثه وأحضر عِنْده من يقْرَأ الْقُرْآن فَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن توفّي رحمه الله وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بباطن الْموصل مُقَابل دَار المملكة وَهِي لِلْفَرِيقَيْنِ الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة
وَكَانَت مَمْلَكَته نَحْو ثَلَاث عشرَة سنة وَسِتَّة أشهر وَكَانَ أسمر مليح الْوَجْه حسن اللِّحْيَة خَفِيف العارضين وَحكى لي
وَالِدي قَالَ هُوَ أشبه النَّاس بجده الشَّهِيد قدس الله روحه
قَالَ وَكَانَ رحمه الله دينا خيرا قد ابتنى فِي دَاره مَسْجِدا يخرج إِلَيْهِ فِي اللَّيْل وَيُصلي أورادا كَانَت لَهُ ويلبس فرجية كَانَ قد أَخذهَا من الشَّيْخ عمر النَّسَائِيّ الصُّوفِي وَيُصلي فِيهَا وَكَانَ قد حج وَلبس بِمَكَّة حرسها الله خرقَة التصوف من الشَّيْخ عمر النَّسَائِيّ الْمَذْكُور وَكَانَ من الصَّالِحين
وَأوصى بِالْملكِ لِابْنِهِ نور الدّين أرسلان شاه وَأَرَادَ أَخُوهُ شرف الدّين بن مودود بن زنكي أَن يوليه فَلم يفعل وَبَقِي نور الدّين إِلَى سنة سبع وست مئة فَتوفي فِي شهر رَجَب مِنْهَا وَدفن بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بباطن الْموصل حذاء دَار السلطنة وَكَانَ عهد بِالْملكِ لِابْنِهِ القاهر عز الدّين مَسْعُود وَجعل الْأَمِير بدر الدّين لُؤْلُؤ الْقَائِم بِأَمْر دولته وولاه إِمَارَة الجيوش والعساكر وسياسة الْقَبَائِل والعشائر ثمَّ توفّي الْملك القاهر فِي ربيع الأول من سنة خمس عشرَة وست مئة فَجْأَة وَخلف ثَلَاثَة بَنِينَ صغَارًا
قَالَ وَأما عماد الدّين زنكي بن مودود بن زنكي صهر نور الدّين رحمه الله وَهُوَ صَاحب سنجار فَإِنَّهُ توفّي فِي الْمحرم سنة أَربع وَتِسْعين وَكَانَت ولَايَته ثَلَاثِينَ سنة وَكَانَ عدله قد عَم الْبِلَاد وغمر
الْعباد وأريقت الْخُمُور وحد شاربها وَكَانَت صدقاته تصل إِلَى أقاصي الْبِلَاد وَتَوَلَّى بعده وَلَده الْأَكْبَر قطب الدّين مُحَمَّد بن زنكي وَكَانَ مُتَوَلِّي أمره مُجَاهِد الدّين يرنقش الْعِمَادِيّ
قَالَ وحاضر الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب ماردين فِي سنة خمس وَتِسْعين فَبَقيَ محاصرا لَهَا أحد عشر شهرا وَلم يبْق إِلَّا الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا فَبَيْنَمَا الْعَادِل يحاصرها إِذْ توفّي ابْن أَخِيه الْملك الْعَزِيز صَاحب مصر وَكَانَ عسكره مَعَ عَمه الْعَادِل على ماردين فَلَمَّا توفّي ملك أَخُوهُ الْأَفْضَل مصر وَكَانَ بَينه وَبَين عَمه الْعَادِل نفرة فَلَمَّا ملك مصر أرسل إِلَى الْعَسْكَر الْمصْرِيّ الَّذِي مَعَ عَمه يَأْمُرهُم بمفارقته ففارقوه وعادوا إِلَى مصر فَقل جمعه وَعَسْكَره
ثمَّ خرج الْأَفْضَل من مصر عَازِمًا على حصر دمشق واستعادتها من عَمه فَسَار الْعَادِل عَن ماردين جَرِيدَة إِلَى دمشق ليحفظها بَعْدَمَا كَانَ قد طلع سنجقه إِلَى قلعة ماردين وَترك وَلَده الْملك الْكَامِل مُحَمَّدًا محاصرا لَهَا إِلَى أَن اجْتمع صَاحب سنجار وَصَاحب الْموصل على ترحيله عَنْهَا فَرَحل
قَالَ وَفِي سنة سِتّ وست مئة سَار الْملك الْعَادِل بن أَيُّوب من الشَّام إِلَى سنجار فِي العساكر الشامية والمصرية والجزرية والديار بكرية فحصرها وَنزل عَلَيْهَا من كل جَانب وَنصب أحد عشر منجنيقا ثَلَاثَة أشهر وانتخى صَاحب الْموصل وَصَاحب إربل