الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: شروط في الشهادة
يشترط في الشهادة التي تؤدى وتثبت بمقتضاها الجرائم الحدية، ويلزم الجاني بعقوبة ما اقترفه من الحدود ما يأتي:
1-
أن تكون واضحة مفصلة، دالة قاطعة، لا لبس فيها ولا خفاء: مفيدة على سبيل القطع، واليقين أن الجاني قد ارتكب جنايته بفعل يستحق معه العقاب المقرر حدًا، من لدن الشارع الحكيم.
وكون الشاهدة بهذه الصورة من الوضوح، أمر ضروري لما يترتب عليها من إثبات جنايات عقوباتها بالغة الشدة تصل حد القتل قصاصًا، أو الإهلاك رجمًا.
ولهذا فإن الفقهاء اشترطوا تحري الدقة، والوضوح في الشهادة، وألزموا القاضي الاستفسار من الشهود عن مكان الجريمة وزمانها، وعن الجاني وكيفية جنايته. وعمن وقعت عليه إلى آخر ذلك، مما ينتفي معه أي لبس أو شبهة1.
وقد ورد عن فقهاء الأحناف في ذلك كثير من النصوص، منها ما جاء عن البلبرقي2 شارحًا ما في الهداية: "وإذا شهدوا سألهم الإمام عن الزنا ما هو، احترازا عن الغلط في الماهية، وكيف هو، احترازًا عن الغلط في الكيفية، وأين زنى احترازًا عنه في المكان، ومتى
1 كما أنه على القاضي أيضًا أن يسأل المدعى عليه، عما يمكن له من عذر، أو شبهة قد يترتب على وجودهما، أو وجود أحدهما درء العقوبة عنه، أو تغايرها.
2 أكمل الدين محمد بن محمود البابرقي من علماء الفقه الحنفي، توفي سنة 786هـ.
زنى، احترازًا عنه في الزمان، وعن الزنية احترازًا عنه في المفعول به"، ويدل عن وجوب السؤال عن هذه الأشياء النقل، والعقل أما الأول فما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ماعزا إلى أن ذكر النون والكاف
…
لكونه صريحًا في الباب، والباقي كناية.
أما العقل؛ فلأن الاحتياط في ذلك واجب؛ لأنه إن كان الفعل في غير الفرج عناه، فلا يكون ماهية الزنا، ولا كيفيته موجودة، أو زنى في دار الحرب، وهو لا يوجب الحد، أو في المتقادم من الزمان، وذلك يسقط الحد، أو كان له في المزنية شبهة لم يطلع عليها الشهود كوطء جارية الابن، فيستقص في ذلك احتيالا للدرء1، كما ذكر السرخسي في الشهادة بالقذف: أن المقذوف إذا جاء بشاهدين، فشهدوا أنه قذفه سئلا عن ماهيته، وكيفيته؛ لأنهما شهدا بلفظ مبهم، فالقذف قد يكون بغير الزنا، فإن لم يزيدا على ذلك لم تقبل شهادتهما؛ لأن المشهود به غير معلوم"2.
كما يقول في الشهادة بالسرقة: "وإن شهد شاهدان على رجل بالسرقة سئلًا عنم ماهيتها وكيفيتها؛ لأن مبهم الاسم محتمل، فإن من يستمع كلام الغير سدا يسمى سارقًا.. ولأن المسروق قد يكون غير مال، وقد يكون محرزًا، أو غير محرزًا وقد يكون نصابًا وما دونه، فلا بد أن يسألهما عن الماهية والكيفية، وينبغي أن يسألهما متى سرق، وأين سرق كما بيناه في الزنا؛ لأن حد السرقة لا يقام بعد تقادم العهد، ولا يقام على من باشر السب في دار الحرب، فيسألهما عن ذلك"3.
1 شرح العناية على الهداية مع فتح القدير ج5 ص215-216 المبسوط ج9 ص61.
2 المبسوط ص106.
3 المبسوط ج9 ص142 شرح العناية مع فتح القدير ج5 ص362.
وقد أورد فقهاء الشافعية اشتراط ما سبق في الشهادة، فيقول الشيرازي: "ومن شهد بالجناية ذكر صفتها، فإن قال: ضربه بالسيف فمات، أو قال: ضربه بالسيف فوجدته ميتًا لم يثبت القتل بشهادته لجواز أن يكون مات من غير ضربه.. ومن شهد بالزنا ذكر الزاني، ومن زنى به؛ لأنه قد يراه على بهيمة
…
أو يراه على زوجته أو جارية ابنه، فيظن أنه زنى، ويذكر صفة الزنا، فإن لم يذكر أنه أولج، أو رأى ذكره في فرجها لم يحكم به
…
وإن شهد أربعة بالزنا، وفسر ثلاثة منهم الزنا، ومات واحد منهم قبل أن يفسر لم يجب الحد في المشهود عليه
…
ومن شهد بالسرقة ذكر السارق والمسررق منه، والحرز والنصاب وصفة السرقة؛ لأن الحكم يختلف باختلافها، فوجب ذكرها، ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس، فيما يصير به مرتدًا، فلم يجز الحكم قبل البيان، كما لا يحكم بالشهادة على جرح الشهود قبل بيان الجرح1.
وجاء مثل هذا أيضًا عن فقهاء والمالكية، إذ يقول الخرشي في شروط صحة الشهادة بالزنا: أنهم لا بد أن يشهدوا بزنا واحد في وقت واحد في موضع واحد برؤية واحدة، وأنه أدخل فرجه في فرج المرأة كالمرود في المكحلة2.
كما جاء في المدونة: قلت: أرأيت إن شهد أربعة على رجل بالزنا، فقال لهم القاضي: صفوا الزنا، فقالوا: لا نزيد على هذا القول.
أيقبل شهادتهم؟ قال: أخبرتك بقول مالك أنه قال: يكشفهم الإمام
1 المهذب ج2 ص336-339، مغني المحتاج ج4 ص138-177.
2 الخرشي ج7 ص199، حاشية الدسوقي ج4 ص186.
فإن وجد في شهادتهم من يدرأ به الحد درأه، قلت: فإن أبوا أن يكشفوا شهادتهم؟ قال: لا يقام الحد إلا بعد كشف الشهادة، وذلك رأيي1.
وقد جاء اشتراط وضوح الشهادة، وتفصيلها، واستفسار القاضي الشهود عن كل ما يمكن أن يكون شبهة تدرأ الحد، أو تسقط العقوبة، عن كل من فقهاء الحنابلة2، والشيعة3 أيضًا.
من هذا كله يتضح أن جمهور الفقهاء، يرون اشتراط تحري الدقة في الشهادة التي يثبت بها الحد، ووضوحها وبيانها للجناية المشهود عليها بيانا لا يبقى معه أدنى لبس، حتى يمكن أن يحكم القاضي بناء على هذه الشهادة بالعقوبة المقررة لما ارتكبه الجاني من الجرائم الحدية.
أما ابن حزم، فإنه يرى أن ما يجب أن يستفسر القاضي الشهود عنه هو ما لا تتم الشهادة إلا به، والذي إذا نقص لم تكن الأقوال التي قبلت شهادة، وإذا اختلف الشهود فيه بطلت شهادتهم، ولم تتم.
أما ما لا معنى لذكره في الشهادة ولا يحتاج إليه فيها، وتتم الشهادة مع السكوت عنه، فلا ينبغي أن يلتفت إليه، وسواء اختلفت الشهود فيه، أو لم يختلفوا، وسواء ذكروه، أو لم يذكروه -واختلافهم في قصة أخرى ليست من الشهادة في شيء، ولا فرق، فلما وجب هذا كان ذكر اللون في الشهادة لا معنى له، وكان أيضًا ذكر الوقت في الشهادة في الزنى وفي السرقة، وفي القذف وفي الخمر لا معنى
1 المدونة ج16 ص140.
2 المغني ج8 ص199.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص180.
له -وكان إيضًا ذكر المكان في كل ذلك لا معنى له، فكان اختلافهم في كل ذلك كاتفاقهم، كسكوتهم، ولا فرق؛ لأن الشهادة في كل ذلك تامة دون ذكر شيء من ذلك.
وحسب الشهود أن يقولوا: إنه زنى بامرأة أجنبية نعرفها أولج ذكره في قبلها رأينا ذلك فقط، ما أبالي قالوا: إنها سوداء أو بيضاء أو زرقاء، أو كحلاء مكرهة، أو طائعة، أمس، أو اليوم، أو منذ سنة، بمصر أو ببغداد.
وكذا لو اختلفوا في لون ثوبه حينئذ، أو لون عمامته، ويستدل لذلك ابن حزم، فيقول:"لم يقل الله تعالى قط، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم: لا تقبلوا الشهادة حتى يشهدوا على زنى واحد، في وقت واحد، في مكان واحد، وعلى سرقة واحدة بشيء واحد في وقت واحد، في مكان واحد، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} "19: 64"، وتالله لو أراد الله تعالى ذلك لما أهمله، ولا أغفله حتى بينه فلان وفلان، وحاش لله من هذا"1.
وقبل مناقشة ابن حزم، فيما ذهب إليه أحب أن أذكر هنا بأن ابن حزم قال بأن الحدود لا تدرأ بالشبهات، هذا مذهبه وقد سبقت مناقشته.
وأول ما يناقش فيه ابن حزم هو كونه لا يشترط في الشهادة أن تكون مبينة لحالة المزني بها، أهي طائعة أم مكرهة، وهذا ولا شك أمر ضروري الاستعلام عنه؛ لأنه وإن لم يؤثر بالنسبة للفاعل المختار، إلا أنه يترتب عليه بالغ الأثر بالنسبة له، وللمزني بها إن كان منهما
1 المحلى ج13 ص377-379.
مكرهًا: وكذا إن كانت هي وحدها المكرهة؛ لأن المكره قد رفع عنه القلم فيما عدا القتل1.
فما دامت أكرهت، فلا عقوبة عليها، فكيف تستوي الشهادة عليها إذا ذكر فيها كونها مكرهة، أو لم يذكر؟. إن إثبات إكراها أو طواعيتها إثبات لأمر جوهري يترتب عليه الإدانة، أو البراءة بالنسبة لها، ولا يخفى ما قد يكون في الإدانة من رجمها وإلحاق العار بأهلها، أما براءتها مما نسب إليها، فإنها مانعة من ذلك كله، فكيف يتسنى إذا أن يعد ابن حزم ذلك من الأمور التي لا يلتزم بيانها في الشهادة؟
أما تعلق ابن حزم بأن الله سبحانه وتعالى لم يقل ذلك قط، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو تعلق واه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد راجع ما جاء شاهدًا على نفسه، واستوضحه واستبان منه ما قد يكون خافيًا على الشاهد نفسه، وسأله عن أشياء، وأشياء حتى وصل به الأمر صلى الله عليه وسلم إلى النطق بكلمة لم يكن ليحب أن ينطق بها.
ما فائدة هذا كله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أن لم يترتب عليه درء العقوبة، أو تغايرها وهما من الأمور المقصودة من مراجعة الشهود، واستبانتهم، واستيضاحهم.
وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم لينطق بذلك كله عبثًا، أو مضيعة للوقت حاش لله.
وابن حزم لم يأبه بقول بعض الشهود -إنهم رأوا الجاني يزني بامرأة أجنبية- في بلد كذا، أو قول الباقي منهم -المكمل للعدد المطلوب في الشهادة- لا بل رأيناه يزني بها في بلد آخر.
1 القرطبي ج5 ص3801.
مع أن قول بعض الشهود في بلد كذا، وقول الباقين لا بل في بلد آخر شهادة بواقعتين مختلفتين لا بواقعة واحدة، ولا بد للشهادة بكل واحد من الواقعتين من أربعة شهود حتى يقام الحد، كما هو متفق عليه، ولا يجوز أن يقام حد بشهادة أربعة شهود كل منهم قد رأى واقعة، غير التي رآها غيره من باقي الشهود، كما لا يخفى أن من جاء يشهد بواقعة زنا قد وقعت منذ سنة، ولم يمنعه مانع من الشهادة بها وقتها، يجب أن يستوضح، ويسأل عن سبب تأخره في الإدلاء بما رأى خصوصًا، وأن الشهادة بهذا تقام حسبة، وتأخيرها بلا سبب جوهري يورث شكًا في من جاء يشهد، وفي الوقائع التي يشهد بها، وعلى ذلك فما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع.
2-
أن تكون الشهادة مفيدة لليقين بحيث لا يظهر ما يعارضها، ولو ظاهرًا: فإن ظهر ما يعارضها، ولو في الظاهر فإن الفقهاء قد رأوا في إثباتها للحد ما يأتي:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الشهادة إذا وجد ما يعارضها، ولو في الظاهر تصبح محلًا للشبهة، ولا تفيد اليقين والقطع، ولهذا فإنه لا يعول عليها في إثبات جناية من الجنايات الحدية، وقد أورد ابن الهمام في هذا قوله:"وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا، وهي بكر بأن نظر النساء إليها، فقلن: هي بكر درئ عنهما أن عن المشهود عليهما بالزنا، وعنهم أي، ويدرأ حد القذف عن المشهود"1.
وقد وضح السرخسي هذ بقوله: "إن نظر إليها النساء قبل إقامة الحد، وقلن: هي عذراء أو رتقاء يدرأ عنها الحد؛ لأن الشبهة
1 فتح القدير ج5 ص288.
تتمكن بقول النساء، ولا شبهة أبلغ من هذا، فمع الرتق لا يتصور الزنا الموجب للحد، وبعد الزنا الموجب للحد لا يتصور بقاء العذرة"1.
كما يقول: "وإن شهد أربعة على رجل أنه زنى بهذه المرأة في موضع كذا في وقت كذا، وشهد أربعة أنه زنى بهذه المرأة الأخرى في ذلك الوقت بعينه في مكان آخر، والبينتان بينهما بعد لم يحد واحد منهم؛ لأن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين، والشخصان في وقت واحد لا يتصور أن يكونا في مكانين مختلفين، ولا يعرف الصادق من الكاذب".
"وإن شهد أربعة أنه زنى يوم النحر بمكة بفلانة، وشهد أربعة أنه قتل يوم النحر بالكوفة فلانا لم تقبل واحدة من الشهادتين، لتيقن القاضي بكذب أحد الفريقين، ولا حد على شهود الزنا لتكامل عددهم، وعلى هذا سائر الأحكام2.
وما ذهب إليه فقهاء الأحناف هو ما قال به فقهاء الشافعية، والحنابلة والشيعة، وبعض فقهاء المالكية.
فيقول الشربيني الخطيب: ولو شهد أربعة من الرجال بزناها، وأربع نسوة أو رجلان، كما قال البلقيني، أو رجل وامرأتان كما قاله غيره، أنها عذراء، لم تحد هي لشبهة بقاء العذرة، والحد يدرأ بالشبهات؛ لأن الظاهر من حالها أنها لم توطأ، ولا قاذفيها لقيام البينة بزناها، واحتمال عودة بكارتها لترك المبالغة في الافتضاض.
قال البلقيني: هذا إذا لم تكن غوراء يمكن تغيب الحشفة مع بقاء البكارة، فإن كان كذلك حدث لثبوت الزنا، وعدم التنافي، "هذا
1 المبسوط ج9 ص50.
2 المرجع السابق ص68، 69.
ما ذهب إليه فقهاء الشافعية، وأن كان منهم من قيد عدم حد قاذفيها بما إذا كان بين الشهادتين زمن بعيد يمكن العذرة فيه.
فإن شهدوا أنها زنت الساعة، وشهدن بأنها عذراء، وجب حد الشهود؛ لأنهم قذفوها لقيام ما يخالف ما شهدوا به1، وإن كنت أرى عدم حدهم حد القذف؛ لأن الطب الشرعي قد ذهب إلى إمكان حدوث الإيلاج مع بقاء غشاء البكارة إذا كان من النوع الذي يطلقون عليه الغشاء الهلالي2، ولا حد عليها نظرًا لقيام ما يعارض ما شهد به الشهود، ولو في الظاهر، إذ الحدود تدرأ بالشبهات.
ووافق فقهاء الحنابلة ما ذهب إليه الجمهور، إذ رأوا أنه لا حد على من شهد النساء ببكارتها، وكذا لا حد على من قامت البينة أنه مجبوب؛ لأن وجود مثل ذلك يعارض إمكان وقوع الجريمة الحدية.
واكتفى فقهاء الحنابلة بوجود امرأة واحدة تشهد ببقاء العذرة، يقول ابن قدامة بعد عرضه آراء الفقهاء في ذلك:
"ولنا أن البكارة تثبت بشهادة النساء، ووجودها يمنع من الزنا ظاهرًا.. وإذا انتفى الزنا لم يجب الحد، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه بالزنا مجبوب، وإنما لم يجب الحد على الشهود لكمال عددهم مع احتمال صدقهم.. ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة؛ لأن شهادتها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال3.
وجاء عن فقهاء الشيعة: إذا شهد أربعة رجال على امرأة بكر بالزنا
1 مغني المحتاج ج4 ص151.
2 ذكر أستاذي الدكتور سلام مدكور، أنه قد درس ذلك في كتاب الطب الشرعي للدكتور محمد سليمان.
3 المغني ج8 ص208، 209، 62.
قبلا وأنكرت المرأة، وادعت أنها بكر، فشهدت أربع نسوة بأنها بكر، سقط عنها الحد.
واستدلوا لذلك بما روي من أنه أتى أمير المؤمنين بامرأة بكر زعموا أنها زنت، فأمر النساء فنظرن إليها فقلن، هي عذراء، فقال: ما كنت لأخرب من عليها خاتم من الله، وفقهاء الشيعة لم يكتفوا بشهادة امرأة واحدة كما ذهب إليه فقهاء الحنابلة، وإنما اشترطوا لاعتبار ذلك شبهة، أن يشهد أربع نسوة ببكارتها.
ولا حد أيضًا عندهم على من شهدوا على هذه المرأة بالزنا، لاكتمال عدد الشهود1.
أما ابن حزم الذي لا يدرأ الحد بالشبهة، فإنه قد فصل القول فيمن شهد عليها أربعة بالزنا، ثم شهد أربع نسوة أنها عذراء، فقال: قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} 2. فواجب إذا كانت الشهادة عندنا -في ظاهرها حقًا، ولم يأت شيء يبطلها أن يحكم بها، وإذا صح عندنا أنها ليست حقا، ففرض علينا أن لا نحكم بها، إذ لا يحل الحكم بالباطل، هذا هو الحق الذي لا شك فيه.
ثم نظرنا في الشهود لها أنها عذراء، فوجب أن يقرر النساء على صفة عذرتها، فإن قلن: إنها عذرة، يبطلها إيلاج الحشفة ولا بد، وأنه صفاق3 عند باب الفرج، فقد أيقنا بكذب الشهود، وأنهم وهموا فلا يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم.
1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص182-183.
2 من الآية 135 من سورة النساء.
3 الصفاق ج صفق: الجلد الأسفل دون الجلد الذي يسلخ، وثوب صفيق كثيف نسجه، والمراد أن غشاء البكارة لم يسلخ، المنجد مادة "صفيق".
وإن قلن: أنها عذرة واغلة في داخل الفرج، لا يبطلها إيلاج الحشفة، فقد أمكن صدق الشهود، إذ بإيلاج الحشفة يجب الحد، فيقام الحد عليها حينئذ؛ لأنه لم نتيقن كذب الشهود، ولا وهمهم.
أما جمهور فقهاء المالكية، فإنهم قد ذهبوا إلى أن من شهد أربعة رجال بأنها زنت، فإنها تحد ولا تسقط عنها الحد إلا إذا شهد أربعة رجال أنها عذراء.
أما لو قالت: هي أنها عذراء أو رتقاء، وشهد بهذا أربع نسوة، فإن الحد لا يسقط
عنها.
فقد جاء في المدونة، "قلت: أرأيت المرأة إذا شهد عليها بالزنا أربعة عدول، فقالت: أنها عذراء أو رتقاء، تريها للنساء في قول مالك أم لا؟ ".
وكيف إذا نظر النساء، فقلن: هي عذراء أو رتقاء؟ قال: يقام عليها الحد ولا يلتفت إلى قولهن؛ لأن الحد قد وجب2، وقال الخرشي:"ولو ادعت المرأة بقاء بكارتها، أو أنها رتقاء، أو نظر إليها أربع نسوة وصدقناها على ذلك، فلا يسقط الحد المترتب عليها بشهادة البينة، ولم يقام على العذرة أربعة رجال لسقط الحد"3.
وذهب اللخمي4 إلى القول بأن من شهد أربعة نسوة ببكارتها يسقط عنها الحد، كما لو شهد الرجال بذلك، وقال المانعون لإسقاط
1 المحلى ج3 ص244-246.
2 المدونة ج16 ص50.
3 الخرشي ج8 ص81.
4 أو الحسن علي بن محمد الربعي، فقيه مالكي، قيرواني الأصل من أحسن مصنفاته، تعليق كبير على المدونة في فقه مالك سماه النصرة ت سنة 478هـ.
الحد، إن شهادة النساء أو الرجال على بقاء بكارتها صحيحة، ولكنها لا تسقط الحد؛ لأنها بكارة قد عادت، وهذا لا يتعارض مع إثبات زناها بشهادة الرجال ابتداء1.
كما ذهب فقهاء المالكية إلى إلزام من ثبت عليه حد السرقة بعقوبة القطع، حتى ولو قال: إن صاحب المال هو الذي أرسله، وجاء صاحب المال، وصدقه في مقالته هذه ورد شهادة الشهود، وكذبهم.
ما لم تكن مع السارق بينة على صدق مقالته، حتى ولو كانت هذه البينة هي القرينة المصاحبة لفعله بأن دخل من مداخل الناس، وخرج من مخاربهم، في وقت يشبه أن صاحب المال أرسل فيه، ذكر ذلك الخرشي في حديثه عن السرقة التي يلزم بها القطع، فقال:"وكذا يقطع السارق إذا أخذ في الليل المتاع المسروق، وقال: رب المتاع أرسلني لأخذه، فلا يصدق، ولو صدقه رب المتاع أنه أرسله".
وهذا مشروط بعدم وجود دليل غير كلام صاحب المال، أما إذا وجد دليل يقوي مقالته سقط الحد عن السارق2، وما ذكره فقهاء المالكية هنا، وفي عدم إسقاط حد الزنا بشهادة النساء بالبكارة يحتاج إلى مناقشة.
أما بالنسبة لعدم إسقاطهم الحد بوجود البكارة، واعتمادهم في ذلك على جواز أنها عادت بعد واقعة الزنا، فهو مردود؛ لأنه وإن أمكن عودة البكارة، فليس هناك دليل على ذهابها أصلًا سوى شهادة شهود الزنا، وهي شهادة احتملت الشبهة بوجود البكارة فعلًا.
وليس عندنا ما يؤكد أن البكارة الموجودة هي بكارة، قد عادت بعد أن فضت.
1 حاشية الدسوقي ج2 ص319.
2 الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ص336.
واحتمال الشهادة للشبهة يجعلها غير صالحة لإثبات الحدود علمًا بأن فقهاء المالكية، قد أقروا وأثبتوا درء الحدود بالشبهات، كما أن محاولة قياس إيغال العذرة، أو عدم إيغالها أمر فيه عنت، وتكلف ثمرته افتضاح عرض وهتك ستر، وذها ولا شك يتنافى، ومقاصد الشريعة الإسلامية، التي تدعو إلى الستر، فمن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كم أعرض بوجهه عمن جاء مقرًا على نفسه بجريمة حدية.
وعلى هذا، فبقاء العذرة شبهة تدرأ الحد.
أما لو أقر الرجل، والمرأة بواقعة الزنا، وكانا من أهل الإقرار الصحيح الذي يعتد به في إثبات الحدود، وأصروا على إقرارهما بالزنا لزمهما الحد حتى ولو قرر العدول أنة غشاء البكارة موجود؛ لأن اقرار العدول، وشهادتهم لا مبرر لوجودها أصلًا، فلا يلتفت إليها ما دام من أقرا بالواقعة مصرين على إقرارهما.
أما عدم إسقاط المالكية عقوبة القطع بقول صاحب المال: أنه هو الذي أرسل من أخذ المال، وعدم اعتبارهم لهذا القول -نظرًا؛ لأن السارق في رأيهم- قد دخل البيت من طريق غير معهود، أو في وقت غير مناسب- فهو قول ليس له من سند يقويه، أو دليل يدل عليه.
إن إقرار صاحب المال بذلك بينة يقينية يجب ألا تترك لمجرد افتراض واه.
كما أن قول صاحب المال، وإن لم يكن بينة يقينية -على سبيل الفرض، فهو يورث شبهة في حق آخذ المال، وهي شبهة يسقط عنه الحد بسببها.
أما آخذ المال، وإن أخطأ ودخل الدار من مدخل غير مناسب، أو في وقت غير مناسب، فهذ الخطأ -جدلًا- لا يترتب عليه إلزام حد
من الحدود، التي لا تقام إلا باليقين، وحتى من لم يثبتوا درء الحد بالشبهة من فقهاء الظاهرة، قد رأوا أن الحدود لا تثبت بالشبهة.
فما بال من أثبت درء الحد بالشبهة يقيم الحد بالشبهة، ولا يدرأه مع وجودهما؟.
3 يشترط فقهاء الأحناف أن تكون الشهادة بالجناية الحدية عقب وقوع الجناية من الجاني، ولا يمر وقت فاصل بين وقوع الجناية، وآداء الشهادة بها يعد تقادمًا1.
وقد تقدم بيان هذا عند الحديث عن الإقرار.
أما جمهور الفقهاء، فإنهم لا يرون هذا الشرط، ويقبلون الشهادة بالحدود القديمة، ويحكمون بمقتضاها الحدية المقررة للجناية التي ارتكبها الجاني.
فقد جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن تقادمت السرقة، فشهدوا عليها بعد حين من الزمان، أيقطع في قول مالك أم لا؟ قال: نعم يقطع عند مالك، وأن تقادمت، قلت: وكذلك الحدود كلها، شرب الخمر والزنا؟ قال: نعم لا يبطل الحد في شيء مما ذكرت لك، وإن تقادم ذلك تطاول الزمان2.
كما جاء عن فقهاء الشافعية أنه لا يشترط جباة الشهود، ولا حضورهم حالة الحكم، ولا قرب عهد الزنا، فتقبل الشهادة به، وأن تطاول الزمان3.
1 تبين الحقائق ج3 ص187، الإفصاح عن معاني الصحاح ج2 ص419 فتح القدير ج5 ص279، البحر الرائق ج5 ص22.
2 المدونة ج16 ص67، 68.
3 مغني المحتاج ج4 ص151.
وقال ابن قدامة مبينًا رأي جمهور فقهاء الحنابلة: "وأن شهدوا بزنا قديم، أو أقر به وجب الحد".
واستدل لذلك بعموم الآيات، وأنه حق يقبت على الفور، فيثبت بالبينة بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق، وبأن التأخير يجوز أن يكون لعذر، أو غيبة والحد لا يسقط بمطلق الاحتمال، فإنه لو سقط بكل احتمال لم يجب الحد أصلًا1.
من هذا يبين أن جمهور الفقهاء لم يوافقوا على ما اشترطه فقهاء الأحناف.
ورأي فقهاء الجمهور أن الحدود تثبت بالشهادة، وإن تقادمت هذه الحدود.
واستدل فقهاء الجمهور لذلك بأدلة منها: أن الفقهاء عدا ابن أبي ليلى يرون قبل الإقرار بالجنايات الحدية القديمة، والحكم بمقتضاه بعقوبة هذه الجنايات، والإقرار والشهادة كلاهما وسيلة إثبات في الحدود، فلم يقبل الإقرار فيما تقادم من حدود وترد الشهادة، علمًا بأنه اشترط في الشهود العدالة، فما دام لم تحقق هذا الشرط قبلت الشهادة واعتد بها، وإن انتفت عدالة الشهود، فهذا أمر آخر غير التأخير.
كما أنه لا يخفى أن فقهاء الأحناف يرون قبول الشهادة بما وقع على حقوق العباد من جنايات حدية قديمة، فلم إذا ردوها في ما وقع الاعتداء فيه على حق الله؟.
إن كون حق الله سبحانه وتعالى مبني على المسامحة، لا تنهض به حجة لهم على رد الشهادة، فيما تقادم منه.
1 المغني ج8 ص207.
"شروط لا بد من توافره، فيمن يشهد عليه بحد من الحدود":
ما سبق من شروط كان موضوعها الشاهد والشهادة، أما هذا الشرط، فإنه خاص بالمشهود عليه.
وقد ذهب فقهاء الأحناف إلى أنه لا بد لإثبات الحد بشهادة الشهود أن يكون المشهود عليه قادرًا على الدفاع عنه نفسه، مستطيعًا ذكر ما قد يكون له من الأدلة التي تنفي عنه، أو تسقط عقوبتها، أو تغايرها من عقوبة حدية إلى غيرها.
فإن كان عاجزًا عن الدفاع عن نفسه بسبب علة من العلل، كأن أصيب بجنون مثلًا، أو كان أخرس فإنه حينئذ يصبح عاجزًا عن ذكر ما يدرأ عنه العقوبة، وعليه فإنه إن كان مجنونا، وجب الانتظار حتى يفيق، ويسأل عما شهد به الشهود عليه.
فإن استمر جنونه حتى مات، سقط عنه الحد بموته، أما الأخرس فإنه لا يلزمه حد بشهادة الشهود عليه لجواز أن له ما لو ذكره لدرئ عنه الحد، ولكنه -بسبب علته هذه لا يستطيع ذكر ذلك.
أما الإمام الشافعي، فإنه لا يرى ذلك بالنسبة للأخرس، وقاسه بالأعمى، أو بقاطع اليدين، أو الرجلين، فجعل علته كعلتهما، وألزمه الحد بشهادة الشهود مع علته مثلهم، واحتمل كلام الخرقي1، ما ذكره الشافعي من إلزام الأخرس بشهادة الشهود عليه به، لكنه علل هذا بأن قول المشهود عليه معتبر مع قيام البينة عليه بجناية من الجنايات.
1 الخرقي: هو أبو القاسم عمر بن حسين بن عبد الله، أحمد الخرقي فقيه حنبلي، من أهل بغداد له تصانيف منها المختصر في الفقه، توفيى بدمشق سنة 334هـ.
ذكر هذا ابن قدامة عند حديثه عن وجوب الحد على الأخرس بإقراره، أو بالبينة فقال: ولا يجب بالبينة لاحتمال أن يكون له شبهة، ويحتمل كلام الخرقي أن لا يجب الحد بإقراره؛ لأنه غير صحيح؛ ولأن الحد لا يجب مع الشبهة، والإشارة لا تنتفي معها الشبهات، فأما البينة فيجب عليه بها الحد؛ لأن قوله معها غير معتبر1، وجملة القول أن الإمام الشافعي يرى إلزام الأخرس بما قامت البينة به من الجنايات الحدية قياسًا للأخرس بالأعمى، والأقطع.
أما الخرقي فإنه يرى أن البينة التي تقوم بحد من الحدود لا عبرة بما يقال من المشهود في دفع الحد عن نفسه، فقيام البينة يدفع قول المتهم، ويلزمه الحد.
وما ذهب إليه الإمام الشافعي من قياس الأخرس بالأعمى، والأقطع قياس غير منضبط إذ أن الأعمى، والأقطع بإمكان كل منهما أن يرد الحد عن نفسه، إذا كانت له حجة، أو شبهة لوجود آلة الكلام صحيحة لديهما، وإمكان سؤالهما ومراجعتهما، وذلك هو طريق الدفع عن النفس، وذكر الشبهة أن وجدت. والأخرس فاقد لذلك، وعاجز عن بيان حقيقة فعله وملابسته.
ثم إن قول الخرقي: أن قول المشهود عليه لا عبرة له مع البينة قول بحاجة إلى بيان؛ لأن المشهود عليه يجوز أن يكون له ما يدفع عنه العقوبة، وقد خفي هذا عن المشهود، فهلا إذا ذكره وبينه لا يلتفت إليه؟
إن فيما سبق من كلام فقهاء الحنابلة في الشبهة ما يرد قول الخرقي، وينفيه ويؤكد أن للمشهود عليه أن يقول ما شاء مما يدفع عنه العقوبة، وأن على القاضي أن يسمع له، وينظر في مقالته، أما فقهاء
1 المغني ج8 ص196.
الأحناف، فقد استدلوا لما ذهبوا إليه من إسقاط الحد عن الأخرس، والمجنون بأن كلا منهما ربما تكون له شبهة تدرء عنه الحد، وليس في إمكانهما ذكرها لعلة كل منهما، فيقول السرخسي: ولا يؤخذ الأخرس بحد الزنا، ولا بشيء من الحدود.
وإن أقر بإشارة أو كتابة، أو شهدت به عليه الشهود، وعند الشافعي رحمة الله عليه تعالى يؤخذ بذلك؛ لأنه نفس مخاطبة فهو كالأعمى، أو أقطع اليدين أو الرجلين.. إلى أن يقول: وكذلك أن شهدت الشهود عليه بذلك؛ لأنه لو كان ناطقًا ربما يدعى شبهة تدرء الحد، وليس كل ما يكون في نفسه على إظهاره بالإشارة، فلو أقمنا عليه كان إقامة الحد مع تمكن الشبهة، ولا يوجد مثله في الأعمى، والأقطع لتمكنه من إظهاره دعوى الشبهة.
والذي يجن ويفيق في حال إقامته كغيره من الأصحاء، يلزمه الحد بالزنا في هذه الحالة سواء أقر به، أو شهد عليه الشهود1.
كما يقول ابن الهمام في حديثه عن إقرار الأخرس: لو أقر الأخرس بالزنا بكتابة، أو بإشارة لا يحد للشبهة بعد الصراحة، وكذا الشهادة عليه لا تقبل لاحتمال أن يدعي شبهة، كما لو شهدوا على مجنون أنه زنى في حال إفاقته، بخلاف الأعمى صح إقراره، والشهادة عليه2.
هذا ما ذكره فقهاء الأحناف في إيجاب الحد على الأخرس بشهادة الشهود، وقد تقدم في الحديث عن إقرار الأخرس إن اختررت قبول إقراره في الحدود، والحكم بعقوباتها إن كان قادرًا على الكتابة، وسأله الإمام عن كل ما يمكن أن يكون من شبهة مسقطة للحد عنه بأن كتب
1 المبسوط ج9 ص98.
2 فتح القدير ج5 ص218.
له الإمام ذلك، فقرأه الأخرس، وأجاب عليه كتابة بما يفيد اليقين بأنه ارتكب الجناية الحدية.
ومثل ذلك هنا أيضًا في إيجاب على الأخرس بشهادة الشهود في حالة ما إذا كان قارئًا، وكاتبًا واستفسر منه الإمام عن كل ما يدفع الحد عنه، فلم يجب بشيء يدفع هذا الحد.
أما لو كتب للقاضي بشبهة من الشبه، فإن على القاضي تحقيق الأمر، واعتبار ما ذكره الأخرس كتابة، فإن كان يسقط الحد عنه أسقطه القاضي، وإن كان يدرء الحد فقط، ويرى القاضي عقابه تعزيريًا عاقبه بعقوبة تعزيرية؛ لأن الأخرس والحالة هذه قد أصبح لديه ما يمكنه من توضيح موقفه، والدفاع عن نفسه.