الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أعمالها في الإثبات:
أمعمل فقهاء الشريعة القرائن في الإثبات، وألزموا من قامت القرائن تدلل على جنايته، بالعقوبات التعزيرية، والتعويضات المالية.
ووافقهم في هذا فقهاء القانون الذين يرون أن دلالة القرائن دلالة غير مباشرة كدلالة الشهادة والإقرار، إلا أنهم لم يرفعوها من حيث الدلالة إلى مرتبة الشهادة والإقرار، ولا من حيث الأخذ بها، والحكم بمقتضاها، إذ لا يحكم بمقضتاها بعقوبة مساوية لعقوبة الجرائم، ذاتها إذا ثبتت بالشهادة والإقرار.
فالأحداث كثيرًا ما تظهر كذب ظواهر الأمور، وتدل على خطأ الإنسان في كثير من استنتاجاته التي اعتمد فيها على الأمور الظاهرية1، أما أعمال القرائن في إثبات الجرائم الحدية، فإن لفقهاء الشريعة في ذلك رأيين:
الأول: وبه يقول جمهور الفقهاء
عدن إعمالها في إثبات الحدود؛ لأن الإثبات بها لا يصل حد اليقين الدال على أن من قامت القرائن تدينه هو فعلًا ارتكب جناية حدية، تلزمه بها عقوبتها المقدرة.
واستدل جمهور الفقهاء لما ذهبوا بأدلة كثيرة منها ما يأتي:
1 عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها"2.
يقول الشوكاني: "أنه لا يجب الحد بالتهم، ولا شك أن إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به، وهو قبيح عقلًا وشرعًا، فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص، وما أشبه ذلك بعد
1 المرجع السابق ص424.
2 رواه ابن ماجه، رجاله ثقات رجال الصحيح، نيل الأوطار ج7 ص117.
حصول اليقين؛ لأن مجرد الحدس والتهمة، والشك مظنة للخطأ، والغلط وما كان كذلك، فلا يستباح به تأليم المسلم، وإضراره بلا خلاف"1.
2 روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين رمى هلال بن أمية زوجته بالزنا ولاعنها: "أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سمحاء"، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لولا ما مضى من كتاب الله لي ولها شأن"2.
3 لم يقض رسول الله صلى الله عليه وسلم بحد الزنا على الغامدية، إلا بعد أن أقرت أمامه، مع أنها كانت حاملًا، والحمل قرينة تدل على ما سبقها، فلو كانت تكفي القرينة وحدها، أو حتى مع إقرار الشريك في الجريمة لاكتفى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى على الغامدية بالحد، ولكنه لم يقض حتى جاءت، وطلبت أن يطهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليها، فقال لها:"ويحك: ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فأصرت على إقرارها3، ولو لم تصر على إقرارها لما ألزامها الحد مع وضوح حالتها، وظهور حملها، وهو قرينة دالة على فعلتها، لهذا قال فقهاء الأحناف والشافعية والحنابلة، والشيعة بأنه يجوز إثبات الجرائم بالقرائن.
1 المرجع السابق.
2 الأكحل من كانت منابت أجفانه سوداء كان فيها كحلًا، سابغ الإليتين، عظيمهما، خدلج الساقين: ممتلئ الساقين، نيل الأوطار ج6 ص306 ج7 ص117، فتح الباري على صحيح البخاري ج8 ص363.
3 نيل الأوطار ج7 ص125-128، سنن أبي داود ج2 ص456-462.
فقد جاء في قول ابن الهمام: "ولا حد على من وجد به ريح الخمر، أو تقيأها؛ لأن الرائحة محتملة، فلا يثبت بالاحتمال ما يندرئ بالشبهات، وكذا الشرب قد يكون عن إكراه، فوجود عينها في القيء لا يدل على الطواعية، فلو وجب الحد وجب بلا موجب، إلى أن يقول: أما عدم وجوب الحد بوجود الرائحة والتقيؤ فظاهر، وطريقه أنه لو ثبت الحد لكان مع شبهة عدمه؛ لأن الرائحة محتملة، وإن استدل عليها، فإن فيها مع الدليل شبهة، فلا يثبت الحد معها"1.
كما أورد الشربيني الخطيب أن عمر -رضي الله تعالى عنه، وعلي معه قد أسقطا الحد عن امرأة أتى بها إليهما، وأقيمت عليها البينة بالزنا، وأقرت لكنها ذكرت جهدها العطش، ولم يسقها الراعي إلا بتمكينه من نفسها، واعتبر هذا إكراها لها.
فإذا كان الإكراه قد أسقط الحد مع قيام البينة، والإقرار وهما أقوى طرق الإثبات، فالأولى أن يسقط احتمال الإكراه الحد الذي تدل عليه القرائن، ومن المعروف أن الاحتمال يسقط به الاستدلال، كما أورد أيضًا أن الحد لا يجب بريح الخمر، أو السكر أو القيء الدال على شرب الخمر: لاحتمال أن يكون قد شربها غلطًا، أو مكرها والحد يدرء بالشبهة.
كما أورد أن القاضي لا يجوز له أن يستوفي في الحد بعلمه على الرأي الصحيح، وقد يكون سبب علم القاضي، وجود قرينة من القرائن الدالة2، وهذا ما ذهب إليه فقهاء الحنابلة، فيما ذكره ابن قدامة
1 فتح القدير ج5 ص308-309.
2 مغني المحتاج ج4 ص145، 190، المهذب ج267، 319-320.
واستدل لذلك بأدلة ما جاء في قوله، ولنا قول الله تعالى:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} ، وقال تعالى:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، وقال عمر: وكان الحبل أو الاعتراف؛ ولأنه لا يجوز له أن يتكلم به، ولو رماه بما علمه منه لكان قاذفًا يلزمه حد القذف، فلم تجز إقامة الحد به كقول غيره؛ ولأنه إذا حرم النطق به، فالعمل به أولى1.
ويقول ابن قدامة: وإذا حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد، لم يلزمها الحد بذلك وتسأل، فإن ادعت أنها أكرهت أو وطئت بشبهة، أو لم تعترف بالزنا لم تحد
…
إلى أن يقول: ولنا: أنه يحتمل أنه من وطء إكراه، أو شبهة والحد يسقط بالشبهات.
وقد قيل: إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها، إما بفعلها أو بفعل غيرها، ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك2.
وجاء عن فقهاء الشيعة في قولهم: إذا حملت المرأة، وليس لها بعل لم تحد لاحتمال أن يكون الحمل بسبب آخر دون الوطء، أوبالوطء شبهة، أو إكراه أو نحو ذلك، وعللوا إسقاط الحد أيضًا بقولهم: ومع احتمال أن يكون الحمل بسبب آخر غير الزنا، لا يثبت الحد3.
أما ابن حزم، فمع أنه لا يرى درء الحد بالشبهة، كما سبق إلا أنه لا يرى أيضًا أن تقام الحدود بشبهة، وقد جاء هذا صراحة في قوله: وذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرء بشبهة، ولا أن تقام
1 المغني ج8 ص210.
2 المغني ج8 ص210-211.
3 مباني تكلمة المنهاج ج1 ص187.
بشبهة، وإنما هو الحق لله تعالى ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة1.
كما قرر ابن حزم أن الحد لا يقام على شارب الخمر إن أكره على شربها، أو اضطر إليها لعطش، أو علاج أو لدفع ضيق، أو جهلها2، ومن هذا يبين أن من تقيأها، أو شمت رائحتها من فيه لا تكفي هذه القرينة في إقامة الحد عليه لجواز أن يكون لسبب من الأسباب المذكورة.
هذا هو رأي جمهور الفقهاء، الذي يقرر عدم إثبات حد من الحدود بقرينة من القرائن؛ لأن القرينة لا تفيد إثبات الفعل المؤثم بالطريق الذي يجرمه الشرع، كما أنها دليل لا يخلو عن شبهة، والحدود كما تدرء بالشبهات، فإنها لا تثبت مع وجودها، ولا بدليل يحتملها، ولا يفيد القطع واليقين.
الرأي الثاني:
إعمال القرائن في إثبات الحدود؛ لأن القرائن عند أصحاب هذا الرأي أقوى من البينة، والإقرار إذ أنهما خبران يتطرق إليهما الصدق، والكذب، أما القرينة عندهم فهي دلالة صادقة، ولا يتطرق إليها احتمال الكذب، أو الشبهة في الغالب.
هذا ما ذهب إليه الإمام مالك، وابن قيم الجوزية، واستدل للاعتداد بالقرائن والحكم بمقتضاها بأدلة منها:
1 قول الشاهد الذي ذكر الله شهادته، ولم ينكر عليه، ولم يعبه بل حكاها مقررًا لها، فقال تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي
1 المحلى ج23 ص61.
2 يراجع المحلى ج13 ص429.
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} 1.
فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب، وهذا لوث في أحد المتنازعين، يبين به أولاهما بالحق2.
2 حكم النبي صلى الله عليه وسلم بموجب اللوث في القسامة، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينًا، ويستحقن دم القتيل3.
3 ما روه ابن عباس عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من أنه قال: إن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف4.
يقول ابن القيم: هذا حكم عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه، والصحابة معه برجم المرأة التي ظهر بها الحبل، ولا زوج لها ولا سيد، وذهب إليه مالك وأحمد في أصح روايته -اعتمادًا على القرينة
1 الآيات من 25-28 من سورة يوسف عليه السلام.
2 الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ص7 "ط المدني بالقاهرة".
3 ذكر ابن حزم أن سليمان بن يسار -مولى ميمونة أم المؤمنين، رضي الله عنها روي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه، وقضى بها بين أناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر -المحلى ج12 ص461، يرجع في هذا الطرق الحكمية ص8، وفي اعتبار شرع من قبلنا دليلًا يراجع أصول الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص122.
4 هذا القول رواه الجماعة، إلا النسائي نيل الأوطار ج7 ص118.
الحد برائحة الخمر من فم الرجل، أو فيئه خمرًا، اعتمادًا على القرينة الظاهرة. وحكم عمرو ابن مسعود -ولا يعرف لهما مخالف- بوجوب الظاهرة1.
بهذا استدل القائلون بالاعتداء بالقرائن في إثبات الجنايات الحدية، وأوجبوا بناء على ذلك الحكم بالعقوبة الحدية، على ما دلت القرائن على ارتكابه جناية من جناياتها.
فالإمام مالك قد رأى أن من قامت القرائن على إدانته بجناية حدية لا يقبل إنكاره، ولا يسقط به لحد عنه ما لم يقم دليل يشهد له بما يدفع الحد عنه، فإن لم يقم الدليل على براءته، أو أنه أكره على الفعل الذي قامت القرينة تدل عليه لزمته العقوبة، يقول الخرشي مؤكدًا ذلك: أن المرأة إذا ظهر حملها، ولا يعرف لها زوج، أو كانت أمة ولا سيد لها، أو لها سيد وهو منكر لوطئها فإنها تحد، ولا يقبل دعواها الغصب على ذلك بلا قرينة تشهد لها بذاك، وأما إن قامت لها قرينة فلا حد عليها، كما إذا جاءت تدمي وهي مستغيثة عند النازلة، أو أتت متعلقة به على ما مر بيانه عند قوله: وإن دعت استكراها على لائق بلا تعلق2.
كما يقرر ابن قيم أن عدم الاعتداد بالقرائن يترتب عليه إضاعة كثير من الحقوق، فيقول:"فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال ومعرفة شواهده الحالية، والمقلية، كفقهه في كليات الأحكام، أضاع حقوقًا كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعمل الناس بطلانه لا يشكون فيه، اعتمادًا منه على نوع ظاهر، ولم يلتفت إلى باطنه، وقرائن أحواله"3.
1 الطرق الحكمية ص8.
2 الخرشي ج8 ص81.
3 الطرق الحكمية ص4-5.
ثم يضرب مثالًا لما ذهب إليه، بقوله:"وهل يشك أحد رأى قتيلًا يتشحط في دمه، وآخر قائم على رأسه بالسكين: أنه قتله؟ ولا سيما إذا عرف بعداوته، ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يمينًا: أن ذلك الرجل قتله، ثم قال مالك وأحمد: يقتل به. وقال الشافعي: يقضي عليه بديته"1.
هذه مقالة من يرى الاعتداد بالقرائن في إثبات الجرائم الحدية، وجرائم القصاص، وإلزام عقوبتها.
لكنها مقالة لا تصل في قوتها ما ذكره جمهور الفقهاء من أدلة نقلية، وعقلية وافقت ما سبق أن اتفق جمهور الفقهاء عليه، ومنهم المالكية من درء الحد بالشبة، ومن أن الأصل براءة الذمة.
أما ما استدل به ابن قيم ومن وافقه ممن يعملون القرائن في إثبات الحدود، فهو يحتاج إلى إعادة نظر.
فما ذكر من الاستدلال بما جاء من قصة يوسف عليه السلام، أمر لا جدال فيه، والقرائن بينة، ومع هذا لا دليل فيه على إثبات حد؛ لأن الاستدلال في هذا بالقرائن أنتج دفع التهمة عن يوسف عليه السلام، وأثبت براءته التي هي الأصل، إذ الأصل براءة الذمة لا يعدل عنه إلا بدليل يقيني.
فالقرينة هنا اعتد بها أنها دليل نفي، وليس على أنها دليل إثبات أما ما استدل به على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم بموجب اللوث، وطالب المدعين أن يحلفوا خمسين يمنيًا، ويستحفوا رجم القتيل
1 الطرق الحكمية ص8-9.
فإنه قد جاء عن الجمهور ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم لهم بالدية، ولم يقتص لقتيلهم.
وما رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنهم- يمكن حمله على أن كلمة "أو"، التي جاءت بعد كلمة الحبل، وقبل كلمة الاعتراف في قوله: أو كان الحبل أو الاعتراف، يمكن أن تحمل على أنها عاطفة، ويكون قول عمر على هذا: أو كان الحبل والاعتراف.
هذا لا يعارض قواعد العربية، ويؤيده ما جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- من أنه لم يقم الحد على من جاء معترفًا؛ لأنه أتى جريمته الحدية، وهو مكره.
والقرينة إذا دلت على الجريمة، فإنها لا تدل على الطريقة التي وقعت بها، ولا الظروف التي أحاطتها، وهذه كلها أمور جوهرية لا بد من التثبت منها لإلزام الحد.
وحتى لو حمل قول عمر على الوجه الذي استدل به مثبتوا الحد بالقرائن، فإنه لا يعدو أن يكون اجتهادًا لعمر في هذه الحادثة بعينها لم عن له من ظروف، وملابسات، وأدلة أخرى لم يروها عنه من روى هذه الحادثة، ويؤكد ذلك أن عمر يلتزم بما قضى به هنا، إن صح -في كل ما عرض عليه من قضايا- الحدود.
وقد ذكر جانبًا من هذا الشوكاني في مقالته: إن هذا من قول عمر، ومثل ذلك لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس، وكونه قاله في مجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه لا يستلزم أن يكون إجماعًا.. لأن الإنكار في مسائل الاجتهاد غير لازم
للمخالف لا سيما القائل بذلك عمر، وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة وغيرهم1.
وما استدل به ابن القيم من أن لفظ البينة يصدق على كل ما يبين الحق، ويظهره دون تخصيص شيء دون شيء لا حجة له فيه، ولا يلزم منه إثبات الحدود بالقرائن؛ لأن الله سبحاه وتعالى لم يذكر كلمة البينة التي تثبت بها الحدود مطلقة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتبع كلمة البينة التي يعتد بها في إثبات الحدود، بما يفيد ما تصدق عليه بأنها الشهادة، والإقرار المفيدان القطع واليقين، فقد جاء ذكر البينة في الحديث مقابلًا بما ظهر من تلك المرأة من ريبة، وقرائن مختلفة دالة على سلوكها، وسمعتها هي ومن يدخل عليها.
ومع قيام كل هذه القرائن لهم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم على المرأة المذكورة حدًا.
ولم يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغامدية الحد مع قيام القرائن على جريمتها -من كونها حبلى، واعترف ماعز- إلا بعد مجيئها واعترافها، ومع ذلك يقول لها الصادق الأمين الرءوف الرحيم:"ويحك: ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه".
ويطعن فيما ذكر ابن القيم من أنه لا شك أحد رأى قتيلًا يتشحط في دمه، وآخر قائم على رأسه بالسكين أنه قتله، ما ذكره هو نفسه من قصة الأعرابي الذي أتى به لعلي رضي الله عنه، وبيده سكين ملطخة بالدم، وقد وجد في خربه، وأمامه قتيل يتشحط في دمه، فسأله علي فقال: أنا قتلته، ومع هذا كله تثبت براءته2.
1 نيل الأوطار: ج7 ص119.
2 الطرق الحكمية ص82-83.
من هذا كله يبين أن القرائن مهما وصلت قوتها الاستدلالية في أداة إثبات احتمالية تلحقها الشبهات وتحفها الظنون، فلا يعتد بها في الجنايات الحدية، والقصاص إلا إذ صاحبتها شهادة الشهود، أو إقرار.
أما ما عدا ذلك من الجنايات الأخرى ذات العقوبات التعزيرية، أو التعويضات المالية، فإنه يمكن الاعتماد على القرائن في إثباتها.
لأن أمرها مفوض فيه للقاضي، وهذا ما أميل إليه وأرجحه.