الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو يكون ممكنًا صدقه وممكنًا كذبه، فهذا عليه الحد بلا خلاف، لإمكان كذبه فقط، ولو صح صدقه لما حد.
أو يكون كاذبًا قد صح كذبه، فالآن حقًا طابت النفس على وجوب الحد عليه بيقين، إذ المشكوك في صدقه أو كذبه لا بد له من أحدهما ضرورة، "فلو كان صادقًا لما صح عليه حد أصلًا، فصح يقينا إذ قد سقط الحد عن الصاقد أنه باق على الكاذب"1، وما ذهب إليه ابن حزم هو ما أرجحه، سواء أكان المقذوف يجامع مثله أم لا؛ لأن حد القذف لا ينتهي بكذب القاذف، وإنما يلزم بكذبه كما أن أهل الصغير، أو المجنون يعيرون بذلك، ولا ينجو الصغير، أو المجنون من ملاحقة العار له طوال حياته إذا لم يحد القاذف، ويظهر كذبه، هذا ولا يعد الخلاف هنا من باب الخلاف الذي يورث شبهة يندرئ بها الحد؛ لأن دليل المانعين للحد دليل لا تقوم به حجة، والمعول عليه هو قوة المدرك لا مطلق الشبهة.
1 المحلى ج13 ص262، 263.
ثانيًا: إسلام المقذوف
ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط إسلام المقذوف لإيجاب الحد على قاذفه، فإذا لم يكن المقذوف مسلمًا، فلا يلزم قاذفه الحد.
فقد ذكر فقهاء الأحناف، أنه لا حد على قاذف الكافر؛ لأن الإسلام من شرائط الإحصان، واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من أشرك بالله، فليس بمحصن"، وقد فسر ابن مسعود قول الله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ} ، بقوله:"أسلمن"، وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان1.
1 يراجع المبسوط ج9 ص118، فتح القدير ج5 ص316-319.
وذكر فقهاء المالكية عند حديثهم عن القذف، وإخراجهم لمحترزات التعريف "قولهم: أو قطع نسب مسلم أخرج به ما إذا لم يقطع نسبًا، أو قطع نسب غير مسلم، فإنه لا يسمى قذفًا"1.
وجاء على لسان الشيرازي من فقهاء الشافعية: أن قذف غير المحصن لا يجب به الحد، والمحصن الذي يجب الحد بقذفه من الرجال والنساء، من اجتمع فيه البلوغ، والعقل والإسلام، والحرية، والعفة، إلى أن يقول: وإن قذف كافرًا لم يجب عليه الحد2.
ويقول ابن قدامة: ومن قذف من كان مشركًا، وقال: أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله، وحد القاذف إذا طلب المقذوف.
وعلل ذلك بقوله: "إنما كان كذلك؛ لأنه قذفه في حال كونه مسلمًا محصنًا، وذلك بمقتضى وجوب الحد عليه لعموم الرواية، ووجود المعنى، ثم يقول: إن قال له: زنيت في شركك فلا حد عليه، وبه قال الزهري، وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى"، ثم يقول: ولنا أنه أضاف القذف إلى حال ناقصه، أشبه ما لو قذفه في حال الشرك"3، كما أورد فقهاء الشيعة من بين الشروط الواجب توافرها في المقذوف الإسلام، فمن قذف من ليس على الإسلام، فلا حد عليه بذلك؛ لأنه لو لم يكن كذلك، فإن القاذف يكون قد ذكب، ويلزمه غير الحد، لاعتبار الإسلام شرطًا في المقذوف4.
هذا ما ذهب إليه الجمهور:
1 يراجع الخرشي ج8 ص86، حاشية الدسوقي ج4 ص325.
2 واستدل لذلك بما روى ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أشرك بالله، فليس بمحصن" المهذب ج2 ص272.
3 المغني ج8 ص228، 229.
4 مباني تكملة ج1 256.
أما ابن حزم، فإنه يرى وجوب الحد على من قذف شخصًا آخر، حتى ولو كان المقذوف كافرًا؛ لأن الحد حكم الله تعالى على كل قاذف1، والذي أرجحه هو وجوب الحد على من قذف البالغ العاقل العفيف من أهل الكتاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصفهم بالإحصان في قوله: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"2: ولأن الشارع قد كمل للذمي، والمستأمن في دار الإسلام حماية أنفسهم وإعراضهم وأموالهم، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا.
فإن كان المقذوف مسلمًا، ثم ارتد فلا حد على من قذفه قبل ردته؛ لأن وقوع الرده منه تورث شبهة في إسلامه، وقت قذفه، وقيام هذه الشبهة يدرأ الحد عن الجاني.
وذهب فقهاء المالكية إلى القول: بإسقاط الحد عن الجاني، حتى ولو تاب المقذوف، ورجع عن ردته إلى الإسلام ثانية3.
وأورد فقهاء الشافعية في ذلك رأيين أحدهما:
أن الردة من المقذوف تسقط الحد عن القاذف، نظرًا؛ لأنها تورث شبهة في إسلام المقذوف، وقت قذفه قبل إظهار ردته والثاني: أن ردة المقذوف لا تسقط الحد عن القاذف؛ لأن الردة تدين والعادة فيها الإظهار، وعليه فإن وقوعها لا ينتج شبهة قيامها إظهارها4.
وما أرجحه من ذلك، هو ما ذهب إليه فقهاء المالكية من القول بأن الردة تسقط الحد عن القاذف حتى ولو تاب، وذلك؛ لأن جمهور الفقهاء يرى أن حد القذف سببه قيام المعرة بالمقذوف، ولا يخفى أن ردة المقذوف تلحق به من المعرة ما لا تبقي أثرا لغيرها، وعليه فلا معرة بما كان من قذفه.
1 المحلى ج13 ص263-265.
2 يراجع تفسير القرطبي للآية 5 من سورة المائدة ج3 ص2076، ج5 ص4564.
3 حاشية الدسوقي ج4 ص325.
4 المهذب ج2 ص273.