الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: شبهة الدليل
وتنتج من وجود دليلين يقرر كل منهما حكما يغاير الحكم الذي يقرره الآخر، ويتنازعان محلا واحدًا.
والدليلان المتغايران اللذان تنتج عن وجودهما شبهة الدليل، قد يقومان لدى مجتهد واحد، ويثبتان عنده.
وقد يثبت أحدهما عن مجتهد فيعمله، ويثبت الآخر عند مجتهد آخر، فيعمله.
فشبهة الدليل إذا تقوم في موضعين:
أ- الموضع الأول:
إذا اجتمع لدى مجتهد واحد دليلان يتجاذبان حكم فعل واحد من الأفعال، وقد تفاوتا على الدرجة، بمعنى أن أحدهما راجح والآخر مرجوح، فإنه يترتب على وجود مثل هذين الدليلين أعمال المجتهد لهما -وهو ما يسميه الحنفية الشبهة الحكمية، ويرون أنها أحد قسمي شبهة المحل1.
بمعنى أنه يعمل الدليل الراجح أولًا، فإذا كان أعمال هذا للدليل يترتب عليه تجريم الفعل، والعقاب عليه بالعقوبة الحدية، وجب إلزام مقترفة بالعقوبة المقررة.
ثم كان على المجتهد، أن يعمل الدليل المرجوح أيضًا بمعنى أنه إذا كان هذا الدليل المرجوح، يفيد حل الفعل، أو إباحته أعمله المجتهد على سبيل أنه ينتج شبهة في الدليل الراجح بالنسبة لهذه
1 لما كان متعلق الشبهة هنا هو الدليل آثرت تسميتها بشبهة الدليل؛ لأن الدليل مقدم في الوجود على الحكم، وما الحكم الانتاج الدليل، فتح القدير ج5 ص250.
الواقعة، وعليه يترتب على وجود هذا الدليل المرجوح، درء العقوبة الحدية التي قرره الدليل الراجح على كل من ارتكب الفعل.
وذكر فقهاء الأحناف مثالًا للمحل الذي اجتمع فيها الدليلان، فأنتجا شبهة الدليل، بالرجل الذي سرق من مال ابنه المقدار الذي تلزم به العقوبة الحدية للسارق لو كان المسروق لأجنبي، وقال فقهاء الأحناف: إن فعل هذا الأب الذي سرق من مال ابنه، قد اجتمع فيه دليلان متغايران يتجاذبان حكمه.
أما الأول وهو الدليل الراجح، فإنه يفيد التحريم، ويلزم العقوبة الحدية، ويتمثل هذه الدليل فيما جاء من قول الله سبحانه وتعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1.
فهذا الدليل تنطوي تحته أفعال السارقين، ومنهم هذا الأب الذي سرق.
أما الدليل الثاني، وهو الدليل المرجوح، فإنه يفيد إباحة فعل الأب، ولا يعاقب عليه، ويتمثل هذا الدليل المرجوح فيما روي عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أنت ومالك لأبيك "2.
وعليه فإن وجود هذا الدليل المرجوح يورث في انطباق دليل التحريم الراجح، على ما ورد في حقه دليل الإباحة المرجوح.
1 من الآية 38 من سورة المائدة.
2 روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لي مالًا وولدًا، وإن والدي يحتاج مالي، قال:"أنت ومالك لوالدك إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم"، سنن أبي داود ج2 ص259 "ط الحلبي".
ويترتب على وجود هذه الشبهة درء العقوبة الحدية على الأب الذي سرق من مال ابنه.
سواء أظن الأب الحل أو علم الحرمة؛ لأن ثبوت شبهة الدليل في حقه قائم سواء أعلمها، أو لم يعلمها1.
ب- الموضع الثاني:
الذي تقوم فيه شبهة الدليل هو عند اجتماع دليلين متعارضين لدى مجتهدين مختلفين، وكان هذان الدليلان المتعارضان يتنازعان محلًا واحدًا.
بمعنى أن الفعل يعد حلالًا على الحقيقة عند أحد المجتهدين بما ثبت عنده من دليل حل هذا الفعل.
ويعد نفس الفعل حراما على الحقيقة عند المجتهد الآخر بما ثبت عنده من دليل تحريم نفس الفعل.
وعلى هذا فإن من ثبت عنده دليل حل الفعل، وإباحته لا يلزم من أتى هذا الفعل بعقوبة ما لكونه أتى فعلًا مباحًا، أما من ثبت عنده دليل تحريم هذا الفعل، فإنه يلزم من أتاه بالعقوبة المقررة له؛ لأنه أتى فعلًا محرمًا معاقبا عليه.
وهذا النوع من شبهة الدليل هو ما أطلق عليه جمهور فقهاء الشافعية، والحنابلة شبهة الجهة أو الطريق.
أما فقهاء الأحناف، فقد أوردوا هذه الشبهات تحت اسم شبهة العقد2.
1 فتح القدير ج5 ص250-252، البدائع ج7 ص35-36 "ط أولى ص1910" البحر الرائق لابن نجيم ج=5 ص12-13.
2 ذكر فقهاء الأحناف، هذا تحت شبهة العقد، وجعلوا من شبهة =
وقد ذكر جمهور فقهاء الشافعية أمثلة لما اختلف الفقهاء، في حكمه إذا أباحه بعض الفقهاء، ولم يبحه البعض الآخر، من ذلك ما يأتي:
أ- الزواج الذي لم يحضره ولي، أو لم يحضر وقت عقده شهود، فقد أجاز الإمام أبو حنيفة الزواج الذي لم يحضر وقت إجراء عقده ولي، كما أجاز الإمام مالك الزواج الذي لم يحضر إجراء عقده شهود، وعلى هذا فقد ذهب جمهور فقهاء الشافعية، إلى القول بأنه ما دام أحد الفقهاء قد أجاز هذا الزواج، فإن إجازته له تنتج شبهة في حق من دخل بامرأة في ظل زواج مثل هذا.
وعليه فلا يعد فعله جريمة من الجرائم المعاقب عليها، لقيام شبهة الدليل في حقه، وهي شبهة تدرء العقوبة الحدية.
وقد أورد جمهور فقهاء الشافعية في معرض حديثهم عن شبهة الجهة حكم الوطء في ظل زواج المتعة1.
العقد أيضًا وطء الحرمة عليه، إذا كان ذلك الوطء في ظل عقد، وذكر الإمام أبو حنيفة تحت شبهة العقد أيضًا وطء المستأجرة للزنى، وأسقط الحد بسبب هذا العقد، وإلزمها التعزير، وخالف في ذلك الصاحبان والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد فتح القدير ج5 ص253-262.
أما فقهاء المالكية، فقد تحدثوا عن حكم ذلك كله، ولكن لم يذكروا تسمية لهذه الشبهات "حاشية الدسوقي ج4 ص214 وما بعدها الخرشي ج8 ص78 وما بعدها".
ولقد أطلقت على هذه الشبهات شبهة الدليل؛ لأن الخلاف في ذلك مرجعه أن كل صاحب رأي استدل بدليل، ورجحه واعتمد عليه في ما ذهب إليه، لهذا أثرت تسميتها بشبهة الدليل.
1 أورد أستاذي الدكتور سلام مدكور صورة نكاح المتعة، كما صورها الكاساني بقوله:
"أعطيتك كذا على أن أتمتع بك يومًا أو شهرًا أو سنة، وكذا منه أن يقول: رجل غريب عن البلاد لامرأة واطنة خالية من الأزواج، وعدتهم ومن الموانع الشرعية: أتمتع بك منذا إقامتي في البلدة نظير أن أعطيك كذا، فتقول: قبلت"، وهذا عقد باطل باتفاق فقهاء المسلمين عدا الشيعة الإمامية -وإن حضره شهود، ولا يترتب عليه أي حكم من أحكام الزواج.
الوجيز لأحكام الأسرة ص41، "نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص221.
فذكروا في أحد أقوالهم: أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهم قال بإباحته، وعليه لا حد بالوطء فيه، وإن اعتقد الواطئ تحريمه: لوجود شبهة الخلاف.
أما القول الثاني: فإنه يجب الحد بالوطء في ظل نكاح المتعة؛ لأنه قد ثبت نسخه وقد رجع عنه ابن عباس.
وفي قول ثالث: يجب الحد على معتقد التحريم دون غيره1.
1 يقول الشربيني الخطيب: "واحترز على شبهة الطريق التي تضمنها قوله: "وكذا كل جهة أباحها"، أي قال بالوطء بها عالم كنكاح بلا شهود فقط، كما قال به مالك، أو بلا ولي فقط كما قال به أبو حنيفة.
أو بولي وشهود، ولكنه مؤقت وهو نكاح المتعة كما قال به ابن عباس -رضي الله تعالى عنهم- لأحد بالوطء فيه "على الصحيح"، وإن اعتقد تحريمه لشبهة الخلاف، وقيل: يجب على معتقد التحريم دون غيره، وقيل: يجب على معتقد الاباحة أيضًا، كما يحد الحنفي على شرب النبيذ، وفي قول يجب في نكاح المتعة؛ لأنه ثبت نسخه وابن عباس رجع عنه كما رواه البيهقي "مغني المحتاج ج1 ص145، حاشية الباجوري ج2 ص230، ويقول ابن قدامة: ولا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة والشغار والتحليل، والنكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة ونكاح المجوسية، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، المغني ج8 ص184.
وجمهور فقهاء الشافعية، وإن قالوا بشبهة الجهة هذه، فإنهم لم يتركوا باباها مفتوحًا ليدخل فيه كل خلاف بين الفقهاء، وإنما قصروا ذلك على وقائع محدده، هي التي قالوا بانضوائها تحت ما وضعوه من ضابط للقول بهذه الشبهة.
من هذه الوقائع النكاح بلا ولي، أو بلا شهود ومثلهما نكاح المتعة، ثم ذكروا وقائع أخرى اختلف فيها فقهاء، لكنهم لم يروا اختلاف الفقهاء فيها اختلافًا منتجا لشبهة الجة، أو الطريق؛ لأنهم يرون أن الضابط في الشبهة قوة المدرك، لا عين الخلاف، كما ذكرها الشيخان.
فلو وطئ أمة غيره بإذنه حد على المذهب عند جمهور الشافعية، وإن حكي عن عطاء حل ذلك، وهو ما ذهب إليه الشيعة الجعفرية.
كما أن فقهاء الشيعة يشترطون في محل الخلاف المذكور أن لا يقارنه حكم، فإن قارنه حكم بأن حكم شافعي يبطلانه حد قطعًا، أو حنفي أو مالكي بصحته لم يحد قطعًا؛ لأن حكم القاضي يمنع النزاع، ويرفع الخلاف، وعلى هذا فإن جمهور فقهاء الشافعية لم يقل بشبهة الجهة بصفة عامة، وإنما وضع لها من الضوابط ما يخصصها، ويحدد مرادهم بها، وقد وضح الشربيني الخطيب ذلك بقوله:
وقد مر أن شرط الشبهة أن تكون قوية المدرك مسقطة للحد ليخرج أيضًا شبهة من استؤجرت للزنا، فلذلك قال: ويحد في وطء مستأجر للزنا بها لانتفاء الملك والعقد، وعقد الإجارة باطل، ولا يورث شبهة، مؤثرة كما لو اشترى خمرًا فشربها، وهذا ما ذهب إليه المالكية والحنابلة أيضًا.
وعن أبي حنيفة أنه لا حد؛ لأن الإجارة شبهة، وعورض بأنها لو كانت شبهة لثبت النسب، ولا يثبت اتفاقًا.
فإن قيل: لم لم يراع خلافه هنا كما مر في نكاح بلا ولي؟ أجيب بضعف مدركه هنا.
ويحد أيضًا في وطء مبيحة فرجها للوطء؛ لأن البضع لا يباح بالإباحة، وتحد هي أيضًا في المسألتين، وفي وطء محرم بنسب أو رضاع، أو مصاهرة وأن كان تزوجها؛ لأنه وطء صادف محلًا ليس فيه شبهة، وإن كان أبو حنيفة قد قال لا حد عليه؛ لأن صورة العقد شبهة1.
من هذا يبين تأكيد جمهور فقهاء الشافعية، والحنابلة على أن تكون الشبهة قوية المدرك حتى يمكن الاعتداد بها في إسقاط الحد، فإن تخلف هذا الشرط، فإنها تصبح شبهة ضعيفة لا يلتفت إليها، ولا يدرأ بها حد.
وعلى هذا فإن شبهة الجهة، أو الطريق لا تقوم عندهم إلا إذا كان الخلاف في حل الفعل وتحريمه، بشرط أن يكون هذا الخلاف ناتجًا من اعتداد من يقول بالحل بدليله الذي ثبت عنده، واعتداد من يقول بالحرمة بدليله الذي ثبت عنده.
وعلى هذا أيضًا لا يعد من شبهة الجهة، أو الطريق كل خلاف في أن هذه شبهة أم لا، ما دام الفقهاء قد اتفقوا على تحريم الفعل، ولم يوجد عند أحدهم دليل يقول بحله.
1 مغني المحتاج ج4 ص145-146، فتح القدير ج5 ص550-262ط الحلبي الخرشي ج8 ص76، حاشية الدسوقي ج4 ص314 المغني ج8 ص211، المختصر النافع ص210 الروضة البهية شرح اللمعغة الدمشقية ج2 ص113 نقلًا عن أستاذي الدكتور سلام مدكور نظرية الإباحة ص222-223.
أي أن ما اختلف عليه جمهور الفقهاء -مع أبي حنيفة، فيما يرى الإمام أبو حنيفة أنه شبهة عقد، أو اشتباه ويرى جمهور الفقهاء أنه ليس بشبهة، لا يجوز الاعتداد به، ولا يترتب عليه إسقاط العقوبة الحدية، ما دام الجمهور يرون أن الفعل الذي وقع حرام عندهمن ويتمثل ذلك فيما قال به الإمام أبو حنيفة من شبهة العقد، أي عقد، حتى ولو كانت العقوبة عليه محرمة على من عقد عليها لنفسه حرمة ثابتة بإجماع الفقهاء، حتى ولو كان التحريم على التأبيد.
وقد بقين الكساني بقوله: "والأصل عند أبي حنيفة عليه الحرمة أن النكاح إذا وجد من أهله مضافًا إلى محل قابل لمقاصد النكاح بمنع وجود الحد، سواء أكان حلالًا أم حرمًا، وسواء أكان مختلفًا فيه أم مجمعًا عليه، وسواء أظن الحل فادعى الاشتباه أم علم الحرمة"1.
وعلى هذا فلو عقد رجل على من تحرم عليه من نسب، أو رضاع أو مصاهرة أو لأي سبب غير ذلك، ثم دخل بها، فإن عقده عليها يعد عند أبي حنيفة شبهة تسقط الحد، نظرًا؛ لأن هذا الرجل وهذه المرأة يشملها عموم النص الذي ورد بإباحة نكاح من تطيب من النساء:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2.
ويشملها أيضًا العموم الذي جاء في قول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} 3، وقوله تعالى:{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 4.
1 بدائع الصنائع ج7 ص36 ط الجمالية سنة 1910، فتح القدير ج5 ص259-262 الحلبي.
2 من الآية 3 من سورة النساء.
3 من الآية 21 من سورة الروم.
4 الآية 45 من سورة النجم.
فالإمام أبو حنيفة، يرى أن الآيات قد جعلت الأنثى من بنات آدم عليه السلام محلًا صالحًا لمقاصد النكاح من السكنى، والولد والتحصين وغيرها، فكانت محلًا لحكم النكاح؛ لأن حكم التصرف وسيلة إلى ما هو المقصود من التصرف، فلو لم يجعل محل المقصود محل الوسيلة، لم يثبت معنى التوسل، إلا أن الشرع أخرجها من أن تكون محلًا للنكاح شرعًا مع قيام الحلية حقيقة، فقيام صورة العقد والمحلية يورث شبهة إذ الشبهة اسم لما يشبه الثابت، وليس بثابت.
كما أن الإمام أبا حنيفة يرى أن النكاح، والمحلية قد وجدا غير أن شرط الصحة قد فات، فكان نكاحًا فاسدًا، والوطء في النكاح الفاسد لا يكون زنا بالإجماع1.
كما ذكر صاحب المبسوط أن الإمام أبا حنيفة لا يرى حدًا على من استأجر امرأ ة ليزني بها؛ لأن عقد الاستئجار مشروع لملك المنفعة، أو باعتبار ذلك ينتج شبهة تدرأ الحد.
فقد جاء في المبسوط: رجل استأجر امرأة ليزني به، فزنى بها، فلا حد عليهما في قول أبي حنيفة
…
واحتج رحمه الله بحادثتين ذكرهما عن عمر -رضي الله تعالى عنه، إحدهما ما روي أن امرأة استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ عمر الحد عنها.
والثانية أن امرأة سألت رجلًا مالًا، فأبى أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ الحد، وقال: هذا مهر، ولا يجوز أن يقال: إنما درأ الحد؛ لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش؛ لأن هذا المعنى لا يوجب سقوط الحد عنه، وهو غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالا كما ذكرنا
1 بدائع الصنائع ج7 ص36 ط الجمالية سنة 1910م.
في الثانية أنه علل، فقال: هذا مهر ومعنى هذا أن المهر والأجر يتقاربان، قال تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 1 سمى المهر أجرًا. ولو قال: أمهرتك كذا لأزني بك لم يجب الحد، وكذلك إذا قال: استأجرتك، توضيحية أن هذا الفعل ليس بزنا، وأهل اللغة لا يسمون الوطء الذي يترتب على العقد زنا، ولا يفصلون بين الزنا وغيره إلا بالعقد، فكذلك لا يفصلون بين الاستئجار والنكاح؛ لأن الفرق بينهما شرعي، وأهل اللغة لا يعرفون ذلك، فعرفنا أن هذا الفعل ليس بزنا لغة، وذلك شبهة في المنع من وجوب الحد حقًا لله تعالى، كما لا يجب الحث على المختلس؛ لأن فعله ليس بسرقة لغة، يوضحه أن المستوفي بالوطء، وإن كان في حكم العتق، فهو في الحقيقة منفعة، الاستئجار عقد مشروع لملك المنفعة، وباعتبار هذه الحقيقة يصير شبهة، بخلاف الاستئجار للطبخ والخبز؛ لأن العقد هناك غير مضاف إلى المستوى بالوطء، ولا إلى ما هو سبب له، فالعقد المضاف إلى محل يوجب الشبهة في ذلك المحل لا في محل آخر"2.
وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من إطلاق شبهة العقد قم يرضه جمهور الفقهاء، وقالوا بوجوب الحد على من عقد على امرأة مجمع على تحريمها عليه؛ لأنهم يرون أن صورة المبيح، إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة، والعقد في المسائل التي قال بها الإمام أبو حنيفة باطل محرم وفعله جناية تقتضي عقوبة تنضم إلى عقوبة الزنا، فلم تكن شبهة3.
1 من الآية 24 من سورة النساء.
2 المبسوط للسرخسي ج9 ص58-59.
3 المغني ج8 ص182 المهذب ج2 ص268، مغني المحتاج ج4 ص146 الشرح الكبير لابن قدامة ج10 ص188-189 كشاف القناع ص98، حاشية الدسوقي ج4 ص314.
الخرشي ج8 ص91.
واستند نقد الفقهاء لأبي حنيفة، فيما ذكر من إسقاط الحد بالنسبة لمن استأجر امرأة فزنى بها.
وقالوا: إن عقد الإجارة باطل ولا يورث شبهة، وقاسوا ذلك بحال من اشترى خمرًا فشربها، وأن عقد الإجارة لو كان يورث شبهة لثبت به النسب، والنسب لا يثبت في مثل ذلك اتفاقًا1.
ويزيد ابن القيم على ما سبق من قول الفقهاء منكرًا على أبي حنيفة قوله بشبهة عقد الاستئجار: كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنا والمبالغة في المنع منه، ثم يسقط الحد بالتحايل عليه بأن يستأجره لذلك، أو لغيره ثم يقضي غرضه منها؟
وهل يعجز عن ذلك زان أبدًا؟!
وهل يسقط الشارع الحكم الحد، عمن أراد أن ينكح أمه أو ابنته، أو أخته بأن يعقد عليها العقد، ثم يطأها بعد ذلك، وهي ما زادت صورة العقد المحرم، إلا فجوررا وإثماً، واستهزاء بدين الله وشرعه، ولعبًا بآياته؟
فهل يليق به مع ذلك دفع هذه العقوبة عنه، وإسقاطها بالحيلة التي فعلها مضمومة إلى فعل الفاحشة بأمه وابنته2، هذه مقالة أبي حنيفة، وبيان رأي الجمهور فيها.
أما الصاحبان أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، فإنهما لم يقولا بشبهة
1 الخرشي ج8 ص76، حاشية الدسوقي ج4 ص214.
مغني المحتاج ج4 ص146، المغني -8 ص211، فتح القدير ج5 ص262.
2 إعلام الموقعين لابن القيم ج3 ص198-199.
العقد على إطلاقه كما ذهب أبو حنيفة، وإنما عد العقد شبهة إذا كان النكاح محلًا للخلاف بين الفقهاء، أو كان التحريم مؤقتا فقط.
إما إذا كانت المعقود عليها محرمة على من عقد عليها لنفسه تحريمًا تأبيديا بحيث لا يمكن أن تكون حلالًا له قط، كأمه أو أخته، أو ابنته مثلًا، أو كان النكاح مجمعًا على بطلانه، كما إذا عقد على امرأة في عصمة رجل آخر، فإن العقد في هاتين الحالتين لا يمكن أن ينتج علنه شبهة تدرأ الحد، ولذا أوجبوا الحد إذا حدث دخول في هاتين الحالتين، إلا إذا ادعى من دخل أنه ظن أن ذلك حلالًا، وأن الأمر اشتبه عليه، فهنا يدرأ الحد عنه1، والحد وإن سقط حينئذ فسقوطه بسبب قيام شبهة الجهل التي تنفي القصد الجنائي عند الفاعل، وليس لقيام شبهة العقد، وما ذهب إليه الجمهور، ووافقهم عليه الصاحبان هو ما أرى ترجيحه والعمل به، إذ أن الجاني بالدخول في ظل عقد على من حرمت عليه تحريمًا تأبيديا لا خلق له ولا دين، إذ كيف يقدم على الدخول بأمه، أو بأخته أو بابنته، ثم بعد ذلك يطمع في أن يسقط الحد عنه لتمسحه في عقد باطل؟.
وكيف يتأتى لأحد أن يعقد هذا العقد، أو يشهد عليه؟
مما لا شك فيه أن ذلك لا يتأتى إلا من فاجر فاسق يجب أن ينزل به من العقاب الموجع ما يزجره، ويردعه هو من تسول له نفسه الإقدام على شيء من ذلك، والاعتداء على حرمات الله اعتداء لا يقع إلا مع شاذ
1 بدائع الصنائع ج7 ص36، فتح القدير ج5 ص259-260.
موغل في الانحراف والغي، ومثل هذا قد يبين الرسول صلى الله عليه وسلم عقابه في قوله:"من وقع على ذات محرم فاقتلوه"1.
1 رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهم.
السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص237 ط الهند سنة 1354هـ.
وقد ذكر ابن الهمام جابنًا مما ورد في ذلك، فقال: وفي مسألة المحارم رواية عن جابر -رضي الله تعالى عنه- أنه يضرب عنقه، ونقل عن أحمد وإسحاق، وأهل الظاهر، وقصر ابن حزم قتله على ما إذا كانت امرأة أبيه قصرًا للحديث الآتي على مورده، وفي رواية أخرى عن أحمد تضرب عنقه يؤخذ ماله لبيت المال. وذلك لحديث البراء قال:"لقيت خالي ومعه راية، فقلت له: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن اضرب عنقه، وأخذ ماله. وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن. وروى ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقع على ذات محرم منه، فاقتلواه"، وأجيب بأن معناه أنه عقد مستحلًا فارتد بذلك، وهذا؛ لأن الحد ليس ضرب العنق، وأخذ المال بل ذلك لازم للكفر، وفي بعض طرقه عن معاوية بن قرة عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جده معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه، ويخمس ماله"، وهذا يدل على أنه استحل ذلك فارتد به، ويدل على ذلك أنه ذكر في الحديث أنه عرس بها، وتعريسه بها لا يستلزم وطأه إياها، وغير الوطء لا يحد به فضلًا عن القتل، فحيث كان القتل كان للردة وهذا يخلو عن نظر، فإن الحكم لما كان عدم الحد، والقتل كان للردة وهذا يخول عن نظر، فإن الحكم لما كان عدم الحد والقتل بغير الوطء كان قتله جائزًا كونه لوطئه، وكونه لردته فلا يتعين كونه، للردة، ويجاب بأنه أيضًا لا يتعين كونه للوطء، فلا دليل فيه على أحدهما بعينه وذلك يكفينا، وقالوا: جاز فيه أحد الأمرين أنه للاستحلال، أو أمر بذلك سياسية وتعزيرًا. فتح القدير ج5 ص260-261.
والحديث الشريف عام، يشمل كل من يقع منه هذا الفعل المحرم سواء استحل ذلك، أم لم يستحل.
والإمام أبو حنيفة، وإن قال بدرء صورة العقد للعقوبة الحدية، على اعتبار أنه يرى أن مجرد صورة العقد شبهة، إلا أنه لم يقل بإسقاط العقوبة بكل أنواعها، وإنما الذي لا يوافق عليه فقط في مثل هذا هو العقوبة الحدية لما ذكره.
أما إقامة العقوبة التعزيرية على من فعل ذلك، فهذا أمر لا محالة منه عنده بل وصل به إلى أنه واجب، فلا محالة من إلزام الفاعل هنا عقوبة تعزيرية موجعة ورادعة، فهو إذا لم يقل بحل الفعل؛ لأن الفرق كبير بين القول بدرء العقوبة الحدية، والقول بحل الفعل.
وعلى هذا يمكن حصر الخلاف بين وجهتي نظر الجمهور، والإمام أبي حنيفة في أن الإمام يعتبر صور المبيح شبهة تدرء الحد، ولا تنفي جنس العقوبة.
أما الجمهور، فإنه لا يعتر صورة المبيح شبهة ما دام المحل غير صالح لقيامها به نظرًا لما ورد من نهى عن ذلك من لدن الشارع الحكيم، غير أن ما ذكره الإمام أبو حنيفة ما هو إلا محاولة منه لتلمس الشبهة، محاولة وصلت حد الإسراف في تلمسها، والقول مما جعله يفتح باب شبهة العقد على مصراعيه، ويقول بها وجود صورة العقد، كما سبق بيانه.
أما فقهاء المالكية، فإنهم وإن كانوا فيما ذكروه من شبهة عندهم شبهة العقد، إلا أنهم قصروها على ما ينتج من انعقاد ليس له صفة العقد
الصحيح النافذ المترتبة عليه الآثار الشرعية، ومثلوا لها بأمثلة كثيرة منها ما يدخل ضمن مفهوم شبهة الجهة، أو الطريق وهي الشبعة الناتجة عن عقد يراه بعض الفقهاء صحيحًا، ويراه الآخرون غير ذلك، كالعقد بلا ولي، فإن الوطء فيه لا يسمى زنا شرعًا عندهم، للاختلاف المنتج شبهة تدرأ الحد1.
ومن الأمثلة التي ذكروها أيضًا، وقالوا بشبهة العقد فيها، ما إذا عقدت امرأة عقدها على مملوكها، ثم مكنته من الدخول بها في ظل هذا العقد، وإن كان غير صحيح، إلا أنه يورث شبهة تدرأ الحد عنها.
يقول الخرشي: "وكذا تجد المرأة إذا مكنت مملوكها من نفسها حتى وطئها من غير عقد، لا أن كان بعقد للشبهة، وإن كان غير صحيح"2.
وكذا شبهة العقد الباطل، كمن يعقد لنفسه على معتدة غيره ثم يطؤها، وهو عالم بأنها معتدة غيره، فالعقد هنا وإن كان باطلًا غير أنه يورث شبهة عند فقهاء المالكية يترتب عليها درء الحد.
يقول الخرشي: وإذا عقد على معتدة من غيره، ووطئها عالمًا، فإنه لا حد عليه هو المشهور، مع أن حد الزنا صادق عليه3.
ومثل ذلك أيضًا من وطئ امرأة على عمتها، أو خالتها نسب أو رضاعة، فلا حد عليه إذا تم هذا الوطء في ظل عقد؛ لأن هذا العقد وإن كان باطلًا، إلا أنه يورث شبهة تدرأ العقوبة الحدية4.
1 الخرشي ج8 ص76، حاشية الدسوقي ج4 ص303.
2 الخرشي ج8 ص77.
3 المرجع السابق ص78 حاشية الدسوقي ج4 ص 316.
4 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص315-317.
هذه بعض أمثلة لما قال به فقهاء المالكية من شبهة العقد، وهم قد قصروها على ذلك، ولم يصلوا بها الحد الذي وصله الإمام أبو حنيفة كما تقدم.
هذا هو الموضع الثاني الذي فيه شبهة الدليل.
وقد ذكر بعض فقهاء المالكية نوعًا من الشبهة هي أقرب إلى شبهة الدليل، وذلك عند حديثهم عمن تزوج امرأة على أختها أي جمع بينهما، ودخل بهما فقال بعض المالكية بعدم وجوب الحد على من جمع بين الأختين من الرضاع ودخل بهما؛ لأن تحريم الجمع بينهما جاء من السنة، ولا حد على من تزوج امرأة على عمتها مثلًا، ودخل بهما؛ لأن التحريم أيضًا بالسنة لا بالكتاب1.
والفقهاء والذين قالوا بذلك من المالكية، وإن رأوا إسقاط العقوبة الحدية إلا أنهم يرون أن من فعل ذلك، وجمع بين المحرمات الذين وردا دليل تحريم الجمع بينهم من السنة، يجب إلزامه بعقوبة تعزيرية مناسبة تكفل الردع، والزجر له ولأمثاله، والإمام مفوض في اختيار نوع هذه العقوبة.
وشبهة الدليل هذه التي قال بها بعض فقهاء المالكية، تغير شبهة الفعل التي أوردها فقهاء الأحناف، مغيرة كاملة؛ لأن شبهة الفعل تقوم في حق من اشتبه عليه حكم الفعل، أهو حلال أم حرام؟ وليس لديه دليل يفيد الحل صراحة، وإنما ظن غير الديل دليلًا.
وذلك مثل من يطأ جارية زوجته ظانًا أنها تحل له، نظرًا؛ لأنه رأى أن وطأها نوع من استخدامها، واستخدامها له مباح2.
1 الخرشي ج8 ص79.
2 فتح القدير ج5 ص250.
أما شبهة الدليل هذه عند من قال من فقهاء المالكية، فهي تقوم عندما يكون الدليل التحريم من السنة أي دليل تحريم الفعل، لا دليل إيجاب نوع الحد، بدلًا من نوع آخر، أو تقرير عقوبة من العقوبات وعدها عقوبة حدية.
أي أن شبهة الدليل التي نحن بصددها لا تقوم عند الحديث عن عقوبة الرجم، أو إيجابها بدلًا من عقوبة الجلد، إذا كان من وجبت عليه عقوبة الزنا محصنًا.
وإنما تقوم أساسًا في عد الفعل جريمة حدية، يلزم من قام بهذا الفعل بالعقوبة الحدية أم لا، نظرًا؛ لأن دليل التحريم من السنة، وما ذكره بعض فقهاء المالكية هنا أرى لا يعد شبهة يترتب عليها دراء حد من الحدود؛ لأن التحريم ما دام قد ثبت دليله، وصححه المحدثون والفقهاء، فليس هناك داع للقول بمثل هذا؛ لأن الدليل إما أن يكون مقبولًا معمولًا به، أو يكون مردودًا، ولا يجوز العمل به، فما دام قد عمل به جميع الفقهاء، وقالوا بتحريم الفعل على أساس ورود هذا الدليل، فلا طائل إذا من التفريق بين كون هذا الدليل من الكتاب، أم من السنة ولا داعي لمثل هذه المحاولة من التفريق، لما ينتج عنها من فتح باب لذوي الأهواء والرغبات.