الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: شروط في المقر
يشترط في المقر لاعتبار ما أقر به دليل إثبات يعتد به في إلزام المقر ما يترتب على ذلك ما يأتي:
1 البلوغ: فلا عبرة بما أقر الصبي به على نفسه.
2 العقل: فلا يعتد بقول المجنون، أو من في حكمه.
3 اليقظة عند الإقرار: لأن النائم لا أثر لما يردده من حديث.
هذه الشروط الثلاثة لا بد من توافرها في المقر حتى يعتد بإقراره؛ لأن من لم تتوافر فيه هذه الشروط، أو انتقص منه واحد منها لا يصلح ما يصدر عنه دليل إثبات جناية من الجنايات عليه، إذ أن من المعروف عند فقهاء التشريع الإسلامي ما ورد من "أن القلم رفع عن ثلاثة، عن المجنون، حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ"1.
ومما هو معروف أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز مقرًا بجنايته، سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أبك جنون"؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم قد ثبت لديه بلوغ ماعز، وأنه ليس بنائم، لذا سأله عن عقله.
كما روى أنو داود بإسناده قال: "أتى عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسًا، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة آل فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: ارجعوا بها. ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة؟ وذكر له الحديث السابق.
1 القضاء في الإسلام أ. د: سلام مدكور ص80، فتح القدير ج4 ص158، المغني ج8 ص193، الشرح الكبير للمقدسي المتوفى سنة 682هـ ج10 ص192 "مطبوع مع المغني".
قال: بلى قال: فما بال هذه؟ قال: لا شيء قال: فأرسلها. فجعل عمر يكبر"1.
من هذا يبين أن الصبي والمجنون، ومن في حكمهما لا يعتد بقولهم في إثبات الجنايات عليهم، ولا يلزمون بالعقوبة الجنائية نظيرًا ما وقع منهم، وهذا واضح في شأن المجنون مما ذكر من أن عمر أسقط العقوبة بسبب جنون الفاعل وقت ارتكابه فعلته، ومن هذا يبين أيضًا أن من أقر بشيء، وهو واقع تحت تأثير ما يعيبه كأن يكون تحت عملية جراحية، ومن أثر ما أعطي من "البنج" اعترف بارتكابه جريمة ما من الجرائم، فإنه لا يعد اعترافه هذا دليل إثبات جنائي.
إقرار السكران:
السكران هو من ذهب عقله بسبب تعاطيه شيئًا مسكرًا، سواء أكان خمرًا، أو غير ذلك.
وقد جاء في تفسير القرطبي: أن السكران هو من لا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة.
وجاء أيضًا أن حد السكر اختلال العقل، فإذا استقرئ خلط في قراءته، وتكلم بما لا يعرف، استدلالًا بقول الله تعالى:{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 2.
فالسكران إذا: هو من استتر عقله، فغلب على كلامه الهذيان
1 المغني ج8 ص194، المهذب ج2 ص343.
2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2 ص1772-1774.
والسكران يخالف المجنون في أن الأول استتر عقله، ولكنه لم يذهب كالمجنون.
وللفقهاء آراء في الاعتداد بإقرار السكران، ولبيان ذلك يجب التفريق بين حالتي سكره؛ لأنه إما أن يكون معتديًا بسكره، أو يكون غير متعد به.
أولًا: المتعدى بسكره: "وهو من شرب مسكرًا عالمًا لغير ضرورة" يرى فقهاء الأحناف أن إقرار السكران المتعدي بكسرها إقرار صحيح يؤخذ به، إلا في الحدود الخالصة حقا لله تعالى، فمن أقر بقتل، أو بجناية على ما دون النفس من الجنايات التي تستوجب عقوبة القصاص، أو الدية أخذ بإقراره هذا؛ لأن هذه حقوق الآدميين، أما من أقر وهو سكران بجناية من الجنايات المتعلقة بحق من الحقوبق الخاصة لله سبحانه وتعالى كالزنا مثلًا، فإنه لا يؤاخذ بإقراره هذا؛ لأنه سكران؛ ولأن حقوق الله مبنية على المسامحة1.
من هذا يبين أن السكران المتعدي بسكره، إذا أقر بحد خالص لله سبحانه وتعالى، فإنه لا تلزمه العقوبة الحدية بإقراره هذا، أما إذا أقر بحق خالص للآدمي، فإنه يلزم بما أقر به.
ويلزم أيضًا بإقراره إذا أقر بما فيه حق لله سبحانه وتعالى، وحق
1 حاشية ابن عابدين ج4 ص621، كما جاء في الهداية مع فتح القدير ج4 ص771 ط، مصطفى محمد "ولا يحد السكران بإقراره على نفسه لزيادة احتمال الكذب في إقراره، فيحتال لدرئه؛ لأنه خالص حق الله تعالى، بخلاف حد القذف؛ لأن فيه حق العبد، والسكران فيه كالصاحي عقوبته عليه، كما في سائر تصرفاته، البحر الرائق ج5 ص7.
لآدمي، فإذ أقر بأنه قذف فلانا ممن يلزمه بقذفه الحد لزم بعقوبة ما أقر به هذا ما ذهب إليه فقهاء الأحناف، ومن ذهب مذهبهم1.
أما جمهور فقهاء الشافعية، فإنهم يرون أن المتعدي بسكره إقراره صحيح يؤاخذ به في كل ما أقر به من جنايات، سواء وقع الاعتداء فيها على حق الله سبحانه وتعالى أو حق العبد؛ لأن المتعدي بسكره يجب أن يتحمل نتيجة عمله تغليظًا عليه، وجزاء لما أقدم عليه، وهو يعلم أنه سيذهب عقله، فعقوبته بإقراره زجر له، وردع لأمثاله كي يقلعوا عما يذهب نور عقولهم، واختار المازني، وأبو ثور عدم مؤاخذة السكران بإقراره؛ لأنه زائل العقل فأشبه النائم، أو مفقود الإرادة -المكره، وهذا ما ذهب إليه ابن حزم2، وما ذهب إليه جمهور فقهاء الشافعية ومن وافقهم، وإن كان أميل إلى الردع والزجر إلا أن السكران ردعه، وزجره بعقوبته على جريمة الشرب، أما إلزامه بما يقر به، وهو سكران تغليظًا عليه كي يقلع، فهو إلزام له بعقوبة حدية دليل إثبات جريمتها عليه دليل غير مقطوع بصحته لاحتماله البطلان بالقدر الذي يحتمل به الصحة، ودليل إثبات كهذا لا يقام به حد، حتى ولو كان الإقرار من السكران بارتكابه جريمة قذف.
ولا يجوز القول بحده نظرًا؛ لأنه وقع منه قذف وقت إقراره سواء أكان الإقرار صحيحًا أم لا، وذلك؛ لأن العقاب على جريمة الشرب قد روعي فيه جواز وقوع مثل ذلك منه، فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في شارب الخمر: "أنه إذا شرب
1 المراجع السابقة: المغني ج8 ص195.
2 أسنى المطالب مع حاشية الرملي ج3 ص283، 284 "ط أولى المطبعة الميمنية" المهذب ج2 ص77، 343، المغني ج8 ص195 المحلى ج13 ص296.
سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة"1.
إذا، فإن جعل حد الشرب بهذا القدر من الجلد مبني على احتمال الافتراء من السكران، والقذف دخل فيما يصدق عليه لفظ الافتراء، سواء أكان القذف الذي وقع من السكران هو ما جاء في إقراره، أو أنه أقر بقذف وقع منه قبل سكره، وقد جاء يعترف به.
ثانيًا: غير المتعدي بسكره -أو من تغيب عقله بسبب غير مجرم، وهو من تغيب عقله بسب شربه خمرًا دست عليه، فسكر بسب ذلك، أو تغيب عقله بسبب ما تعاطاه علاجًا حدده له طبيب عادل، كما يعطى هو البنج مثلًا أثناء العمليات الجراحية، وما إلى ذلك.
فمن تغيب عقله بسبب يعذر فيه، ولا يعاقب عليه لا يلزمه الحد بإقراره في حالته هذه، سواء أقر بما يجب فيه الحد حقًا لله سبحانه وتعالى خالصًا، أو ما فيه
حق العبد أيضًا، وذلك؛ لأن الإقرار المذكور لا يصلح دليل إثبات في الحدود
لعدم إفادته الدلالة القطعية، وأدلة إثبات الحدود لا بد، وأن تكون أدلة قطعية لا تحتمل شبهة من الشبهات.
4 أن يكون المقر مختارا حرا في إقراره وغير مجبر عليه، أو واقع تحت تأثير، أو تحديد من يقدر على تحقيق ما وعد به من تحديد، فلا يعتد إلا بإقرار من كان مختارًا حرًا؛ لأنه إذا أقر باختياره، وحريته انتفت عنه التهمة، إذا الاختيار مدعاة الصدق، أما لو أكره على إقراره، فأقر دفعا للضرر وخوفًا من التهديد والوعيد،
فإن إقراره في هذه الحالة لا يعتد به، ولا تلزمه به عقوبة حدية، ولا يلحقه به إثم.
1 نيل الأوطار ج7 ص163-165.
وقد ذكر القرطبي إجماع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه أن كفر، وقلبه مطمئن بالإيمان.
وذكر القرطبي ما روي عن ابن مسعود من أنه قال: "ما من كلام يدرء عني سوطين من ذي سلطان، إلا كنت متكلمًا به"1.
كما ورد من عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوعته، أو ضربته، أو وثقته2.
5 انتفاء التهمة عن المقر فيما أقر به على نفسه؛ لأن الإقرار شهادة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 3.
فالقوامة بالقسط والشهادة على النفس تقتضي الأمانة، وعدم الطعن في الذمة -فما دامت الشهادة ترد بالتهمة، فالإقرار أيضًا يرد بها4، فقد يحدث الكذب في الإقرار، بأن يقر الشخص على نفسه
1هذا بالنسبة للإكراه على القول، أما الإكراه على الفعل، فقد ذكر القرطبي أن كلمة الفقهاء لم تتفق على إباحة الفعل بإلاكراه، وأيد الرأي القائل بإباحة الفعل، ثم يبين أن العلماء قد أجمعوا على أن من أكره على قتل غير لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمته بجلد، أو غيره الجامع لأحكام القرآن ج5 3798، 3799.
2 المغني ج8 ص343.
3 يقول القرطبي عند تفسيره للآية 135 من سورة النساء: "قوامين" بناء مبالغة، أي لتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحق عليها -الجامع لأحكام القرآن ج3 ص1980.
4 المحلى ج13ـ س101-103.
بجرائم لم يتركبها لينفي التهمة عن الفاعل الأصلي، وكثيرًا ما يحدث هذا إذا كان الجاني الحقيقي ذا جاه، أو سلطان ومعاقبته على جنايته سيترتب عليها إلحاق الضرر به، أو إضعاف جاهه أو سلطانه، وهو يستنكف هذا، لذا فإنه يسعى جاهدًا بكل الطرق والوسائل، فيغري غيره من ضعاف الناس والنفوس، أو الذين تخضعهم ظروفهم إلى قبول الإقرار على أنفسهم بجرائم ارتكبها الآخرون طمعًا في الجاه، أو المال أو ما إلى ذلك رغبًا أو رهبًا، فيقر هؤلاء بجرائم لم يقترفوها، وجنايات لم يرتكبوها1.
وكم كشفت الأحداث كثيرًا من هذا، ولذا فإن على الذي يحكم الواقعة أن يتحرى الدقة، ويحقق الوقائع، ويعمل جاهدًا لاستظهار الحق.
ومعرفة ما يمكن أن يخرج الحق عن نصابه الحقيقي، فيتجنبه، ويعيد الحق إلى نصابه حتى لا تزر وازرة وزر أخرى.
1 ذكر ابن قيم الجوزية أمثلة لقضايا كثيرة أقر فيها غير الجناية الأصليين بارتكابها لها، ثم وضح الحق، وظهر ما يعارض إقرارهم، الطرق الحكمية ص82، 85.