الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: أقسام الجريمة من حيث القصد وعدمه
تنقسم الجرائم من حيث القصد، وعدمه إلى جرائم مقصودة، وجرائم غير مقصودة.
أولًا: الجرائم المقصودة
هي الجرائم التي تعمد الجاني القيام بها مريدًا تحقيق نتيجة سلوكه عالمًا بأن سلوكه هذا منهي عنه معاقب عليه.
ومن هذا يتضح أن عناصر الجريمة العمدية، أو أركانها المكونة لها هي:
العمد، والإرادة الفاعلة المختارة، والعلم بالنهي والتجريم.
ثانيًا: الجرائم غير المقصودة
هي الجرائم التي لم تكتمل أركانها من عمد، وإرادة فاعله مختارة وعلم بالتحريم.
فالجريمة إذا وقعت، وكانت غير متعمدة، فهي الجريمة الخطئية1.
والخطأ نوعان: خطأ في القصد، وخطأ في الفعل.
1 هذا ما قاله الإمام، وإن كان أكثر الفقهاء قد رأى أن غير العمد قسمان:
أ: شبه العمد.
ب: الخطأ وزاد غيره القتل بالتسبب.
وذكر بعضهم ما جرى مجرى الخطأ، واعتبره قسمًا رابعًا، ومثل له بما إذا انقلب نائم على شخص فقتله، مواهب الجليل ج6 ص241 ط أولى السعادة. أحكام القرآن للرازي ج2 ص223 ط أولى مطبعة الأوقاف المغني ج7 ص637، مغني المحتاج ج4 ص3-5.
فالخطأ في القصد يتمثل في أن يأتي الفاعل فعلًا لا يريد به إصابة المقتول، كأن يريد صيد طير وهدف، وما يجوز له فعله، فيئول الأمر إلى اتلاف إنسان حر مسلمًا كان أو كافرًا له عهد، فيكون الواجب بذلك دية على عاقلة الفاعل ويلزم هو بعتق رقبة مؤمنة، والأصل في وجوب الدية والكفارة قول الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 1.
ولا قصاص في شيء من هذا؛ لأن الله تعالى، أوجب الدية ولم يذكر قصاصًا؛ ولأنه لم يوجب قصاصا في عمد الخطأ، ففي الخطأ أولى.
والخطأ في الفعل يتمثل في أن يقصد الفاعل -وهو في أرض الحرب قتل من يظنه كفرًا، ويكون مسلمًا أسلم، وكتم إسلامه إلى أن يقدر على التخلص إلى أرض الإسلام، ولا خلاف في أن هذا خطأ لا يوجب قصاصًا؛ لأنه لم يقصد قتل مسلم، فأشبه ما لو ظنه صيدًا فبان أدمي، إلا أن هذا لا يجب فيه دية أيضًا ولا يجب إلا الكفارة، وهذا ما روي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، ومجاهد وعكرمة وقتادة، والأوزاعي والثوري، وأبي ثور وأبي حنيفة، وعن الإمام أحمد رأيان أحدهما تجب به الدية، والكفارة وهو ما ذهب إليه الإمام مالك، والإمام الشافعي لقول الله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ؛ ولأنه قتل مسلما خطأ، فوجبت ديته كما لو كان في دار الإسلام.
وذهب ابن قدامة إلى القول بوجوب الدية فقط، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، ولم يذكر
1 الآية 92 من سورة النساء.
دية هنا مع أنه ذكرها فيما قبله، وذكره لهذا قسمًا مفردًا يدل على أنه لم يدخل في عموم الآية التي احتج بها من أوجب الدية مع الكفارة هنا، ويخص بها عموم ما ورد1.
وقد علل ذلك التقسيم بأن الإنسان يتصرف بفعل القلب، والجوارح، فيحتمل في كل منهما الخطأ على الانفراد2.
أما بالنسبة للإرادة الفاعلة المختارة، فهي شرط أساسي لكي تكون الجناية عمدية.
فإذا انتفت يعتد به، تغير التجريمي للواقعة أما إذا كان انتفاء الإرادة لا يرقى إلى تغيير الوصف التجريمي للواقعة، فإنه يعد انتفاء لا أثر له، ويعامل الفاعل معاملة المريد المختار لسلوكه.
وعلى هذا إذا ما أكره شخص على ارتكاب جناية قتل، فقام بارتكابها فإن هذا الشخص يعامل على أساس أنه فاعل مختار لما أتى، وذلك؛ لأن الضرر المدفوع عن نفسه لا يزيد عن الضرر الذي وقع منه.
كما أن الضرر الذي يدفعه عن نفسه غير متيقن، ومثل هذا لا يجوز دفعه بما هو أكثر منه، أو مثله من ضرر متيقن، وعلى هذا فإنه لا يجوز أن يقوم شخص بقتل
آخر تحت تأثير الإكراه بالقتل، وأنه إن فعل ذلك لم يكن له فيما فعله عذر.
وأيضًا لا يجوز لمكره قطع عضو من إنسان تحت تأثير الإكراه بقطع عضو من أعضائه هو إن لم يفعل، فإن نفذ ما أكره عليه لم يعد
1 المغني ج7 ص650-652 مواهب الجليل ج6 ص241، المهذب ج2 ص189 مغني المحتاج ج4 ص3-5 بدائع الصنائع ج7 ص179 مغني البحر الرائق ج8 ص74.
2 تبيين للحقائق للزيلعي ج6 ص101.
الإكراه هنا عذرًا يعفيه من العقاب، إذ الراجح عند الشافعية هنا لزوم القصاص، ويرى الأئمة مالك وأحمد، وزفر تخفيف العقوبة، وعند أبي يوسف، ورواية عند الشافعية الدية، ويرى الإمام أبو حنيفة، ومحمد التعزير1.
أما بالنسبة للعلام بالتجريم، فإنه شرط لاعتبار الفعل جناية عمدية يعاقب عليها بالعقوبة الأصلية.
فإذا انتفى العلم بصورة معتبرة شرعًا، فإن الجريمة وإن كانت ثابتة في حق من قام بها، إلا أنه يعاقب عليها بالعقوبة الأصلية الموضوعة لها.
ومثله ما يقع من غير المكلف، فإنه لا يعاقب عليه بالعقوبة الموضوعة لما وقع منه، وإن ألزم بالتعويض المالي؛ لأن الجريمة حينئذ قد اعتبرت مما جرى مجرى الخطأ2.
أولًا: لا يتصور وجود الشروع المعاقب عليه إلا في الجرائم المقصودة، أما في الجرائم غير المقصودة -وهي الجرائم غير العمدية-، فلا يتصور فيها شروع معاقب، نظرًا؛ لأن إرادة الجاني لم تتجه إلى تحقيق النتيجة.
ثانيًا: الجرائم المقصودة يأثم مرتكبها منذ نية ارتكابها؛ لأنه نوى
1 يراجع مواهب الجليل ج6 ص242 الخرشي ج8 ص80 المغني ج7 ص645، المهذب ج2 ص189 بدائع الصنائع ج7 ص179 البحر الرائق ج8 ص74 القرطبي ج5 ص3799، الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390، 391.
2 المغني لابن قدامة ج7 ص637، ط مكتبة الجمهورية العربية، الجريمة للشيخ أبو زهرة ص542 ط دار الفكر.
إرتكاب معصية، فإذا استمر ولم يعدل عما نواه، وبلغ الإثم تمامه، ووقعت الجريمة لزمت الجاني عقوبة جريمته.
أما إذا عدل عما نواه، وتراجع فلا عقوبة تحلقه على نيته هذه.
أما الجريمة غير المقصودة، فالنية ليست موجودة أصلًا، ومن ثم فلا عقاب ولا إثم إلا إذا وقع من الجاني ما يأثم به، وعقاب الجاني حينئذ على ما كان منه من إهمال، وعدم احتياط.
وهذا مقيد بما إذا كان قصد الفاعل في أول الأمر مباحًا، أما إذا كان غير مباح، فإنه إثم حتى ولو لم تتجسد هناك جريمة.
ثالثًا: لا يتصور وجود الاشتراك إلا في الجرائم المقصودة، أما في الجرائم غير المقصودة، فلا يتصور فيها اشتراك.
فإذا تمت مساهمة من الفاعل الأصلي في الجريمة غير المقصودة اعتبر كل من ساهم فاعلًا أصليًا يعاقب على ما وقع منه من فعل.
رابعًا: الجرائم المقصودة إذا وقع فيها اعتداء على النفس يعاقب عليه بالقصاص بصورته، ومعناه أما الجرائم غير المقصودة، فلا يعاقب عليها بالقصاص من حيث الشكل إذا وقعت على النفس، وإنما العقاب على هذه الجرائم يتم بالقصاص معنى، كاستحقاق الدية مثلًا.
الجرائم المقصودة وغير المقصودة بين المباشر وعدمها:
الجرائم المقصودة غالبًا ما تقع بالمباشرة، التي هي عبارة عن اتجاه الجاني للعدوان على المجني عليه.
ومن غير الغالب تقع الجرائم المقصودة بغير المباشرة، كأن يكون وقوعها بالتسبب مثلًا، كما إذا أتى شخص فعلًا منهيا عنه، كأن وضع
سيارته في مكان غير مسموح بوضعها فيه، ثم جاء شخص آخر لم يكن وجود السيارة، ولم يستطع رؤيتها لوجود ما يمنع ذلك من العوامل الجوية، فنتج عن وجود السيارة الأولى في المكان الممنوع تواجدها فيه اصطدام السيارة الثانية بها مما ترتب عليه موت قائد السيارة الثانية، ومثل ما ترتب على شهادة الشهود زورًا على شخص بريء بأنه ارتكب جناية من الجنايات التي يعاقب عليها بالإعدام، فأعدم نتجية هذه الشهادة الزور.
والجرائم غير المقصودة تقع أيضًا بالمباشرة، كما يحدث عند ما يطلق الصياد مقذوفا ناريًا ليصيد طيرًا، فإذا بهذا المقذوف يصيب إنسانًا.
وتقع أيضًا بغير المباشرة كما إذا قام أحد المزارعين برش زراعته بمبيد حشري، فأتى شخص لا يعلم رش الزراعة بالمبيد، وأكل منها فمات متأثر بما أكل1.
ولقد ذهب جمهور فقهاء الأحناف إلى عدم التسوية بين عقوبة الجريمة المقصودة إذا وقعت بالمباشرة، وبين مثيلتها إذا وقعت بغير المباشرة، فمن يسقي إنسانا سمًا قاتلًا بطريق الإكراه متعمدًا قتله، فيقتل المكره نتيجة شربه هذا السم، فإن الجاني في هذا ومثله يعد مرتكبًا جناية قتل عمدية يجب القصاص فيها.
وإن كان الإمام أبو حنيفة لا يرى في مثل هذا إلا الدية على
1 بين الخرشي أن الاتلاف بالتسبب هو أن يفعل فعلًا يكون سببًا للاتلاف، والمعني أن من حفر بئرًا في موضع لا يجوز له حفرها فيه، كطريق المسلمين، أو حفرها في موضع يجوز له حفرها فيه كبيته، وقصد بذلك الضرر كهلاك شخص معين، وهلك فيها ذلك المعين فإنه يقتل به، فإن هلك فيها غير المعين فعليه ديته إن كان حرًا أو قيمته، إن كان عبدًا. الخرشي ج8 ص8.
العاقلة أما إذا شربه بمحض إرادته، فلا قصاص ولا دية سواء علم الشارب أن ما شربه سم، أو لم يعلم1.
وقد نسب جمهور الفقهاء إلى التسوية بين ما يقع من الجرائم المقصودة بالمباشرة وغير المباشرة، مستدلًا على ذلك بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهودية التي دست السم في الطعام، فمات بسببه أحد الصحابة2.
1 البحر الرائق ج8 ص335-336 ط بيروت.
2 مسند أبي داوود ج2 ص482، المغني ج7 ص643 مغني المحتاج ج4 ص7 الجريمة للشيخ أبو زهرة ص153.
بامتناعه عن القيام بما ألزم به، قد سلك سلوكًا يعاقب عليه، سواء أكان هذا الإلزام قانونيًا أم أخلاقيًا.
ويتطلب بيان ذلك عربض وجهة النظر الفقهية من فقهاء الشريعة، ورجال القانون، عرضًا موجزًا.
وجهة نظر فقهاء الشريعة:
اتفق فقهاء الشريعة على أن كل ما طلبه الشرع، يأثم من يتركه، ويؤاخذ على هذا الترك قضائيًا، إذ تحققت بسبب هذا الترك نتائج أمكن إثباتها هي، وما تترتب عليه.
فمن كان عنده فضل زاد ولم يعد به على من لا زاد له، كان آثما فإذا كان ذلك في صحراء، أو وقعت مجاعة، ولم يجد المحتاج للطعام غيره، وبخل به مالكه، ونتج عن ذلك أن مات المحتاج إلى الزاد جوعًا، فإن الامتناع من مالك فضل الزاد هنا سلوك يعاقب عليه.
والفقهاء وإن اتفقوا على عقوبته إلا أن منهم من قال: إنه يعاقب بعقوبة القاتل عمدصا، ومنهم من رأى غير ذلك.
وقبل عرض مقالة الفقهاء، أعرض للحديث عن الترك بشيء، من البيان من حيث هو جريمة أم لا، وإذا كان جريمة فهل ترتب عليه حدوث جريمة أخرى أم لم تترتب؟
ينقسم الترك من حيث هو جريمة أم لا إلى قسمين:
1-
ترك ليس بجريمة، وذلك كترك الشخص فعل ما أبيح له فعله، تركًا لا يترتب عليه شيء ما.
2-
ترك هو في حد ذاته جريمة، كما إذا ترك الشخص فعل أمر كلفه الشرع بفعله.
وهذا النوع من الترك ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
ترك هو في حد ذاته جريمة، ولكن لا يترتب عليه حدوث جريمة أخرى، ومثل ذلك ترك القيام بالعبادات الكلف به، من زكاة وصيام وصلاة، وكذا ترك إطعام الجائع، وسقي العطشان في المكان الآهل بالسكان، إذا قام بذلك الإطعام والسقي شخص آخر.
القسم الثاني:
ترك هو في حد ذاته جريمة، وينتج عن جريمة أخرى، ومثله ترك صرة المولود بعد قطعها دون ربطها حتى يموت، ومثله أيضًا ما روي من أن رجلًا استسقى قومًا، فلم يسقوه حتى مات من العطش، فضمنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الدية1 فالترك المعاقب عليه قضائيًا هو ما كان في حد ذاته جريمة، سواء أنتج عنه جريمة أخرى أم لا -مع ملاحظة أن الترك إذا لم ينتج عنه جريمة، فإنما يعاقب عليه من لازمه، وظل على تركه، وعصيانه لأوامر الشارع الحكيم.
أما من تاب، وانصاع لما أمره به الشرع، فإنه يتوب الله عليه، ويعفو عنه.
أما الترك الذي ينتج عنه جريمة أخرى -كامتناع الأم عن إرضاع ولدها حتى يموت- فهو ما يعاقب عليه؛ لأنه ترك أنتج جريمة تسمى بالجريمة السلبية.
وللفقهاء آراء فيما يلزم به مرتكب الجريمة السلبية من عقوبة فقهاء المالكية قاسوا فعل من منع إنسانًا طعامًا، أو شرابًا قاصدًا قتله، حتى مات بفعل من قام بخنق إنسان، فعندهم أن كل منهما قد ارتكب
1 المحلي لابن حزم ج10 ص22.
جريمة قتل عمدية، تستحق على ارتكابها عقوبة القتل قصاصًا1، ومثل هذا أيضًا قاله فقهاء الشافعية والحنابلة2.
كما يقول ابن حزم في الذين لم يسقوا شخصًا طلب منهم السقيا حتى مات: "إن الذين لم يسقوه إن كانوا يعلمون أنه لا ماء ألبته إلا عندهم، ولا يمكنه إدراكه أصلًا حتى يموت، فهم قتلوه عمدًا، وعليهم القود
…
وهكذا القول في الجائع، والعاري.. وهكذا كمن أدخوله بيتًا، ومنعوه الطعام حتى مات"3.
من هذا يبين أن الترك الذي هو موقف سلبي قد يكون، وجريمة في حد ذاته، وقد يترتب عليه جريمة أخرى يلزم التارك بعقوبتها ما دام قد قصد العدوان.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، أما الإمام أبو حنيفة، فإنه لا يسوي بين عقوبة الجريمة بالترك، وبين مثيلتها التي وقعت بالعمل الإيجابي.
فهو يرى أن من لم يعط إنسانًا طعامًا، وهو يعلم أن لا طعام هناك يمكن لهذا الإنسان الحصول عليه حتى مات الطالب للطعام جوعًا، فإن الممتنع عن إعطائه الطعام لا تلزمه القصاص، ولا يلزم أيضًا بالدية.
1 الخرشي ج8 ص7، مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240 ط السعادة حاشية الدسوقي ج4 ص385، الشرح الكبير للدردير ج4 ص215.
2 مغني المحتاج ج4 ص5 ط الحلبي، المهذب ج2 ص ص176، نهاية المحتاج ج7 ص239 الفتاوى الكبرى لابن حجر ج4 ص220-221 ط الميمنية المغني ج7 ص643، الشرح الكبير ج9 ص327 ط المنار.
3 المحلى ج10 ص522 مطبعة الجمهور العربية سنة 1971.
وحكى صاحب البحر الرائق ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن من أدخل إنسانًا في بيت حتى مات جوعًا أو عطشًا، لا يضمن شيئًا، ومن طين على آخر بيتا حتى مات جوعًا، أو عطشًا لم يضمن شيئا، أما صاحباه أبو يوسف ومحمد فقد قالا في هاتين الحالتين بوجوب الدية على الفاعل.
وقد ورد أن محمدًا قال: يوجع الفاعل عقوبة والدية على عاقلته، وأن كانت الفتوى في ذلك كله هي ما قاله الإمام أبو حنيفة1.
هذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة في مثل هذه الجرائم، مع أن القتل فيها لم يكن نتيجة الترك فقط، وإنما وجد معه عمل إيجابي، ألا وهو حبس هذا الإنسان، ومنعه من أن يصل إليه، أو يصل هو إلى طعام.
كما أنه لا يخفى ما للحبس من دور هام في تحصيل جريمة القتل هذه، ومع هذا فالإمام أبو حنيفة لا يرى فيما ذكر قصاصًا، ولا دية لكون الإهلاك حصل نتجة الجوع والعطش، وهما عنده ليسا من صنع الحابس، فلا يوصف الحابس إذا عند أبي حنيفة بأنها القاتل في كل ذلك2.
ويبين من هذا أن الإمام أبا حنيفة، والصاحبين لا يسوون بين الجرائم التي تقع بالفعل، وبين مثيلاتها من الجرائم التي تقع بالترك، فيما يترتب على كل منهما من نتائج وأحكام، وما يلزم الجاني من عقوبة.
1 يقول ابن نجيم: ومن أدخل إنسانًا في بيت حتى مان جوعا، أو عطشا لم يضمن شيئًا في قول أبي حنيفة، وقالا: عليه الدية، وفي الخانية قال محمد: يعاقب الرجل وعلى عاقلته الدية. وفي الظاهرية، ولو أن رجلًا أخذ رجلًا، فقيده وحبسه حتى مات جوعًا: قال محمد: أوجعه عقوبة والدية على عاقلته، والفتوى على قول أبي حنيفة أنه لا شيء عليه.
البحر الرائق ج8 ص336 ط دار المعرفة بيروت.
2 البدائع للكاساني ج7 ص335، الجريمة للشيخ أبو زهرة ص 141 التشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر ج1 ص86، 90.
فهم وإن قرروا عقوبة لما يقع بالترك من جرائم، إلا أنها تقل عن عقوبة نفس الجرائم إذا وقعت بالفعل الإيجابي.
بينما ذهب فقهاء الشافعية، ومن وافقهم وهم الجمهور، إلى التسوية بين عقوبة ما يقع بالفعل، وما يقع بالترك من جرائم ما دامت النتيجة النهائية للفعل والترك واحدة.
بل حتى ولو لم يصاحب الترك عمل إيجابي في تحصيل النتيجة.
فهم قد رأيا أن من يأخذ طعام شخص آخر، وهما في مكان ليس فيه طعام غيره، فمات المأخوذ منه طعامه جوعًا، فإن الآخذ يكون قد ارتكب جريمة قتل عمدية.
علمًا بأن الآخذ للطعام هنا قد ارتكب جريمة اغتصابه، وهي جريمة لا يعاقب عليها بعقوبة القتل العمد، لكنه لما كان أخذه للطعام قد نتج عنه ترك غيره بلا طعام، الأمر الذي يترتب عليه موت المأخوذ منه، فإنه والحالة هذه يعتبر ارتكب جناية قتله عمدًا، وتلزم آخذ الطعام هنا عقوبة القتل العمد.
هذا ما ذهب إليه فقهاء الشريعة من رأي فيما يلزم بكل من الجريمة الإيجابية والسلبية، يبين منه مدى عنايتهم ببحثهما، وفي وقت لم تحظ فيه الجريمة من غيرهم أو بيان.
وجهة نظر فقهاء القانون:
ذكر رجال القانون عند حديثهم عن الجرائم الإيجابية والسلبية أن القصد الجنائي قد يكون إيجابيًا، بمعنى أن يقوم الجاني بعمل من الأعمال العدوانية؛ لتنفيذ قصده الجنائي، كأن يطلق النار على من يريد قتله، أو يطعنه بسلاح قاصدًا القضاء عليه.
وقد يكون سلبيًا، بمعنى أن يمتنع الجاني عن القيام بعمل ما قاصدًا بذلك قتل إنسان.
ولكنهم اعتبروا أن القصد في هذا النوع الأخير ما هو إلا نوع من الإهمال الفاحش، ترتب عليه مسئولية من أهمل، عن وقوع جناية غير عمدية، وبينوا أنه لا يعاقب ما يعاقب به من وقعت منه هذه الجناية بفعل إيجابي1.
هذه وجهة نظر رجال القانون، بصورة إجمالية، وهي تحتاج إلى شيء من الإيضاح، الأمر الذي يقتضي عرض مقالة رجال القانون في بعض بلاد العالم، وعلى الأخص في كل من ألمانيا وفرنسا، نظرًا؛ لأن رجال القانون في مصر قد اهتموا بدراسة اتجاه هاتين المدرستين، كما أن بعض ما ذهب إليه فقهاء الشريعة الإسلامية قد بدا واضحًا، فيما ذهبت إليه آراء هاتين المدرستين.
وجهة نظر رجال القانون الألماني:
ذهب فقهاء القانون الألماني إلى أن الجرائم السلبية التي تقع نتيجة امتناع عن القيام بعمل ما من الأعمال، ينظر قبل الحكم على الممتنع، إلى امتناعه الذي نتج عنه وقوع الجريمة؛ لتحديد ما إذا كان هذا الامتناع عن عمل قد كلفه به القانون، بمعنى أنه وظيفته تحتم عليه القيام بما امتنع عن القيام به.
أم أن مبادئ الأخلاق، والمروءة والدوافع الإنسانية هي التي تطالبه بالقيام بما امتنع عنه، وليس القانون.
1 الأحكام العامة في القانون الجنائي، للأستاذ الدكتور علي بدوي ص375.
فإن كان قد امتنع عن القيام بعمل ألزمه به القانون، وجبت معاقبته على ما وقع من جريمة نتيجة موقفه السلبي، وامتناعه، بعقوبة تماثل عقوبة من ارتكب نفس الجريمة بفعل إيجابي، ويتضح ذلك فيما لو امتنع محول القطارات المكلف بالعمل، عن تحويل القطار من طريق إلى آخر، قاصدًا بذلك وقوع تصادم هذا القطار، وقطار آخر أو وقع حادث غير التصادم أو غيره، فرتب هذا الحادث على امتناعه عن تحويل القطار.
فإن المحول الذي ألزمه القانون بتحويل القطار فامتنع، يعاقب على ما وقع من جرائم نتيجة امتناعه، بعقوبة من يقوم بإحداث هذه الجرائم بعمل إيجابي.
ومثل ذلك أيضًا، الأم التي تمتنع عن إرضاع ولدها: وليس هناك من يرضعه غيرها -قاصدة بامتناعها قتله، فإنها والحالة هذه تعاقب إذا مات الولد بعقوبة القتل العمد.
وكذلك بالنسبة لعامل المجاري الذي يقوم بكشف فتحاتها للإصلاح، ثم يرى طفلًا أو أعمى قد أشرف على الوقوع فيها، فيمتنع هذا العامل عن إبعاده عنها، فإذا وقع فيها الطفل، أو الأعمى مثلًا فمات عوقب هذا العامل بعقوبة القتل العمد.
أما لو لم يكن الممتنع ملزمًا قانونًا بالعمل الذي امتنع عن القيام به، فإنه لا يعاقب على امتناعه، ولا عما نتج عنه من أحداث؛ لأنه في هذه الحالة لم يخالف القانون.
وإن كان قد خالف مبادئ الأخلاق والإنسانية.
فالشخص العادي الذي يمتنع عن إنقاذ أعمي، أو غريق أشرفا على الهلاك حتى هلكا لا يلزمه عقابا على امتناعه هذا بالرغم مما وقع
من هلاك، أو غيره لأشخاص كل يمكن أن يمد إليهم يد عون، أو مساعدة تحول بينهم وبين ما تردوا فيه، نظرًا لكونه غير مكلف بالعون والمساعدة قانونًا.
وجهة نظر رجال القانون الفرنسي:
كان القانون الفرنسي القديم متأثرًا بالقانون الكنسي، ولذا فإنه كان ينص على أن من يقدر على منع الفعل المكون للجريمة ولا يمنعه، يعتبر مقترفًا له.
أما ما ذهب إليه القانون الفرنسي حديثا، فهو أن من يمتنع عن أداء واجب قاصدًا بامتناعه وقوع جريمة، لا يعد مسئولا عن هذه الجريمة مسئولية من قام بارتكابها بفعل إيجابي.
واستثني من ذلك حالات خاصة تعززها أيضًا النصوص القانونية.
وذلك كما جاء في المادة 312 عقوبات بعد تعديلها في ديسمبر 1958، والتي تقرر معاقبة من يمتنع بنية القتل عن تقديم الطعام، أو العناية بصغير يقل عمره عن 15 سنة بعقوبة القتل العمد.
كما أضاف البعض حالات أخرى مثل امتناع من أوجب عليه القانون أداء عمل، كمن وكل إليه قيادة أعمى، أو تغذية طفل أو مجنون أو أشل، فمن وكل إليه شيء من ذلك، فامتنع عن أداء واجبه فحدثت إصابة، أو وفاة من وكل به، فإنه والحالة هذه تجب معاقبته على جناية عمدية؛ لأن امتناعه حنيئذ يصل في قسوته حد الارتكاب1.
1 الأحكام العامة في القانون الجنائي أ. د. علي بدوي ص 72، 73.
ما عليه القانون في مصر:
أما ما عليه القانون في مصر، فهو التسوية بين الفعل والامتناع في ترتيب المسئولية الجنائية، متى توافرت علاقة السببية بين السلوك، والنتيجة بشرط أن يكون الامتناع مخالفًا لإلزام قانوني، أو أن الشخص الممتنع هو الذي أوجد الظروف التي أدت إلى وقوع الحادث.
فمن أدى إهماله إلى إشعال النار في مكان كان فيه طفل، وكان في وسعه إنقاذه إلا أنه تعمد تركه حتى يموت، فإنه يسأل عن قتل هذا الطفل عمدًا1.
ورأى رجال القانون في العقوبة على الجرائم التي تقع بالترك يتلاقى في جملته مع ما يراه الإمام أبو حنيفة، وإن كان الفقه الألماني قد توسع إلى حد ما في الجرائم التي تقع بالترك، عن القانون الفرنسي الحديث، أما القديم فإنه كان يقارب ما عليه جمهور الفقهاء الشرعيين الذين رأوا أن الالتزام الديني هو أساس ما يحاسب عليه الإنسان، ولذا فإن للالتزام الديني درجة ما للإلزام القضائي في القوانين الوضعية، من تحمل التبعة المحاسبة القانونية على كل ما ينص القانون على المحاسبة عليه.
1 الأحكام العامة في قانون العقوبات. أ. د: السعيد مصطفى سنة 46، 58.
قانون العقوبات أ. د: السعيد مصطفى ص269.
شرح قانون العقوبات القسم العام. أ. د: محمود نجيب حسني ص332.
شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص 62، 63 الجريمة للشيخ أبو زهرة ص147.