الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالسكران لا تخلو حاله عن شبهة، لا يلزم معها حد عليه، ولا يعفيه ذلك من إلزامه عقوبة تعزيرية رادعة، حتى وإن كان الشرب غير حرام في اعتقاده، فوق ما يلزم به من عقوبة سكره الحدية نظرًا؛ لأنه قد أتى ما يعد تلاعبا يمس العقيدة التي يجب أن تبقى بعيدة عن العبث.
ولقد نظر فقهاء الشريعة عند الحديث عن عقوبة شرب الخمر، إلى أن الشارب إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، فإلزامه حد الشرب لذلك أما أن يلزم بعقوبة ردة فوق ذلك في حالته هذه، أن نطق بكلمة الإسلام، وقد كان كافرا وبعد إفاقته بقي على كفره، أو إن نطق بكلمة الردة، وقد كان مسلمًا. فهذا بعيد؛ ولأن المسلم يستتاب بعد إفاقته لا خلال سكره، فإن تاب كان بها، وإلا فهذه جريمة أخرى.
3-
إسلام المكره:
من يكره على الإسلام لا يخلو الحال بالنسبة له من أن يكون ذميًا، أو مستأمنًا أو أن يكون حربيًا أو مرتدًا، فإن كان ذميًا أو مستأمنا، فإن جمهور الفقهاء يرى القول بعدم جواز إكراههما على الإسلام، فإن أكرها عليه، فإنه لا يثبت لهما حكم الإسلام، إلا إذا زال الإكراه عنهما، وبقيا على الإسلام طوعًا، فإن زال الإكراه عنهما ورجعا إلى ما كان عليه، فلا يعد هذا الرجوع منهما ردة.
وذهب محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة إلى القول أن الذمي، أو المستأمن إذا أكرها على الإسلام، فأسلما ولو في الظاهر عدا مسلمين، فإن رجعا عن الإسلام اعتبرا مرتدين، ولزم استتابتهما، فإن عادا إلى الإسلام كان بها، وإلا قتلا، وعلل ذلك بما ذكر من أن الحكم ينبني على ما نسع، ولا أثر لعذر الإكراه، ولنا ما علمناه من علانية ما سمعنا؛ لأنا لا نعلم من سره ما نعلم من علانيته1.
1 المبسوط ج10 ص123، 124.
ذكر -ما ذهب إليه الجمهور- ابن قدامة بقوله: وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن، فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام، حتى يوجد منه ما يدل عليه طوعًا، مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه، فإن مات قبل ذلك، فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله، ولا إكراهه على الإسلام1، أما إن كان المكره على الإسلام حربيًا، أو مرتدًا وأعلن الحربي إسلامه، وعاد المرتد إلى الإسلام، ولو تحت وطأة الإكراه ثبت لهما حكم الإسلام، فإن ارتد أحدهما بعد زوال الإكراه استتيب، فإن عاد عن ردته وإلا قتل، ومبنى
ذلك أن إكراه الحربي، والمرتد على الإسلام إكراه بحق ولذا يحكم، وصحته وصحة ما يأتي به ظاهرًا، وأما الباطن ففيهما بينهم، وبين الله سبحانه وتعالى2.
وما ذهب إليه محمد بن الحسن مردود؛ لأن إكراه الذمي، والمستأمن إكراه غير جائز؛ ولأن ما بيننا وبينهم من عقود يمنع أن نكرههم على الإسلام؛ لأنه:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .
1 المرجع السابق، شرح الزرقاني، ج8 ص68، نهاية المحتاج ج7 ص397، مغني المحتاج ج4 ص137، المغني ج8 ص144، 145، المحلى ج8 ص329، شرح الأزهار ج4 ص577.
2 المراجع السابقة.
تبعًا لوالديه، فإن الإمام الشافعي يحكم بإسلامه، ولا يشترط البلوغ للحكم بذلك، فقد ذكر الشيرازي، أن الرجل إذا أسلم وله ولد صغير تبعه الولد في الإسلام لقوله عز وجل:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، وكذا إذا استلمت المرأة تبعها ولدها.
ولا يشترط سن معين بالنسبة للولد حينئذ، بل يحكم بإسلامه حتى ولو كان لا يزال حملًا.
وذكر الشيرازي أيضًا قول الشافعي بالنسبة لمن أسلم من أولاد الكافرين، فقال: وإن وصف الإسلام صبي عاقل من أولاد الكفار، لم يصح إسلامه على ظاهر المذهب، لما روي عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون، والمغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم"؛ ولأنه غير مكلف، فلا يصح إسلامه بنفسه كالمجنون، فعلى هذا يحال بينه، وبين أهله من الكفار إلى أن يبلغ؛ لأنه إذا ترك معهم خدعوه، وزهدوه في الإسلام، فإن بلغ ووصف الإسلام حكم بإسلامه، وإن وصف الكفر هدد وضرب وطولب بالإسلام، وإن أقام على الكفر رد إلى أهله من الكفار، ثم ذكر الشيرازي أن من أصحابه من قال يصح إسلام الصبي؛ لأنه يصح صومه وصلاته، فصح إسلامه كبالغ1.
وذكر السرخسي أن الغلام العاقل الذي لم يحتلم إذا أسلم، فإسلامه صحيح عندنا استحسانًا، وفي القياس لا يصح إسلامه في أحكام الدنيا، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله..؛ لأن الصبي غير مخاطب بالإسلام ما لم يبلغ، فلا يحكم بصحة إسلامه كالذي لا يعقل إذا لقن فتكلم به.. والدليل على ذلك، أنه لو لم يصف الإسلام بعد ما عقل لا تقع الفرقه بينه وبين امرأته، ولو صار عقله معتبرًا في
1 المهذب ج2 ص239، أسنى المطالب ج4 ص120، 123، 194، نهاية المحتاج ج7 ص397، مغني المحتاج ج4 ص137.
الدين لوقعت الفرقة إذا لم يحسن أن يصف، كما بعد البلوغ"، ثم بين السرخسي حكم من أسلم صغيرًا، ثم عند البلوغ بقوله: "الذي أسلم تبعًا لأبوديه إذا بلغ مرتدًا في القياس يقتل لارتداده بعد إسلامه، وفي الاستحسان لا يقتل، ولكن يجبر على الإسلام؛ لأنه ما كان مسلمًا مقصودًا بنفسه، وإنما يثبت له حكم الإسلام تبعًا لغيره، فيصير ذلك شبهة في إسقاط القتل عنه، وإن بلغ مرتدًا.
وإذا أسلم في صغره، ثم بلغ مرتدًا، فهو على هذا القياس، والاستحسان لقيام الشبهة، بسبب اختلاف العلماء في صحة إسلامه في الصغر1، وذهب فقهاء الحنابلة إلى القول بصحة إسلام الصبي العاقل؛ لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة"، وغير ذلك من الأخبار التي يدخل في عمومها الصبي؛ ولأن الإسلام عبادة محضه، فصحت من الصبي العاقل كالصلاة والحج، وعلى هذا فإن رجع، وقال: لم أرد ما قلت لم يلتفت إلى قوله، واعتبر مرتدًا إذا لم يعد إلى الإسلام.
وقد جاءت رواية عن الإمام أحمد، نفيد أن الصبي إذا رجع عن الإسلام لا يجبر على العودة إليه؛ لأن الصبي في مظنه النقص، وفي رواية ثالثة أنه يصح إسلامه، ولا تصح ردته فيقبل منه ما يكتب له، ولا يقبل منه ما يكتب عليه2، والذي أرجحه من ذلك أن الصبي الذي حكم بإسلامه لأبويه أولًا، حدهما إذا ارتد أجبر على الإسلام، فإن لم يعد انتظر إلى البلوغ، فإن تاب ورجع الحق قبل منه، وإلا ألزم حد الردة، أما من أسلم من أولاد الكفار قبل البلوغ، وارتد فإنه لا يلزم حد الردة؛ لأن الصبي مظنة النقص، وذلك يورث شبهة في إسلامه، والحدود تدرأ بالشبهات.
1 المبسوط ج10 ص120-123، بدائع الصنائع ج7 ص131-135.
2 المغني ج8 ص133-136، نيل الأوطار ج7 ص221-233، المحلى ج10 ص218، 344، شرح الأزهار ج4 ص575، مباني المنهاج ج1 ص329، الخرشي ج8 ص69.