الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: إذا كان إثبات جريمة الزنا عن طريق شهادة الشهود
إذا كان إثبات جريمة الزنا عن طريق شهادة الشهود، فإن الفقهاء يرون أنه لا بد من توافر الشروط الآتية:
أ- أن يكون الشهود الذي يعتد بشهادتهم أربعة، وهذا مستفاد مما جاء به قوله الله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 1.
فإن نقص الشهود عن أربعة لم يجب الحد بشهادتهم، ووجب عليهم هم حد القذف طبقًا لقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2، وإن كان ابن حزم لا يرى أن شهادة الثلاثة تعد قذفًا؛ لأن حد القذف على الرامي لا على الشاهد3، وعند الجمهور تعد قذفًا؛ لأنه أولًا ذلك لانفتح باب اتهام الناس بهذه الجناية بالباطل من باب الكيد لهم، والتنكيل بهم4.
1 من الآية 15 من سورة النساء.
2 الآية 4 من سورة النور.
3 المحلى ج13 ص239-241.
4 يقول الإمام القشيري: "إن الله بالغ في عدد الشهود، وألا تقبل تلك الشهادة، إلا بالتفرغ التام لئلا يستبيحوا أعراض المسلمين.
لطائف الإرشادات ج4 ص226-267 "ط دار الكتاب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1965م".
ويقول السرخسي: "والزنا مختص من بين سائر الحقوق في أنه لا يثبت إلا بشهادة أربعة، لقوله تعالى:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، وقد تكلف بعضهم فيه معنى، وهو: أن الزنا لا يتم إلا باثنين، وفعل كل واحد لا يثبت إلا بشهادة شاهدين، ولكن هذا ضعيف، فإن شهادة شاهدين كما يثبت فعل الواحد يثبت فعل الاثنين، ولكن نقول أن الله تعالى يحب الستر على عباده، وإلى ذلك ندب، وزم من أحب أن تشيع
الفاحشة، فلتحقيق معنى الستر شرط زيادة العدد في الشهود على الفاحشة، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهه لهلال بن أمية:"أئت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك، وإلا فحد في ظهرك"، وإليه أشار عمر رضي الله عنه حين شهد عنده =
ولهذا، فلو لم يشهد بواقعة الزنا أربعة شهود، أو جاءت شهادتهم غير متفقة في شيء، مما لزم بيانه لندرأ الحد عن المدعى عليه، لقيام شبهة في إثبات الجريمة.
= أبو بكرة وشبل بن معبد، ونافع بن الأزرق على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالزنا، فقال لزياد وهو الرابع: بم تشهد فقال: أنا رأيت أقدامًا بادية، وأنفاسًا عالية وأمرًا منكرًا، وفي رواية قال: رأيتهما تحت لحاف واحد. ينخفضان، ويرتفعان، ويضطربان اضطراب الخيزران، وفي رواية رأيت رجلًا أقعى وامرأة صرعى، ورجلين مخضوبتين، وإنسانا يذهب ويجيء ولم أر ما سوى ذلك، فقال: الله أكبر الحمد لله الذي لم يفضح واحدًا، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي هذا بيان اشتراط الأربعة لإبقاء ستر العفة.
المبسوط ج9 ص37-38، فتح القدير ج5 ص289. ويقول الخرشي:"فإن قلت: لم اختصت شهادة الزنا بالأربعة؟ قبل لقصد الستر، ودفع العار للزاني والمزني بها وأهلها، ولهذا لم يلحقه في ذلك القتل، اكتفي باثنين، وإن كان أعظم من الزنا، الخرشي ج7 ص198، حاشية الدسوقي ج4 ص185. ويقول الشيرازي: "وإن شهد ثلاثة بالزنا ففيه قولان: أحدهما: أنهم قذفه ويحدون، وهو أشهر القولين؛ لأن عمر -رضي الله تعالى عنه- جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة، وروى ابن الوصي أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا، "وقال الرابع: رأيتهما في ثوب واحد، فإن كان هذا زنا، فهو ذلك، فجلد علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- الثلاثة، وعزر الرجل والمرأة المهذب ج2 ص332، مغني المحتاج ج4 ص149، 441 ويراجع في كل ما سبق أيضًا.
المحلى ج10 ص566 وما بعدها، ج13 ص238 وما بعدها، نيل الأوطار ج7 ص109، المغني ج8 ص202، ج9 ص147 مباني تكملة المنهاج ج1 ص118، المختصر النافع للحلي ص292.
وسقوط الحد لا يعني إسقاط جنس العقوبة، بل قد يسقط الحد، ويلزم الجاني بعقوبة من العقوبات التعزيرية.
والأمر في ذلك متروك للقاضي الذي يحكم الواقعة، ويقتضي فيها بما يحقق العدل والإصلاح.
ب- تأدية الشهادة في مجلس واحد:
ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط أن يجيء الشهود الأربعة، الذين يشهدون بجريمة
الزنا، في مجلس واحد يؤدون فيه شهادتهم، فإن لم يأت الأربعة في مجلس قضائي واحد، لم يعتد بشهادتهم في إثبات جريمة الزنا.
واعتبر عدم اكتمال: صاب الشهادة في مجلس واحدة شبهة يندرئ بها الحد عن المدعى عليه.
وقد بين ذلك ابن قدامة بعد أن ذكر آراء الفقهاء1، واستدل بما كان من ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- مع من شهدوا على المغيرة بن شيعة2، فلو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحد الثلاثة لجواز
1 قال ابن قدامة: والشرط السابع: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد، ذكره الخرقي، فقال: وإن جاء أربعة متفرقين، والحاكم جالس في مجالس حكمه لم يقم قبل شهادتهم، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة، وعليهم الحد. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي والبتني، وابن المنذر لا يشترط ذلك لقول الله تعالى:{لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، ولم يذكر المجلس؛ ولأن كل شهادة مقبولة إن اتفقت تقبل إذا افترقت في مجلس كسائر الشهادات، المغني ج8 ص200.
2 المغيرة بن شعبة الثقفي، كان من قادة العرب البارزين، ومن دهاتهم المشهود لهم، صحابي جليل ولد سنة 20 قبل الهجرة بمدينة الطائف، وفد على المقوقس بالأسكندرية، أسلم وحضر الحديبية واليمامة، وولاه عمر البصرة ت سنة 50هـ.
أن يكتملوا برابع في مجلس آخر؛ ولأنه لو شهد ثلاثة، فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم، وبهذا فارق سائر الشهادات1.
واشتراط الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك زيادة على ما ذهب إليه الجمهور أن يجيء الشهود الأربعة مجتمعين، فلو جاء كل واحد منهم بمفرده أو أكثر ولم يكتمل الأربعة مجتمعين، لا تقبل شهادتهم في إثبات الحد في المشهود عليه2.
ورجح ابن قدامة قبول شهادتهم، لو جاءوا متفرقين ما داموا قد أدوا الشهادة في مجلس واحد، مستدلًا بما كان من قصة المغيرة، فقال:"ولنا قصة المغيرة، فإن الشهود جاءوا واحد بعد واحد، وسمعت شهادتهم، وإنما حدوا لعدم كمالها؛ ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه"3.
وذهب الإمام الشافعي، والبتي4 وابن المنذر5 وابن حزم،
1 المغني ج8 ص201، المبسوط ج9 ص38، 65، حاشية الدسوقي ج4 ص185، مباني تكملة المنهاج ج1 ص184، 187.
2 المبسوط ج9 ص38، 65، حاشية الدسوقي ج4 ص185، المغني ج8 ص200.
3 المغني ج8 ص201.
4 البتي نسبة إلى البت موضع بضواحي البصرة، منه عثمان البتي الذي روى عن أنس، وعن الحسن البصري، ومنه أبو الحسن أحمد بن الكاتب البتي، راوي الحديث سنة 405هـ.
5 أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيها، عالمًا صنف في اختلاف العلماء كتبًا لم يصنف مثلها سنة 309، أو سنة 310، وافيات الأعيان ج3 ص340.
إلى أنه لا يشترط اتحاد المجلس الذي تؤدي فيه الشهادة للأربعة شهود؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكر ما يدل على ذلك، وعلى هذا فلا حاجة لاشتراطه1.
وما استدل به هؤلاء من أن الله سبحانه وتعالى، لم يذكر ما يدل على اشتراط ذلك، فيما جاءت به الآيتان الكريمتان مردود بأن الآيتين الكريمتين لم يتعرضا للشروط، ولذا لم يذكرا العدالة ولا صفة الزنا؛ ولأن مجيء الشهود لا يخلو من أن يكون مطلقًا في الزمان كله، أو مقيدًا، لا يجوز أن يكون مطلقًا؛ لأنه يمنع من جواز جلدهم؛ لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء، أو بكمالهم، إن كان قد شهد بعضهم، فيمتنع حدهم المأمور به، فيكون تناقضًا، وإذا ثبت أنه مقيد، فأولى ما يفيد بالمجلس؛ لأن لمجلس كله بمنزلة الحال الواحد2.
ولذا قال ابن حزم بعدم جواز جلدهم إذا لم يرد ذلك، وعليه فلا مانع من الانتظار عنده، فإنه لا يجوز أن يحتاج بأن الآيتين الكريمتين لم تشترطا ذلك الذي ذهب إليه الجمهور من حضور الشهود مجتمعين؛ لأن الآيتين لم تشترطا غيره، وإنما جاء ذلك وغيره مما اشترط في الشهادة من شروط، أوردها الصحابة الأجلاء، واستدل الفقهاء على اشتراطهم، ومنهم ابن حزم3.
1 المحلى ج13 ص240-241، المغني ج8 ص200، يراجع مغني المحتاج ج4 ص149.
2 المغني ج8 ص201.
3 المحلى ج10 ص564-617.
ج- أن يعين الشهود شريك المشهود عليه بالزنا:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من شهدوا على إنسان بارتكابه جريمة الزنا، يلزم أن يذكروا من شاركه جريمته هذه، فإن كان المشهود عليه رجلًا، فلا بد من أن يحددوا المرأة التي شاركته جنايته تحديدًا لا يحتمل أدنى لبس، ولا يبقى أي احتمال لقيام علاقة بينهما تبيح له أن يأتي منها ما يأتيه الرجل من زوجته، وأن كانت المشهود عليها امرأة، لزم أن يحدد الشهود من شاركها جريمتها، تحديدًا دقيقًا لا تبقى معه أدنى شبهة، لجواز أن يكون الشهود قد رأوا رجلًا يأتي زوجته، وهم لا يعرفون ما بينهما من علاقة الزوجية مثلًا.
وعلى هذا، فلو لم يعين الشهود شريك المشهود عليه في جريمة الزنا، نتج عن ذلك شبهة تدرأ العقوبة الحدية عن المشهود عليه.
يقول الشيرازي مبينًا ذلك، ومن شهد بالزنا ذكر الزاني، ومن زنى به؛ لأنه قد يراه على بهيمة، فيعتقد أن ذلك زنا، والحاكم لا يعتقد أن ذلك زنا، أو يراه على زوجته، أو جاريته ابنه فيظن أنه زنى1، ويقول ابن قدامة: وأما تعيينهم المزني بها، أو الزاني إن كانت الشهادة على امرأة، ومكان الزنا، فذكر القاضي أنه يشترط لئلا تكون المرأة ممن اختلف في إباحتها.. ولهذا سأل صلى الله عليه وسلم ماعزا فقال:"إنك أقررت أربعًا فبمن"؟.
وذهب ابن الهمام إلى أكثر من هذا حين قال: "وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها، لم يحد؛ لأن الظاهر أنها امرأته أو أمته".
1 المهذب ج2 ص336، يراجع أيضًا المحتاج ج4 ص149.
2 المغني ج8 ص200.
فلو قال المشهود عليه: المرأة التي رأيتموها معي ليست زوجتي، ولا أمتي لم يحد أيضًا؛ لأن الشهادة وقعت غير موجبة للحد، وهذا اللفظ منه ليس إقرارًا موجبًا للحد، فلا يحد"1.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الأحناف، والماليكة، والشافعية والحنابلة والظاهرية2، وذكر أبو القاسم الموسوي من فقهاء الشيعة أنه لا يشترط ذلك، فلو أختلف الشهود في تعيين الشريك في جريمة الزنا، فإنه لا أثر لذلك في إيجاب الحد على المشهود عليه؛ لأن الشريك غير داخل في شهادتهم أصلًا.
وقد بين ذلك، فقال:"أما لو كان اختلافهم -أي الشهود- غير موجب لتعدد الفعل واختلافه، كما إذا شهد بعضهم على أن المرأة المعينة المزني بها من بني تميم مثلًا، وشهد البعض الآخر على أنها من بني أسد مثلًا، أو نحو ذلك من الاختلاف في الخصوصيات، لم يضر بثبوت الزنا بلا إشكال، ثم أورد توضيحًا لذلك بقوله: "لأن أختلافهم في هذه الخصوصيات لا يضر بثبوت أصل المشهود به، لعدم دخلها فيه أصلًا"3، وما ذهب إليه جمهور الفقهاء أولى بالاتباع، وأقوى حجة، لجواز أن يكون الشهود قد توهموا أن من يواقعها الرجل المعروف لهم امرأة أجنبية عنه، بينما هي امرأة تزوجها، وهم لا يعلمون ذلك.
وما استدل به من قالوا بعدم اشتراط تعين الشريك في إثبات الزنا بالشهادة، قياسًا على عدم اشترطا ذلك في الإثبات بالإقرار، مردود
1 فتح القدير ج5 ص284، ويراجع تبيين الحقائق ج3 ص189.
2 المراجع السابقة، الخرشي ج7 ص198-199، المحلى ج13 ص378.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص180-181.
بما جاء من الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم، سأل ماعزًا عمن شاركته فعله حتى وقف عليها1.
كما أن الإنسان لا يقر على نفسه كاذبًا، وحال المقر على نفسه تخالف تماما حال المشهود عليه، الذي يحاول جاهدًا دفع التهمة عن نفسه.
وعلى هذا، فإن ذكر الشهود، وتعينهم شريك المشهود عليه أمر ضروري تنهض بتركه شبهة، تدرأ الحد عن المشهود عليه.
وهذا الشبهة إن درأت الحد، فإنها لا تمنع من التعزير إذا رأى القاضي ذلك.
د- أن يبدأ الشهود برجم الزاني المحصن:
إذا تم إثبات جريمة الزنا بشهادة الشهود، وكان الزاني محصنًا لزمه الرجم، وقد اشترط فقهاء الأحناف لتنفيذ عقوبة الرجم على الجاني أن يبدأ الشهود برجم الجاني، ثم بعد ذلك يرجمه الحاضرون.
فإن امتنع الشهود عن البدء برجم الجاني، فإن امتناعهم هذا، وإن لم يكن رجوعًا صريحًا، عن شهادتهم، إلا أنه يورث شبهة تلحق شهادتهم، وينتج عن ذلك درء العقوبة الحدية عن الجاني.
كما أنه لا يلزم عن ذلك اعتبار الشهود قذفه؛ لأن امتناعهم عن البدء بالرجم ليس رجوعًا صريحًا، عما شهدوا به، وإن كان دليلًا عليه، والحدود لا تلزم بمثل ذلك.
هذا إذا كان بدء الشهود برجم الجاني أمرً مقدورًا عليه من جهتم، فإن تعذر بدؤهم برجم الجاني، فإما أن يكون سبب ذلك طارئًا.
1 رواه أحمد ومسلم، وأبو داود الترمذي، نيل الأوطار ج7 ص107.
بعد أن أدوا شهادتهم، كسفرهم مثلًا، أو أن أحدهم قطعت يده، أو مات بعضهم.
وإما أن يكون سبب ذلك كان موجودًا عند آدائهم شهادتهم على الجاني، كان أحدهم مقطوع اليدين مثلًا، أو مريضًا مرضًا لا يستطيع معه البدء بالرجم.
فإن كان تعذر بدئهم برجم الجاني لسبب طارئ بعد آدائهم الشهادة، أوقف تنفيذ الحد على الجاني في رأي أبي حنيفة، حتى وإن أدى ذلك إلى إسقاط الحد، كما لو مات أحد الشهود قبل تنفيذ العقوبة.
وذهب أبو يوسف إلى أنه إذا تعذر بدء الشهود برجم الجاني لسب، لا تلحقهم به تهمه، كأن غابوا مثلًا، أو مات بعضهم، لزم الجاني الحد، ونفذ فيه، أما إن كان لسبب تلزمه به تهمة درئ الحد عن الجاني، أمال إذا كان سبب تعذر بدئهم برجم الجاني موجودًا عند آدائهم الشهادة، فلا خلاف على إلزام الجاني العقوبة، ويقوم بتنفيذها عليها من يستطيع ذلك، هذا ما ذهب إليه فقهاء الأحناف1.
وذهب فقهاء الشافعية، والحنابلة إلى أن بدء الشهود برجم الجاني من باب السنة، فإن امتنعوا عن ذلك مع قدرتهم عليه، لم يترتب على امتناعهم شيء بالنسبة لإلزام الجاني، ويقوم القادرون على التنفيذ برجم الجاني2.
1 يراجع في ذلك فتح القدير ج5 ص226-228، البحر الرائق ج5 ص9 المبسوط ج9 ص50-51.
2 مغني المحتاج ج4 ص152، المغني ج8 ص159، 170.
وذهب فقهاء المالكية إلى أن بدء الشهود برجم الجاني أمر غير لازم، فليس بواجب أو سنة، ولا يترتب على امتناع الشهود عن ذلك شيء، ما داموا لم يرجعوا عن شهادتهم، ويلزم الجاني الحد، وينفذ عليه1.
والذي أرجحه من ذلك هو ما ذهب إليه أبو يوسف، من القول باشتراط بدء الشهود برجم الجاني -ما داموا قادرين على ذلك- مع بعض الزيادة على ما ذهب إليه أبو يوسف، وتنحصر في أنهم أن امتنعوا عن رجم الجاني مع قدرتهم عليه، فإن التنفيذ يوقف، ويسألون عن سبب امتناعهم، فإن أبدوا سببًا مقبولًا لا يتطرق معه الشك في شهادتهم، ثم تنفيذ العقوبة على الجاني لجواز أن امتناعهم لرقة في قلوبهم، فإن لم يبدوا سببًا، أو أبدوا سببًا غير مقبول، فإن امتناعهم حينئذ تنهض به شبهة في شهادتهم، يترتب عليه درء الحد عن المشهود عليه.
أما ما ذهب إليه الإمام مالك عن عدم اشتراط ذلك، فقد يرجع سببه إلى أنه كان من فقهاء المدينة، وعاشر أهلها، وهم -وقت ذلك- ممن لا يشك في ذمتهم، ولا تلحقهم تهم، واختلاف الأزمنة، والأمكنة أمر تختلف معه الطباع.
1 المدونة ج16 ص41، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل للخطاب ج6 ص295، الخرشي ج8 ص82، الشرح الكبير بلدردير بهامش حاشية الدسوقي ج4 ص320.