الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي
أولا: القذف بطريق الكتابة أو التعريض
…
المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي
نتج من اختلاف فقهاء الشريعة في تعريف القذف، وإيراد البعض شروطًا لم يرها الآخرون، وعدم اتفاقهم في إيجاب الحد ببعض صيغ القذف من الكنايات أو التعريض، شبهات تعتري الركن الشرعي للجريمة، يترتب عليها درء العقوبة الحدية، ويأتي في مقدمة هذه الشبهات، ما ترتب على اختلاف الفقهاء في إيجاب الحد على من قذف بلفظ يحتمل القذف وغيره، ثم ما اشترطه بعض الفقهاء من شروط في المقذوف.
أولًا: القذف بطريق الكتابة، أو التعريض
يرى فقهاء المالكية وجوب حد القذف على من عرض بآخر، إذا فهم المراد من التعريض، كان عليه قرينة ما من القرائن، ما لم يكن المعرض أبا للمقذوف، فيقول الخرشي:"اعلم أن التعريض المفهم لأحد الأمور الثلاثة المتقدمة، وهي: الزنا واللواط، ونفي النسب عن الأب، أو الجد كالتصريح بذلك، فإذا قال له: ما أنا بزان فكأنه قال له: يا زاني، أو قال: أما أنا فلست بلائط، فكأنه قال له: يا لائط، وقال له: أما أنا فأبي معروف، فكأنه قال له: أبوك ليس بمعروف، فيترتب على قول ذلك وجوب الحد، ولا فرق في التعريض بين النثر، والنظم، وأما الأب إذا عرض لولده، فإنه لا يجد لذلك لبعده عن التهمة في ولده، ولا أدب"1.
1 الخرشي ج8 ص87، حاشية الدسوقي ج4 ص327.
وجاء عن الإمام أحمد في أحد رأييه، أن حد القذف يجب في التعريض، وقد روي ذلك عن عمر -رضي الله تعالى عنه، فقد حكم على من عرض بآخر بالجلد ثمانين1.
وقد أورد جانبا من ذلك ابن حزم، حين عرض أدلة من رأى ذلك، وذكر أن رجلين استبا في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه: فقال أحدهما: ما أبي بزان، ولا أمي بزانية، فاستفتى في ذلك عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه، وأمه مدح سوى هذا، نرى أن يجلد الحد، فجلده عمر ثمانين"2.
وروي أن عمر -رضي الله تعالى عنه، قد قال في شأن هذا الرجل:
"قد عرض بصاحبه"، وكان عمر يجلد في التعريض3.
كما ذكر ابن خزم أن رجلًا في إمارة عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- قال لآخر: أنت تسري على جاراتك، فلما سئل القائل: عن قصده بذلك قال: والله ما أردت الانخلات كان يسرقهن، فحده عمر بن عبد العزيز4.
ورأى القائلون بوجوب الحد بالتعريض، أن الحد إنما يجب في القذف لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، وعليه فإذا حصلت المعرة بالتعريض، صار التعريض قذفًا كالصريح، ووجب به الحد.
فوجود المعرة سبب يوجب الحد المسبب عنه5؛ ولأن الكناية مع
1 المغني ج8 ص222.
2 المحلى ج13 ص268.
3 المغني ج8 ص222، المحلى ج13 ص267.
4 المحلى ج13 ص268.
5 القرطبي -الجامع لأحكام القرآن ج5 ص4565.
القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها، كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى، ولذلك وقع الطلاق بالكناية1.
وذهب جمهور الفقهاء إلى القول بقصر وجوب الحد على القذف الصريح، فإذا لم يكن اللفظ صريحًا في القذف، فلا حد على قائله كتابة، كان هذا اللفظ المستعمل أو تعريضًا، فقد جاء عن فقهاء الأحناف:"لو قال رجل لآخر: يا فاسق يا خبيث، أو يا فاجر أو يا ابن الفاجر، أو يا ابن القحبة، فلا حد عليه؛ لأنه ما نسبه، ولا أمه إلى صريح الزنا، فالفجور قد يكون بالزنا وغير الزنا، والقحبة من يكون منها ذلك الفعل، فلا يكون هذا قذفًا بصريح الزنا: فلو أوجبنا به الحد إنما يوجب بالقياس، ولا مدخل لقياس في الحد"، وقالوا أيضًا: "وإذا قال له: فجرت بفلانه وجامعتها، أو فعلت بها فسمي الفحش لم يكن عليه في ذلك حد؛ لأنه ما صرح بالقذف بالزنا، وفي الأسباب الموجبة للحد يعتبر عين النص، فما لم يقذفه بصريح الزنا لا يتقرر السبب2، وإذا عرض بالزنا، فقال: أما أنا فلست بزان، فلا حد عليه.. وإن قال له: أخبرت أنك زان فلا حد عليه؛ لأنه ما نسبه إلى الزنا، وإنما حكى خبر مخبر، والخبر قد يكون صدقًا وقد يكون كذبًا، فالمخبر يكون حكاية للقذف عن الغير لا قاذفًا3.
وقال ابن حزم بعد أن عرض آراء القائلين بوجوب حد القذف بالتعريض، ورد عليها:"وصح أن لا حد في التعريض أصلًا"4.
1 المغني ج8 ص222.
2 فمن لفق صورة لشخص توخى بوضع الزنا، يدخل أيضا ضمن من لم يقذفه بلفظ صريح، واعتبر ذلك من باب التعريض والكناية.
3 المبسوط، ج9 ص119، 120، فتح القدير ج5 ص317، البحر الرائق ج5 ص33.
4 المحلى ج13 ص275-279.
وذكر ابن قدامة أن الإمام أحمد، قد روي عنه أنه لا حد في التعريض بالقذف، ولا حد إلا على من صرح، فقال: "وكلام الخرقي يقتضي أن لا يجب الحد على القاذف، إلا بلفظ صريح لا يحتمل غير القذف، وهو أن يقول: يا زاني أو ينطق باللفظ الحقيقي في الجماع، فأما ما عداه من الألفاط، فيرجع فيه إلى تفسيره لما ذكرنا في هاتين المسألتين، فلو قال: يا مخنث أو لامرأة يا قحبة وفسره بما ليس بقذف مثل أن يريد بالمخنث أن فيه طباع التأنيث، والتشبه بالنساء، وبالقحبة أنها تستعد لذلك، فلا حد عليه، وكذلك إذا قال: يا فاجرة يا خبيثة.
وحكى أبو الخطاب في هذا رواية أخرى، أنه قذف صريح، ويجب به الحد، والصحيح الأول قال أحمد في رواية حنبل: لا أرى الحد إلا على من جرح بالقذف والشتيمة، قال ابن المنذر: الحد على من نصب الحد نصبًا؛ ولأنه قول غير الزنا، فلم يكن صريحًا في القذف كقوله: يا فاسق، وإن فسر شيئًا من ذلك بالزنا، فلا شك في كونه مقذفًا"1.
وذكر فقهاء الشافعية أنه لا حد في القذف بالكتابة، إلا إذا نوى القائل القذف، وإثبات ذلك يحتاج إلى مراجعة القائل لبيان قصده ونيته.
أما التعريض، فقد جاء فيه رأيان عندهم، أحدهما أنه ليس بقذف؛ لأن الله علق الحد على الزنا، والثاني أنه يجب به الحد2، وذكر
1 المغني ج8 ص221، 222.
2 لما روى الأشعث بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا أوتي برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته"، المهذب ج2 ص273، 275.
فقهاء الشيعة أن القذف هو الرمي بالزنا، أو اللواط، وما يؤدي معنى ذلك1.
واستدل القائلون بعد إلزام حد القذف بالكناية، أو التعريض بأدلة كثيرة منها:
1-
ما روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلامًا أسود -وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه- وفي رواية وأنا أنكره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: أحمر، قال: فهل فيها من أوراق؟ قال: نعم، فيها ذو ورق: قال: مما ذاك ترى؟ قال: لا أدري لعله أن يكون نزعة عرق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذا لعله أن يكون نزعه عرق"، ولم يرخص له في الانتفاء منه، ولم يلزمه بذلك حدا ولا غيره، رواه البخاري عن أبي هريرة2.
2-
روي أن معاذ بن جبل، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قالا جميعًا: ليس الحد إلا في الكلمة ليس لها مصرف، وليس لها إلا وجه واحد.
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "إذا بلغ الحد -لعل عسى- فالحد معطل3.
3-
روي أن رجلًا شاتم رجلًا، فقال: يا بن شامة الوذر -يعني ذكور الرجال، فقال له عثمان: أشهد عليه؟ فرفعه إلى عمر، فجعل الرجل يقع في عثمان، فينال منه، فقال عمر: أعرض عن ذكر
1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص252.
2 المحلى ج13 ص273، المغني ج8 ص222 صحيح البخاري، ج7 ص68، 69 باب اللعان.
3 المحلى ج13 ص250، 251.
عثمان، فجعل الرجل لا ينزع، فعلاه عمر بالدرة وقال: أعرض عن ذكر عثمان، وسأل عن أم الرجل، فإذا هي قد تزوجت أزواجًا، فدرأ عنه الحد1.
4-
فرق الله سبحانه وتعالى بين التعريض بالخطبه والتصريح بها، فأباح التعريض بها في العدة، وحرم التصريح -فكذلك في القذف.
فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} 2، فإذا ثبت من الشرع نفي اتحاد حكمهما في غير الحد، لم يجز أن يعتبر التعريض كالتصريح، على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه3.
وما ذهب إليه جمهور الفقهاء، هو ما أرجحه وأميل إليه لقوة ما استدلوا به، وموافقته لما أقره القرآن الكريم من التفريق بين حكم كل من التصريح، والتعريض، وما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومقالته لمن جاء ينفي ابنه، وعدم إلزامه عقوبة بذلك يدرأ كل ما استدل به فقهاء المالكية، ولجواز حمله على أن ذلك اجتهاد، من عمر -رضي الله تعالى عنه- بدليل استشارته أصحابه، وهو مع ذلك: لا يقوى على معارضه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث صحيح، معغ أن القرائن الصارفة التعريض إلى حد التصريح قائمة، وواضحة في حديث ومقالته.
كما أن الخلاف ها هنا قد اعتمد على أدلة قوية فإن لم ينف وجوب الحد فلا أقل من أن يورث شبهة تدرأ العقوبة المقدرة، وقد سبق الحديث عن شبهة الجهة، عند بيان ما يلحق الركن الشرعي من شبهات، وهي هنا بارزة واضحة وقوية.
1 المرجع السابق ص269.
2 من الآية 235 من سورة البقرة.
3 فتح القدير ج5 ص317، المغني ج8 ص222- المحلى ج13 ص372.