الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: عفة المقذوف
العفة هي الكف عما لا يحل ولا يجمل، والعفيفة من النساء: السيدة الخيرة، وامرأة عفيفة، عفة الفرج، والرجل كذلك أيضًا1.
وذكر فقهاء الأحناف أن الرجل العفيف هو من لم يطأ امرأة بالزنا، ولا بشبهة، ولا بنكاح فاسد في عمره؟ فإن كان فعل ذلك مرة سقطت عدالته، ولا حد على قاذفه2.
وعفة المقذوف، يعتبرها جمهور الفقهاء شرطًا لإلزام القاذف الحد، فإن انثلمت عفة المقذوف درئ الحد عن القاذف؛ لأن انثلامها ينتج شبهة صدق القاذف، ولا يتحقق معها كذبه، والحد لا يلزم في مثل هذا.
وقال فقهاء الأحناف: "وأما لاشترط العفة؛ فلأن غير العفيف لا يلحقه العار بنسبته إلى الزنا؛ لأن تحصيل الحاصل محال، ولو لحقه عار آخر فهو صدق، وحد القذف للفرية لا للصدق"3.
فإذا كان المقذوف عفيفًا، ثم حكم على القاذف بالحد، وقبل أن يتم
1 لسان العرب ج11 ص158، 159 مادة عف.
2 فتح القدير ج5 ص320.
3 المرجع السابق.
تنفيذ الحد وقع المقذوف في الزنا، فإن الحد والحالة هذه لا يلزم القاذف؛ لأن إحصان المقذوف قد انتقض، وبانتقاصه انثلمت عفته، وسلامتها شرط حتى يقام الحد ذكر ذلك السرخسي بقوله: "وإذا زنى المقذوف قبل أن يقام الحد إلى القاذف، أو وطئ حرامًا غير مملوك، فقد سقط الحد عن القاذف: لأن لحصان المقذوف شرط، فلا بد من وجوده عند إقامة الحد، وقد زال إحصانه بهذا الوطء، وكذلك إذا ارتد المقذوف، وإن أسلم بعد ذلك، فلا حد على القاذف؛ لأنه قد سقط الحد لزوال إحصانه بالردة، ولا حد على القاذف إذا صار المقذوف معتوهًا ناقص العقل، أو أصيب بالخرس وبقي كذلك؛ لأن إصابة المقذوف بذلك، وإن كانت لا تذهب إحصانه إلا أنها تقوم بها شبهة إمكان تصديق القاذف، لو كان المقذوف صحيحًا.
وبهذا لو زالت العلة، وطاب المقذوف بالحد، فله ذلك1، وذكر فقهاء المالكية أن عفة المقذوف قبل القذف، وبعده شرط لإقامة الحد على قاذفه، فقد جاء عنهم: أن عفاف المقذوف الموجب لحد قاذفه واضح في أنه السلامة من فعل الزنا قبل القذف وبعده، ومن ثبوت حده لاستلزمه إياه"2.
وجاء عن فقهاء الشافعية: "وإن قذف محصنًا، ثم زنى المقذوف أو وطئ وطأ زال به الإحصان سقط الحد عن القاذف، وقال المزني، وأبو ثور: لا يسقط؛ لأنه معنى طرأ بعد وجوب الحد، فلا يسقط ما وجب من الحدة كردة المقذوف، وثبوته الزاني وحريته، وهذا خطأ؛ لأن ما ظهر من الزنا يوقع شبهة في حال المقذوف، ولهذا روي أن رجلًا زنى بامرأة في زمان أمير المؤمنين عمر -رضي الله تعالى عنه، فقال: والله ما زنيت
1 المبسوط ج9 ص127.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص326، الخرشي ج8 ص87.
إلا هذه المرة، فقال عمر: كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة، والحد يسقط بالشبهة"1، أما ابن حزم، فإنه يرى وجوب حد القذف على القاذف، إذا كانت الواقعة التي قذف غيره بها، لم تثبت على المقذوف بصرف النظر عما كان قبلها، أو بعدها من وقائع، وإن ثبتت هذه الوقائع السابقة، أو اللاحقة على المقذوف وحد فيها، وقد بين هذا بقوله: "فإن قذف إنسان إنسانًا قد زنى بزنى غير الذي ثبت عليه، وبين ذلك وصرح، فعلى القاذف الحد -سواء حد المقذوف في الزني، الذي صح عليه أو لم يجد؛ لأنه محصن عن كل زنى لم يثبت عليه، وقد قلنا: إن الإحصان هو المنع، "فمن منع بشيء، أو امتنع منه، فهو محصن عنه، فإذا هو محصن، فعليه الحد بنص القرآن"2.
ويرى الإمام أحمد، والثوري وأبو ثور، والمزني وداود، أن الحد إذا وجب بشروطه، فإنه لا يسقط بزوال شرط من هذه الشروط، أو بزوال كل هذه الشروط طالما أن الحد قد وجب؛ لأن هذه الشروط قد وضعها المشرع للوجوب، فمتي وجب الحد بوجوب شروطه، فلا ينقضه انتفاء بعض هذه الشروط، أو انتفائها كلها، وقد بين ذلك ابن قدامة بقوله:"ولنا أن الحد قد وجب، وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب، كما لو زنى بأمه ثم اشتراها، أو سرق عينا فنقصت قيمتها، أو مكها، وكما لو جن المقذوف بعد المطالبة، ورد ابن قدامة على من اشترطوا استدامة الشروط حتى يتم تنفيذ الحد بقوله: "وقولهم: أن الشروط تعتبر استدامتها لا يصح، فإن الشروط للوجوب، فيعتبر وجوبها إلى حين الوجوب، وقد وجب الحد بدليل أنه ملك المطالبة، ويبطل بالأصول التي قسنا عليها، وأما إذا جن من وجب له الحد، فلا يسقط الحد، وإنما يتأخر
1 المهذب ج2 ص273.
2 المحلى ج13 ص177.
استيفاؤه لتعذر المطالبة، فأشبه ما لو غاب من له الحد، وفارق الشهادة، فإن العدالة شرط للحكم بها، فيعتبر وجودها إلى حين الحكم بها، بخلاف مسألتنا، فإن العفة شرط للوجوب، فلا تعتبر إلا إلى حين الوجوب"1.
وما رآه الإمام أحمد، ومن وافقه هو ما أرجحه؛ لأن من وجب الحد بقذفه قد تتغير ظروفه وأحواله، وليس معنى هذا إهدار ما ثبت له من حق بقذف الجاني له؛ لأن القول بإسقاط الحد بعد وجوبه قد ينتج فتح باب التحايل، ومحاولة الإيقاع بمن وجب الحد بقذفه، بغية الخلاص من الحد، ولا يخفى أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، ومصلحة القاذف، ونجاته من الحد في الفساد المقذوف، ونفي إحصانه، وقد يكون الجاني ذا جاه، أو سلطان، فإن رأى نجاته في إفساد مقذوفه، فلن يتورع عن الإيقاع به، وعليه فإن هذا الرأي يدرأ فتح التحايل والإفساد، ويبطل ما قد ينصب من شراك لصيد الآمنين، وما ذهب إليه ابن حزم بحاجة إلى إعادة نظر؛ لأن من لزمه حد الزنا، فإن عفته قد انثلمت بذلك وبطل إحصانه، وليس لكل واقعة إحصان مستقل؛ لأن الإحصان والعفة أمر معنوي إذا انكسرا، فإن إعادة إصلاحهما أمر مشكوك فيه، وبخاصة بالنسبة لما نحن بصدده، وليس معنى هذا إباحة قذفه، وإنما يلزم القاذف التعزير، ويدرأ عنه الحد لشبهة ترجيح احتمال وقوع الفعل منه؛ لأن ما وقع سابقًا أو لاحقًا قبل وجوب الحد يقوي احتمال صدق مقولة القاذف، وينتج شبهة تدرأ حد القذف عمن لم يستطع إثبات مقولته.
1 المغني ج8 ص227.