الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرا لانتقاء القصد الجنائي نتيجة اكراه الفاعل
…
ثالثًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية، نظرًا لانتفاء القصد الجنائي نتيجة إكراه الفاعل
سبق الحديث عن الإكراه، ووضح منه أن الذي يعتد به في إسقاط العقوبة الحدية هو الإكراه النام، أو الملجئ1، فالوطء الذي يقع تحت وطأة هذا النوع من الإكراه للفقهاء آراء في إيجاب الحدية، بالنسبة للرجل المكره -بفتح الراء- أما بالنسبة للمرأة، فقد اتفق الفقهاء على إسقاط الحد عنها إذا أكرهت على ذلك.
وتنحصر آراء الفقهاء بالنسبة لمن أكره على فعل الزنا، فيما يأتي:
1-
يرى جمهور الفقهاء أنه لا حد على من أكره على فعل الزنا؛ لأن المكره لا إرادة له، ولذا فقد رفع عنه القلم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"عفي لأمتى عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وراه البيهقي2.
واشترط الإمام أبو حنيفة أن يكون الإكراه على إتيان فعل الزنا من الحاكم لآاك لا يمكنه الاستعانة بمن يخلصه، ولا قدرة له على محاربة الحاكم، ولذا فإنه ينتفى قصده الجنائي، ويعدم رضاه واختياره، أما أن أكرهه شخص آخر غير الحاكم، فإن أبا حنيفة يرى أن مثل هذا الإكراه لا ينهض شبهة، وعليه فإن وقع منه فعل الزنا لزمه الحد.
إذا إن المكره -بفتح الراء يمكنه الاستعانة بالحاكم، أو بغيره ليحميه
1 المبحث الثاني من الفصل الثاني من الباب الأول.
2 الخرش ج8 ص80، حاشية الدسوقي ج4 ص318، المهذب ج2 ص268. مغني المحتاج ج4 ص145، المغني ج8 ص187. المحلى ج9 ص260، مباني تكملة المنهاج ج1 ص170، السنن الكبرى للبيهقي ج7 ص356.
ويخلصه ممن تسلط عليه، بين ذلك ابن الهمام بقوله: "ومن أكرهه السلطان حتى زنى، فلا حد عليه
…
فإن أكرهه غير السلطان حد عنه أبي حنيفة، لعدم تحقق الإكراه من غيره"1، وذهب الصاحبان إلى القول بعدم إيجاب الحد على المكره مطلقًا، سواء أكرهه السلطان، أو غيره ممن له سطوة، وقوة وخاف المكره التلف على نفسه.
وذكر السرخسي أن الاختلاف بين رأي الإمام، والصاحبين اختلاف عصر، فالسلطان كان مطاعًا في زمن أبي حنيفة، ولم ير لغيره السلطان من القوة ما يقوي به على الإكراه: فقال -الإمام: لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان، ثم في عصرهما قد ظهرت القوة لكل متغلب، فقالا: يتحقق الإكراه من غير السلطان، وجه قولهما أن المعتبر خوف التلف على نفسه، وذلك يتحقق إذا كان المكره قدرًا على إيقاع ما هدد به، سلطانا كان أو غيره، بل خوف التلف هنا أظهر؛ لأن المتغلب يكون مستعجلًا لما قصده لخوفه من العزل بقوة السلطان، والسلطان ذو أناة بما يفعله، فإذا تحقق الإكراه من السلطان بالتهديد، فمن المتغلب أولى"2، وعلى هذا فالخلاف بين الإمام، وصاحبه مرجعه اختلاف العصر، والزمان، وليس الحجة والبرهان.
2-
ذهب فقهاء الحنابلة إلى أن الرجل إذا أكره، فزنى لزمه الحد، ووافقهم في هذا بن الحسن وأبو ثور وزفر، ومبنى ذلك عندهم أن الوطء لا يكون إلا بالانتشار، والإكراه ينافيه، فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه، فيلزمه الحد، كما أكره على غير الزنا، فزنى3.
1 فتح القدير ج5 ص273، المبسوط ج9 ص59.
2 المبسوط ج9 ص59، فتح القدير ج5 ص373.
3 المغني ج8 ص187، المبسوط ج9 ص59، فتح القدير ج5 ص273.
ولا وجهة لهؤلاء فيما استدلوا به، إذ إن الانتشار قد يكون طبعًا لا طواعية بدليل ما قد يحدث للنائم من غير قصد ولا رغبة، وقد بين ذلك ابن حزم عند حديثه عن الإكراه على الزنى، بقوله: "لو أمسكن امرأة حتى زنى بها، أو أمسك رجل، فأدخل إحليله في فرج امرأة، فلا شيء عليه، ولا عليها، سواء انتشر أو لم ينتشر أمنى أو لم يمن، أنزلت هي أو لم تنزل؛ لأنهما لم يفعلا شيئًا أصلًا.
والانتشار والإمناء فعل الطبيعة، الذي خلقه الله تعالى في المرء، أحب أم أكره، لا اختيار له في ذلك1.
والذي أرجحه أن من أكره على الزنا إكراها يخشى منه التلف، ولم يجد بدا من الزنا، فلا حد عليه لانتفاء قصده، الجنائي سواء أكرهه السلطان، أو غيره ممن يستطيع تنفيذ ما أكرهه به، وما استدل به من أن الانتشار دليل الطواعية التي ينتفي معها الإكراه، قد وضح خلافه، وثبت أن الانشار قد يكون طبعًا من غير قصد.
هذه هي الحالات التي ينتفي القصد الجنائي لدى الفاعل فيها، وآراء فقهاء الشريعة في درء الحد عن الفاعل.
وما ذكر من آراء تفضي بعدم إيجاب العقوبة الجنائية على الفاعل هنا، قد شملت ما ذهب إليه فقهاء القانون، الذين سبق عرض آرائهم عند الحديث عن الشبهت التي تعتري القصد الجنائي.
وقد ذكر جانبًا من ذلك الأستاذ الدكتور، محمود مصطفى عند حديثه عن القصد الجنائي في جريمة الزنا، فقال:
1 المحلى ج9 ص270، ويراجع في هذا المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص827، نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390-391.
"يتوافر القصد الجنائي لدى الزوجة، التي ارتكبت الفعل عن إرادة، وعن علم بأنها متزوجة، وأنها تواصل شخصًا غير زوجها، فلا تقوم الجريمة لانعدام القصد إذا ثبت أن الوطء قد حصل على غير رضاء الزوجة، نتيجة لقوة أو تهديد، أو أي سبب من الأسباب المعدمة للرضاء، فإذا تسلل رجل إلى مخدع امرأة، فسلمت له ظنا منها أنه زوجها، فإن المواقعة تكون قد حصلت مباغتة على غير رضاها، فلا ترتكب الزنا، ويرتكب الفاعل جناية الاغتصاب، كذلك ينتفي القصد إذا كانت الزوجة وقت الفعل تجهل أنها مقيدة بعقد زواج، كما لو اعتقدت أنها مطلقة، أو أن زوجها الغائب قد مات"1.
هذا ما ذهب إليه فقهاء القانون، وهم وإن ذكروه بالنسبة للمرأة، فذلك؛ لأنهم يرون أن جريمة الزنا لا تقوم بالنسبة للرجل، إلا إذا كان مترزجًا، ووقعت الجريمة في منزل الزوجية، أما هي فلم يشترطوا بالنسبة لها أن تكون الجريمة قد وقعت في منزل الزوجية، وإنما تقوم الجريمة بالنسبة لها لذا وقعت منها في أي مكان ما دامت متزوجة.
وما ينطبق عليها بالنسبة لانتفاء القصد الجنائي ينطبق على الرجل أيضًا.
1 شرح قانون العقوبات القسم الخاص ص337.