الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غلبه على أرض كانت له: "ألك بينة"؟ 1 كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن جاءوا من الأنصار يطالبون بدم من قتل منهم بخيبر: "ألكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم"؟ 2.
ثالثًا: الإجماع معقود على حجية الشهادة في الإثبات.
1 رواه مسلم، والترمذي، وصححه، نيل الأوطار ج8 ص341، المغني ج9 ص146.
2 رواه أبو داود، نيل الأوطار ج7 ص37.
المطلب الأول: شروط في الشاهد
1-
البلوغ، فالصبي، لا تقبل شهادته؛ لأن الشهادة نوع من الولاية، ولا ولاية للصبي على نفسه، فأولى به ألا تكون له ولاية على غيره، لقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} ، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" 1، فرفع التكليف يقتضي رد الشهادة.
وإن كانت الضرورة قد أجازت الأخذ بشهادة الصبي على أقرانه في الجراح، إذا لم يوجد غير الصبي يشهد بذلك مع اشتراط أن يكون الصبي الذي يشهد عاقلًا مميزًا، وأن يدلي بشهادته قبل أن يفارق الحالة التي وقعت، وهذه ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها2.
1 سنن أبي داود، ج2 ص452، نيل الأوطار ج6 ص160.
2 البحر الرائق ج7 ص77، مواهب الجليل ج6 ص177.
المغني ج9 ص164، الأم ج7 ص81، بداية المجتهد ج2 ص499 مباني تكملة المنهاج ج2 ص77، شرح الأزهار ج4 ص193.
إما إذا حضر الصبي الواقعة، ثم بلغ قبل أن يدلي بشهادته، ثم أداها بعد البلوغ، فإن شهادته هذه يعتد بها، وتقوم بها بينة الإثبات1.
2-
العقل: فغير العاقل لا تقبل شهادته، لاختلاط الأمور عليه، وعدم استطاعته تمييز حقوق الآخرين، إذ هو أعجز من أن يحافظ على حقوقه أو يعيها، وغير قادر على ضبط الوقائع، والأحداث ضبطًا يطمأن إليه، ولذا فإن الحديث السابق قد حكم برفع القلم عنه.
أما إذا كان يجن أحيانًا، وحدثت الواقعة وهو عاقل، ثم أدى الشهادة عليها وهو عاقل ضابط لأمور نفسه، ووقائع الحادثة وملابساتها وظروفها، اعتد بشهادته حينئذ، واعتبرت دليل إثبات يحكم بمقتضاه2.
1 البحر الرائق ج7 ص56، المغني ج9 ص164، حاشية الدسوقي ج4 ص165، أجاز رجال القانون سماع شهادة الصبي الذي لم يبلغ أربع عشرة سنة. بدون أن يحلف اليمين على سبيل الاستدلال، أما إذا بلغ الصبي أربع عشرة سنة، فإنه تسمع شهادته بعد حلفه اليمين، وتعد شهادة معتبرة قانونًا، وإن كان قد حكم بأنه يجب للأخذ بأقوال الشاهد أن يكون مميزًا.
يراجع الأستاذ الدكتور محمود مصطفى، شرح قانون الإجراءات الجنائية ص446 ط سنة 1976م، الأستاذ الدكتور رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص595 ط 1979.
2 الأم ج7 ص80، البحر الرائق ج7 ص56، مباني تكملة المنهاج ج2 ص80، يرى فقهاء القانون أنه لا يؤثر في صحة الاستدلال بأقوال شاهدة ما أثبته المحقق في المحضر، من أنها كانت تذكر أقوالًا خارجة عن الموضوع، وأنه يرى أن بها ضعفًا في قواها العقلية، ما دامت المحكمة اطمأنت إلى صحة أقوالها، وذكرت من البيان والقرائن، ما يؤيد هذه الأقوال. أ. د: رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.
3-
الإسلام: فغير المسلم لا يحكم بمقتضى شهادته على المسلم في الحدود؛ لأن الشبهة شهادته لانتقاص عدالته، والحدود تدرأ بالشبهات1، أما شهادة غير المسلمين على بعضهم، فقد أورد ابن قيم الجوزية الخلاف في قبولها، فأورد عن الشعبي، ووكيع وسفيان عدم جوازها ألبتة.
وذكر أن حنبلًا، وابن حزم وحماد بن أبي سليمان قد رأوا جواز شهادة النصراني على اليهودي، وعلى النصراني، فكلهم أهل شرك.
ورى عن علي بن أبي طالب، وعطاء والنخعي جواز شهادة كل ملة على ملتها اليهودي على اليهودي، والنصراني على النصراني، ولا تجوز شهادة ملة على غير ملتها إلا المسلمين.
والذي أرجحه من ذلك هو جواز قبول شهادة غير المسلمين، بعضهم على بعض دون تفريق، فالكفر ملة واحدة، والله سبحانه وتعالى قد بين ما بين الكافرين من ولاء، وولاية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا
1 أما في غير الحدود، فقد أجاز الحنابلة وشريح والنخعي، والأوزاعي وابن مسعود وأبو موسى، والظاهرية، والإمامية قبول شهادة غير المسلم على المسلم في حالات الضرورة التي لا يوجد فيها غيره، كحال من يوصي بوصية، ولا يوجد من يشهد عليها من المسلمين، والأمور التي تؤخذ فيها بشهادة الطبيب، ولا يوجد طبيب مسلم يرجع إليه وقتئذ، وقد روي هذا عن الإمام مالك، كما نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية.
يراجع في ذلك، فتح القدير ج7 ص416، البحر الرائق ج7 ص79، الأم ج7 ص81، المغني ج9 ص182-184، المحلى ج10 ص587-598، نيل الأوطار ج8 ص330-334، شرح الأزهار ج4 ص193، الطرق الحكمية ص266-280 المدخل للفقه الإسلامي لأستاذي الدكتور سلام مدكور ص355.
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} 1، فأثبت لهم الولاية على بعضهم، وهي أعلى رتبة من الشهادة، وغاية الشهادة أن تشبهه بها، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، يوم جاءه اليهود برجل منهم، وامرأة قد زنيا: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بأربعة منكم يشهدون"، فلما شهدوا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحد بمقتضى شهادتهم2.
4-
العدالة: وقد بينها الفقهاء بأنها الاستقامة، واجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، ولا تكون العدالة إلا بالاسلام، واعتدال العقل ومعارضة الهوى، وليس لها حد3.
فالعلة في الشاهد شرط أساس لقبول شهادته، والاعتداد بها في إثبات الجنايات الحدية، لقول الله سبحانه وتعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 4، فإذا كانت العدالة شرط للشهادة على أمور الزواج والطلاق، وأمثالهما فهي من باب أولى شرط في الشاهد الذي يشهد على جناية من الجنايات الحدية.
ولأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتثبت من نبأ الفاسق، فيجب أن
1 الآية 73 من سورة الأنفال.
2 سنن أبي داود ج2 ص463-466، نيل الأوطار ج7 ص104-106 الطرق الحكمية ص258-266، المدخل للفقه الإسلامي ص356-357.
3 البحر الرائق ج7 ص85-96، فتح القدير ج7 ص378 بداية المجتهد ج2 ص499، الخرشي ج2 ص324 المهذب ج2 ص324، مغني المحتاج ج4 ص427، المغني ج9 ص167-172، المحلى-10 ص564، مباني تكملة المنهاج ج1 ص86.
4 من الآية 2 من سورة الطلاق.
نحتاط في إقامة العقوبة بشهادته؛ لأن شهادته اعترتها الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات1.
وقد روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رد شهادة القانع2 لأهل البيت، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تجوز شهادة زان، ولا زانية"، فهؤلاء لما انتقضت عدالتهم رد الرسول شهادتهم.
كما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: لا يؤثر رجل بغير العدول؛ ولأن دين الفاسق لم يزعه عن ارتكاب محظورات الدين، فلا يؤمن أن يزعه عن الكذب.
فلا تحصل الثقة بخبره3، وهذا يقتضي عدم قبول شهادته مطلقًا، فيما نحن بصدده.
واشتراط الفقهاء في الشاهد أن يكون ذا مروءة، فإن اختلت مروءته، فلا عدالة له، ولا تقبل شهادته4.
1 تفسير القرطبي ج7 ص6231.
2 القانع: الأجير، سنن أبي داود ج2 ص275.
3 المغني ج9 ص165.
4 المروءة: يراد بها الإنسانية، وقيل: أن لا يأتي الإنسان بما يعتذر منه مما يبخسه من مرتبة أهل الفضل، وقيل: السمت الحسن وحفظ اللسان، وتجنب السخف والمجون، والارتفاع عن كل خلق دنيء.
فتح القدير ج7 ص415، المهذب ج2 ص324- الخرشي ج7 ص175 المغني ج9 ص167-172، الطرق الحكمية ص253، المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص357. قيد رجال القانون عدم جواز سماع الشهادة من شخص حكم عليه في جناية ارتكباها، بقيد أن تكون العقوبة التي حكم عليه بها عقوبة جناية، وعليه يحرم من الشهادة أمام المحاكم مدة العقوبة إلا على الاستدلال، فإذا حكم على المتهم بجناية بعقوبة الحبس، جاز سماع شهادته أثناء تنفيذ العقوبة عليه بعد حلف اليمين. أ. د: محمود مصطفى شرح قانون الإجراءات الجنائية ص446، أ. د: رءوف مبادئ الإجراءات الجنائية ص595.
من هذا كله يبين أنه يجب على القاضي أن يتأكد من عدالة الشهود، وعلى الأخص في مسائل الحدود، حتى يصل القاضي حد اليقين بعدالة من جاءه يشهد بواقعة حدية، فإن لم يصل حد اليقين من عدالة الشهود، وأسقط الحد عن المدعى عليه لقيام الشبهة، فيمن نسب إليه الفعل الحدي، والحدود تدرأ بالشبهات.
5-
الرؤية: والحديث عن رؤية الشاهد لما يشهد به يتفرع إلى فرعين:
الفرع الأول:
وهو كون الشاهد مبصرًا، إذ أن للفقهاء آراء في قبول شهادة الأعمى والحكم بمقتضاها، وعلى الأخص في مسائل الحدود.
فقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى رد شهادة الأعمى في الحدود، والقصاص سواء أكان يشهد على أقوال أو أفعال، وسواء تحمل الشهادة بعد العمى أو قبله، وأكثر هذا ما لو عمي الشاهد بعد أداء الشهادة، وقبل القضاء بمقتضاها، امتنع القضاء.
ومبنى هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات، والصوت والنغمة اللذان
قد تنحصل معرفة الأعمى عن طريقها للواقعة، هما اللذان يقومان مقام المعاينة والحدود، ولا تثبت بما يقوم مقام الغير1.
وذهب الإمام الشافعي إلى أن شهادة الأعمى على الأفعال، أو الأقوال التي رآها أو سمعها، وهو مبصر ضابط لما يرى، أو يسمع تجوز شهادته بها إذا عمي قبل أن يؤدي الشهادة.
إما إذا كانت الأفعال، أو الأقوال التي يشهد عليها قد حدثت وهو أعمى، فإن شهادته عليها لا تجوز، أما عدم جوازها بالنسبة للأفعال، فهو مبني أن الأعمى لا يستطيع ضبط ما يقع من أفعال ضبطًا يترتب عليه شهادته بها في الحدود.
أما بالنسبة للأقوال، فإن الأعمى لا يستطيع القطع بأن من صدر منه القول هو فلان، لإمكان تقليد الأصولات، وقد جاء هذا في قول الشافعي: لا تجوز شهادة الأعمى، إلا أن يكون أثبت شيئًا معاينة، أو معاينة وسمعًا ثم عمي. فتجوز شهادته؛ لأن شهادته إنما تكون يوم يكون الفعل الذي يراه الشاهد، أو القول الذي أثبته مسمعًا، وهو يعرف وجه صاحبه، فإذا كان ذلك قبل العمى، ثم شهد عليه حافظًا له بعد العمى جاز، وإذا كان القول والفعل، وهو أعمى لم يجز من قبل أن الصوت يشبه الصوت"2.
وقد أورد الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه- في باب الخلاف في شهادة الأعمى قوله:
"خالفنا بعض الناس في شهادة الأعمى، فقال: لا تجوز حتى
1 المبسوط ج9 ص50، وفتج القدير ج7 ص398.
2 الأم ج7 ص82-83، مغني المحتاج ج4 ص445-446.
يكون بصيرًا يوم شهد، ويوم رأى وسمع أو رأى، وإن لم يسمع إذا شهد على رؤية، فسألناهم: فهل من حجة كتاب أو سنة، أو أثر يلزم.
فلم يذكروا من ذلك شيئًا لنا، وكانت حجتهم فيه أن قالوا: إنا احتجنا إلى أن يكون يرى يوم شهد، كما احتجنا إلى أن يكون يوم عاين الفعل، أو سمع القول من المشهود عليه، ولم تكن واحدة من الحالين أولى به من الأخرى.
فقلت له: أرأيت الشهادة أليست بيوم يكون القول، أو الفعل وإن لم يقم بها بعد ذلك بدهر؟، قال: بلى: قلت: فإذا كان القول والفعل، وهو بصير سميع مثبت، ثم شهد به بعد عاقلًا أعمى لم تجز شهادته؟ قال: فأقول بغير الأول، لا يجوز إلا بأمرين قلت: أفيجوز أن يشهد على فعل رجل حي، ثم يموت الرجل فيقوم بالشهادة، وهو لا يرى الرجل، ويقوم بالشهاد على آخر وهو غائب لا يراه، قال: نعم: قلت: فما علتك تثبت لنفسك حجة إلا خالفتها، ولو كنت لا تجيزها، إذا أثبتها بصيرا وشهد بها أعمى؛ لأنه لا يعاين -المشهود عليه؛ لأن ذلك حق عندك، لزمك أن لا تجيزها، وهو لا يراه، قال: فإن رجعت في الغائب، فقلت: لا أجيزها عليه، فقلت: أفترجع في الميت، وهو أشد عليك من الغائب، قال: لا، قال: فإن من أصحابك من يجيز شهادة الأعمى بكل حال إذا أثبت كما يثبت أهله، فقلت: إن كان هذا صوابًا، فهو أبعد لك من الصواب، قال: فلم لم تقل به؟. قلت: ليس فيه أثر يلزم فأتبعه، ومعنا القرآن والمعقول بما وصفت من الشهادة فيما لا يكون إلا بعيان، أو عيان وإثبات سمع، ولا يجوز أن تجوز شهادة من لا يثبت بعيان؛ لأن الصوت يشبه الصوت1.
والأرجح ما ذهب إليه الإمام الشافعي من قبول شهادة الأعمى إذا تحملها وهو بصير، وما دامت الشهادة تجوز على غائب لا يراه
1 الأم ج7 ص83.
الشاهد، فالأولى أن تجوز من الأعمى على الحاضر، بل إن الحاضر يمكن أن يراجع الشاهد، أو يبدي شبهة إن كانت له شبهة تسقط الحد.
والمعمول عليه هو التحمل بصورة منضبطة، لا يتحصل معها لبس من الشاهد الذي سمع الواقعة، وشاهدها مشاهد تنتفي معها الشبهات في شهادته، ولو أداها وهو أعمى مع قيام معرفته المشهود عليه معرفة تنتفي معها الجهالة به.
وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والحنابلة، وبعض فقهاء الأحناف إلى الاعتداد بشهادة الأعمى على ما سمع من أقوال، سواء تحملها قبل العمى، أو بعده ضابطًا لما سمعه من أقوال عارفًا من صدرت منه معرفة يقينية.
أما شهادته على الأفعال، فتجوز أن تسمع منه، وهو أعمى إذا كان تحملها قبل العمى، وقد بين هذا فقهاء المالكية، فيما ذكروه من أن الأعمى، العدل تجوز شهادته في الأقوال خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، وأما في الأفعال، فلا تجوز شهادته فيها ما لم يكن علم الفعل قبل العمى.
وقولهم: وتقبل شهادة الأعمى في الأقوال مطلقًا سواء تحملها قبل العمى، أم لا لضبطه الأقوال بسمعه"1.
كما يقول ابن قدامة: وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت
…
لأنه رجل عدل مقبول الرواية، فقلبت شهادته كالبصير
…
إلى أن يقول: فإن تحمل الشهادة على فعل، ثم عمي جاز أن يشهد به إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه.. ولأن العمى فقد حاسة لا تختل بالتكليف، فلا يمنع قبول الشهادة"2.
1 الخرشي ج7 ص179، حاشية الدسوقي ج4 ص167.
2 المغني ج9 ص189-190.
وذكر ابن الهمام أن شهادة الأعمى، فيما يجوز فيها التسامع تجوز عند زفر؛ لأن الحاجة في تحمل هذه الشهادة للسمع، ولا خلل في سمع الأعمى.
كما ذكر أن أبا يوسف يرى أن شهادة الأعمى، تجوز فيها طريقة السماع.
وما لا يكفي فيه السماع إذا كان بصيرًا وقت التحمل، ثم عمي عند الأداء إذا كان يعرفه باسمه ونسبه1.
وذهب ابن حزم إلى قبول شهادة الأعمى مطلقًا على الأقوال، والأفعال في الحدود وغيرها، مثل شهادة المبصر سواء بسواء، سواء تحملها قبل العمى أم بعده، فيقول في معرض حديثه عن هذا: إن من أجازها في الشيء اليسير دون الكثير، فقول في غاية الفساد؛ لأنه لا برهان في صحته، وما حرم الله تعالى من الكثير إلا ما حرم من القليل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ومن اقتطع بيمينه مال مسك، ولو قضيبا من أراك أوجب الله له النار"، أما من قبله في الأنساب، إلا من حيث يعرف المخبرين بغير ذلك، والمشهدين له.. أما من لم يقبله لا فيما عرف قبل العمى ولا بعده، فقول فاسد لا برهان على صحته، وبين ما عرفه الصحيح، وتمادت صحته وبصره.. إلى أن يقول: إن كانت الأصوات تشبه، فالصور أيضًا قد تشبه وما يجوز لمبصر، ولا أعمى أن يشهد إلا بما يوقن، ولا يشك فيه، ومن أشهد خلف حائط، أو في ظلمة، فأيقن بلا شك بمن أشهده فشهادته مقبولة في ذلك2، وما أثاره ابن حزم هنا، وإن وافقناه على بعضه مردود؛ لأن
1 شرح فتح القدير ج7 ص397.
2 المحلى ج10 ص638-639.
إطلاق قبول شهادة الأعمى على القول أو الفعل الذي شهده، أو سمعه بعد فقد بصره إطلاق، قيده ابن حزم نفسه باشتراط حدوث اليقين للشاهد، ومن أين يأتي يقين الأعمى بأن فلانا قد قال كذا أو فعل كذا، وقياس ابن حزم اشتباه الصوت على الأعمى باشتباه الصورة على البصير، قياس مردود بما هو مشاهد في الواقع؛ لأنه لا يوجد من تتطابق صورتهما من حيث الشكل والطول، والقصر واللون والنطق، وما إلى ذلك إلا حالات نادرة يعرفها المخالطون لها، ويستطيع كل منهم تمييز من تطابقت صورتهما بشيء من اختلاف الصوت، أو الهيئة، وما إلى ذلك من الملابسات، والمصاحبات والقرائن، فإن تعذر الأمر في هذه الحالات المعدودة، ولم يستطع الشاهد المبصر تميز من اتفقا في كل شيء أصبحت شهادة المبصر هنا غير يقينية، واعترتها الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، وإن كان ابن حزم لا يرى هذا، كما أنه من أين لمن يشهد بأشياء وقعت في ظلمة بأنها وقعت من فلان، إن وقوع الأشياء في ظلمة لا يمكن القطع بأنها وقعت من فلان عن طريق الإبصار فقط، وإنما لا بد من أن ينضم إليه ما يؤكده، فإن لم ينضم إليه ما يؤكده، فالشهادة به تكون شهادة بأشياء لم يصل الشاهد بها حد اليقين، كأنها وقعت ممن يشهد بها عليه، وشهادة مثل هذه لا يقام بها حد؛ لأن الشبهة قد اعترتها.
إن شهادة الأعمى حينئذ شهادة عن غير يقين، يصل حد يقين من يرى الشمس واضحة في كبد السماء حتى يشهد عليها.
وابن حزم، وإن ذكر أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه:"ألا ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع"، حديث قد جاء من طريق ضعيف، إلا أن ابن حزم قد صوب معناه وأكد عليه؛ لأنه قد اشترط تيقين الشاهد مما يشهد به حتى يعتد بشهادته1، وما أرجحه
1 المرجع السابق.
من هذه الأقوال أن الأعمى إذا تحمل الشهادة، وهو مبصر ضابط لما يتحمل، ثم أداها أن كف بصره، وكان لا يزال ضابطًا لما يشهد به عارفًا له معرفة يقينية اعتد بشهادته، وثبت بها الحدج، أما لو تحملها وهو مبصر، وبعد أن عمي لم يعد ضابطًا لما تحمله من أقوال أو أفعال، فإن شهادته حينئذ قد اعترتها الشبهة لاختلال تعيين الشاهد بما يشهد به، ومثلها إذا شهد بشهادة حملها، وهو أعمى سواء أكانت على فعل أو قول؛ لأن شهادته التي تحملها، وهو أعمى شهادة لا تخلو عن شبهة، وشهادة مثل هذه لا يثبت بها حد من الحدود.
أما ما ذكره الشربيني الخطيب من صورة أوردها البلقيني، وأجاز فيها شهادة الأعمى على الفعل، وذلك كما إذا وضع الأعمى يده على ذكر داخل في فرج امرأة مثلًا، فأمسكهما حتى يشهد عند الحاكم بما عرفه بمقتضى وضع اليد، فهذه وما ضبطها بعيدة الحدوث، بل هي في حيز المعدوم وقوعه وتصوره1. هذا ما أرجحه بالنسبة لشهادة الأعمى في الحدود، أما في غيرها فأمره متروك للقاضي يجتهد فيه قدر طاقته، فإن صح لديه حكم به وإلا فلا.
الفرع الثاني:
رؤية الشاهد ما يشهد به، بمعنى أنه هو الذي رأى الواقعة التي يشهد بها، والحديث عن هذا الفرع يتناول ما يأتي:
أولًا: جواز الإدلاء بشهادة على واقعة لم يرها الشاهد بعينه أن كانت مما يرى، أو لم يسمعها من الجاني بنفسه إن كانت مما يسمع.
ثانيًا: المواضع التي يجوز أن تسمع فيها شهادة على واقعة لم
1 مغني المحتاج ج4 ص445.
يرها الشاهد ولم يحضرها بنفسه، وإنما سمع من شهدها، وما مدى الاعتداد بهذه الشهادة والشروط، التي يجب أن تتوافر حينذاك؟
ثالثًا: المواضع التي لا يجوز أن تسمع فيها شهادة على واقعة لم يرها الشاهد، ولم يحضرها.
بين الله سبحانه وتعالى لبني البشر أن لا يشهدوا بشيء لا علم لهم به، فقال:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1، وقال سبحانه:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2.
فالعلم الذي يتحصل لدى من يجوز له أن يشهد بواقعة، والذي تعنيه الآيتان حتى يعتد بالشهادة كدليل إثبات شرعي يحكم بمقتضاه له طريقان:
الطريق الأول: مشاهدة الواقعة التي يشهد عليها وحضورها.
الطريق الثاني: سماع الواقعة ممن حضرها وشاهدها، والعلم بالواقعة من حيث جواز الشهادة به والحكم بمقتضاها، والشروط الواجب توافرها بقبول الشهادة من الشاهد الفرعي، والاعتداد بها كدليل إثبات، ولبيان ذلك يقتضي المقام تقسيم الوقائع التي ستكون محلًا للشهادة من حيث ما سيحكم به في هذه الوقائع إلى قسمين:
القسم الأول:
وقائع يترتب على اقترافها، وثبوتها على من اقترفها إلزامه بعقوبات تعزيرية، أو تعويضات مالية أوهما معًا، ولا خلاف في الاعتداد بشهادة الشهود الفرعيين فيها3.
1 من الآية 36 من سورة الإسراء.
2 من الآية 86 من سورة الزخرف.
3 المغني ج9 ص206، مغني المحتاج ج4 ص453، المهذب ج2 ص337، فتح القدير ج7 ص462، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2 ص506.
القسم الثاني:
وقائع يترتب على اقترانها، وثبوتها على من اقترفها إلزامه بعقوبة من العقوبات الحدية المقدرة من لدن الشارع الحكيم، بما في ذلك القصاص.
وآراء الفقهاء قد اختلفت في الاعتداد بشهادة الشهود الفرعيين، أو كتاب القاضي إلى القاضي في إثبات هذه الوقائع، وإلزام من ارتكبها عقوبة من العقوبات الحدية بمقتضى شهادة الشهود الفرعيين.
فيرى فقهاء المالكية، وهو رأي لفقهاء الشافعية، ورأي ابن حزم، جواز قبول شهادة الشهود الفرعيين بها، والحكم بمقتضاها بالعقوبات الحدية سواء أكان الحق المعتدى عليه حقًا لله سبحانه وتعالى، أم لآدمي، فقد جاء في المدونة:"قلت لابن القاسم: أتجوز شهادة الشهود على شهادة الشهود في السرقة؟ قال: قال لي مالك: تجوز شهادة الرجلين على الرجل في الفدية والحدود كلها، والسرقة من الحدود، قلت: أرأيت أربعة شهودا على أربعة في الزنا أتقبل شهادتهم في قول مالك؟ قال: نعم".
وجاء في المدونة أيضًا: "أرأيت القاضي إذا كتب إلى القاضي آخر بشهادة شهود شهدوا عنده وعدلوا، فشهدوا على فلان ابن فلان بحق أو بحد، أو قصاص أو غير ذلك؟ أيقبل هذا القاضي الذي جاءه الكتاب بالبينة الذين في الكتاب على هذا الرجل المشهود عليه، ويقيموا عليه ويقيموا عليه تلك الأشياء، ويقضي بها عليه في قول مالك؟ قال: قال مالك في القاضي يكتب بالكتاب إلى قاضي آخر فيه الشهود على ما يقضي به، وكتب بعدالة الشهود -أن القاضي الذي جاءه الكتاب يقضي به وينفذه.
ولم يفسر لنا مالك حدا ولا قصاصًا، ولا حقًا غير ذلك، وما شككنا أن ذلك كله سواء"1.
وقد ذكر ابن حزم أيضًا: "وتقبل الشهادة على الشهادة في كل شيء"، ورد المخالفين لذلك في مسائل الحدود بقوله:"تخصيص حدا وغيره لا يجوز إلا بنص، ولا نص في ذلك"2.
ويرى فقهاء الأحناف والحنابلة عدم جواز قبول شهادة الشهود الفرعيين، فلا يعتد بها ولا يحكم بمقتضاها بعقوبة من العقوبات الحدية نظرًا؛ لأنها دليل إثبات لا يقوم به يقين، فتلحقه الشبهة لاحتماله الخطأ أو النسيان، ودليل مثل هذا لا تثبت به الجرائم الحدية.
كما أنه لا يخفى أن الستر عندهم على من ارتكب جناية من الجنايات الحدية أولى، وألزم من الإدلاء بالشهادة بالنسبة للشاهد الأصلي، فما بال الشاهد الفرعي، ولا شك أنه أشد إلزامًا بالستر على الجاني، فلا حاجة أصلًا لشهادته عندهم؛ لأنها لا تجب عليه، وليست بحق للمشهود له حتى يمكن مخاصمة الشاهد الفرعي فيها، وإلزامه بأدائها.
فقد أورد ابن الهمام أن الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق يثبت مع الشبهة، فخرج ما لا يثبت معًا، وهو الحدود والقصاص.
كما استدل ابن الهمام على عدم جواز شهادة الفروع في هذا
1 المدونة: ج16 ص45، 59، 60، 85، "ط السعادة"، ويراجع الخرشي: ج7 ص217-218، وحاشية الدسوقي: ج4 ص205، ويراجع في رأي الشافعية: المهذب: ج2 ص337. ومغني المحتاج ج4 ص453.
2 المحلى: ج10 ص649.
بقوله: والقياس أن لا تجوز؛ لأنها عبادة بدنية وجبت على الأصل، وليست بحق للمشهود له حتى تجوز الخصومة فيها، والإجبار عليها.
كما أن الشارع قد طلب الزيادة في عدد الشهود الأصول، لاحتمال سهو أو كذب أحدهم، لعدم العصمة من الكذب أو السهو، واحتمال ذلك يزيد بالنسبة للشهود الفرعيين1.
وإذا كان هذا هو رأي فقهاء الأحناف في شهادة الشهود الفرعيين، فإنهم أيضًا ذهبوا إلى رد الأخذ بكتاب القاضي إلى القاضي في إثبات الجنايات الحدية والقصاص نظرًا؛ لأن فيه شبهة البدلية، ولهذا فإنهم لا يعتدون به في إثبات حد أو قصاص2.
وأرود ابن قدامة أقوال الفقهاء في الشهادة على الشهادة، ثم بين ما يرجحه ويرتضيه بقوله: ولنا أن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات، والإسقاط بالرجوع عن الإقرار، والشهادة على الشهادة فيها شبهة، فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط، والسهو والكذب في شهود الفروع مع احتمال ذلك في شهود الأصل، وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأل، وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل، فوجب أن لا تقبل فيما يدرء بالشبهات؛ ولأنها تقبل للحاجة، ولا حاجة إليها في الحد؛ لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه؛ ولأنه لا نص فيها، ولا يصح قياسًا على الأموال لما بينهما من الفروق في الحاجة، والتساهل فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا من الفروق، فبطل الإثبات.
ثم بين ابن قدامة أن شهادة الفروع لا يثبت بها قصاص أيضًا
1 فتح القدير ج7 ص462-463.
2 المرجع السابق ج7 ص296.
نظرًا؛ لأن القصاص عقوبة بدنية، ومبني على الإسقاط بالشبهات، فأشبه الحدود في عدم الإلزام به بشهادة الفروع1.
وذهب جمهور فقهاء الشيعة إلى أن الشهادة على الشهادة لا تقبل في الحدود، سواء أكانت العقوبة الحدية نتيجة اعتداء على حق الله سبحانه وتعالى، أم حق مشترك كحد القذف، والسرقة، ونحوهما.
وذهب جماعة منهم إلى قبول الشهادة على الشهادة، فيما كان من الحدود مشتركًا بين الله سبحانه وتعالى وبين غيره، أما قبولها في القصاص، فلم يخالف أحد منهم2، وقد ورد عن الشافعية رد قبول الشهادة على الشهادة في ما كان حدًا خالصًا لله سبحانه وتعالى، أما ما كان لآدمي كالقصاص، وحد القذف فقد أجازوا قبول الشهادة على الشهادة في إثباته.
وقد أورد الشربيني الخطيب أن الشهادة على الشهادة، إنما تقبل في غير عقوبة الله تعالى وغير إحصان، وفي إثبات عقوبة لآدمي على
1 المغني ج9 ص206، 207.
2 ذكر أبو القاسم الموسوي أن الشهادة على الشهادة تقبل في حقوق الناس كالقصاص، والطلاق والنسب والعتق، والمعاملة والمال، وما شابه ذلك ولا تقبل في الحدود سواء أكانت لله وحده، أم كانت مشتركة كحد القذف والسرقة ونحوها، ثم أورد الخلاف فيما كان مشتركًا بين الله تعالى، وبين غيره وبين أن المشهود بين الأصحاب هو قبول الشهادة على الشهادة فيها خلافًا لجماعة منهم الشهيد الأول في النكت، والثاني في المسالك، ثم بين أن ما ذكر من المشهور هو الصحيح لإطلاق الروايتين، والمناقشة في سندهما، وفيهما بالضعف في غير محله.
مباني تكملة المنهاج ج1 ص142-143، المختصر النافع ص289 "ط الأوقاف الثانية".
المذهب كالقصاص، وحد القذف أما العقوبة لله تعالى كالزنا، وشرب الخمر فلا تقبل فيها الشهادة على الأظهر، وخرج منها قول في عقوبة الآدمي، ودفع التخريج بأن حق الله تعالى مبني على التحفيف بخلاف حق الآدمي1.
والذي أرجحه من أقوال الفقهاء هذه، هو قول من ذهب إلى عدم الاعتداد بالشهادة على الشهادة في إثبات جناية من الجنايات الحدية، أو جناية قصاص نظرًا؛ لأن شهادة الأصل لا تقبل إلا إذا تم اليقين بصحتها، وانضم آلية غيره فيها، وفي بعض الجنايات الحدية لا بد أن يكون هؤلاء الشهود أربعة رجال بمواصفات معينة إلى آخر ذلك، مما يستهدف منه المشرع اليقين في إثبات هذه الجرائم، ودفع عقوبتها بقيام شبهة من الشبهات.
ولا يخفى أن الشهادة على الشهادة حجة لا تخلو من شبهة؛ لأن الشاهد الفرعي لا علم له بالواقعة، أو كيفيتها مما قد يستفسر عنه القاضي، إلا بما سمعه من الشاهد الأصلي، والشاهد الأصلي لمن يقص على الفرعي كل ما يمكن أن يسأل عنه القاضي ليتأكد من الواقعة، وما خالطها.
كما أن اختلاف صيغة الشهادة الأصلية نفسها قد يؤثر؛ لأن الشاهد الفرعي أن يحفظ الشهادة الأصلية حفظًا يجعله ينقلها نقلًا حرفيًا.
وفوق ذلك كله، فإن أداء الشهادة على الشهادة غير واجب، والستر على المسلمين أمر دعي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغب فيه خيف إضاعة حق الآدمي، فلا يخفى أن القاضي يمكنه إلزام الجاني بعقوبة من العقوبات التعزيرية المناسبة.
1 مغني المحتاج ج4 ص453.
ومن ذهب إلى الاعتداء بشهادة الشهود الفرعيين في الحدود، والقصاص وضع لهذا ضوابط، وشروطًا بالإضافة إلى ما يشترط في الشاهد، والشهادة بصفة عامة، هذه الضوابط والشروط هي ما يأتي:
أولًا: أن يعتذر حضور الشاهد الأصلي لمجلس القضاء ليدلي بشهادته أمام القاضي الذي ينظر بالواقعة.
وتعذر الحضور يتفاوت من شخص لآخر، ومن مكان لآخر ومن زمان إلى زمان، وتقدير هذا متروك لاجتهاد القاضي وتقديره1.
ثانيًا: أن يكون الشهود الذين يشهدون بشهادة غيرهم ذكورًا، فلا تقبل شهادة النساء عند فقهاء الشافعية.
وقد رجح فقهاء المالكية الرأي في هذا إلى جواز شهادة النساء ابتداء، فأجازوها مع الرجال في الأموال وما يؤل إليها، أما ما لا تجوز شهادتهن به ابتداء، فلا يجوز أن يكون شهودًا فرعيين فيه2.
ثالثًا: أن يشهد فرعان بشهادة أصل واحد، أي أن يشهد اثنان من الشهود الفرعيين بما شهد به شاهد أصلي واحد، وهذا للتثبت والتأكد، ولجواز أن ينسى أحدهما، فيذكره الآخر.
رابعًا: أن يظل الشاهد الأصلي متصفًا بالعدالة، ولا توجد بينه وبين المشهود عليه عداوة، فإذا فسق الشاهد الأصلي أو حدثت بينه، وبين المشهود عليه عداوة قبل أن يدلي الشاهد الفرعي بشهادته، ردت شهادة الشاهد الفرعي للطعن على الشاهد الأصلي الذي نقل عنه.
1 الخرشي ج7 ص218 المهذب ج2 ص337، ويراجع أيضًا فتح القدير ج7 ص468، مباني المنهاج ج1 ص145، والمختصر النافع ص289.
2 الخرشي ج7 ص220، المهذب ج2 ص337.
خامسًا: أن لا يكذب الشاهد الأصلي الشاهد الفرعي فيما نقله عنه، وإن كان فقهاء المالكية قد اشترطوا أن لا يكون ذلك قبل الحكم.
فإن كان بعد الحكم، فلا يلتفت إلى هذا التكذيب عندهم1.
واحتراز المالكية هنا في غير محله؛ لأن الشاهد الأصلي إذا كان غائبًا، ثم حضر في غيبته بعد الحكم على الجاني بشهادة الشهود الفرعيين، فرأى الشاهد الأصلي أن الشهود الفرعيين، قد قصروا في ذكر بعض ما يتصل بالواقعة من أمور قد يترتب عليها درء العقوبة الحدية عن الجاني، فما الذي يمنع من الأخذ بما يقوله الشاهد الأصلي إذا، وهو الذي حضر الواقعة وعاينها، وعايش كل ملابساتها لا شك أن سماعه، والاعتداد بقوله في درء العقوبة عن الجاني أمر لازم خصوصًا عند من يقول بدرء الحد بالشبهة، ولا يخفى أن من هؤلاء فقهاء المالكية2.
هذا بالنسبة لما قيل من قبول الشهادة على الشهادة، والاعتداد بها أما بالنسبة لكتاب القاضي للقاضي، فإن كان ما في الكتاب حكمًا بعقوبة من العقوبات، ولم يبد المحكوم عليه على ما جاء في هذا الكتاب اعتراضًا موضوعيًا ينبني عليه اختلاف الحكم، وتغاير العقوبة أو إسقاطها، نفذ القاضي الذي جاءه الكتاب ما اشتمل عليه من أحكام.
أما إن أبدى عليه اعتراضًا موضوعيًا على ما جاء بكتاب
1 الخرشي ج7 ص219.
2 ذكر رجال القانون أن للمحكمة أن تأخذ بشهادة منقولة عن شاهد أنكر صحتها وصدورها، إذ أن المرجع في تقدير الشهادة، ولو كانت منقولة هو إلى محكمة الموضوع وحدها.
د. رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.
القاضي، فإن على القاضي المرسل إليه تحقيق الواقعة، ونظر اعتراض المحكوم عليه، والقضاء بما يراه.
هذا إذا كان ما في كتاب القاضي للقاضي حكم من الأحكام، أما إن كان الذي في الكتاب شهادة الشهود للذين حضروا الواقعة، نظر القاضي المرسل إليه الكتاب، وحقق الواقعة بناء على ذلك، وحكم فيها بما يحقق العدل، ويضمن حقوق الآدميين بوجه خاص بعد أن يسمع من المدعى عليه كل ما يريد أن يقول أو قدم من دفع، ثم يبحثها ويحقق وقائعها وقرائنها، ويجتهد في ذلك الاجتهاد الواجب على القاضي قبل أن يحكم فيها عرض عليه.
والذي أرجحه أنه لا يجوز أن يحكم بعقوبة من العقوبات الحدية اعتمادًا على دليل إثبات هو عبارة عن شهادة، أو كتاب قاض إلى آخر، حتى ولو كان الاعتداء الذي وقع من الجاني قد وقع على حق لآدمي، وذلك؛ لأن الحكم بالعقوبة الحدية لا بد، وأن يكون ناشئًا عن ثبوت جريمتها على الجاني ثبوتًا يقينيًا محتمل، فإذا احتمل دليل إثبات الجريمة الحدية الشك والشبهة، فإن هذا الشك يفسر لصالح المتهم، وتدرأ الشبهة العقوبة الحدية عنه.
ويبقى القاضي مخيرًا في معالجة القضية حسبما يرى في حدود ما أباح له الشرع، فله أن يحكم فيها بعقوبة من العقوبات التعزيرية التي تحقق الردع والزجر، أو أن يسقط العقوبة عن المتهم إذا عن له ذلك، ونقص قيام ركن من أركان الجريمة.
هذا ما آراه فيما ذكر الفقهاء من اشتراط الرؤية في الشاهد.
6 الذكورة: اشترط جمهور الفقهاء في الشهادة بالحدود أن يكون الشاهد ذكرًا، وعليه فلا تقبل شهادة النساء في الحدود نظرًا لما
يلحق شهادة من شبهة النسيان، أو التظليل طبقًا لما جاء في قول الله سبحانه وتعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 1، واستدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه بما جاء في قول الله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 2.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 3.
فإلحاق التاء بالعدد يفيد أن المعدود مذكر طبقًا لما جرت به قواعد العربية، كما أورد ابن الهمام: "أن السنة مضت من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده، أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء؛ ولأن النص أوجب أربعة رجال بقوله تعالى:{أَرْبَعَةً مِنْكُم} ، فقبول امرأتين مع ثلاثة مخالف لما نص عليه من العدد والمعدود، وغاية الأمر المعارضة بين عموم -فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان- وبين هذه فتقدم هذه؛ لأنها مانعة وتلك مبيحة، وأيضًا هذه تفيد زيادة قيد وزيادة القيد من طرق الدرء، فإنه كلما كثرت قيود الشيء قل وجوده بالنسبة إلى ما ليس فيه زيادة تقييد؛ ولأن فيها شبهة البدلية
…
والشبهة كالحقيقة فيما يندرئ بالشبهات، وسائر ما سوى حد الزنا من الحدود يقبل فيها شهادة رجلين، ولا تقبل
1 من الآية 282 من سورة البقرة، ويراجع في ذلك القرطبي ج2 ص1205.
2 من الآية 15 من سورة النساء، ويراجع في ذلك القرطبي.
3 من الآية 4 من سورة النور.
النساء، لما ذكرنا، وكذا القصاص"1.
كما بين السرخسي سبب عدم قبول شهادة النساء في الحدود، والقصاص بقوله:"لأن في شهادة النساء ضربًا من الشبهة، فإن الضلال والنسيان يغلب عليهن، معها معنى الضبط والفهم بالأنوثة، وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين، والحدود تدرأ بالشبهات، وما يندرئ بالشبهات لا يثبت بحجة فيها شبهة تيسيرًا للتحرز عنها"2.
وبين الشربيني الخطيب رأي فقهاء الشافعية في هذا، وإن شهادة النساء لا يثبت بها، إلا المال فقط أما غير المال، وكذا العقوبات الواجبة حقًا لله تعالى، أو لآدمي، فإنها لا تجب ولا تثبت جناياتها بشهادة النساء، فقال عند حديثه عن إثبات جريمة السرقة الحدية:"وما يجب به الحد فيها"، وتثبت السرقة الموجبة للقطع بشهادة رجلين كسائر العقوبات غير الزنا، فإنه خص بمزيد العدد، فلو شهد رجل وامرأتان بسرقة.. ثبت المال ولا قطع على السارق"3.
كما بين أن شهادة النساء لا تقبل فيما بمال ولا يقصد منه المال، من موجب عقوبة لله تعالى، كالردة وقطع الطريق والشرب، أو من عقوبة لآدمي، كقتل نفس وقطع طرف وقذف، ثم بين سبب ذلك قوله:"لأن الله تعالى نص على شهادة الرجلين في الطلاق، والرجعة والوصاية، وتقدم خبر": "لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل"
1 فتح القدير ج7 ص369-370.
2 المبسوط ج16 ص114.
3 مغني المحتاج ج4 ص176.
وروى مالك عن الزهري: "مضت السنة بأن لا تجوز شهادة النساء في الحدود"1.
وقد جاء مثل هذا أيضًا عن فقهاء المالكية2، والحنابلة3، والشيعة4، وما ورد من روايات عن بعض فقهاء الشيعة تجيز شهادة النساء في الحدود، فقد ردوا عليها وبينوا شذوذها، وما ورد من روايات أخرى عن بعضهم تجيز شهادتين في القتل مستدلين بقول علي بين أبي طالب، كرم الله وجهه:"لا يبطل دم امرئ مسلم"، فقد ردوا عليها وبينوا أن المراد بثبوت القتل بشهادتين ثبوته بالنسبة إلى الدية، وأما بالنسبة إلى الفرد، فلا يثبت بشهادة النساء"5.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
أما ابن حزم فقد أجاز شهادة النساء في الحدود، والقصاص سواء أشهد النساء منفردات أم مع الرجال، كل ما هنالك أنه جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجال، بمعنى أن ما يثبت من جرائم الحدود، والقصاص بشهادة رجلين يثبت عنده بشهادة أربع نسوة وهكذا.
وقد أورد ابن حزم هذا في قوله: "ولا تجوز أن تقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين، أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان، فيكون ذلك ثلاثة رجال، وامرأتين أو رجلين، وأربع نسوة أو رجلًا واحدًا وست نسوة وثمان نسوة فقط، ولا يقبل في
1 مغني المحتاج ج4 ص442.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص189.
3 المغني ج9 ص196.
4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص118-126.
5 مباني تكملة المنهاج ج1 ص118-126.
سائر الحقوق كلها من الحدود والدماء، وما فيه القصاص والنكاح، والطلاق والرجعة، والأموال إلا رجلان مسلمان عدلان، أو رجل وامرأتان كذلك، أو أربع نسوة كذلك"1.
واستدل ابن حزم على قبول شهادة النساء، في إثبات الجرائم الحدية، والحكم بعقوباتها المقدرة، وكذا في القصاص بما روي من أن امرأة أوطأت صبيًا، فقتلته فشهد عليها أربع نسوة، فأجاز علي بن أبي طالب شهادتين، وقضى على المرأة بالدية2.
وذكر ابن حزم أن من منع شهادة النساء في إثبات الحدود لا سند له من رواية قوية، وإنما سنده منقطع، وفي روايته من هو ضعيف وهالك، وأن العقل لا يفرق بين الرجل والمرأة من حيث الغفلة، أو تعمد الكذب والتواطؤ عليه3.
وما هب إليه ابن حزم هو أرجحه نظرًا؛ لأن الحال داعية إليه، بل إنه قد أصبح من الضروري الأخذ به تحقيقًا لما يهدف إليه المشرع، من تقرير عقوبة محدودة لمرتكبي الجرائم الحدية والقصاص.
وماذا يرى من منع إثبات الجرائم الحدية، وإلزام الجاني عقوبتها المقدرة بشهادة النساء، فيما إذا دأبت امرأة، أو رجل على إرتكاب جريمة من الجرائم الحدية في بعض الأماكن التي لا يوجد فيها إلا النساء، كالأقسام الخاصة بهن في المستشفيات مثلًا، أو مدارس الفتيات، أو الأقسام الداخلية التي تقيم فيها الطالبات، وغير ذلك من أماكن التجمعات النسائية.
1 المحلى ج10 ص569، 579.
2 المحلى ج10 ص573، 581.
3 المرجع السابق ص583.
إن الجاني الذي ارتكب جناية من الجنايات الحدية إذا جيء به، وشهد عليه بعهض من يقمن في هذه الأماكن التي لا يتواجد فيها الرجال، وبلغ عدد الشاهدات بالجريمة الحدية التي ارتكباها ضعف ما يلزم لإثباتها من الرجال، لو درئت عنه العقوبة الحدية، وألزم بعقوبة تعزيرية أخرى لكان في ذلك استهانة بالحرمات؛ لأن من الجناة من لا يعالجون، إلا بما حدد الله من علاج، وحالات العودة بالنسبة لمن يعاقبون تعزيريًا تشهد بها الإحصائيات، وتقرير كثرتها الكثيرة.
لذا كان الاعتداد بشهادة النساء بما ذكر من شروط أولى بالاعتبار في إثبات جرائم الحدود، والقصاص، والحكم بعقوباتها الحدية.
7-
الحرية: ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط حرية من يشهد بحد من حدود الله سبحانه وتعالى، حتى يمكن الاعتداد بشهادته، وعدها دليل إثبات الجرائم الحدية، وإلزام الجاني بمقتضى ذلك عقوبة ما اقترفه من هذه الجنايات.
هذا ما ذهب إليه الأئمة أبو حنيفة، ومالك والشافعي، ورأي للإمام أحمد ورأي عند فقهاء الشيعة1.
أما ابن حزم، فإنه يرى الاعتداد بشهادة العبد في كل ما يعتد فيه بشهادة الحر، أخذا بعموم آيات الشهادة، إذ هو من رجالنا كما أنه عدل تقبل فتواه، وروايته وأخباره الدينية، كما أن أكثر العلماء من
1 فتح القدير ج7 ص399، الخرشي ج7 ص176، مغني المحتاج ج4 ص427، المهذب ج2 ص331، المغني ج9 ص195، مبادئ تكملة المنهاج ج1 ص102-106.
الموالي كانوا عبيدًا أو أبناء عبيد، ولا يحدث الاعتاق في العبد إلا الحرية، وهي لا تغير طبعًا، ولا تحدث علمًا ولا مروءة1.
كما أن العبد قد قبل منه الإقرار بالحدود والقصاص، واعتد به في إثبات الجناية الحدية، فكيف تقبل شهادته على نفسه، وترد على غيره، إن كان ردها راجعًا إلى كونه رقيقا، فأولى أن ترد شهادته على نفسه أيضًا، وإن كان ردها راجعًا؛ لأن الغير هو الذي سيلزم بآثارها، فيجب إذا أن ترد كل شهادة له على نفسه أو غلى غيره؛ لأنه بإقراره على نفسه قد يترتب على هذا غرم لسيده، وذلك في حالة ما إذا كانت الجناية التي أقر بها معاقبًا عليها بعقوبة من العقوبات، التي تؤدي إلى إتلاف أحد أعضائه، أو إتلافه كله، ومما لا شك في أن الإتلاف في الحالتين سيلحق بسيده ضررًا، وسيلزم بآثاره.
لذا فما دام العبد عدلًا معروفًا بصدقة مشهورًا بقول الحق، والحفاظ على أوامر الدين، فليس هناك ما يمنع قبول شهادته، والاعتداد بها في إثبات الحدود والقصاص.
كما أنه لا يخفى أن نظام الرق قد انقضى عهده، وإذا وجد ففي حالات قليلة ونادرة.
8-
النطق: أي أن يكون الشاهد ناطقًا بالفعل، فيؤدي شهادته عن طريق ما يسمع منه من كلامه، فإن كان الشاهد غير متكلم بالفعل، كأن كان أخرس فإن للفقهاء في الاعتداد بشهادته آراء.
فقهاء الأحناف يرون أن النطق شرط من شروط الأهلية بالنسبة للشهادة، وعليه فلا تقبل شهادة الأخرس، وكذا ترد الشهادة أن أصيب
1 المحلى ج10 ص598-602، حاشية العدوي على الخرشي ج7 ص176، الطرق الحكمية ص244-249.
الشاهد بالخرس بعد أن أداها، ولم يحكم بعد بمقتضاها؛ لأن قيام الأهلية شرط وقت القضاء لصيرورة الشهادة حجة ضده، أي عند القضاء؛ لأنها إنما ترد للقضاء، فما يمنع الأداء يمنع القضاء، والعمى والخرس والجنون، والفسق يمنع الأداء، فيمنع القضاء1.
كما ذكر ابن قدامة أن شهادة الأخرس لا تجوز بحال، نص عليه أحمد -رضي الله تعالى عنه، فقال:"لا تجوز شهادة الأخرس، قيل: وإن كتبها؟ قال: لا أدري"، وهذا قول أصحاب الرأي.
وعلل ابن قدامة ذلك بأن الشهادة لا يعتبر فيها إلا اليقين، ولا يحصل اليقين بالإشارة2.
أما فقهاء الشافعية، فإن عندهم رأيين أحدهما يرى قبول شهادة الأخرس مطلقًا.
والثاني قيد قبول شهادة الأخرس بحالة الضرورة، وعليه فلا يعتد بها في الحدود، إذ لا ضرورة في الشهادة بها3، وذهب فقهاء المالكية إلى قبول شهادة الأخرس، والاعتداد بها سواء أداها كتابة، أو إشارة بشرط أن تكون مفهمة معبرة، واضحًا
يوفي بالمقصود.
_________
1 شرح فتح القدير ج7 ص399، المبسوط ج9 ص70.
2 المغني ج9 ص190-191.
3 أورد الشيرازي أنه قد ورد عن بعض فقهاء الشافعية القول نكاح الأخرس بإشارته، على أساس أنها كعبارة الناطق، في نكاح الأخرس وطلاقه، وقال بعضهم: لا تقبل ولا يعتد بها إلا عند الضرورة كنكاحه، وطلاقه ولا ضرورة في الشهادة، المهذب ج2 ص324، وذكر الخطيب أن شهادة الأخرس لا تقبل، وإن أفهمت إشارته مغني المحتاج ج4 ص427.
كما أجاز فقهاء المالكية شهادة الأصم على الأفعال، أما شهادته على الأقوال، فلا تقبل إلا فيما سمعه قبل الصم1.
واستأنس المجيزون لقبول شهادة الأخرس بما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار، وهو جالس في الصلاة إلى الناس، وهم قيام أن اجلسوا فجلسوا2.
والاستئناس بهذا فيما نحن بصدده استئناس بعيد لعدم وجود شبهة بين الحالين، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار في صلاته، وهو قادر على الكلام، والذي منعه من الكلام الحفاظ على الصلاة؛ لأن الكلام يبطلها، كما أن أصحابه عليه الصلاة والسلام، وإن تبعوا إشارته إلا أنهم بعد أن فرغوا من صلاتهم سألوه، واستفسروا منه فعلمهم، فإشارته صلى الله عليه وسلم لم تكن شهادة والناطق لو شهد بالإيماء بالإشارة لا تصح شهادته، كما أن محاولة قياس الاعتداد بالإشارة المفهمة، بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في صلاته أمر بعيد؛ لأن إثبات الحدود يقتضي علم وجود الشبهة.
وعليه فإن شهادة الأخرس بإشارته المفهمة لا يعتد بها في إثبات
1 يقول الخرشي: وأما العدل الأصم غير الأعمى، فتجوز شهادته في الأفعال، ولم يتعرضوا لشهادة الأخرس، وهي مقبولة كما قاله ابن شعبان، ويؤديها بالإشارة المفهمة، والكتابة وأما الأصم في الأقوال فلا يقبل، ما لم يكن سمعة قبل الصم، كذا ينبغي على قياس ما في شرح الإرشاد. الخرشي ج7 ص179 حاشية الدسوقي ج4 ص168.
2 قال ابن قدامة: أن النبي كان قادرًا على الكلام، وعمل بإشارته في الصلاة، ولو شهد الناطق بالإبهاء، والإشارة لم يصح إجماعًا، المغني ج9 ص190-191.
الجرائم الحدية؛ لأنها وإن أفهمت إلا أنها لا تخلو عن الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات1.
أما إذا أدى أخرس الشهادة عن طريق الكتابة الواضحة المفهمة، وأجاب عن طريق الكتابة عن كل ما يوجه إليه من استفسار، وما يطلب منه بيانه، إجابة أدت إلى اليقين، فلا مانع من الاعتداد بهذا في إثبات الجرائم الحدية، والحكم بعقوباتها؛ لأن شهادته بهذه الطريقة قد بعدت من احتمال الشبهة، وأفادت القطع واليقين.
9-
اليقظة: أي أن يكون يقظًا، وقت حدوث الجناية التي يشهد على الجاني بأنه ارتكبها.
وأن يكون فطنًا فاهمًا غير غافل، ولا مشغول عما يحدث وقت حدوثه -بشيء آخر لجواز أن ينتج عن إنشغاله هذا خلط بين ما وقع من جناية، وغيرها، أو بين الجاني وغيره، أو بينهما معًا.
فمن يكثر نسيانه أو خلطه، أو اشتباه الأمور عليه، فإنه ترد شهادته في الحدود والقصاص؛ لأن من شأن هذا أن تعتري شهادته الشبهة، وشهادة مثل هذه لا يقام بها حد.
فإن كان ينسى أحيانًا، أو يغلط أحيانًا ولكن الحادثة التي يشهد عليها منضبطة في ذهنه واعيًا لها، ذاكرًا دقائقها قبلت شهادته، وأقيمت الحدود بها.
1 ذهب رجال القانون إلى أن لمحكمة الموضوع أن تعول على شهادة الشاهد، ولو كان أصم أبكم كان باستطاعتها أن تفهم إشارته، وبغير ما حاجة إلى تعيين خبير ينقل إليها هذه المعاني.
أ. د: رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.
هذا بالنسبة لشهادته ممن يقع منه الخطأ، أو النسيان أو الغفلة، أما الأبله والبليد فلا تصح شهادتهم، ولا يعتمد عليها في الإثبات، أما ذو الغفلة فإنه تقبل شهادته في الحالات التي وضحت الجناية بالنسبة له، ولم يلتبس عليه شيء من أمرها1، ومبنى هذا كله أن الشهادة التي يقام بها حد من الحدود لا بد، وأن تكون صادرة عمن له قدرة ضبط عقلية يستطيع بها التمييز، والتدقيق، والفهم الواعي الضابط للأمور، والمفرق بين الحق والباطل.
فإن لم يكن الشاهد كذلك اعترت شهادته الشبهة، وشهادة مثل هذه مردودة، ولا يثبت بها حد.
1 ذكر الخرشي أن المغفل هو الذي له قوة التنبيه ولم يستعمل قوته، والمعنى أن الشاهد يشترط فيه أن يكون غير مغفل، قال ابن عبد الحكم: قد يكون الرجل الخير الفاضل ضعيفًا لا يؤمن عليه لغفلته أن يلبس عليه، فلا تقبل شهادته، إلا أن يكون الأمر المشهود فيه جليا واضحًا بينا لا يلبس على أحد، كقوله: رأيت هذا يقطع يد هذا أو نحو ذلك، فإن شهادة المغفل تقبل في مثل ذلك، وأما البليد فلا تصح شهادته مطلقًا، والفرق بين المغفل والبليد، أن المغفل له ملكة أي قوة منبهة، لكن لا يستعملها والبليد ليس له ملكة أصلًا، الخرشي ج7 ص179، حاشية الدسوقي ج4 ص168، فتح القدير ج7 ص415، المهذب ج2 ص324، مغني المحتاج ج4 ص427 المغني ج9 ص167-188. وقد سبق أن ذكرت أن رجال القانون قد حكموا بأنه لا يؤثر في صحة الاستدلال بأقوال الشاهد أن يكون به ضعفًا عقليًا، ما دامت المحكمة اطمأنت إلى صحة أقواله.
يراجع أ. د: رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.