الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبجث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد، لقيام شبهة في القصد الجنائي
…
المبحث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد، لقيام شبهة في القصد الجنائي
جريمة شرب الخمر من الجرائم التي لا بد قيامها من توافر القصد الجنائي لدى الفاعل، وعلى هذا فمن أقدم على شرب الخمر، وهو مكره فلا تقوم الجريمة بالنسبة له بمعنى أنه لا يلزم عقوبتها، وهذا ما أجمع عليه الفقهاء، ومثله من اضطر لدفع عطش أو لعلاج، ومثل ذلك من شربها، وهو يجهل كونها خمرًا، وإن سكر، أما من شرب الخمر وهو يجهل حكمها، ولا يعلم أنها حرام، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بدرء الحد عنه لشبهة جهله هذه.
وهؤلاء الذين لم يلزموه الحد، وإن اتفقوا على ذلك، إلا أن منهم من قد بنوا رأيهم في ذلك على أساس عدم قيام الجريمة أصلًا في حقه، فيقول ابن حزم:"من أكره على شرب الخمر، أو اضطر إليها لعطش، أو علاج أو لدفع خنق، فشربها أو جهلها، فلم يدر أنها خمر، فلا حد على أحد من هؤلاء، ثم فصل المراد بجهلها، فقال: "ما الجاهل -فإنه لم يتعد ما حرم الله عليه، ولا حد إلا على من علم التحريم- ولا يختلف اثنان من الأمة في أنه من دست إليه غير امرأته، فوطئها وهو لا يدري من هي يظن أنها زوجته، فلا حد عليه"1.
وجاء عن فقهاء الشيعة: "لو أن رجلًا دخل الإسلام، وأقربه ثم شرب الخمر وزنى، وأكل الربا ولم يتبين له شيء من الحلال والحرام، لم أقم عليه الحد إن كان جاهلًا"2.
1 المحلى ج13 ص429.
2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص267.
ومن هؤلاء من قال بدرء الحد عنه لشبهة جهله: وقد فصل هؤلاء القول في ذلك، فيقول الشربيني:"لو قرب إسلامه، فقال: جهلت تحريمها لم يحد؛ لأنه قد يخفى عليه ذلك، والحدود تدرأ بالشبهات1، وقد فصل فقهاء الحنابلة القول، فيمن يدعي الجهل بتحريم الخمر، ووافقهم الأذرعي، فرأوا أن مدعي الجهل إن كان ناشئًا ببلاد الإسلام بين المسلمين، لم تقبل دعواه؛ لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله، فلا تقبل دعواه ففيه، وإن كان حديث عهد بالإسلام، أو ناشئا ببادية بعيدة عن البلدان قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله"2.
وإن كان الرأي الظاهر عند فقهاء الشافعية، إسقاط الحد عمن قال بجهله حكم تحريمها؛ لقرب عهده بالإسلام دون تفصيل، سواء أكان ممن نشأ بين المسلمين، أو من غير هؤلاء، فقد جاء عن الشربيني قوله بعد أن ذكر رأي الأذرعي "ظاهر كلام الأصحاب الإطلاق، وهو الظاهر"3.
وذهب فقهاء المالكية إلى القول: بأنه لا حد على من شرب خمرًا يظنها غيرها، كما إذا ظنها ماء، أو عسلًا فشرب، ثم ظهر أنها خمر، أو أن هذا الشراب مسكر، وقاسوا ذلك بمن وطئ أجنبية لظنها زوجته إن كان يتأتى الاشتباه.
أما من جهل وجوب الحد، وعلم الحرمة، فإنه يلزمه الحد، ولا يلتفت إلى جهله هذا؛ لأنه جهل لا يعتد به في إسقاط الحد، وكذا يلزم الحد
1 مغني المجتاج ج4 ص188، ويراجع في ذلك بدائع الصنائع ج7 ص40.
2 المغني ج8 ص308، 309، مغني المحتاج ج4 ص188.
3 مغني المحتاج ج4 ص188.
من جهل الحرمة نفسها، حتى وإن كان قريب عهد بالإسلام، ومثلوا له بالاعجمي الذي دخل دار الإسلام، فمثل هذا لا يعذر بجهله تحريم الخمر.
ورد فقهاء المالكية على ما يمكن أن يوجه لرأيهم من نقد، أنهم لم يعذروا الجاهل عنا، وعذروه في الزنا، فقالوا: إن مفاسد الشرب لما كانت أشد من مفاسد الزنا لكثرتها؛ لأنه ربما زنى وسرق، وقتل كان أشد من الزنا؛ ولأن الشرب أكثر وقوعًا من غيره"1.
وما ذهب إليه فقهاء المالكية من القول بوجوب الحد على من جهل الحكم هنا على عمومه قول مردود؛ لأن الجهل المعتد به، وإن لم يقو على عدم إيجاب الحد ابتداء، فلا أقل من أن يورد شبهة يترتب عليها درء الحد، أما أن الشر مفاسدة أكثر، فهذا إعمال الحدود على أساس من الحدس والتخمين، وهو مردود في هذا الباب، لقيام الدليل على درء الحد بالشبهة، ولم يفصل بين حد وآخر، من حيث كونه أكثر وقوعًا من عدمه في مسائل هذا الباب، وهذا ما أرجحه.
1 الخرشي ج8 ص108، حاشية الدسوقي ج4 ص352، شرح الزرقاني ج8 ص113.