الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: الشبهات
مدخل
…
الباب الأول: الشبهات
تمهيد:
حارب الإسلام الجريمة.. ووضع لها عقوبات رادعة، حرصًا منه على أمن الأفراد، وحمايتهم حتى من أنفسهم، فطالب الجميع بأن يستروا أنفسهم.
وحض الرسول صلى الله عليه وسلم الناس على ذلك بقوله:
"أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، فمن أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله"1.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أستر على الناس من أنفسهم.
فقد روي أنه جاء رجل، فقال:"يا رسول الله أن أصبت حدًا فأقمه علي، فلم يسأله عنه، وحضرت الصلاة، فصلى الرجل مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى النبي الصلاة قام الرجل إليه، فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًا فأقم في كتاب الله، قال: "أليس قد صلت معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك"، أو قال: "حدك" 2.
وقد روى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين كل هذه المعاني، والتوجيهات الرحيمة الحكيمة، وعلموا أن من ستر مسلمًا في الدنيا ستره الله يوم القيامة، ومن أقال مسلمًا من عثرته في الدنيا أقاله الله تعالى من عثرات يوم القيامة.
1 صحيح مسلم بشرح النووي ج17 ص21 "ط المصرية".
الموطأ للإمام مالك ص244 "الطبعة الثانية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية".
2 صحيح البخاري ج8 ص207 "ط دار الشعب".
ولهذا، فإن أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه، لما جاءه ماعز قبل أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقص عليه ما كان من أمره، قال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ قال: لا. قال أبو بكر: تب إلى الله واستتر بستر الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده.
ولم تقر نفس ماعز، فذهب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه، وقال له ما قاله لأبي بكر، فقال له عمر: اذهب فاستتر بستر الله تعالى، تب إلى الله، فإن الناس يعبرون ولا يغيرون، والله تعالى يغير، ولا يتغير فتب إلى الله، ولا تخبر أحدًا.
ولم تقر نفس ماعز حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له ما قاله لأبي بكر وعمر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ ماعز يكرر مقالته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر إعراضه عنه، حتى أكثر ماعز على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول يحاول تلقينه الستر على نفسه، وليحمله على الرجوزع عن إقراره تلميحًا وتصريحًا، فيقول له صلى الله عليه وسلم:"لعلك قبلت، لعلك لامست، لعلك فاخذت، لعلك. لعلك، فلما لم يجد منه الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الإصرار أرسل إلى أهله يسألهم عنه، أيشتكي؟ أبه جنة"؟ 1.
كل ذلك في محاولة من الرسول صلى الله عليه وسلم للستر على عبد من عباد الله، ثم يضع الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ يعلنه أكل من يتبع الإسلام، ادرؤوا عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان
1 الموطأ للإمام مالك ص244-245 ط الثانية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، المغني لابن قدامة ج8 ص193-199، شرح فتح القدير ج5 ص216.
له مخرج، فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خهير من أن يخطئ في العقوبة1.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم لمن جيء به، واعترف بسرقته، ولم يوجد معه المتاع، "وما أخالك سرقت "مرتين أو ثلاثًا" 2، أي ستر أبلغ من هذا، أو أستر منه؟: تعلم فقهاء الإسلام هذا وعملوا بمقتضاه، فيقول ابن قدامة: ويستحب للإمام، أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالإقرار.
التعريض للمقر بالرجوع، إذا تم، والوقوف عن إتمامه إذا لم يتم.
ويستدل ابن قدامة لذلك بما كان من أمر ماعز، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن أقر بالسرقة:"ما أخالك فعلت".
ثم يقول: ويحكى عن أبي الدرداء أنه أتي بجارية سوداء سرقت، فقال لها: "أسرقت؟ قولي: لا، فقالت: لا، فخلى سبيلها.
كما يروى عن الأحنف أنه كان جالسًا عند معاوية، فأتي بسارق، فقال معاوية: أسرقت؟ فقال له بعض الشرطة: أصدق الأمير. فقال الأحنف: الصدف في كل المواطن معجزة، فعرض له بترك الإقرار3.
أيبقى بعد هذا مقالة أو ادعاء مدع يزعم قسوة النظام العقابي في التشريع الإسلامي؟ إنه النظام القويم الذي يحفظ على المجتمع أمنه، ويدرأ العقوبة بقيام شبهة ينثلم بها عقد أركان الجريمة، أو دليل إثباتها اللذان لا بد وأن يكونا متكاملين أوثق ما يكون التكامل، وأتمه وإلا تغايرت العقوبة، أو برئ المدعي عليه.
1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص118 ط مصطفى الحلبي.
2 المراجع السابق ص150.
3 المغني ج8 ص212 "ط مكتبة الجمهورية العربية".