الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: بعض سمات التشريع العقابي في كل من الشريعة والقانون
المطلب الأول: أهداف التشريع العقابي ورعايته ظروف الجاني
…
المبحث الثاني: بعض سمات التشريع العقابي في كل من الشريعة والقانون
ويشتمل على المطالب التالية:
المطلب الأول: أهداف التشريع العقابي.
المطلب الثاني: موقف التشريعيين من العقاب على الجريمة منذ نشأة كونها.
المطلب الثالث: بين التشريعين في مجال التنظيم العقابي.
المطلب الأول: أهداف التشريع العقابي، ورعايته ظروف الجاني
أولًا: علاج الجاني لإصلاح سلوكه.
ثانيًا: تحقيق العدل والإصلاح.
ثالثًا: الحفاظ على الضروريات الإنسانية.
رابعًا: الردع هدف الإنسانية.
أولًا: من حيث علاج الجاني
مما هو متفق عليه أن العقاب بكل ألوانه، وأشكاله ما هو إلا أذى ونوع من المكروه بنزل بالجاني.
وليس إنزال هذا الأذى بالجاني هو الهدف في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لغاية، وهدف عظيم نبيل.
ذلك أن العقاب يهدف إلى دفع المفسدة، وعلاج المتلفة التي لحقت بنفس الجاني وأصابت فكره، وظهر أثرها في سلوكه، وعليه فإن ما ينزل بالجاني من عقاب بألوانه المتعددة، والمتغايرة ما هو في حقيقته إلا علاج لما أصاب فكر الجاني، وانقاد لنفسه مما لحق بها من فساد، وحماية لمجتمعه، وأمان لمن يعايشهم، وعلاج الجاني بمثل ما وضع من عقاب، وإن كان يلحق به إيلاما وضررًا إلا أنهما ضروريان لتحقيق النفع له، وإنقاذ مجتمعه، فالعقاب لا يؤمر به لكونه عقابًا في حد ذاته فقط، وإنما؛ لأنه يحقق المنافع ويؤدي إلى المصالح، مثله في ذلك مثل قطع الأيدي المتآكلة حفظًا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد صيانة للمبادئ، والأوطان وإعلاء للحق والفضيلة.
كل ذلك من قبيل ما يقوم به الطبيب حين يدفع أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، فالطبيب في فعله هذا كالشرع الذي وضع العقاب ليحقق السلامة، ويدرأ الأضرار والأسقام1.
ففي ذلك كله الصحوة والشفاء للجاني، والراحة والأمان للأمة، وصون حماية للدين والعرض والنفس، والمال والفضلية والأخلاق.
وقد يتساءل البعض كيف تتحقق الرحمة، والنفع مع العقوبات الحدية من جلد من ملأ من الناس، أو قطع للأيدي والأرجل، أو رجم حتى الموت أو قصاص مع ما فيه من إزهاق للروح، وقضاء على الحياة؟.
1 يراجع "عز الدين عبد السلام" القواعد الكبرى ج1 ص12.
والإجابة سهلة ميسورة، فالشريعة الإسلامية لم تفرض عقوباتها، وتنزلها بالأبرياء الآمنين، وإنما فرضتها، وأنزلتها بالأشقياء الخائنين الذين ينتهكون حرمات الناس والمجتمع، ويقوضون أمن الناس وسلامتهم، ويدنسون الأعراض، ويبطشون ويقتلون الآمنين، وهؤلاء الأشرار لهم تباغتهم الشريعة بعقوباتها، وإنما أعلنت الشريعة عقوباتها الصارمة الحازمة لهؤلاء ولغيرهم، فإذا استهان الأشقياء بهذه العقوبات، وانتهكوا الحرمات، وأصبحوا معاول هدم في بناء المجتمع وكيانه، بعد أن ضمن لهم المجتمع حياة آمنة مطمئنة، وأعطاهم من الحقوق ما لغيرهم وساوى بينهم وبين حاكمهم، فهل يكون عقاب هؤلاء الأشرار على ما أجرموا -في حق المجتمع الذي كفل لهم كل هذا- منافيًا للرحمة؟.
إن القضية معكوسة ولا شك؛ لأن الرفق بمثل هؤلاء هو القسوة على المجتمع والإجرام في حقه، فكيف يرحم من لا يرحم، إن ذلك من البديهات التي لا يحتاج عناء في إثباتها، والقطع بها.
كما أن العقاب بالرجم ونحوه مما يزهق الروح يكون العلاج لمجموع الأفراد؛ لأن في هذا من الزجز ما يرجى منه إصلاحهم، ولا يخفى أن الشريعة قد كفلت لهؤلاء الجناة كافة صور الدفاع عن أنفسهم، وإحاطتهم بسياج من الحماية حتى تتأكد إدانتهم بالدليل القاطع الذي لا يعتريه شك.
إن الرحمة الحقة هي التي تقيم العدل، وتهدم الظلم وتفوض أركان الباطل، هذه هي الرحمة التي يرضاها الله ورسوله، وتكفلت بتحقيقها الشريعة الإسلامية السمحة بصورة لا يستطيع مجاراتها في تحقيق هذه الرحمة أي قانون وضعي، مهما كان واضعه، ومشرعه فهي شريعة الله سبحانه وتعالى الذي أنزل من القرآن ما هو شفاء، ورحمة للمؤمنين، وأمرنا بالاستجابه إليه؛ لأن في الاستجابة إليه الحياة.
ثانيًا: في مجال تحقيق العدل والإصلاح
1 الشريعة الإسلامية قد ساوت بين الناس في الثواب والعقاب، ولا يملك أحد أن يغير من ذلك شيئًا بالزيادة أو النقصان، نظرًا لأي سبب من الأسباب التي لا تخضع للموازين الشرعية؟
والقوانين الوضعية، وإن نصت على العقوبة بصورة موضوعية، إلا أنها جعلت تحديدها للعقوبة تحديدًا مرنا يخضع لكثير من الاعتبارات التي يراها القاضي، سواء أكانت اعتبارات موضوعية، أو أخذت شكل الموضوعية.
بل وأكثر من ذلك تخضع هذه القوانين لسلطان التغيير، والتبديل والإلغاء والإعفاء، ولكم اكتوى الناس بذلك كثيرًا.
ب- الشريعة الإسلامية قد ساوت بين الجريمة، وعقوبتها في جرائم الاعتداء على النفس، ففرضت القصاص وقررته.
وليس بخاف ما يحققه ذلك النظام العقابي من شقاء صدر المجني عليه، وذويه الأمر الذي يحقق القضاء على مصدر من مصادر إشاعة الجريمة، في المجتمع، وصدق الله
العظيم إذ يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2 بيد أن القانون الوضعي في أغفل المساواة بين الجريمة وعقوبتها، وعلى الأخص في مسائل القصاص هذه.
1 من الآية 24 من سورة الأنفال.
2 الآية 179 من سورة البقرة.
الأمر الذي ينتج عنه ليل نهار ما تعانيه المجتمعات في حياتها من عبث، وفوضى وثأر ودماء.
ج- الشريعة الإسلامية لم تترك جريمة ما من الجرائم دون عقاب، خصوصًا الجرائم التي يقع الاعتداء فيها على الضروريات التي تمس الإنسان في ذاته وعرضه.
ثم هي مع حرصها على الإنسان ذاته وعرضه، لم تترك الباب ليلجه كل من يريد الأضرار، وإنما الضوابط المحكمة دون إسراف أو تضييع، تحقيقًا للعدل وصونا لكرامة الفرد والمجتمع.
بيد أن القوانين الوضعية قد أغفلت كثيرًا الحفاظ على هذه الضروريات ولم تعاقب عل كثير مما يرتكب من جرائم، بدعوى الحضارة والحرية، فالعقاب فيها يكون على فعل أو قول اعتبر جريمة، وعلى هذا فما لم يجرمه القانون فلا عقاب عليه.
د- حقوق الأفراد من وجهة نظر التشريع الإسلامي منح إلاهية، أعطاها الله سبحانه وتعالى للأفراد، وفق ما تقضي به مصلحتهم جميعًا، وهذا قيد شرعي لاستعمال الحق، يقضي مراعاة مصلحة الغير، وعدم الإضرار بالجماعة.
والتشريعات الوضعية لم تعرف هذا القيد إلا مؤخرًا، فقد كانت نظرياتها إلى عهد تأخذ بمبدأ أن للفرد مطلق الحرية في استعمال حقه، بمعنى أنه السيد المطلق الذي لا يحد من سلطانه في استعماله في ذلك أي إنسان، حتى ولو تعسف في استعمال هذا الحق، وأضر بالآخرين
ولا يخفى أن الشريعة الإسلامية، وهي تراعي حق الجماعة، ولم تهمل انفرد، وإنما عنيت به، وعملت على إنصافه1.
ج- الشريعة الإسلامية لا تعاقب بالحبس، أو السجن إلا على القليل من الجرائم، وبذا أراحت المجتمع من السهر على هؤلاء المحبوسين والمسجونين، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أراحت هؤلاء من كل ما يلاقونه في حبسهم أو سجنهم، فلم تقطعهم عن الحياة، والناس وعنه مباشرة أعمالهم ومزاولة انتاجيتهم، إلا في القليل النادر.
بينما أغلب عقوبات القوانين الوضعية في الحبس أو السجن، وفي هذا ما فيه من إفساد للفرد، وتعطيل لإنتاجه، بل وقضاء على أسرته، وإلزام المجتمع بحراسته، والسهر عليه وما إلى ذلك، مما فيه من إذكاء لروح الصراع، والكراهية بين الفرد ومجتمعه، الأمر الذي لا يثمر إلا الخسران للفرد، والمجتمع كليهما.
و قد يزعم البعض أن الشريعة فيما وضعته من نظام عقابي لم تراع حالة الجاني، ولم تهتم بنفسيته وإصلاحه، بل قست عليه وأهملته، وعاقبته بعقوبة لا تتناسب وجريمته، إذ هي تقطع يده إذا سرق قدرًا يسيرًا، كما تعاقب الشهود على جريمة الزنا بالجلد إذا لم يبلغ عددهم أربعة، مع أنهم لم يزنوا وإنما أبلغو عما شاهدوه.
ومثل هذا الزعم لا يجوز إيراده.
1 المدخل للفقه الإسلامي أد/ سلام مدكور 420-422 ط الرابعة".
إذ إن الشريعة الإسلامية في نظامها العقابي قد اهتمت بالجاني، وعنيت به وتلمست له كل طريق التخفيف ودرء العقوبة.
كما أنها لم تبث عيونها وجواسيسها وراء كل فرد تتلمس له الزلل، فكم جاء من يعترف بجرائمه، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عنه تاره. ويقول له أخرى: هل صليت معنا..؟ ليس عليك من وزر دون أن يسأله، ويتقصى جريمته وذنبه1.
كما أن ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-، وقد جاءه رجل يقول له: إن لي بنتًا أسلمت، وأصابت حدًا من حدود الله، فعمدت إلى الشفرة لتذبح نفسها، فأدركتها، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة، فهي تخطب إلي يا أمير المؤمنين، فأخبر من شأنها الذي كان؟ فقال عمر: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لأن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلك نكالًا لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاح المسلمة العفيفة2.
فعمر رضي الله تعالى عنه يهدد الرجل بالعقاب إذا كشف ستر ابنته
…
صونا للحياء وسترًا على المسلمين، وحفاظًا على الفضيلة فيهم، كما أنه يعاقب الغلمان الذين سرقوا حين ألجأهم الجوع لذلك، بل قال لسيدهم: إنكم تجيعون غلمانكم، لو سرقوا مرة أخرى، فإني لن أقيم الحد إلا عليك أنت.
كما أنه أبطل حد السرقة عام الرمادة، مراعاة لحال الناس....
1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص113 وما بعدها ط مصطفى الحلبي.
2 الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة أد/ سلام مدكور. بحث في مجلة إدارة قضايا الحكومة العدد الرابع من السنة الثالثة عشرة ص14-15.
وقد أفتى أبو عباس -رضي الله تعالى عنهما- بعدم قطع يد من سرق دابة غيره، وذبحها لدفع الجوع1.
من هذا كله يبين مدى للتشريع العقابي في الإسلام من فضل السبق في الدعوة إلى اعتبار ظروف المجرم، وجعل ذلك مبدأ واجب الالتزام، والخروج بهذا المبدأ إلى حيز التطبيق الفعلي على يد الرسول الكريم، والصحابة الأطهار.
هل بقي مع هذا زعم لقائل.
كما أن هناك أمرًا تجب الإشارة إليه، إلا وهو أن الشريعة الإسلامية، وإن كانت فيما وضعته من نظام عقابي قد لاحظت فيه حال المجرم، واهتمت به فهي أيضًا قد اهتمت بالمجني عليه، وأولته من الرعاية والعناية، والاهتمام ما هو أحق به وأولى.
أما من حيث كون العقوبة لا تتناسب والفعل، فإنه ينبغي أن لا ننظر إلى الشيء القليل الذي سرقه الجاني فقط، وإنما لا بد وأن ننظر إلى المسروق منه، ونرعاه -فقد كان آمنا في بيته وأهله على نفسه وماله، فإذ به يفزع بدخول السارق عليه، وما قد يسببه ذلك من هلع وخوف
1 يقول الأستاذ الدكتور: محمد سلام مدكور في بحثه الدفاع الاجتماعي ضد الجريحة ص6 وما بعدها: "وهنا نشير إلى أن الإسلام قد سبق إلى اعتبار ظروف المجرم، واختلاف النظرة إليه باختلافها، وأن من العلماء المسلمين من تبين ذلك من أمثال ابن حجر الهيثمي الذي أشار في مقدمة كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر إلأى أن كثيرًا من الجرائم، والآثام تختلف النظرة إليه باختلاف حال الآثم من جهة كونه مصرًا على جريمة، وكونها هفوة أو عمدًا، وكونه مضطرًا أو غير مضطر، فليس كل المذنبين في نسبة واحدة ولا مستوى واحد.
لكل من في البيت، وقد يكون الأطفال أو النساء، وقد يكون السارق مسلحًا، وقد يلجأ إلى استعمال ما معه من سلاح إلى آخر ذلك.
فالشارع الحكيم حين يعاقب السارق بقطع يده، لم ينظر فقط إلى عشرة الدراهم التي سرقها، وإنما نظر إلى الجريمة بكل أبعادها كما أن السارق الذي سرق عشرة الدراهم، لم يتقصر على هذه العشرة لعفته أو حاجته إليها، ولكنه مغلوب على أمره في اقتصاره عليها؛ لأنه لم يجد غيرها، وإلا لو وحد لما ترك. كما أن السارق قد عرض نفس المجني عليه وأهله، وعرضه للضياع والخطر، فقد يسمرئ السارق إشباع رغبته، ويمعن في إجرامه بما يسول له الشيطان والهوى.
من أجل ذلك كله، وما علمه الشارع الحكيم كان العقاب الذي وضعه هو العلاج الشافي، والحاسم الذي تبرأ به الأمة، ويحفظ عليها أمنها وسلامتها1.
أما بالنسبة لمعاقبة من شهدوا بواقعة زنا، أو أبلغوا عنها ولم يكتمل حساب الشهادة، فإن ذلك مبني على أساس أن الأصل براءة من ينسب إليه فعل ما دام لم يكتمل دليل إثبات هذا الفعل في حقه.
كما أن دعوة الشريعة الإسلامية إلى الستر على النفس، وعلى الآخرين ظاهرة وبينة.
ولا يخفى أن في التبليغ عن حادثة زنا، أو الشهادة بها دون أن يكتمل نصاب الشهادة -وإن كان ذلك لن يترتب عليه عقاب الجاني، أو
1 المسئولية الجنائية، ومراعاة ظروف الجاني في الفقه الإسلامي أد/ سلام مدكور بحث بمجلة إدارة قضايا الحكومة العدد الأول السنة الثانية والعشرون ص13-14.
المدعي عليه -إلا أن ذلك-، وإن لم يكن فيه تجن ومكر ومكيدة -قد أصاب المبلغ عنه بأضرار في عرضه، وحيائه لا تقف عند حد المساس به هو فقط، بل تتعداه إلى أهله وذويه الذين يعتزون به، والذين قد يصل بهم الأمر إلى قتله والتخلص منه، وقد يعترضون أيضًا لهذا المبلغ، أو الشهود الذين لم يكتمل نصاب شهادتهم، كل ذلك بهدف الانتقام، والثأر لعرضهم وكرامتهم.
إذا كان الأمر سيترتب عليه ذلك كله، وأكثر أفلا يكون الأولى أن يستر المسلم أخاه1، وأن يتحرى الدقة، وأن يتأكد أن الداني الذي رآه في حالة جنايته عدد كبير سيفتح أمره حتى وإن لم تقم العقوبة عليه.
ثم قبل هذا كله وبعده، هذه العقوبة قد نصت عليها الآيات الكريمة، في قول الله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2.
إن الطبيب الماهر والحاذق هو الذي يضع لرواده النظاز العلاجي الدقيق والدواء الناجح، والذي وأن كان مرًا وقاسيًا في ظاهره إلا أن السلامة والأمن، والراحة في المحصلة النهائية لكل ما وضعه هذا الطبيب، وعالج به وإن كان قد بتر بعض الأعضاء ليسلم الجسد كله.
1 لا يتعارض ذلك مع ما جاء في قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} ، فقد ذكر القرطبي أن النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع الحق، وقال ابن عباس: على الشاهد أن يشهد حينما استشهد، ويخبر حيثما استخبر، الجامع الأحكام القرآن ج2 ص1223.
2 الآية 9 من سورة النور.
ثالثًا: الحفاظ على الضروريات الإنسانية
أنزل الله سبحانه وتعالى الشرائع السماوية بوجه عام، والشيعة الإسلامية الخاتمة بوجه خاص، للمحافظة على مصالح الناس وسلامتهم، واهتمت بصفة خاصة بالضروريات التي تتضمن بقاء نظام الحياة أمنا مستقرًا، وكفلت الحفاظ على هذه الضروريات، وعاقبت على أدنى مساس بها، "ذلك؛ لأن جلب المنفعة، ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم".
ويقصد المصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخلق رحمة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقابهم.
ونسلهم ومالهم، فكل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة، فهو مصلحة.
وكل ما يفوت هذه الأصول، فهو مفسدة ودفعها مصلحة، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضروريات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشارع بقتل الكافر، المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعة، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفس.
وإيجاب عقوبة الشرب، إذ به حفز العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنى، إذ به حفظ النسف والأنساب، وزجر النصاب والسراق، إذ به حفظ الأموال التي هي معايش الخلق.
وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة، والزجر عليها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، أو شريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح
الخلق، ولذا لم تخلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل والزنى، والسرقة وشرب المسكر1.
وعلى هذا اعتبر المساس بهذه المصالح الضرورية جريمة من الجرائم التي وضعت لها عقوبات صارمة، بهدف حفظ إنسانية الإنسان، وأكدت الأديان كلها أهمية المحافظة على هذه الأمور الضرورية، بكل الوسائل الفعالة، وما ذلك إلا عناية من الشارع بالخلق وشئونهم.
رابعًا: الردع هدف للعقوبة
خلق الله الإنسان، وجعل له الخلافة في الأرض، وسخر له الكون، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
ولكن الإنسان مع هذا كله يستولي عليه شيطانه، ويشيع في الكون فسادا، وهذا ما رأته الملائكة بنور من الله، وطرحته عند أخبار الله لهم بأنه جاعل في الأرض خليفة:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2.
وبهذا العلم الرباني أنزل الله للإنسان من الشرائع ما تقوم اعوجاجه، وتصلح من شأن نفسه، وما ذلك إلا رحمة بهذا الإنسان
1 المستصفى للغزالي ج1 ص217، 288.
المسئولية الجنائية، ومراعاة ظروف الجاني في الفقه الإسلامي أد/ سلام مدكور ص6 وما بعدها، بحث منشور بمجلة قضايا الحكومة العدد 1 السنة 22.
2 الآية 30 من سورة البقرة.
وبرا به وتظهير له، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1.
والتطهير في الدنيا يتأتى باجتناب ما يلوث، والابتعاد عنه، لذا وضعت الشرائع معالم السلوك محذرة من الغواية، ومنبهة على الرشاد.
فإذا غلب الهوى، ولم يغن تحذير ولا إرشاد، وعلق اللوث بالثيباب.
كان لا بد لهذه الثياب من أن تطهر، وأن تعرض على ما يزل علق بها، ويخلصها من دنسها.
وما ذلك بالنسبة للإنسان إلا بالتزام ما شرعه الله سبحانه وتعالى، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، وحدد حدوده التي هي ردع، ومنع من ارتكاب المعصية، وزجر وإيلام لمن وقع فيها، وفكرة الردع والزجر هذه، قد ثار حولها جدل ومناقشة.
بل إن مجرد محاولة استجلاء بعض أهداف التشريع العقابي، قد لاقت نفسها كثيرًا من الاعتراضات.
فيقول ابن حزم منكرًا مقالة من ذهب إلى القول بأن الردع، والزجر هدفان من أهداف تشريع العقوبة.
قالوا: إن الحدود إنما جعلت للردع، قلنا لهم: كلا، ما ذلك كما تقولون إنما ردع الله تعالى بالتحريم، وبالوعيد في الآخرة فقط، وأما بالحدود فإنما جعلها الله تعالى كما شاء، ولم يخبرنا الله تعالى أنها للردع
…
ولو كانت للردع كما تدعون لكان ألف سوط أردع من مائة، ومن ثمانين ومن أربعين ومن خمسين، ولكان قطع اليدين والرجلين أردع من
1 من الآية 6 من سورة المائدة.
قطع يد واحدة، ولكنا نقول: هي نكال وعقوبة وعذاب وجزاء، وخزي كما قال الله تعالى في المحاربة:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، إلى أن يقول: وإنما التسمية في الدين إلى الله تعالى، لا إلى الناس فصح أنه جعلها كما شاء حيث يشاء، فلم يجعلها حيث لم يشأ1.
وما قاله ابن حزم ليس بجديد على أحد، إذ هو من هؤلاء الذين يقفون عند ظاهر النص، ويرى أن ما فوق ذلك مرجعه إلى الله سبحانه وتعالى.
لكن ماذا يمنع المؤمن من أن يحاول استجلاء النصوص، والرسول صلى الله عليه وسلم قد حث على الاجتهاد، ولتحقيق مصحلة البشر جميعًا خصوصًا، وإن عقوبات الحدود ليست هي الغاية، والهدف من تشريعها، وإنما هي وسيلة حاول المشروع بها أن يحول بين الإنسان واقتراف الجريمة، وصدق الله العظيم إذ يقول:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} 2.
كما أن ذهب إليه ابن حزم، واعتمد عليه في إلغاء القول بالردع من أن الحد لو كان ألفًا لكان أردع، هو قول بعيد في القياس بل لا يصلح؛ لأن الحد لو كان ألفًا كان أردع، ولما كان إلا إهلاكا وقتلًا.
والله سبحانه وتعالى لم يرد ذلك بعباده، وإنما أراد أن يباعد بينهم، وبين معاصيه، وأن ينتهوا عما نهى عنه رحمة منه ورأفة3.
1 المحلى ج13 ص89.
2 من الآية 147 من سورة النساء.
3 أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ص120 ط1968.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1.
فالله سبحانه وتعالى قد حذر، فمن الناس من يتبع طريق الله، ومنهم من ينساق وراء الشيطان، وهؤلاء لا بد لهم من رادع قوي، وزاجر شديد عنيف يردهم عما انساقوا فيه، وما ذلك إلا ما وضعه المشرع من حدود وعقوباته.
والردع في حدد منه ما هو موجه للناس جميعًا، ومنه ما هو خاص واقع على من اقترف الجناية، وبتعبير آخر، منه ما هو ردع وقائي، ومنه ما هو ردع علاجي.
الردع الوقائي:
الإنسان مزاج من مادة وروح، والصراع بينهما دائم متصل
…
وتحيط الدوافع المادية بالإنسان من كل جانب، بل وفي أعماقه ذاتها، تتخذ هذه الدوافع في النفس الأمارة بالسوء.
والعصمة لقليل من الخلق الذين اصطفاهم الله رب العالمين.
أما غير هؤلاء فإن الله سبحانه وتعالى من رحمته بهم، قد هيأ لهم ما يتسلحون في مواجهة الشهوات والنزوات.
ومن هذا الذي يتسلحون به، وما شرعه الله سبحانه وتعالى من عقوبات تردع وتهدد، تشعل خشية العار وخوف الفضيحة، وتركى مخالفة الألم وبأس العقوبة.
1 من الآية 30 من سورة آل عمران.
وكلما أزداد الدافع إلى الجريمة ناسبه ازدياد بأس العقوبة حتى يصل إلى حد القتل، تناسبًا طرديًا.
وهكذا يقوى الردع كلما كان الدافع قويًا متسما بصفة العمومية، ليحول بين الإنسان، وبين ما تغويه به نفسه.
هذا هو جانب الردع الوقائي، فيما شرعه الله سبحانه وتعالى من عقوبات. وهو ما عناه الماوردي بقوله: "والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله من زواجر الحدود ما يروع به ذا جهالة حذرًا من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة، ليكون ما حظر من محارمه ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعم، والتكليف أتم1.
وتمتاز فكرة الردع، وهدف الزجر في التشريع العقابي من وجهة نظر الشريعة عن القانون، فيما يأتي:
أولًا: نوعية العقوبات في الشريعة تحقق الردع الكافي لحماية الحقوق.
ثانيًا: لزوم العقوبة الشرعية للجناية التي حددها الشارع، بحيث لا يمكن تغييرها أو تبدليلها تحت أي ظرف من الظروف التي لا يقرها الشرع الشريف، فإذا أقر الشرع تبديلها أو إلغاءها، فإن ذلك يهدف منفعة عامة، وطبقًا لقواعد العدالة والإنصاف، والناس جميعًا أمام ذلك سواء.
1 الأحكام السلطانية للماوردي ص213، المطبعة المحمودية.
الردع العلاجي:
خاطب الله سبحانه وتعالى الناس جميعها بما يصلح حالهم إن أطاعوه، ووضع لهم روادع، وزواجر إذا حدثتهم أنفسهم بالعصيان والتمرد، وقد تؤتى هذه الروادجع، والزواجر ثمارها إذا صادفت معدنا طيبًا، وقد تصادف أرضًا جدباء فلا يثمر فيها نبت، وتضعف هذه الروادع والزواجر عن أن تتغلب على خبث هذه الأرض، وفسادها ومن هنا كان لزامًا على من يريد الإصلاح أن يعالج هذه التوبة، علاجًا ينفي عنها خبثهعا، ويزيل فسادها.
وهذا هو الردع العلاجي، الذي يتتبع موضوع الداء فيأتي عليه، ويجز عفنه ويكسر ما فيه من حدة الفساد والعصيان.
هكذا الطبيعة البشرية إذا ما أجدب فيها الردع الوقائي، كان لزامًا لشفائها ذلك الردع العلاجي، الذي ينزل بالشقي الذي انتهك حرمات صانها الشارع ورعاها.
فمعاقبة ذلك الشقي تردعه، وتمنعه من أن يعادو جنايته؛ لأن ما حل به من عقاب كفيل بأني يشفي نفسه السقيمة بما طبع، وترك من بصمات الألم والنكال على جسد الشقي وماله.
ذلك الجزاء نفسه كفيل بأن يشفي صدور من وقعت عليهم الجناية كل ذلك متى كانت العقوبة متناسبة مع العمل الجنائي، وظروفه، وحال من
1 من الآية 74 من سورة البقرة.
ارتكبه، فلا تكون قاسية مهلكة في موضع العلاج، ولا تكون هينة ضئيلة في موضع تناسبه الشدة والصرامة1.
وصدق الله العيظم إذ يقول: {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} 2 هذا وإن توافقت فكرة الردع الخاص في ظاهرها في كل من الشريعة والقانون، إلا أن هناك فروقًا جوهرية تجدر الإشارة إليها:
أولًا: من جهة القضاء النهائي على القصد الإجرامي لدى المجرم، واقتلاع ما نبت من بذور الشر في نفسه وفكره، فإن النظام العقابي في الشريعة الإسلامية يحقق هدم ما يكون قد تكون لدى الجاني من ذلك كله، وما يعضده من سطوة الجاني، ومنعته واستعلائه على المجني عليه.
إذ إن النظام العقابي للشريعة الإسلامية يقضي في جرائم الاعتداء على النفس والأعضاء بالقصاص، فإذا بالمجني عليه، أو من يقوم مقامه، وقد كان مستضعفًا بالأمس يقف أمام الجاني الذي كان متسلطًا بالأمس أيضًا، وتنعكس الحال، ويصبح الضعيف قويًا والقوي ضعيفًا، يلتمس العفو والصفح، والأمر حينئذ موكول لمن كان مجنيًا عليه بالأمس، فإن شاء اقتص من الجاني، وإن شاء عفا عنه.
وفي كلا الحالين لم يصبح للجاني حول، ولا قوة أمام المجني عليه، وفي ذلك قضاء على الشر في نفسه الجاني، وشفاء لصدر المجني عليه.
1 تبصرة الحكام لابن فرحون ج2 ص114 سنة 1302هـ.
2 من الآية 48 من سورة الزخرف.
ومثل هذا لا يمكن تحقيقه إذا وقعت على الجاني عقوبة من العقوبات الوضعية؛ لأنها لن تحقق زجر الجاني بالصورة السابقة، كما أنها لن تشفي صدر المجني عليه فيظل مشحونًا، ينتظر الفرصة المواتية ليثأر لنفسه، وتتكرر المأساة.
أو يضعف ويفترسه الوهن، والخذلان كلما رأى المعتدي.
ثانيًا: من حيث الردع المدني الذي لا يجدي غيره مع من تبلدت نفسه، وبهذا الردع البدني تحقق الشريعة هدفين:
1-
إيلام المجرم إيلامًا جسديًا ليذوق مثل ما نزل بالمجني عليه، والشأن في هذا أن يقوم الاعوجاج، وكل من تحدثه نفسه بارتكاب جناية لكيلا يعرض نفسه مرة أخرة لما لاقاة من الآم أوجعت جسده.
ولا يخفى أن ما ينزل بالجاني من عقاب يكون في ملأ من الناس، وفي ذلك الألم كله للجاني، وأشق عليه من وقع السياط.
2-
إنزال العقوبة بالجاني بالصورة التي رسمها التشريع الإسلامي لا يستغرق وقتًا طويلًا، يترك بعده الجاني ليرعى شئون نفسه ومن يعول، حتى لا يضيع، ويضيعهم معه.
وذلك على العكس من العقوبة في النظام الوضعي التي تقضي بسجنه، فيضيع هو من يعولهم، ويخرج من سجنه، وقد تمرس على الإجرام، ولقن دروسه على أيدي عتاة الأشرار، فلا يلبث أن يعود إليه مرة ومرات.