الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة في إثباته
أولا: إذا كان إثباتها عن طريق الإقرار
…
المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة في إثباته
سبق عند الحديث عن الإثبات أن الشريعة الإسلامية، قد حددت طرقًا معينة لإثبات الجنايات الحدية.
وتقدم ذكر ما يشترط في أدلة الإثبات بصفة تشمل إثبات جميع الجرائم الحدية.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإنه يشترط لإثبات جريمة الزنا، وإلزام الحد ما يأتي:
أولًا: إذا كان إثباتها عن طريق الإقرار
أذهب بعض الفقهاء إلى اشتراط أن يتعدد الإقرار بعدد ما يثبت به جريمة الزنا من شهود، وأن يكون كل إقرار في مجلس غير ما سبقه من إقرارات، أي أن يتعدد المجلس بتعدد الإقرار.
وذهب البعض إلى اشتراط تعدد الإقرارات، ولو في مجلس واحد، وقال فريق من الفقهاء: تثبت جريمة الزنا بإقرار واحد، ولكل حجة ودليل.
فقد ذهب فقهاء الحنابلة، والأحناف، وجمهور فقهاء الشيعة إلى اشتراط أن يكون الإقرار الذي تثبت به جريمة الزنا، أربع مرات، فلا يكفي الإقرار مرة واحدة لإثباتها، ووجوب الحد، واستدلوا لذلك بأدلة، منها ما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه: "من أن رجلًا من المسلمين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله إني زنيت،
فأعرض عنه حتى في ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجموه"1.
وقال أصحاب هذا الاتجاه: فلو كان الحد يلزم بالإقرار مرة واحدة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى2.
كما ثبت من روايات أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة"، وهذا تعليل منه يدل على أن الإقرارات الأربع هي الموجبة.
كما أن أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه، قال لمن جاء مقرًا بالزنا عند النبي صلى الله عليه وسلم: إن أقررت أربعًا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل من وجهين:
أحدهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره عن هذا ولم ينكره، فكان بمنزلة قوله:"لأنه لا يقر على الخطأ".
الثاني: أنه قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه وسلم، لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه3.
1 نيل الأوطار ج7 ص106.
2 المغني ج8 ص192.
3 يراجع في ذلك المغني ج8 ص192، مباني تكملة المنهاج ج1 ص173-175، فتح القدير ج5 ص218-219، نيل الأوطار ج7 ص106-111.
وزاد الإمام أبو حنيفة على ذلك اشتراط أن تكون أربعة إقرارات في أربعة مجالس متفرقة، بالنسبة للمقر نفسه، ويجوز أن كون القاضي الذي يحكم الواقعة في مكان واحد، ويحتسب مجيء المقر، وذهابه مرة.
ورأى أن ما يدل على ذلك هو ما سبق أن ذكره ابن قدامة، وأظهر منه في إفادة أن الإقرارات في مجالس ما في الصحيح، مما رواه الإمام مسلم، أن ماعزًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فرده، ثم أتاه الثانية من الغد، فرده ثم أرسل إلى قومه، فسألهم:"هل تعلمون بعقله بأسًا"؟ فقالوا: ما نعلمه، إلا وفي العقل من صالحينا، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضًا فسألهم:"فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة، فرجمه"1.
وذهب الشافعية والمالكية، وبعض فقهاء الشيعة إلى أن الزنا يثبت بالإقرار الواحد، واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب من أنيس إلا الذهاب إلى المرأة وسؤالها، فإن أقرت رجمها، ولم يقيد الرسول صلى الله عليه وسلم الإقرار بأن يكون أربع مرات.
وما ذكر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد راجع ماعزًا، حتى كرر إقراره أربع مرات، فإن ذلك راجع إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شك في عقله، وإذا فقد سأله:"أبك جنون"؟، وسأل أهله، وذويه من عقله أيضًا.
1 فتح القدير ج5 ص219-220، نيل الأوطار ج7 ص106-111.
واستدلوا أيضًا بما أخرجه مسلم، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت:"أنه صلى الله عليه وسلم رجم امرأة من جهينة، ولم تقر إلا مرة واحدة".
ومثل هذا كثير: "مما ذكره الشوكاني من المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الأجلاء".
وأما استدلال القائلين بأن يكون الإقرار أربع مرات قياسًا على شهادة الزنا؛ لأنها لا يعتبر فيها إلا أربعة شهود، استدلال لا تقوم به حجة؛ لأنه يلزم منه أن يعتر في الإقرار بالأموال، والحقوق أن يكون مرتين؛ لأن الشهادة في ذلك لا بد وأن تكون من رجلين، ولا يكفي فيها الرجل الواحد، واللازم باطل بإجماع المسلمين، فالملزوم مثله"1.
كما أن الشهادة إذا ثبتت بها الجريمة لم يعد في مقدور المشهود عليه دفع العقوبة عن نفسه بفعل، أو قول لا يرجع فيه إلى الشهود، أما في الإقرار، فإنه باستطاعة المقر أن يدفع الحد عن نفسه بالرجوع عن إقراره، ولو كان في أثناء تنفيذ الحد عليه.
وما ذهب إليه الأحناف والحنابلة، ومن وافقهم ما هو إلا من باب الاحتياط في الإثبات، أو قياسًا منهم للإقرار على الشهادة، وإعمالًا منهم لمبدأ الحد بالشبهة، أن من جاء طالبًا تطهير نفسه لن يثنيه عن ذلك مراجعة، وتعدد إقرار، ومن حاول تبرئة نفسه لن يعجزه ادعاء.
1 مغني المحتاج ج4 ص150، أسنى المطالب ج4 ص131، نيل الأوطار ج7 ص106-111، الخرشي ج8 ص80، حاشية الدسوقي ج4 ص318، مباني تكملة المنهاج ج1 ص175، ويراجع المغني ج8 ص191-193، فتح القدير ج5 ص218-222.
ب- أن يبدأ القاضي برجم الزاني المحصن:
إذا أقر من يعتد بإقراره عند القاضي بارتكابه جريمة الزنا الحدية، وكان محصنًا لزمه بإقراره هذا حد الرجم بما سبق من شروط، وقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى اشتراط أن يبدأ القاضي برجم المقر، واعتبر الإمام أبو حنيفة بدء القاضي بالرجم أمرًا واجبًا ولازمًا، فإن امتنع القاضي من أن يبدأ برجم المقر ترتب على امتناعه شبهة يندرئ الحد عن المقر بسببها؛ لأن امتناع القاضي قد يستشف منه رجوعه، عما قضى به على الجاني، لجواز أنه قصر في أمر القضاء، أو تساهل في بعض شروط القضاء بحد الرجم هذا.
وأورد ابن الهمام ما روي في ذلك، عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- من أنه قال:"فإذا كان وجوب الحد -بإقرار- بدأ هو -أي الحاكم، أو القاضي، فرجم ثم رجم الناس بعده".
كما روي قول الإمام علي -رضي الله تعالى عنه: "أيها اناس إن الزنا زناءان، زنا السر، وزنا العلانية، فزنا السر أن شهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي، ثم الإمام، ثم الناس، وزنا العلانية، أن يظهر الحبل، أو الاعتراف، فيكون الإمام أول من يرمي".
ثم يذكر ابن الهمام ما روي من أن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، كان أول من رمى سراحة بحجر، ورماها الناس.
ثم يقول ابن الهمام: "وإن يبتدئ هو -أي القاضي بالرجم- في الإقرار لينكشف للناس أنه لم يقصر في أمر القضاء، وبأنه لم يتساهل في بعض شروط القضاء بالحد، فإذا امتنع حينئذ ظهرت أمارة الرجوع، فامتنع الحد، لظهور شبهة تقصيره في القضاء، وهي
دارئه"1، وأجاب فقهاء الأحناف على ما وجه إليهم، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبدأ برجم ماعز -أجابوا" بأن التقصير من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر القضاء ومسائله، أمر غير وارد ومنتف تمامًا، وعليه فإن عدم بدئه صلى الله عليه وسلم برجم ماعز، لم يقم به شبهة، ولم يترتب عليه درء الحد2.
وذهب فقهاء الشافعية، والحنابلة إلى أن بدء القاضي بالرجم في الحد الذي ثبت بإقرار الجاني سنة، وليس بشرط.
وعليه، فإذا لم يبدأ القاضي بالرجم فيه، فلا يورث ذلك شبهة، ويجب استيفاء الحد، ويقوم به غير القاضي من الناس، فيقول الشربيني الخطيب عند حديثه عن الحد الواجب بالإقرار:"والسنة أن يبدأ الإمام بالرجم، ثم الناس، إذا ثبت بالإقرار"3، ويقول ابن قدامة:"والسنة أن يدور الناس حول المرجوم، فإن كان الزنا ثبت ببينة، فالسنة أن يبدأ بالرجم، وإن كان ثبت بإقرار، بدأ به الإمام أو الحاكم، إن كان ثبت عنده، ثم يرجم أناس بعده"4.
أما فقهاء المالكية، فإنهم لم يشترطوا قيام الإمام، أو القاضي بالبدء برجم المقر المقر بالزنا، لا على سبيل الوجوب، ولا من قبيل السنة، فقد أورد فقهاء المالكية أنه لم يعرف الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- بدء البينة
1 فتح القدير ج5 ص226-228، البحر الرائق ج5 ص9، المبسوط ج9 ص50-51.
2 فتح القدير ج5 ص228، البحر الرائق ج5 ص9-10.
3 مغني المحتاج ج2 ص152.
4 المغني ج8 ص159.
بالرجم، ثم من بعدهم الإمام أي الحاكم -ثم الناس عقبيه، والحديث الدال على ذلك، وقد تمسك أبو حنيفة لم يصح عند الإمام"1.
وما ذهب إليه فقهاء المالكية هو ما أرجحه؛ لأن احتمال تقصير الإمام في القضاء الذي تعلق به فقهاء الأحناف، أمر مشكوك فيه، ولا يترتب عليه إلزام المقر بشيء إذا رجع المقر عن إقراره، أما إذا لم يرجع المقر، فلن يغير من إلزامه الحد شيء قصر القاضي، أو لم يقصر.
كما أن ذلك لو كان واجبًا لما تخلف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لم يرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على ذلك في كل ما قضى به.
وأما رجمه لبعض من أقر فمن باب التعليم، ولبيان أن الرحمة الحقيقية في التزام ما شرع الله، وتنفيذه حتى ولو كان الرجم، وما روي عن الإمام علي رضي الله عنه، فقد يكون من باب الاجتهاد، ولتحري الحق وزجر الجناة، وإعلاء حدود الله.
1 الشرح الكبير، للدرديري بهامش حاشية الدسوقي، ج4 ص320 الخرشي ج8 ص82، المدونة ج16 ص41، وذكر محمد بن يوسف الشهير بالملوق عن مالك قوله: منذ أقامت الأئمة الحدود، فلم نعلم أحدًا منهم تولى ذلك بنفسه ولا ألزم ذلك البينة، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل ج6 ص295 "ط أولى مطبعة السعادة".