الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: شروط في الإقرار
يشترط في الإقرار الذي يعتبره الفقهاء دليل إثبات جنائي ما يأتي:
1 أن يكون الإقرار مبينا مفصلًا ظاهرًا لا يحتمل اللبس، أو التأويل دالا دلالة يقينية تفيد القطع بأن من يقر قد ارتكب الجناية التي جاء مقرا بها.
يدل على هذا مراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم ماعزًا، فقد سأله الرسول صلى الله عليه وسلم، واستوضح منه حقيقة الفعل الذي وقع منه إلى حد أنه صلى الله عليه وسلم نطق بلفظه ما كان يجب النطق بها، لولا تحريه لدقة، وبيان صحة ما أقر به ماعز1.
مستهدفًا صلى الله عليه وسلم من ذلك أن يكون الإقرار صحيحًا واضحًا لا لبس فيه، ولا احتمال لأمر خفي يمكن أن يكون شبهة تدرء الحد عن المقر.
فلو احتمل الإقرار اللبس، أو التأويل، أو شابه شيء من الغموض أو الخفاء، اعتبر ذلك شبهة قد تدرء الحد عن المقر لوقوفها حائلًا بينه، وبين إلزامه العقوبة الحدية.
وقد بين الفقهاء اشتراط وضوح الإقرار، والاستفسار من المقر عما كان منه، وكيفيته، وزمانه، ومكانه.
فيقول المرغيناني: "فإذا تم إقراره سأله عن الزنا ما هو؟ وكيف هو؟ وأين زنى؟ وبمن زنى؟ "2.
ويقول الشربيني الخطيب عند حديثه عن شروط الإقرار المثبت جريمة السرقة: "إأن يفضل الإقرار كالشهادة، فيبين السرقة والمسروق منه، وقدر المسروق والحرز بتعيين أو وصف، بخلاف ما إذا لم يبين ذلك؛ لأنه قد يظن غير السرقة الموجبة للقطع سرقة موجبة له"3، واشتراط ذلك في الإقرار بالسرقة الموجبة للحد ليس خاصًا بها وحدها
1 سبل السلام للصنعاني ج4 ص7، 8 نيل الأوطار ج7 ص111، 113.
2 الهداية مع فتح القدير ج5 ص215-222، ويراجع المغني ج8 ص193.
3 مغني المحتاج ج4 ص175.
وإنما ينسحب اشتراط ذلك على كل إقرار تثبت به جريمة حدية، ويلزم المقر على أثر إقراره بالعقوبة المحددة من لدن الشارع الحكيم.
من هنا كان قول جمهور الفقهاء بعدم الاعتداد بإقرار الأخرس بإشارته، حتى ولو كانت الإشارة مفهمة؛ لأنها تحتمل الشبهة، ولا يفيد القطع واليقين، إذ هي تحتمل ما فهم منها وغيره، واحتمالها لذلك يجعلها إشارة غير مفيدة اليقين، وإقرار كهذا لا يعد دليل إثبات جناية حدية لاحتماله الشبهة التي يندرئ بها الحد.
يقول ابن قدامة: "وأما الأخرس، فإن لم تفهم إشارته، فلا يتصور منه إقرار، وإن فهمت إشارته، فقال القاضي: عليه الحد وهو قول الشافعي، وابن القاسم صاحب مالك، وأبي ثور وابن المنذر؛ لأن من صح إقراره بغير الزنا صح إقراره به كالنطق، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحد بإقرار ولا بينة؛ لأن الإشارة تحتمل ما فهم منها وغيره، فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات، ولا يجب بالبينة لاحتماله أن يكون له شبهة لا يمكنه التعبير عنها، ولا يعرف كونها شبهة، ويحتمل كلام الخرقي أن لا يجب الحد بإقراره؛ لأنه غير صحيح؛ ولأن الحد لا يجب مع الشبهة، والإشارة لا تنتفي معها الشبهات"1.
هذا ما قال به جمهور الفقهاء الذين يرون عدم الاعتداد بإقرار الأخرس في إثبات الجرائم الحدية.
أما من قالوا بالاعتداد به أن أفهم قياسًا منهم على أنه ثبت به غير الزنا، فكلمة غير هنا عامة، ويجوز أن يقصد بها أنه يثبت به بعض الجنايات غير الحدية، وحتى لو جاز أنهم يقصرون بغير لازنا بعض الجنايات الحدية الأخرى، فإنها لو ثبت بإشارة الأخرس لما لزم بهذا
1 المغني ج8 ص196، المبسوط ج9 ص98.
الجنايات الحدية الأخرى، فإنها لو ثبت بإشارة الأخرس لما لزم بهذا الإثبات الحد لاحتمال الشهبة، وهؤلاء الفقهاء الذين ذكر ابن قدامة أنهم يعتدون بإشارة الأخرس المفهم، قد ورد عنهم القوم بدرء الحدود بالشبهات، وإشارة الأخرس لا تخلو عن شبهة.
هذا وإن كنت أميل إلى أن الأخرس لو كان يحسن الكتابة، والقراءة فكتب إقراره، ثم راجعه القاضي عن طريق الكتابة، واستفسر منه عن كل ما يمكن الاستفسار عنه، فأجاب الأخرس كتابة عن كل ذلك، وكانت إجاباته واضحة مفيدة ارتكابه الجناية الحدية إفادة واضحة، وصلت بالقاضي إلى حد اليقين، فإنه والحالة هذه تلزمه العقوبة الحدية بإقراره بهذه الصورة.
أما إذا لم يكن الأخرس يعرف الكتابة، فإنه لا يمكن أن تفيد إشارته الإقرار القاطع الذي يثبت به الحد؛ لأنها إشارة لا تفيد اليقين، وتبقى الشبهة عالقة بها، وعليه فإن الحد يندرئ عنه، ولا يلزمه.
2 ألا يوجد ما يعارض صحة الإقرار أو يثبت نفيه؛ لأن وجود ما يعارض صحة الإقرار ينفي عن الإقرار صفة القطعية، ويلحق به شبهة، ومثل هذا لا يصلح دليل إثبات جنايته من الجنايات الحدية، فمن يقر بأنه سرق ذهبًا مثلًا من خزينة فلان الموجودة بمكان كذا، فأرسل القاضي يطلب صاحب الخزينة الذي حدده السارق في إقراره، فجاء الرجل وذكر بأنه ليست له خزينة في المكان الذي ذكر المقر، وظهر أن المكان لا يوجد فيه ما يسرق منه، أو ثبت أن الخزينة التي حددها المقر لم تفتح، ولم يسرق منها شيء، فإن مثل هذا الإقرار لا يعتد به، ولا يلزم المقر بمقتضاه العقوبة الحدية.
ومثل هذا أيضًا من يقر بأنه قتل فلانًا، فإذا بالذي زعم المقر أنه قتله حي يرزق، أو كان هذا الذي زعم المقر بأنه قتله موجودًا بمكان
لا يمكن أن يصل إليه فيه المقر، أو كان الشخص الذي زعم المقر بأنه قتله بالأمس قد مات منذ فترة بعيدة، أو أقر بأنه قد ذبحه بسكين، فإذ به قد مات موتًا طبيعيًا، وكان أهله بجواره، وهو يعالج سكرات الموت.
وكما لو أقر بأنه زنى بفلانة، وظهرت رتقاء، أو ظهر أنه مجبوب، فالإقرار في كل هذا وقد وجد ما يعارضه، وينفي عنه صفة القطعية التي هي شرط للاعتداد به، والحكم بمقتضاه.
وقد بين هذا ما ذكره ابن نجيم عند الحديث عن شروط الإقرار الذي يعتد به في إثبات الجنايات الحدية، فقال:"أن لا يظهر كذبه في إقراره، فلو أقر فظهر مجبوبًا، أو أقرت فظهرت رتقاء، وذلك بأنه تخبر النساء بأنها رتقاء قبل الحد اندرء الحد، وذلك؛ لأن إخبارهن بالرتق يوجد شبهة"1.
فوجود الشبهة في الإقرار أو وجود ما يعارضه أولى بالاعتداد به من الإقرار نفسه؛ لأن الأصل براءة الذمة، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل ثابت يقيني لا يوجد ما يعارضه، أو يوهن منه2.
3 يجب أن ييستمر الإقرار قائمًا من المقر بالصورة التي تفيد اليقين، وتبقى ثبوت الإقرار حتى يتم تنفيذ العقوبة الحدية.
1 البحر الرائق ج5 ص7، كما جاء في المبسوط ج9 ص98 "ط بيروت"، وإن أقر المجبوب بالزنا لا يحد؛ لأنا نتيقن بكذبه، فالمجبوب ليس معه آلة الزنا، والمتيقن بكذبه أكثر تأثيرًا من رجوعه عن الإقرار.
2 الأشباه والنظائر للسيوطي ص59، الطرق الحكمية لابن قيم ص82-83.
فإذا رجع المقر عن إقراره، أو نتفت عن الإقرار صفة القطعية قبل تنفيذ العقوبة الحدية، أو أثناء تنفيذها، فإن جمهور الفقهاء يرى إسقاط العقوبة الحدية، أو ما بقي منها، إذا لم يكن هناك دليل إثبات لهذه الواقعة غير إقرار المقر، وكان الاعتداء قد وقع على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى.
سواء أكان رجوع المقر عن إقراره رجوعا صريحا، أم كان رجوعا ضمنيا، وإن كان الرجوع الضمني يحتاج إلى استيضاح واستفسار.
هذا إجمال لوجهة نظر الفقهاء في رجوع المقر تحتاج إلى شيء من التفصيل والبيان أورده فيما يأتي:
الرجوع عن الإقرار:
الرجوع عن الإقرار إما أن يكون صريحا أو غير صريح، فالرجوع الصريح يتحقق بقول المقر: كذبت في إقراري، أو رجعت عنه، أو لم أفعل ما أقررت به.
والمقر الذي رجع في إقراره إما أن يكون قد أقر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي تدرء بالشبهات، وأما أن يكون قد أقر بحق من حقوق العباد، أو بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي لا تسقط بالشبهات، كالزكاة والكفارات، فإن كان قد أقر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي تدرء بالشبهات، فإن جمهور الفقهاء يرون إسقاط الحد عنه برجوعه عن إقراره بما يوجبه.
واستدلوا لذلك بما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقن المقر بالسرقة الرجوع عن إقراره، وذلك حين أتى -صلى الله عليه
وسلم- بلص، فاعتراف اعترافًا ولم يوجد معه المتاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أخالك سرقت"؟.
فلو لم يكن لرجوع المقر عن إقراره أثر في إسقاط الحد عنه لما لقنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك1.
كما استدل الجمهور: لما ذهبوا إليه أيضًا بما روي عن أن ماعزا لما وجد مس الحجارة صرخ، وقال: يا قوم ردوني إلى رسول الله -صل الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني، وغروني من نفسي، وفي رواية أخرى أنه فر، فتبعه المسلمون ولم يتركوه حتى قتل، فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه قال:"فهلا تركتموه، وجئتموني به".
يقول الشوكاني: "استدل به على أنه يقبل من المقر الرجوع عن الإقرار، ويسقط عنه الحد، وإلى ذلك ذهب أحمد والشافعية، والحنفية والعترة، وهو مروي عن مالك في قول له2.
1 يقول الشوكاني عن هذا الحديث: قال الحافظ في بلوغ المرام: رجاله ثقات ثم يقول: وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة، منها عن أبي الدرداء: أنه أتي بجارية سرقت، فقال لها: أسرقت؟ قولي: لا، فخلى سبيلها، وعن عطاء عن عبد الرازق أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قل: لا وسمى أبا بكر وعمر، وأخرج أيضًا عن عمر بن الخطاب أتي برجل، فسأله: قل: لا، فقال: لا، فتركه.
وعن أبي هريرة عند أبي شيبة أن أبا هريرة أتي بسارق، فقال: أسرقت؟ قل: لا مرتين أو ثلاثًا، وعن أبي مسعود الأنصاري في جامع سفيان أن امرأة سرقت جملًا فقال: أسرقت؟ قولي: لا.. وفي ذلك دليل على أنه يستحب تلقين ما يسقط الحد، نيل الأوطار ج7 ص150-151.
2 المراجع السابق ص114-116.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، بالنسبة لمن أقر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، ثم رجع عن إقراره في حالة ما إذا كان الحق يسقط بالشبهة، أما من أقر بحق من حقوق العباد، أو بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي لا تسقط، بالشبهة ثم رجع في إقراره، فإنه لا أثر لرجوعه هذا، ويلزم بما أقر به، نظرًا؛ لأنه قد ألزم نفسه بحق للغير الذي يمكن أن يكذبه في رجوعه، ويطالب بحقه؛ ولأن حقوق العباد مبنية على المشاحة، وما دام قد ثبت له فلا يمكن إسقاطه بغير رضاه، هذا ما ذهب إليه الجمهور، وإن كان هناك من الفقهاء من لا يعتد بالرجوع مطلقًا، سواء أقر بحق الله تعالى أم بحق للعبد، وهؤلاء قد قاسوا عدم إسقاط حق الله بالرجوع عن الإقرار بحق العبد في ذلك، وقد أورد ابن نجيم رأي الجمهور في قوله:"فإن رجع عن إقراره قبل الحد، أو في وسطه خلى سبيله؛ لأن الرجوع خبر محتمل للصدق كالإقرار، وليس أحد يكذبه فيه فتحقق الشبهة بالإقرار، بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص، وحد القذف لوجود من يكذبه، ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع"1، كما ذكر الشيرازي: أن من أقر بحق لآدمي، أو بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة، ثم رجع في إقراره لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره، فلم يملك إسقاطه بغير رضاه، وإن أقره بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظرت، فإن كان حد الزنا، أو حد الشرب قبل رجوعه2، والإمام مالك -رضي الله تعالى عنه، وإن قال بسقوط الحد الذي وجب حقا لله سبحانه وتعالى بإقرار المقر على نفسه إذا رجع عن اقراره، إلا أنه قد ورد عنه في إحدى الروايات اشتراط أن يرجع المقر عن إقراره لوجود شبهة، أما لو رجع عن إقراره لغيره شبهة، فلا يعتد برجوعه هذا، ويلزم الحد الواجب حقًا لله تعالى3.
1 البحر الرائق ج5 ص8 فتح القدير ج5 ص223.
2 المهذب ج2 ص352 مغني المحتاج ج4 ص150.
3 يقول ابن رشد القرطبي مبينا ذلك: وفصل مالك، فقال: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه: وأما إن رجع إلى غير شبهة، فعنه في ذلك روايتان إحداهما يقبل، وهي الرواية المشهور والثانية لا يقبل رجوعه بداية المجتهد ج2 ص474، والموطأ ص245، وقد ذكر الدردير أن المقر بالسرقة أو الزاني، أو الشارب، أو المحارب إذا رجع عن إقراره قبل رجوعه سواء أكان رجوعه لشبهة أم لا، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ج4 ص355.
وقد ذكر الشوكاني أن ابن أبي ليلى، والبتي وأبو ثور، ورواية عن مالك، وقول الشافعي أنه لا يقبل الرجوع عن الإقرار بعد كماله، سواء أكان الحد الذي وجب بالإقرار حقا لله تعالى، أم كان حقًا للآدمي قياسًا لحق الله سبحانه وتعالى بحقوق الآدميين التي لا يسقط برجوع المقر عن إقراره بها، وثبوتها عليه1.
وذهب فقهاء الشيعة الجعفرية إلى أن رجوع المقر عن إقراره، لا يترتب عليه إسقاط حد من الحدود التي وجبت عليه بإقراره، إلا في حالة ما إذا كان الحد الواجب بالإقرار هو الرجم، فإن المقر إذا رجع عن إقراره هذا سقط عنه الرجم، وألزم عقوبة الجلد الحدية بدل الرجم.
فالرجوع عن الإقرار لا أثر له عندهم، إلا في هذا فقط بالنسبة للعقوبات الحدية.
فقد ذكر أبو القاسم الموسوي أنه: لو أقر شخص بما يوجب
1 نيل الأوطار ج7 ص116، ويراجع المهذب ج2 ص352، مغني المحتاج ج4 ص150.
رجمه، ثم جحد سقط عنه الرجم دون الحد، ولو أقر بها يوجب الحد غير الرجم، ثم أنكر لم يسقط1.
وقول أبي القاسم الموسوي محل نظر؛ لأنه قد ذكر عند حديثه، عن ثبوت الحد بشهادة الشهود: أن الحد إذا ثبت بشهادة الشهود، ثم رجعوا قبل الحكم، أو قبل استيفاء الحد لم يقم الحد؛ لأن رجوع الشاهد يحقق الشبهة، والحدود تدرء بالشبهات.
فإذا كان رجوع الشاهد تنتج عنه شبهة تدرء الحد، فكيف برجوع المقر؟ لا شك أن رجوع المقر أولى بإنتاج الشبهة من رجوع الشاهد؛ لأن الشاهد يرجع نتيجة مساومته على ذلك، ورجوع المقر قد يكون ناتجًا عن اكتشافه حقيقة فعله الذي ارتكبه، ومعرفته أن هذا الفعل لا تقوم به الجريمة التي أقر بها، وليس هناك مبرر لاعبتار الشبهة برجوع الشهود، ونفي قيامها برجوع المقر.
هذه مقالة الفقهاء في رجوع المقر عن إقراره رجوعًا صريحًا.
أما لو كان الرجوع عن الإقرار غير صريح كهروب الذي يقام عليه الحد مثلًا، فإن جمهور الفقهاء يرى أن هذا الهروب يعتبر رجوعًا عن الإقرار، ويترتب عليه إسقاط العقوبة الحدية -هذا ما ذهب إليه فقهاء الأحناف، والمالكية والحنابلة.
1 واستدل لذلك بما روي عن صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله -رضي الله تعالى عنه- في رجل أقر على نفسه عند الإمام أنه سرق في جحد قطعت يده. وإن رغم أنفه، وإن أقر على نفسه أنه شرب خمرًا، أو بقرية فاجلدوه ثمانين جلدة، قلت: فإن أقر على نفسه بحد يجب فيه الرجم، أكنت راجمًا؟ فقال: لا ولكن كنت ضاربه الحد، مباني تكملة المنهاج ج1 ص176.
مستدلين بما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن تتبع ماعزًا عند هروبه: "هلا تركتموه".
فالأئمة الثلاثة يعتبرون أن مجرد الهروب عند التنفيذ دليل رجوع المقر عن إقراره، وبذا يسقط عنه الحد دون حاجة إلى التصريح بالرجوع1.
أما جمهور فقهاء الشافعية، فإنهم يرون أن هروب المقر أثناء إقامة الحد عليه لا تعتبر رجوعًا إذا صرح بذلك.
وعليه فإن الهروب يقتضي أن يوقف تنفيذ الحد، أو إتمامه حتى يسأل الهارب، ويستفسر منه عن سبب هروبه، فإن صرح بالرجوع عن الإقرار قبل رجوعه، وسقط عنه الحد، أو ما بقي منه، وإن لم يصرح بالرجوع ألزم الحد أو ما بقي منه، واستدل فقهاء الشافعية لما ذهبوا إليه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلزم من تتبع ماعزا حتى قتله الدية.
إذ لو كان الهروب وحده كافيًا في إسقاط الحد من غير تصريح بالرجوع لكان هؤلاء قد قتلوا، وعليه يلزمون دية من قتلوه.
وقيام شبهة وجوب الحد عليه، وهي التي درءت عنهم القصاص، ولكنها لا تدرء
الدية2.
1 تبين الحقائق ج3 ص167، بدائع الصنائع ج7 ص61، 232، شرح الزرقاني ج8 ص81، 107، بداية المجتهد ج2 ص474 المغني ج8 ص197.
2 أسنى المطالب ج4 ص132، وذكر الشيرازي، أن من وجد ألم الحد فهرب فالأولى أن يخلى؛ لأنه ومما رجع عن الإقرار، فيسقط عنه الحد المهذب ج2 ص345، نيل الأوطار ج7 ص116.
وما ذهب إليه جمهور فقهاء الشافعية، من أن هروب المقر عند تنفيذ الحد من غير تصريح بالرجوع عن الإقرار، لا يعد شبهة مسقطة للعقوبة الحدية هو الرأي الذي يناسب مقام إنزال العقوبة الحدية بالجاني، نظرًا؛ لأن هذه العقوبة من أشق العقوبات، وأشدها إيلامًا بالبدن، والنفس، وقد يحاول الجاني الذي يقام عليه الحد التخلص من آلامه الجسدية بصورة، أو بأخرى دون ما شعور، ومن غير قصد الرجوع عن الإقرار.
ومن هنا كان لا بد من أن يستفسر ممن هرب عند تنفيذ العقوبة الحدية عليه، ويسأل عن قصده وسبب هروبه، فإن صرح بالرجوع عن إقراره قبل منه، واعتبر ذلك شبهة تنتج إسقاط العقوبة الحدية عنه، وإن لم يصرح بالرجوع ألزم الحد طالمال لم يوجد ما يعول عليه في إسقاطه.
هذه هي مقالة الفقهاء في الاعتداد برجوع المقر عن إقراره، واعتباره شبهة تسقط العقوبة الحدية، وهو ما ذهب إليه جمهورهم، أو عدم اعتباره شبهة، وإعمال الإقرار الذي كان منه، وإلزامه العقوبة الحدية، وعدم الالتفات إلى ما كان من رجوعه عن إقراره، سواء أكان قد أقر بحق الله سبحانه وتعالى، أو بحق العبد.
والرأي ما ذهب إليه الجمهور، أما ما ذهب إليه غير الجمهور من عدم الاعتداد برجوع المقر، فهو مجانب لما تقتضيه طبيعة التقنينات الحدية، وما سبق عرضه، والاستدلال عليه من درء الحد بالشبهة.
ولقد ساق هؤلاء أدلة على ما ذهبوا إليه، وهي أدلة لا يقوم بها دليل على قضيتهم، لما يأتي:
أولًا: استدل المانعون اعتبار الرجوع شبهة تدرء الحد، بما كان من شأن من تتبعوا ماعزا حتى قتلوه، ولم يلزمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته، أو عقوبة ما من العقوبات.
وليس في هذا دليل لهم على قضيتهم؛ لأنه ما كان من ماعز ما هو إلا رجوع ضمني، وليس رجوعًا صريحًا.
فمن تتبع ماعزا لم يتتبعه لعدم قبول رجوعه عن إقراره، وإنما تتبعه؛ لأنه لم يصرح برجوعه، إذ لم يرجع ماعزا رجوعًا صريحًا، كل ما هنالك أنه لما وجد مس الحجارة هرب، وقد فهم من تتبعواه أنه فر من الحد، لا أنه رجع عن إقراره، ولو سلمنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلزم أصحاب ماعز بديته، فذلكح مبني على أساس ما كان لهؤلاء من شبهة عدم الرجوع الصريح لجواز أنهم فهموا أن الهروب ناتج عن الآلام، ومس الحجارة، وبناء عليه تتبعوه، ومما لا يخفى أن مثل هذا يترتب عليه شبهة، وشك في القصد الجنائي، والشك فسر لصالح المتهم كما أنه يجوز أنه ورثة ماعز -أن كان له ورثة- قد استنكفوا أخذ ديته، سواء من الذين تتبعوه، أو من بيت مال المسلمين.
أو أن ماعزا لم يكن له ورثة، وفي مثل هذه الحالة تجب ديته لبيت المال، فإذا كان من تتبعوه هم الذين سيتحملون الدية، فإنه من حق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم منها، فيجوز أنه عليه الصلاة والسلام قد عفاهم منها.
وإن كان بيت المال هو الذي سيتحملها، فما الفائدة أن يدفع بيت المال لبيت المال.
وفوق هذا كله يمكن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضى بشيء من شأن دية ماعز، ونظر؛ لأن المقام لم يتطلب الحديث عن الدية، فإن الرواة لم يتعرضوا لذكر شيء عنها لانشغالهم بما هو أهم من جوانب قضية ماعز.
ثانيًا: قاس مانعوا اعتبار الرجوع عن الإقرار شبهة يسقط بها الحد الواجب حقا لله سبحانه وتعالى، ما يجب حقًا لله تعالى بما يجب حقا للأفراد مما لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به، وقالوا:
أن حق الله سبحانه وتعالى كسائر الحقوق التي نجب بالإقرار، فلا يقبل الرجوع عن الإقرار به، كما لا يقبل الرجوع عن الإقرار بها، وعليه فلا تعتبر الرجوع شبهة يندرئ بها الحد الواجب حقا لله سبحانه وتعالى، وقياسهم حقوق الله سبحانه وتعالى بحقوق العباد في ذلك قياس غير منضبط لعدم اتحاد العلة في كل: إذ أن حقوق الله سبحانه مبنية على المسامحة، أما حقوق العباد
فالأصل فيها المشاحة والمنع، كما أن القياس ما هو إلا استنباط حكم بإعمال العقل بشروط معينة، وإعمال العقل حتى مع هذه الشروط المعينة يحتمل الخطأ، فالقياس يفيد غلبة الظن، ولا يفيد اليقين1، ومثل هذا لا يجوز إعماله في استنباط حكم من أحكام الحدود، من هذا يبين رجحان القول باعتبار الرجوع عن الإقرار شبهة تندرئ بها الحد الواجب حقًا لله سبحانه وتعالى.
وهو يتفق ومبادئ الشريعة التي تحض على ستر المؤمن إذا وجدت له مندوحة، وتؤكد على براءة المدعى عليه طالما أم دليل إدانته، وخصوصًا في الإدانة بالجرائم الحدية دليل غير قطعي تعتريه الشبهات.
4 ذهب القاضي ابن أبي ليلى2 إلى اشتراط أن يكون الإقرار الذي تثبت به الجريمة الحية، عقب وقوع الجريمة، بحيث لا يفصل بينه وبينها مدة تعد تقادمًا، فإن وقع الإقرار من الجاني بعد
1 أصول الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص146، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج4 ص54.
2 القاضي ابن أبي ليلى، هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى من الفقهاء الذين يميلون إلى إعمال الرأي، ولي القضاء بالكوفة للأمويين، ثم للعباسيين طوال فترة 23 سنة، ولد عام 74هـ، وتوفي عام 148هـ.
وفيات الأعيان ج1 ص453 "ط المطبعة الميمنية بمصر سنة 1310 هـ".
ارتكابه الجريمة بمدة يعتبرها تقادمًا، فلا يعد هذا الإقرار مثبتًا لجريمة من الجرائم الحدية، التي وقع الاعتداء على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى.
ومبنى ذلك عنده أن الهدف الأساسي للعقوبة الحدية هو الردع، والزجر لكل من المجتمع والجاني، ولا يتحقق هذا الهدف في رأيه إلا إذا وقعت العقوبة بعد الجناية مباشرة، كما أنه يرى أن الجاني الذي جاء مقرا بجنايته بعد مضي فترة تعد تقادمًا على ارتكابه لها، لا شك أنه قد جاء بدافع من ضميره، ووازع من دينه بعد أن تاب وأناب.
وذهب الإمام أبو حنيفة، ووافقه أبو يوسف إلى أن تأخير الإقرار بجريمة الشرب يدفع الأخذ به، لا يعد عندهما دليل إثبات جريمة شرب، فلا يقيمان به حدها.
أما الإمام مالك، والإمام الشافعي والإمام أحمد، ومحمد بن الحسن، فإنهم يرون أن الإقرار بالجرائم الحدية المتقادمة يلزم به الحد، ولا يطعن في صحة كون الجاني قد تأخر في الإدلاء به.
وقد حكى ابن الهمام آراء الفقهاء هذه في قوله: "والحاصل أن في الشهادة بالحدود القديمة، والإقرار بها أربعة مذاهب:
الأول: رد الشهادة بها، وقبول الإقرار بما سوى الشرب، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف.
والثاني: ردها وقبول الإقرار بالشرب القديم كالزنا والسرقة، وهو قول ابن الحسن.
الثالث: قبولهما، وهو قول الشافعي، ومالك، وأحمد.
والرابع: ردهما، نقل عن ابن أبي ليلى1.
1 فتح القدير ج5 ص279، البحر الرائق ج5 ص22.
وما استدل به ابن أبي ليلى لا تقوم به حجة على رد الإقرار المتأخر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، التي يلزم الحد بالاعتداء عليه؛ لأن الردع والزجر لا ينقص منهما أن يكونا بعد حدوث الجريمة بمدة تعد تقادمًا؛ لأن زجر الجاني يتحقق بإقامة الحد عليه سواء أكان عقب وقوع الجريمة، أم بعدها بمدة طويلة، كما أن المجتمع يتحقق ردعه بأن يرى العقوبة الحدية تقام، ولا ينفي هذا الردع كون الجريمة المعاقب عليها جريمة قديمة؛ لأن المقول بانتفاء الردع هنا، وإسقاط العقوبة بمقتضاه يفتح الباب أمام المجرمين، فيرتكبون جرائمهم، ثم يهربون فإذا انتقضت مدة تعد تقادمًا عادوا، وهم آمنون من العقوبة الحدية طبقًا لقول ابن أبي ليلى؛ لأن الردع والزجر لا يتحققان كما يرى لكونهما عقوبة على جريمة قديمة.
ولا يخفى ما ذكر من خلاف بين الفقهاء في مسألة الردع، والزجر هذه، إذ أن الظاهرية لا يولون حدوث هذا اعتبار ما في الحد، وإيجابه إذ هم لا يبحثون عن تعليل، أو أهداف للعقوبة الحدية1.
كما أن ما ذكره ابن أبي ليلى من حديث عن توبة من جاء مقرًا بجريمة قديمة، وأثر هذه التوبة، وصحوة الضمير إذ أنهما لا يعدان من ضمن أسباب إسقاط العقوبة الحدية، أو شبهة من الشبهات التي يندرئ بها الحد إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزم الغامدية الحد، وهي التي تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، كما أخبر بهذا
المغني ج8 ص207، ويراجع التقادم، وأثره في الدعوى، والعقوبة لأستاذي الدكتور سلام مدكور، منشور بمجلة العدل بالإمارت عدد يناير سنة 1980.
1 المحلى ج13 ص89.
الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى أن إقامة الحد على الغامدية قد جاء بعد فوات مدة طويلة هي مدة حملها، وإرضاعها1.
وهي مدة تعد تقادمًا طبقا لما ذكره فقهاء الأحناف الذي ذهبوا مذهب ثلاثة في هنا.
الأول: ويقول به الإمام أبو حنيفة، ونقله عنه أو يوسف في قوله: عهدنا بأبي حنيفة أن يقدر لنا فلم يفعل، وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر، فما يراه بعد مجانبة الهوى تفريطًا تقادما، وما لا يعد تفريط، وأحوال الناس والعرف تختلف في ذلك.
الثاني: ويقول به محمد بن الحسن أن المدة التي تعد تأخيرًا هي شهر؛ لأن ما دون الشهر يعتبر عاجلًا، وما بعده لا يعتبر كذلك.
وقد ذكر ابن الهمام حين قال: وعن محمد أنه قدره بشهر؛ لأن ما دونه عاجل
…
قال أبو حنيفة: لو سأل القاضي الشهود متى زنى بها، فقالوا: منذ أقل من شهر أقيم الحد، وإن قالوا: شهر أو أكثر، درئ عنه.
الثالث: يعتبر أن مدة التقادم ستة أشهر؛ لأنه لا تسمع شهادة الشهود بعد حين، وفسر الحين بأنه ستة أشهر2.
وتقدير التقادم طبقًا لما يراه القاضي رأي منطقي إذ أن الأحوال تختلف من جناية لأخرى، ومن بلد لآخر
…
فما يراه قوم تقادما قد لا يراه آخرون، بالإضافة إلى أن الجرائم قد تتفشى في وقت ما، أو مكان ما، الأمر الذي يتقضي أن يوضع من النظم، والتقديرات ما يكفل
1 نيل الأوطار ج7 ص123.
2 فتح القدير ج5 ص282، 303، البحر الرائق ج5 ص22.
القضاء على كل ما يؤذي المجتمع ويوقع الضرر به، ويشعر معه الجاني أنه معاقب على جريمته مهما بلغ من التحايل.
ولا يعقل ما يرى تقادمًا في جناية الخمر عند البعض من زوال رائحتها من فم الشرب، حتى ولو ثبتت بالشهادة، لا شك أن القول بهذا يفتح باب الغواية إذ أن هذه الجريمة تفتح أبواب ارتكاب الجرائم الأخرى، وإسقاط عقوبتها بزوال رائحة الخمر من فم الشارب قبل إقراره، أو إقامة البينة عليه يوقع في خطر، ويلحق بالمجتمع أضرار لا تحد عواقبها، ولا يخفى ما ذكره أبو حنيفة عند تفويضه لرأي القاضي في ذلك، بأن جعل ذلك مشروطًا بمجانبة الهوى، وهو شرط جوهري للفصل في ما يعد تقادمًا، هذه شروط الإقرار إجمالًا وبصفة عامة عند فقهاء الشريعة الإسلامية، أتبعها بمقال رجال القانون في الإقرار وحجيته تتميما للفائدة.
الإقرار عند فقهاء القانون:
يراد بالإقرار عند فقهاء القانون: اعتراف المتهم على نفسه أمام القضاء بالتهمة المسندة إليه.
فلو لم تكن هناك تهمة مسندة لمن أقر على نفسه بإتيان فعل من الأفعال المجرمة، فإنه لا يلتفت إلى إقراره هذا، كما أنه لو أقر بقيامة بفعل ما من الأفعال الجنائية، وكان ما أقر به غير موضوع الدعوى المقامة عليه، فإنه لا يلتفت إلى إقراره هذا بهذه الوقائع نظرًا؛ لأنها ليست هي موضوع الدعوى المقامة عليه1.
1 نصت المادة 103 من قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية "القانون رقم 25 لسنة 1968م على أن "الإقرار هو اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه -الواقعة "ويقول الأستاذ الدكتور محمود مصطفى في تعليقه على هذا: فلا يعد اعترافا إقرار المتهم بواقعة، أو أكثر لها تعلقها بالدعوى.
الإثبات في المواد الجنائية أ. د: محمود مصطفى ج1 ص51-52 "ط الأولى سنة 1977م".
كما أن الإقرار المعول عليه هو ما يكون أمام المحكمة التي تنظر الدعوى المقامة ضد المقر، كما ذهب الشراح وبينوا، فإن أقر أمام سلطة التحقيق، أو في مرحلة جمع الاستدلالات، فإن هذا الإقرار لا تأخذ به المحكمة، ولا تعتد به كدليل إثبات، إلا إذا أصر عليه المقر ولم يرجع عنه، وإن كان قضاء النقض على خلاف ذلك1.
وعلى هذا، فإذا أقر المدعى عليه أمام المحكمة التي تنظر موضوع الدعوى، فأخذت المحكمة بإقراره، وحكمت بمقتضاه لم يعد لهذا المقر الحق في الرجوع عن إقراره هذا، وتلزمه العقوبة المحكوم بها عليه.
ولقد ذهب الفقه القانوني حديثًا إلى أن الإقرار لا يعد دليلًا يسند إليه وحده في الإدانة، بل لا بد من أن يرافقه ما يؤكده، ويثبت صحته2.
وإن كان قانون الإجراءات الجنائية المصري قد أجاز للمحكمة الاكتفاء باعتراف المتهم، والحكم عليه بمقتضاه دون الحاجة إلى سماع الشهود3.
1 المرجع السابق ص52.
2 هذا ما جرى عليه القضاء الفرنسي، وقرره المؤتمر الدولي للعلوم الجنائية سنة 1902، سنة 1953م.
3 نصت المادة 271 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه "يسأل =
والإقرار عند فقهاء الشريعة الإسلامية دليل إثبات قوي، وأكيد بشرط أن يكون مطابقًا للواقع، بحيث لا توجد وقائع تنفيه أو تطعن في صحته، بل إن بعض الجنايات قد اشترط جمهور فقهاء الشريعة لإثباتها عن طريق الإقرار أن يتعدد الإقرار بعدد الشهود الذين تثبت الجريمة بشهادتهم، وزاد البعض أن يكون كل إقرار في مكان غير المكان الذي أقر فيه الجاني إقراره السابق.
= المتهم عما إذا كان معترفًا بارتكاب الفعل المستند إليه، فإذا اعترف جاز للمحكمة الاكتفاء باعترافه، والحكم عليه بغير سماع الشهود.
وقد عقب الأستاذ الدكتور محمود مصطفى على هذه المادة بقوله: ولعل اقتراب الإثبات الجنائي من الإثبات المدني في التشريع الإنجليزي، وما نقل عنه هو الذي دعا إلى الأخذ بأن اعتراف المتهم دليل إدانته يجوز الحكم بناء عليه وحده. المرجع السابق ص51 مبادئ الإجراءات الجنائية د. رءوف عبيد ص638-643 ط 76، ولهذا الاتجاه الوضعي أصل فيما روي عن فقهاء -الشيعة الجعفرية، فقد ذكر أبو القاسم الموسوي:
أن الجاني لو أقر بما يوجب الحد من رجم أو جلد، كان للإمام العفو وعدم إقامة الحد عليه، واستدل على هذا بما روي من أن شابا أتى أمير المؤمنين، فأقر عنده بالسرقة، فقال له على: إني أراك شابا لا بأس بهبتك، فهل شيئًا من القرآن؟ قال: نعم سورة البقرة، فقال له علي: قد ذهبت يدك لسورة البقرة. ويعلق على هذا من رواه بقوله: وإنما منعه أن يقطعه؛ لأنه لم يقم عليه بينة، وفي رواية أخرى فقال الأشعث: أتعطل حدا من حدود الله؟ فقال: وما يدريك ما هذا؟ إذا قامت البينة، فليس للإمام أن يعفو، وإذا أقر الرجل على نفسه، فذاك إلى الإمام إن شاء عفى، وإن شاء قطع.
مباني تكملة المنهاج ج1 ص177.
من هذا يبين رجحان ما ذهب إليه فقهاء الشريعة، إذ هم لم يعلموا الإقرار بصفة عامة أيا كان هذا الإقرار، كما أنهم لم يتركوا أعماله، والأخذ به إذا لم يرافقه ما يؤكده، ويثبت صحته من أدلة ووقائع، وإنما وضعوا ضوابط، ومقاييس ونظم أصابوا بها قصب السبق، وحسموا بها القضية إذ كيف يمكن أن يقال أن الجاني الذي ارتكب جنايته ولم يره أحد، إذا راجعه ضميره وأراد تطهير نفسه، فذهب وأقر بما ارتكب، فإنه لا يعول على هذا الإقرار، ولا يعتد به في إثبات ما جاء من وقائع نظرًا؛ لأن هذه الوقائع لم تقم بها دعوى على المقر.
وأكثر من ذلك إذا أقيمت الدعوى، وأقر الجاني بما ارتكب من الوقائع التي هي موضوع الدعوى، ولم يكن هناك دليل غير إقراره، فإنه لا يعتد أيضًا بهذا الإقرار وحده في إثبات ارتكاب الجاني هذه الوقائع، والتي أقر بها على نفسه1.
إن هذا القول يفتح باب الإفلات من العقوبة على مصراعيه، وتصبح معه رقابة الضمير التي هي من أهم ضمانات استقرار الحياة
1 ذكر الأستاذ الدكتور محمود مصطفى أن الراجح الآن أن الاعتراف لا يعد دليلًا يستند عليه وحده في الإدانة، وهو ما جرى عليه القضاء الفرنسي، وقرره المؤتمر الدولي للعلوم الجنائية في سان بتسيرج سنة 1902.
وجاء في قرارات المؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات الذي انعقد في روما من 27 سبتمبر إلى 3 أكتوبر سنة 1953م، أن الاعتراف لا يعد من الأدلة القانونية، ولهذا ما يبرره في أن الاعتراف دليل غير محسوس، فلا يقطع بالإدانة. وهو يدعوا لأول وهلة إلى الشك والريبة في صحته إذ يتطوع به المتهم لتقديم دليل إدانته.
الإثبات في المواد الجنائية ج1 ص52.
واحترام نظم الأمة، تصبح تلك الرقابة لا قيمة لها، وتضيع بهذا كثير من حقوق الآخرين وحرياتهم، ويفتح أيضًا باب الظلم والجور لجواز أن يتهم بريء بقتل إنسان ويؤتى بشهود الزور، ويلصقوا التهمة بهذا البري، ويحيكوا له من الأدلة ما يكفي للذهاب له إلى حبل المشنقة، فإذا استيقظ ضمير الجاني الحقيقي وذهب، وأقر على نفسه بما ارتكب، فكيف يتأتى القول إذا بعدم الاعتداد بهذا الإقرار كدليل قانوني.
إن رأى الفقه الإسلامي في مثل هذا بين ومعروف يؤكده ما روي من أن أمير المؤمنين علي -رضي الله تعالى عنه- أتى برجل، وجد في خربة وبيده سكين ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله فأقر الرجل بأنه القاتل، وأكد هذا الإقرار قول العسس، والقرائن المصاحبة، فحكم علي بقتله قصاصًا. وإذا برجل يقر بأنه هو القاتل الحقيقي.
وتدل الوقائع على براءة الأول، وثبت أن القاتل هو الثاني.
الذي جاء مقرا بوازع من ضميره، فيأخذ علي بهذا الإقرار، ويعتد به مع أنه لم تكن هناك دعوى مقامة على من جاء مقرا بعد أن ألزم الرجل الذي أمسك به العسس بعقوبة القتل.
ولم يطالب على من جاء مقرًا، ببينة تشهد بصحة ما أقر به1، والفقه الوضعي لم يكتف بعدم الالتفات إلى الإقرار، وعده إقرارًا تشوبه الريبة يخالطه الشك. وإنما ذهب إلى أكثر من ذلك، فيما قررته المادة 174/ 2 من قانون التحقيق الجنائي في السوادن، والتي تنص على أنه إذا كانت الجريمة المسندة إلى المتهم معاقبًا عليها بالإعدام
1 الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ص82، 83.
فيجب على رئيس المحكمة أن يدون في المحضر نيابة عن المتهم ردا بأنه غير مذنب1.
وهذ النص قد ألزم القاضي بأن يدون في المحضر قولًا منسوبًا للمتهم، حتى ولم يقله المتهم، بل وحتى لو طالب بعكسه، وأصر على أنه هو المذنب الذي ارتكب وقائع هذه الدعوى، وأقر بها.
من هذا كله يبين أن الفقه الوضعي يعتبر إقرارا المتهم، حتى وإن كانت الدعوى قد أقيمت عليه، وأقر بوقائعها -من قبيل الاستدلالات، الأمر الذي يترتب عليه إلزام المحكمة أن تبحث عن أدلة أخرى تثبت بها صحة ما أقر به المتهم من وقائع، حتى يمكنها أن تحكم بادانته.
أما الشريعة الإسلامية، فهي تعتد بالإقرار بشروطه التي تملأ قلب القاضي طمأنينة، وتأخذ به وتحكم بمقتضاه حتى بالعقوبات الحدية؛ لأنها قد وضعت من الشروط ما يكفل صحة أقوال المقر.
ولا يخفى أن هذا النفع للعدالة، وأجدى في تحقيق أمن المجتمع، كما أن جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية، قد أجازوا للمقر الرجوع عن إقراره، وأسقطوا عنه ما لزمه من عقوبات حدية نتيجة رجوعه عن إقراره، إذا كانت هذه العقوبات متعلقة بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم اشترطوا بقاء الإقرار قائمًا صحيحًا، حتى يتم تنفيذ العقوبة، الأمر الذي أغفله الفقه الوضعي.
1 الإثبات في المواد الجنائية أ. د: محمود مصطفى ص52-53.