الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: أقسام الجريمة باعتبار الحق المعتدى عليه
تنقسم الجريمة باعتبار المعتدى عليه إلى أقسام عدة1 منها ما يأتي:
1 ذكر الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور أن للحق في اللغة العربية عدة معان، كلها ترجع إلى الثبوت والوجوب، ثم ذكر أن الشرعيين لم يصطلحوا على تفسير خاص للحق اكتفاء بمعناه اللغوي، ونقل سيادته بعض تعريفات لفقهاء معاصرين يقول الأستاذ الشيخ علي الخفيف: وهو مصلحة مستحقة شرعًا -مذكرات لطلبة الدراسات العليا ص36.
وعرفه الأستاذ الزرقا بأنه: "اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفًا"، الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ج2 ص11.
أما عن أقسام الحق، فتختلف تبعًا لاختلاف المعنى الذي يدور عليه التقسيم باعتبار من يضاف إليه قسمه الأحناف، ومن تابعهم إلى قسمين:
حق الله، وحق العبد: وفرعوًا منهما قسمين آخرين: هما ما اجتمع فيه الحقان، وحق الله غالب، أو حق العبد غالب.
وعرف فقهاء الأخناف حق الله بأنه ما يتعلق به النفع العام للعامل، وحفظ النظام العام فيه، ونسبته إلى الله على وجه التعظيم، والاهتمام به وليصير من النظام بالتعبير القانوني.
ويعرفون حق العبد بأنه ما تتعلق به مصلحة خاصة دنيوية، كحرمة مال الغير، وهي الحقوق التي تتعلق بالأفراد، وليس للنظام العام فيها دخل، وهي قريبة من المسائل التي ينظمها القانون الخاص في القولين الوضعية.
أولًا جرائم يقع الاعتداء، فيها على حق الله تعالى، وهو الحق الذي يخص المجتمع، ويتعلق به الصالح العام.
والجرائم التي تقع على هذا الحق تلحق ضررًا عامًا بأمن المجتمع، وسلامته مع ما تحمله في طيها من اعتداء على شخص، أو أكثر من أفراد المجتمع، غير أن الشارع قد نظر إلى ما في هذا النوع من الجرائم من ضرر عام، وعنى به وقدمه عند محاكمة الجاني، وإلزامه العقوبة.
والاهتمام بهذا الحق العام أهتمام للشخص ورعاية له، كما أن تغليب الحق العام ينتج فوائد جمة، ويحقق مصالح الجميع.
كما أن مثل هذه الجرائم تعامل معاملة خاصة من حيث الشكل القضائي، وسمات العقوبة ولزومها للجاني، وعدم جواز العفو عنه، إلى آخر ما يترتب على ذلك، فجريمة الزنا مثلًا قد تقع بين رجل لم
وقسم فقهاء الأحناف الحق إلى:
أ: حق الله الخاص: وهو الذي لا يملك أحد إسقاطه، والذي نقابله في القوانين الوضعية ما يعرف بالنظام العام الذي تمثله النيابة العامة، ومنه عقوبات الحدود عدا حد القذف.
ب: حق العبد الخالص: وهو ما شرع لمصلحة دنيوية خاصة بالفرد كحق الدية -وبدل المتلف، والمغصوب، وحق الشفعة، وحق المشترى في تملك المبيع، والبائع في تملك الثمن.
ج: ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب: وهو حد القذف وإن كان الكاساني من فقهاء الأحناف قد عد حد القذف من الحقوق الخالصة لله، فلا يسقط بالعفو من العبد، وقد روي عن أبي يوسف أنه يسقط بالعفو "التوضيح والتلويح ج3 ص178".
يسبق له الزواج وامرأة مثله غير متزوجة، ولا يوجد في قرابتها أحد، وفي مكان يجوز أن لا ينكر عليهما أحد ممن فيه هذا الفعل، كما أنهما أتيا هذه الجريمة عن رغبة واختيار، ففي ظل ذلك كله قد خلت الجريمة في الظاهر عن الاعتداء الشخصي، ولكنها مع ذلك لم تخل عن الاعتداء على حق المجتمع الإسلامي بصفة خاصة، والمجتمع الإنساني بصفة عامة، فهذه الجريمة قد خالفت ما عليه السلوكي، والأخلاقي من وحهة النظر الإسلامي بصفة خاصة، ووقع بقيامها اعتداء على الأعراض مما يعرض نظام الحياة إلى الخلل والفوضى.
لذا تولى المشروع الحكيم بيان كل ما يحيط بهذه الجريمة، وتحديده تحديدًا بينا من أول أفعالها حتى تنفيذ العقوبة بمن وقعت منه هذه الجريمة، وما ماثلها من جرائم متعلقة بالاعتداء على المجتمع، والواقعة على الحق العام.
ثانيًا: جرائم يقع الاعتداء فيها على حق الله سبحانه وتعالى، وحق للعبد غير أن حق العبد هنا غلبه الشرع وقدمه.
ومن هنا فمع أن الله سبحانه وتعالى هو الذي تولى تحديد عقاب مثل ذلك من جرائم القصاص، وما دار في فلكها، وحدد سمات التقاضي فيها، وبين العقوبة وأمر بإنفاذها بالصورة التي حددها، مع ذلك فإن المشرع الحكيم مراعاة منه لحق العبد المعتدى عليه، وأوليائه من بعده.
جعل لهم حق إسقاط هذه العقوبة التي حكم بها على الجاني إذا أرادوا ذلك وطلبوه، سواء عوضوا عنه أو لم يعوضوا.
وما ذلك من الشارع إلا مراعاة لما للعبد من حق، فإذا عفا صاحب الحق اعتبر عفوة، وترتب عليه إسقاط العقوبة عن الجاني، لتحقق هدف المشرع من شفاء صد المجني عليه، وراحة نفسه.
أما في النوع الأول، وهو الاعتداء على حق خالق لله خالص بالمجتمع، فالضرر قد وقع عامًا، ولذا فإنه لا يقبل عفو من وقع عليه الضرر المباشر؛ لأن دائرة من أصيبوا بالضرر قد تخطت حدود من أصيب مباشرة بالجريمة، وشملت المجتمع بأسره، ولا يتصور العفو من كل فرد في المجتمع عما أصابه حتى، وإن أمكن تصور ذلك فإنه قد بقي الاعتداء على حق الله سبحانه وتعالى، وليس من سلطان لأحد حينئذ بحيث يعفو عن الجاني أو يسامحه؛ لأن ذلك لله وحده.
ثالثًا: جرائم يقع الاعتداء فيها على حق الله سبحانه وتعالى، وحق للعبد غير أن حق العبد المعتدى عليه، وإن كان ظاهرًا وواضحًا، إلا أن حق الله سبحانه وتعالى قد غلبه، وذلك كما في جريمة القذف، فهذه الجريمة وقع الاعتداء فيها على حق الله سبحانه وتعالى، وحق للعبد.
غير أن المشروع غلب حق الله سبحانه وتعالى لما يترتب على هذه الجريمة من إشاعة الفاحشة، والتشكيك في الأعراض والأنساب.
لذا فإن أمر هذه الجريمة إذا وصل إلى القاضي، فلا شفاعة ولا عفو ولكن لا بد من إنفاذ العقوبة المقدرة عقابًا لمن أجرم بقذفه غيره، هذا في الدنيا ولقد أخبر الله سبحانه عن عذاب القاذف أيضًا في الآخرة بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2.
بل إن من الفقهاء من ذهب إلى عد جريمة القذف من الجرائم
1 الآية 19 من سورة النور.
2 الآية 23 من سورة النور.
التي يقع الاعتداء فيها على حق خالص لله سبحانه وتعالى، ووجهة نظر فقهاء الأحناف في قولهم بذلك أن حقوق العباد هي التي تجب فيها العقوبة بطريق المماثلة بين ما وقع من الجاني، وما يعاقب به، كما هو الحال في جرائم القصاص، أما ما لا تجب فيه العقوبة على أساس المماثلة بين الجريمة، وما يلزم به الجاني، فإنها كلها جنايات وقعت على حق الله، وكل جناية يرجع فسادها إلى العامة، ومنفعة جزائها تعود إلى العامة، يكون الجزاء الواجب فيها حقا لله تعالى عز شأنه على الخلوص، تأكيدًا للنفع والدفع كيلا يسقط بإسقاط العبد، وهو معنى نسبة هذه الحقوق إلى الله تبارك وتعالى، وهذا المعنى موجود في حد القذف؛ لأن مصلحة الصيانة ودفع الفساد يحصل للعامة بإقامة هذا الحد، فكان حق الله تعالى عز شأنه على الخلوص كسائر الحدود، إلا أن الشرع شرط فيها الدعوى من المقذوف، وهذا لا ينفي كونه حق لله عز وجل شأنه على الخلوص كحد السرقة، لا ينفي أنه خالص حق لله تعالى عز شأنه اشتراط الدعوى فيه. ولأن المقذوف يطالب القاذف ظاهرًا، وغالبًا دفعا للعار عن نفسه، فيحصل ما هو المقصود من شرع الحد؛ ولأن حقوق العباد تجب بطريق المماثلة إما صورة ومعنى، وإما معنى لا صورة؛ لأنها تجب بمقابلة المحل جبرًا، والجبر لا يحصل إلا بالمثل، ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة ولا معنى، فلا يكون حقه.
وأما حقوق الله سبحانه وتعالى، فلا تعتبر فيها المماثلة؛ لأنهما تجب جزاء للفعل كسائر الحدود1.
وتعليل فقهاء الأحناف هذا، وإن كان له وجاهته إلا أنه غير ما عليه الجمهور، كما أنه لا بد من مراعاة ما بين الجرائم من مغايرة من حيث ما يتبع من إجراءات التقاضي؛ لأنها أمور جوهرية، ولازمة لا بد
1 البدائع للكسائي ج9 ص4203 مطبعة الإمام.
من مراعاتها، وهذه الأمور الإجرائية تنتج نوعًا من الفروق بين الجرائم الحدية بعضها البعض.
وتظهر أن منها ما تقام الدعوى فيه حسبة، ومنها ما لا تقام الدعوى فيه كذلك، وإنما لا بد من أن ترفع من المجني عليه.
وهذه كلها أمور يترتب عليها كثير من النتائج، كما أن المقذوف قد يحجم عنه رفع الدعوى صيانة لعونه، عن أن تلوكه الألسنة، ويشاع ما قدف به.
وفي هذه الحالة لا تقام الدعوى الحدية على الجاني، ولا يلزم بعقوبة جنائية.
هذه هي أقسام الجريمة باعتبار الحق المعتدى عليه، الوثيقة الصلة بموضوع هذا البحث.
ولكل قسم من هذه الأقسام سماته الخاصة التي يغاير غيره من باقي الأقسام فيها كلها أو في بعضها، وهذه المغايرة يترتب عليها بعض الآثار، والمحصلات من حيث:
أ: لزوم الخصومة أو عدم لزومها.
ب: مواصفات الإثبات.
ج: التقادم وما يترتب عليه.
د: التوبة وما ينتج عنها من آثار.
"أ- الخصومة وممن تشترط"
إذا كان الحق المعتدى عليه حقًا خالصًا لله سبحانه وتعالى، فإن الخصومة غير لازمة، بمعنى أنه لا يلزم لإقامة الحد أن يطالب به فرد
من الأفراد، ويكفي أن تثبت الجريمة على الجاني عند القاضي سواء أكان عن طريق المحتسب، أم إقرار الجاني مثلًا.
أما إذا كان الحق المعتدى عليه للعبد حق فيه، فإن أبا حنيفة، والشافعي، وابن حنبل يشترطون قيام الخصومة ممن له نصيب في الحق المعتدى عليه، فإذا لم توجد الخصومة، فلا يلزم الجاني بالعقوبة الحدية حتى وإن أقر على نفسه، فلو جاء سارق مقرًا بجريمته، فإنهم لا يلزمونه الحد إلا إذا قامت الخصومة؛ لأن قيام الخصومة عندهم شرط لظهور السرقة، والخصم هو المسروق منه، فلا بد من حضوره مخاصمًا السارق؛ لأن المال يباح بالبذل والإباحة، فيحتمل أن مالكه أباحه إياه أو وقفه على المسلمين، أو على طائفة السارق منهم، أو أذن له في دخول حرزه، فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة1.
أما الإمام مالك وأبو ثور، فإنهما يريان أن السارق يقطع، ولا يفتقر إلى دعوى ولا مطالبة، إذ إن قيام الخصومة عندهما ليست بشرط لاسيتفاء الحد.
وأكثر من ذلك يرى أن الإمام مالك أن السارق إذا جاء مقرًا بسرقته، فكذبه رب المال المسروق، فإن السارق يقطع أيضًا ويصير المتاع المسروق للسارق، إلا أن يدعيه ربه بعد ذلك.
وكذا يقطع السارق إذا أخذ في الليل المتاع المسروق، وقال السارق: رب المتاع أوصلني لأخذه، فلا يصدق ولو صدقه رب المتاع أنه أرسله لكنه إذا أتى بما يشبه، فإنه يصدق ولا يقطع، بأن دخل من مداخل الناس
1 فتح القدير ج5 ص400ط الحلبي، مغني المحتاج ج4 ص176 المغني ج8 ص285-286، ج9 ص215-216ط مكتبة الجمهورية العربية.
وخرج من مخارجهم في وقت يشبه أنه أرسله فيه1.
وما ذهب إليه الأئمة أبو حنيفة، والشافعي، وابن حنبل هو ما أرجحه لقيام شبهة الإباحة، فقد يكون المال المسروق قد أباحه مالكه للسارق، أو جعل له حقًا فيه.
واستنادًا لما روي من أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني سرقت جملًا لبني فلان، فطهرني فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، إنا افتقدنا جملًا لنا، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده2.
فلو لم تكن الخصومة شرطًا لإقامة الحد هنا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الجمل حتي يحضروا، ويسألهم فيؤكدوا ما وقع تأكيدًا على سبيل الخصومة.
ب- مواصفات الإثبات:
حدد الشارع الحكيم طريق إثبات الجرائم الحدية تحديدًا لا مجال معه لإضافة أو انتقاص، فقد بين عدد شهود إثبات كل جريمة ومواصفاتهم، وصيغة شهادتهم، وبين الأقرار وحدد ما يكون به ملزمًا كل ذلك وما يتعلق به، وصحة الشارع بطريقة لم يرد عن فقيه من الفقهاء إن قال بما يغايرها، كل ما هنالك أن منهم من حاول التدقيق التماسًا للشبهة، ودفعًا للعقوبة.
1 الخرشي ج8 ص95، 96 ط بيروت، شرح الزرقاني على مختصر خليل ج8 ص97 ط الأميرية.
2 رواه ابن ماجه في سننه ج2 ص863 باب السارق يعترف وزاد عليه: قال ثعلبة أنا انظر إليه حين قطعت يده، وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار.
فقد اشترط فقهاء الأحناف لإثبات الجريمة المتعلقة بحق الله سبحانه وتعالى عن طريق الإقرار، أن يكون إقراره بعد الشهود الذين حدد الشارع عددهم لإثبات الجناية الحدية.
فقد نقل عنهم: فلما أوجب سبحانه في الشهادة على الزنا أربعة على خلاف المعتاد في غيره، فكذا يعتبر في إقراره، إنزالًا لكل إقرار منزلة شهادة واحدة، ولو لم يكن ذلك لكان القياس يقتضيه1.
وقولهم: "إن كل ما يسقط بالرجوع عن الإقرار، فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود2، وفقهاء الأحناف لم يشترطوا ذلك في الإقرار بحق العبد"3.
وما ذهب إليه فقهاء الأحناف هنا لم يتشرطه الإمام مالك، والإمام الشافعي سواء أكنت الجناية قد وقعت على حق خالص لله سبحانه وتعالى، أم على حق شاركه فيه العبد4.
كما أن الإمام الشافعي قد أجاز إثبات جناية القذف بنكول القاذف عن اليمين، وألزمه العقوبة الحدية بنكوله5.
1 فتح القدير ج5 ص221 ط الحلبي.
2 بدائع "الصنائع للكاساني ج4 ص50.
3 يقول الكاساني: وأما العدد في الإقرار بالقذف، فليس بشرط بالإجماع البدائع ج7 ص56.
4 يقول ابن رشد: "أما عدد الإقرار الذي يجب به الحد، فإن مالكًا والشافعي يقولان يكفي في وجوب الحد اعترافه به مرة واحدة، وبه قال داود، وأبو ثور الطبري وجماعة، بداية المجتهد ج2 ص473 مغني المحتاج ج4 ص150.
5 حكى ذلك الشيخ أبو زهرة في كتابه الجريمة ص75 مستدلًا عليه بروايات أوردها عن الكاساني، يرجع إلى تفصيل القول في الحكم بالنكول إلى كتاب القضاء في الإسلام للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور، فقد فصل القول في ذلك ص89، 90.
هذا ما ذهب إليه الفقهاء، في اعتبار التسوية بين عدد الشهود، وعدد مرات الإقرار تسوية لازمة.
أما من حيث الرجوع عن الإقرار، فإن فقهاء الأحناف والحنابلة قد رأوا أن الرجوع عن الإقرار يسقط الحد الواجب على من اعتدى على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى.
أما جمهور فقهاء الشافعية، فقد نقل عنهم: أن المقر إذا أقر بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة، ثم رجع في إقراره لم يقبل رجوعه؛ لأنه قد أقر بحق ثبت لغيره، فلم يعد يملك إسقاطه بغير رضاه، وإن أقر بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظر، فإن كان حد الزنا، أو حد الشرب قبل رجوعه1.
أما الإمام مالك، فقد فصل القول في ذلك بأنه إذا كان الرجوع لشبهة قبل، وأما إن كان إلى غير شبهة فقد وردت عنه، روايتان إحداهما يقبل وهي الرواية المشهورة، والثانية لا يقبل رجوعه2.
وقد ذهب ابن أبي ليلى3، وأبو ثور4 وغيرهما إلى عدم
1 المهذب ج2 ص245، مغني المحتاج ج4 ص150.
2 بداية المجتهد ج2 ص474 ط المنياوي، الموطأ ص245ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
3 محمد بن عبد الرحمن، أنصاري كوفي فقيه، قاضي الكوفة ومن أصحاب الرأي، له أخبار مع الإمام أبي حنيفة، وغيره توفى بالكوفة عام 148هـ.
4 إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي الفقيه، صاحب الإمام الشافعي، قال ابن حيان: كان أحد أئمة الدنيا فقها، وعلمًا، وفضلًا. صنف الكتب ونوع الفروع على السنن توفي ببغداد سنة 240 هـ سنة 854م، الإعلام للزركلي ص 12 المطبعة العربية.
قبول الرجوع عن الإقرار بذلك، نظرًا؛ لأنه حق ثبت بالإقرار، فلا يسقط بالرجوع كالقصاص وحد القذف.
وما ذهبوا إليه مردود بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرض للمقر بالرجوع بإعراضه عنه، ولو لم يكن لذلك التعريض فائدته لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم-1، وسيأتي الحديث عن ذلك مفصلًا عند بيان الرأي في الرجوع عن الإقرار2.
هذا بالنسبة للرجوع عن الإقرار بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، أما الرجوع عن الإقرار بحق العبد، فإنه لا يلتفت إليه، ولا يسقط ما ألزم المقر به نفسه.
وفرق من أسقط بالرجوع عن الإقرار حق الله سبحانه وتعالى، ولم يسقط بالرجوع حق العبد، بأن الرجوع في الأول خبر يحتمل الصدق، وليس أحد يكذبه فيه، فتتحقق به الشبهة في الإقرار السابق عليه، فيندرئ بالشبهة؛ لأنه أرجح من الإقرار السابق.
بخلاف ما فيه حق العبد من القصاص وحد القذف؛ لأن العبد يكذبه في أخباره الثاني، فينعدم أثره في إخباره الأول بالكلية3.
ج- التقادم وما يترتب عليه:
قبل نظر الدعوى أو الحكم فيها، أو بعد صدور الحكم.
أ: يراد بالتقادم هنا أن تمضي مدة كان يمكن للمدعي أن يتقدم
1 نيل الأوطار ج7 ص150 المهذب ج2 ص345 بداية المجتهد ج2 ص474.
2 الفصل الثالث من الباب الأول من هذا البحث.
3 المهذب ج2 ص345، فتح القدير ج5 ص223، الجريمة للشيخ أبو زهرة ص75.
خلالها بدعواه للقاضي لم يتقدم بها، مع عدم وجود مانع يمنعه1.
والفقهاء قد فرقوا حينئذ بين أن قيام الدعوى حسبة، أو من المجني عليه، ويتم إثباتها عن طريق البينة، وبين أن يكون الجاني هو الذي أتى مقرًا بجنايته رافعًا أمره للقاضي طالبًا تطهير نفسه.
وقد رأي الفقهاء عدا ابن أبي ليلى أن التقادم لا يؤثر إذا جاء الجاني مقرًا على نفسه بجنايته؛ لأنه والحالة هذه يسند لنفسه ما يلزمه العقوبة الحدية التي قد يترتب عليها القضاء عليه، ومثل من يقدم على ذلك لا يتصور منه الكذب على نفسه.
هذا بالنسبة للإقرار بالجرائم الحدية المتقادمة عدا جريمة شرب الخمر، إذ إن الإمام أبو حنيفة، وصاحبه أبو يوسف قد رأيا أن
1 يرى الإمام أبو حنيفة أن تحديد المدة التي يعد مرورها تقادمًا أمر متروك لرأي القاضي في كل عصر يقدره، حسبما تقتضي الوقائع والأحوال؛ لأن ما يعد تقادمًا في وقعة معينة ببلد معين قد لا يعد تقادمًا في بلد آخر بالنسبة لنفس الواقعة إذا اتحدت ظروفهما، أو اختلف وكذا إذا تغايرت الوقائع، والأمر في رأيي يحتاج إلى قواعد ثابتة حتى ولو اختلفت في بلد عن آخر، حتى لا يصبح الأمر عرضة، لأن يتلاعب فيه تحت ضغط حاكم، أو صاحب سلطة، وقد نقل عن أبي يوسف أن المدة المعتبرة تقادمًا في رأيه شهر، ويرى محمد أنها ستة أشهر، أو مفوضة إلى رأي القاضي، فتح القدير ج5 ص282، 303 البحر الرائق ج5 ص29.
الإقرار بها متقادمة لا يترتب عليه إلزام المقر بها عقوبتها الحدية1.
ومن الفقهاء من يرى أن الحدود جميعها تسقط بالتقادم، فلا تقام عقوبتها المقدرة على الجاني سواء أجاء مقرًا بجنايته المتقادمة، أم أقيمت عليه الدعوى، وتم إثباتها بالبينة.
وأساس ذلك القول عند من يراه: أن الهدف من إقامة الحدود هو الردع، والزجر للجاني وغيره، وذلك -في رأي من قال بهذا القول- لن يتحقق إلا إذا أقيمت العقوبة الحدية فور وقع الجريمة الموجهة لها.
كما أن التأخير -في رأيهم- قد يتأتى معه توبة الجاني، وإقراره بجنايته بعد فوات مدة تعد تقادما عليها، ما هو إلا دليل على توبته، وطلبه التطهير من كل ما علق به، حتى وإن كانت نتائجه إزهاق روحه.
وعقاب من أصحاب هذه حالة عقاب لنفس ثابت، وأنابت وعادت إلى رشدها، وأتبعت طريق ربها وهديه2.
1 وقولهما هذا أخذا بما قاله ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- ولم يوافقه فيه حد من بقية الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن، إذ أنه يرى أنه يشترط أن يؤتى بالشارب، وأثر الخمر ما زال قائمًا، أو أن يقر بجنايته وأثرها ما زال موجودًا.
فتح القدير ج5 ص216-222، ص 279 وما بعدها، ص302-304 البحر الرائق ج5 ص22، 29، ج8 ص207.
2 فتح القدير ج5 ص279 ط مصطفى الحلبي.
وهذا الرأي، وإن كانت له وجاهته مما جعل الماوردي1، وأبا يعلي2 وابن قيم الجوزية3 يرونه، إلا أنه رأي يحتاج إلى دليل؛ لأن القول بأن الهدف من الحدود هو الردع، والزجر لم يسلم به كل الفقهاء كما سيأتي.
كما أن مسألة التوبة هذه لا تصلح شبهة لدرء الحد؛ لأن ادعاءها أمر يسهل على الجاني، والتحقق من صدقه أمر غير ميسور؛ لأن ذلك سر بين العبد وربه، ولا يلعم السر أو يحصل ما في الصدور إلا الله.
1 أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب، أقضى قضاة عصره من العلماء الباحثين أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة، ولد في البصرة سنة 364هـ 974م، وانتقل إلى بغداد، كان يميل إلى الاعتزال، وكانت له مكانة رفيعة عند الخلفاء توفى في بغداد سنة 450 هـ، 1058م من كتبه أدب الدنيا والدين، والأحكام السلطانية الحاوي في فقه الشافعية نيف وعشرون جزءًا.
الأعلام للزركلي ج2 ص690.
2 محمد أبو الحسين بن محد بن خلف بن الفراء أبو يعلي المعروف بالقاضي الكبير، فقيه حنبلي له مؤلفاته الكثيرة، منها أحكام القرآن، وعيون المسائل والأحكام السلطانية توفي سنة 458هـ.
3 محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعيد الزرعي الدمشقي، أبو عبد الله شمس الدين من أركان الإصلاح الإسلامي، واحد كبار العلماء ولد في دمشق سنة 961هـ 1292م تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، وهو الذي نشر عليه وسجن معه في قلعة دمشق كان حسن الخلق محبوب -عند الناس، له تصانيف كثيرة، منها أعلام الموقعين، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية زاد المعاد، مفتاح السعادة، أخبار النساء توفى في دمشق سنة 751هـ، 1350م الأعلام للزركلي ج3 ص871.
ولو كان الأمر، كما رأى أصحاب هذا الرأي، الذي يسقط الحدود بالتقادم لسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جاءه معترفًا بالزنا متى زنيت لجواز أن يكون إقراره بزنا قديم، لكنه لم يسأله، وليست هناك قرينة تدل على حداثة الواقعة كما أن هذا المقر لا يشك أحد في توبته؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن توبته لو تابها أهل مكس1 لغفر لهم، ومع ذلك أقيم عليه الحد هذا هو أثر التقادم في الإقرار بالجناية الحدية المتقادمة.
أما إقامة دعوى بالجناية المتقادمة، وإثبات هذه الجناية الحدية، عن طريق البينة، فللفقهاء فيها آراء.
1-
يرى فقهاء الأحناف، وابن أبي ليلى القول بعدم سماع شهادة على جريمة حدية قيدمة، وقع الاعتداء فيها على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، وذلك؛ لأن الشهادة بهذه الجرائم تؤدي حسبة، ولا يلزم أن يسبقها دعوى من أحد، فإذا تأخر الشهود من غير عذر مقبول، حامت الشبهات حول شهادتهم، وشهادة مثل هذه لا يثبت بها حد من حدود الله سبحانه وتعالى2.
أما الجرائم الحدية القديمة التي تتعلق بحق العبد، فإن الشهادة تسمح فيها وتثبت الجناية بها، ويلزم الجاني بما يترتب على جناية.
وذلك مبني على أساس أن مثل هذه الجرائم يلزم أن تقام الدعوى
1 مكس بفتح الميم وسكون الكاف بعدها: هو من يتولى الضرائب التي تؤخذ من الناس بغير حق، والمكس النقص والظلم، نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص124-128 ط مصطفى الحلبي.
2 روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: أيما شهود شهدوا على حد لم يشهدوا عنه حضرته، فإنما شهدوا على ضغن، فلا شهادة لهم. فتح القدير ج5 ص279، البحر الرائق ج5 ص21، 22 ط بيروت.
بها من جانب الحق المعتدى عليه حتى يمكن أن تسمح الدعوى، والشهادة بها.
وعلى هذا فإن تأخر قيام الدعوى من جانب المجني عليه، لا يعد مطعنًا في صحة ما يدلي به الشهود، ولا تقوم به شبهة في شهادتهم1.
2-
يرى الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد بصحة سماع الشهادة على الجرائم الحدية القديمة، والحكم بمقتضاها بالعقوبة الحدية، سواء أوقعت هذه الجريمة الحدية المتقادمة على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، أم على حق من حقوق العبد.
أما بالنسبة لسماع الشهادة بالجريمة الحدية المتقادمة الواقعة على حق العبد، والاعتداد بها، فقد سبق الحديث عنه، ولم يختلف الفقهاء عليه أما بالنسبة لما وقع على حق من حقو الله سبحانه وتعالى، فإن الأئمة مالكا والشافعي، وابن حنبل قد قاسوه بما وقع على حقوق العبد.
وقالوا: ما دام التقادم لا يمنع سماع الشهادة بما وقع من جرائم حدية على حق من حقوق العباد، والاعتداد بها في إلزام الجاني بالعقوبة الحدية المقررة لجنايته، فإنه لا يوجد ما يمنع سماعها أيضًا في حقوق الله سبحانه وتعالى، ما دام الشهود عدولًا غير مطعون في عدالتهم.
والتأخير وحده في آداء الشهادة لا يكفي لرد شهادتهم، وعدم الاعتداد بها2.
1 المرجعين السابقين، المغني ج9 ص215، الخرشي ج7 ص187 اللباب في شرح الكتاب للميداني ج3 ص58 ط صبيح سنة 1935م البدائع للكاساني ج7 ص46، 47 ط الجمالية سنة 1328هـ.
2 فتح القدير ج5 ص279، المغني ج8 ص207 المهذب ج2 ص226 الخرشي ج7 ص187.
وقياس أصحاب هذا الرأي حقوق الله سبحانه وتعالى على حقوق العباد في جواز سماع الشهادة بالجناية المتقادمة، والعمل بمقتضاها قياس فيه نظر.
وذلك؛ لأن الإعتداء على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، يمكن أن تقام الدعوى به حسبة، بخلاف الاعتداء على حق العبد، فالتأخير إذا كان في قيام الدعوى إذا اعتدى على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، مع انعدام ما يبرر التأخير، يورث شبهة، ويوجد شكا.
والحدود تدرأ بالشبهات.
كما أن الشهود لو طلبوا لأداء الشهادة بجناية حدية، وقعت على حق العبد، فتأخروا في الحضور دون سبب مقبول لتأخرهم، ثم جاءوا بعد مرور مدة تعد تقادمًا، فإن شهادتهم والحالة هذه تصبح مشوبة بشك، وشبهة، فهم متهمون -لذا، فإنه لا تثبت بها الجريمة الحدية، ولا يلزم بها عقوبة مقدرة، وكل ما يلزم بها في جريمة السرقة هو رد المال فقط، ولا يلزم بها حد في باقي الجرائم الحدية. لقيام الشبهة في الشهادة المتأخرة، هذا مع عدم تحقق التهمة بالنسبة للشهود، أما إذا تحققت التهمة، فإن شهادتهم ترد لاتهامهم بها شيء من مال، أو حد1.
ب- آراء الفقهاء في تنفيذ الحكم المتقادم:
ذهب الإمام أبو حنيفة، والصاحبان إلى أن تأخير تنفيذ الحكم بالعقوبة الحدية، التي ألزم بها الجاني نتيجة شهادة الشهود عليه بجنايته التي ارتكبها باعتدائه على حق الله تعالى الخالصة بترتب على هذا التأخير منع إقامة هذه العقوبة الحدية.
1 البحر الرائق ج5 ص22، فتح القدير ج5 ص297.
أما إذا كانت الجناية قد وقعت على حق من حقوق العباد، فإن تأخير تنفيذ العقوبة الحدية لا يترتب عليه أي أثر، ويلزم الجاني بها متى أمكن تنفيذها عليه.
وقد بنى الإمام أبو حنيفة، ومن وافقه قولهم هذا على أساس أن الإمضاء عندهم من القضاء بحقوق الله سبحانه وتعالى، بخلاف حقوق الآدميين، كما أن الحاكم بلا شبهة، وعلى هذا فإن الاستيفاء من تتمة القضاء، أو هو هنا إذا لم يحتج إلى التلفظ بلفظ القضاء حتى جاز له الاستبقاء من غير تلفظ به، بخلافه في حقوق العباد، فإنه فيها لإعلام من له الحق بحقية حقه، وتمكينه من استيفائه، وإذا كان كذلك كان قيام الشهادة شرطًا حال الاستيفاء، كما هو شرط حال القضاء بقح العباد إجماعًا، وبالتقادم لم تبق الشهادة، فلا يصح هذا القضاء الذي هو الاستيفاء، فانتفيى الاستيفاء1.
أما الإمام مالك، والشافعي وابن حنبل، وزفر من فقهاء الأحناف، ومن وافقهم وهم الجمهور، فإنهم قد نفوا وجود أي أثر لتقادم الحكم يمنع تنفيذه متى أمكن التنفيذ على الجاني، ما دام لم يطرأ رجوع من الشهود عن شهادتهم التي أدين الجاني على أساس قيامها صحيحة متكاملة الأركان، والشروط عند نظر القضية أمام القاضي، فإذا حكم القاضي بالعقوبة الحدية، ولم يرجع الشهود عن شهادتهم لزمت الجاني العقوبة الحدية، متى أمكن تنفيذها عليه، ولا علاقة عندهم بين الاستيفاء
1 فتح القدير ج5 ص281 ط الحلبي، البحر الرائق ج5 ص22 ط بيروت.
حاشية ابن عابد ج3 ص218 ط الأميرية، التشريع الجنائي عبد القادر عوده ص738-780 ط دار التراث.
وحضور الشهود، أو غيابهم وكذا حياتهم أو موتهم؛ لأن المعول عليه عندهم هو قيام الشهادة على الجناية الحدية قيامًا صحيحًا حال القضاء، واستمرار ذلك دون رجوع من الشهود كما في الإقرار.
أما إذا رجع الشهود عن شهادتهم، فإن رجوعهم هذا يترتب عليه وقف تنفيذ العقوبة الحدية، كما في الرجوع عن الإقرار أيضًا1، وسيأتي بيان ذلك مفصلًا2.
وما ذهب إليه جمهور الفقهاء هو الذي يناسب طبيعة العقوبة الجنائية، ويلائم أحوال الناس، وظروف الحياة.
لأن إلزام الشهود بالحضور في أوقات متعددة فيه إثقال عليهم، وتعطيل لمصالحهم، ومدعاة وتحريض على عدم الإقدام على تحمل الشهادة، والإدلاء بها.
وهذا أمر ملحوظ في الحياة اليومية إذ يقع كثير من الجرائم، والأحداث تحت سمع وبصر العامة، ولا يحاول أحد أن يمد يده ليمنعها حتى ولو بأداء الشهادة على الجاني، نظرًا لما يتبع ذلك من إلزام بالحضور للإدلاء بأقواله وشهادته بما رأى، وغالبًا ما يصيبه بسبب كثرة استدعائه للإدلاء بأقواله ضرر جسيم وتعطيل وإرهاق، ولهذا فإنه إذا حضر الشاهد، وأدى شهادته وحكم بمقتضاها، فليس هناك ما يدعو، لأن تلزمه بما لا يطيقه، وأن تشترط وجوده عند التنفيذ أيضًا، وعلى الأخص
1 بداية المجتهد ج2 ص474، شرح الزرقاني على مختصر خليل ج8 ص81 ط الأميرية الخرشي ج8 ص80، المهذب ج2 ص345، المغني ج8 ص197 فتح القدير ج5 ص223، ص281، البحر الرائق ج5 ص22- مباني تكملة المنهاج لأبي القاسم الموسوي ج1 ص176 ط النجف الأشرف.
2 الباب الأول الفصل الثالث من هذا البحث.
إذا تقادم الأمر؛ لأن ذلك يوقع الإضرار به، ويدعوه إلى أن يكتم شهادته.
بالإضافة إلى أن الفقهاء قد تحروا الدقة في طرق إثبات الجنايات الحدية إلى الحد الذي يكاد ينعدم فيه ذلك عن طريق شهادة الشهود.
وقد ذهب الشيخ أبو زهرة إلى محاولة تغليب وجهة نظر الإمام أبو حنيفة، والصاحبين بقوله: ولعل الأولى أن تقول: إن التأخير عن التنفيذ يكون مظنه توبة المرتكب، والحكم في ذاته زجر، والناس يتزجرون بصدوره، وما يريد الله تعالى عذاب عبيده، ولكن يريد إصلاح قلوبهم ويطهر جمعهم، ولعلهم قاسوا حال التأخير في التنفيذ حتى هرب، ولم يعد إلا بعد زمن، بحال رجوع المقر في إقراره بعد الحكم، وقبل التنفيذ1.
وهذا القول فيه نظر إذ إن الشيخ أبو زهرة قد بنى تغليب وجهة نظر الإمام، والصاحبيين على أساس أن من هرب مدة تعد تقادمًا قد انصلح قلبه، وبذا يكون الهدف قد تحقق، فلم يبق هناك داع لإقامة الحد الذي وصفه بأنه عذاب. إذ كيف يكون الهرب دليلًا على الصلاح؟
كما أنه لو كان إصلاح القلب هو هدف العقوبة وحده، لكان من انصلح قلبه من غير هروب بالعفو عنه ممن هرب حتى انصلح قلبه.
هذا مع أن إصلاح القلب -وهو أمر لا يستطيع الوقوف عليه إلا من أعلمه الله- لا يكفي وحده لإسقاط العقوبة الحدية عمن لزمته، ولا أدل على ذلك مما سبق من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
1 العقوبة للشيخ أبو زهرة ص254.
أقام الحد على أشخاص، أخبر بأنهم قد تابوا توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم.
التقادم وأثره في القانون الوضعي:
تحديث فقهاء القانون الوضعي عن التقادم، وأثره في إسقاط الاتهام في الدعوى، وإسقاط العقوبة المحكوم بها، وإن كانوا قد فرقوا بين المدة المعتبرة تقادمًا مسقطًا بالنسبة للحاليين، وكذا بالنسبة لكل عقوبة، فقد نصت المادة 15 من قانون الإجراءات الجنائية على ما يأتي:
تنقضي الدعوى الجنائية في مواد الجنايات بمضي عشر سنين من يوم وقوع الجريمة، وفي مواد الجنح بمضي ثلاث سنين، وفي مواد المخالفات بمضي سنة ما لم ينص القانون على خلاف ذلك.
كما نصت المادة 528 من قانون الإجراءات الجنائية على ما يأتي:
تسقط العقوبة المحكوم بها في جناية بمضي عشر سنين ميلادية إلا عقوبة الإعدام، فإنها تسقط بمضي ثلاثين سنة، وتسقط العقوبة المحكوم بها في جنحة بمضي خمس سنين، وتسقط العقوبة المحكوم بها في مخالفة بمضي سنتين1، هذا وإن التقى أثر التقادم في القانون مع ما قرره فقهاء الشريعة إلا أن هناك فروقًا جوهريرة سأشير إليها فيما يأتي:
1 شرح قانون العقوبات أ. د. محمود مصطفى ص672-675.
التقادم بين الشريعة والقانون:
تمثل الفروق الجوهرية بين مقالة فقهاء الشريعة، ورجال القانون في التقادم، وما له من أثر، فيما يأتي:
أولًا: من حيث المادة المعتبرة تقادمًا:
وضح مما سبق عرضه أن من الفقهاء من حدد مدة معينة للتقادم تصل في أقصاها إلى ستة أشهر، وقد ذهب الإمام أبو حنيفة، ومن رافقه إلى أن تحديد المدة المعتبرة تقادمًا أمر متروك للقاضي، أو لولي الأمر بقدراته حسبما تقتضي الوقائع والأحوال1.
أما رجال القانون، فقد حددوا المدة المعتبرة تقادمًا سواء أكان ذلك بالنسبة لانقضاءالدعوى، أم بالنسبة لإسقاط العقوبة تحديدًا وضح منه مدى القارق الزمني ما حدده بعض الفقهاء، وما حدده القانون2.
وإن كان الإمام أبو حنيفة، ومن وافقه قد ترك الأمر في التحديد لولي الأمر، أو القاضي ولم ينص على مدة معينة.
وما ذهب إليه أبو حنيفة له وجاهته، إذ أنه قد عالج الأمر علاجًا مناسبًا لاحظ فيه الوقائع والأشخاص.
ورجال القانون وإن لاحظوا فيما حددوه اختلاف المدة المعتبرة تقادمًا باختلاف التكييف القانوني للواقعة، إلا أنهم قد ساووا بين الأشخاص والبلاد، ولم يراعوا اختلاف الطبائع والعادات، ويبين
1 فتح القدير ج5 ص282، 303 البحر الرائق ج5 ص29.
2 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. محمود مصطفى ص672-675 ط سنة 1974م.
مما سبق أيضًا أن فقهاء الشريعة لم يفرقوا بين المدة المعتبرة تقادمًا مسقطًا لإقامة الدعوى، وما يعد مسقطًا للعقوبة الحدية المحكوم بها، إلا ما جاء خاصًا بجناية شرب الخمر كما سبق.
أما رجال القانون، فإنهم قد فرقوا بين ما يعد تقادما مؤثرًا في إسقاط الدعوى، وبين ما يعد تقادمًا مؤثرا في إسقاط العقوبة المحكموم بها، بل غرقوا أيضا فيما يؤثر في الحالين باعتبار الكيف القانوني للواقعة والعقوبة؟
وهذا الأمر يحتاج إلى إعادة نظر، وتقنين يناسب كل واقعة، وظروفها بشرط أن
يوكل ذلك لذويه، وأن يباعد بينه وبين الرغبات التي قد تخرجه عن إطار تحري العدالة.
ثانيًا: باعتبار ما وقع عليه السلوك الإجرامي
وضح مما سبق أن الجرائم الحدية التي وقع الاعتداء فيها على حق من حقوق العباد لا تتأثر بالتقادم، سواء من حيث سماع الدعوى، أو من حيث إلزام الجاني بما حكم به من عقوبة حدية، وإن تقادم الحكم لا يؤثر ما دام لم يوجد ما ينقضه من انتقاض في الإثبات، أو غيره عدا التقادم.
أما ما وقع فيه الاعتداء حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، وجاء إثباته عن طريق شهادة الشهود، فقد ذهب فقهاء الأحناف، وابن أبي ليلى أن مثل ذلك يؤثر فيه التقادم سواء في سماع الدعوى به، أو في تنفيذ الحكم المتقادم الناتج عنه.
أما فقهاء القانون، فإنهم لم يفرقوا بين ما وقع عليه السلوك الإجرامي من حيث هو حق للفرد أم للمجتمع.
فالسلوك الإجرامي بصفة عامة عند فقهاء القانون خاضع لتأثير التقادم فيه، كل ما هنالك اختلاف ما يعد تقادمًا مؤثرًا بإختلاف وصف هذا السلوك، ونوع العقوبة المحددة له.
ولا يخفى ما في هذا السلوك الذي سلكه القانون من إضاعة كثير من حقوق الآدميين، الأمر الذي يترتب عليه غرس الاضطراب، وعوامل الفوضي بين صفوف المجتمع، وإشاعة الأحقاد فيه.
ثالثًا: من حيث التلازم بين عدم سماع الدعوى
وزوال آثار الجريمة، من ذهب من فقهاء الشريعة إلى عدم سماع الدعوى في جريمة من الجرائم المتقادمة التي وقع الاعتداء فيها على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، لم يقل بإسقاط كل ما للجريمة من آثار بالنسبة للجاني.
فمن لم يلزم الجاني في جريمة الزنا -إذا تقادمت- العقوبة الحدية لا يلزم الشهود الذين جاءوا يشهدون عليه بها -بعد فوات مدة تعد تقادمًا- عقوبة القذف.
وذلك؛ لأن الجريمة وإن سقطت إقامة الدعوى بها لتقادمها إلا أن آثارها باقية. لذا فلا تقوم في حق الشهود عليها جريمة قذف للجاني.
أما فقهاء القانون، فإنهم يرون أن إسقاط الدعوى يسقط معه كل آثارهما أما إسقاط العقوبة، فإن من أسبابه ما يقتصر على إسقاط العقوبة فقط، وتبقى الآثار، ومنها ما يمحو كل الآثار الجنائية1.
1 أ. د. محمود مصطفى أن الدعوى الجنائية تسقط بأسباب: منها ما هو خاص ببعض الجرائم التي يعلق تحريك الدعوى، والسير فبها على إرادة صاحب الشأن كما أن الزنا، والسرقة بين الأصول والفروع، ومنها ما هو عام مثل وفاة المتهم والعفو عن الجريمة، ومضي المدة.
= ثم يقول:
الأسباب العامة التي ينقضي بها العقوبة منها ما يقتصر أثره على إسقاط العقوبة، وهي وفاة المحكوم عليه، ومضي المدة والعفو عن العقوبة، ومن الأسباب: ما يكون أبعد أثرًا فيمحو الحكم، ويزيل الآثار الجنائية: وهي العفو عن الجريمة "العفو الشامل" ورد الاعتبار، القسم العام ص672 وما بعدها، الإجراءات الجنائية فقرة 98- وما بعدها، 104، 415.
رابعًا: من حيث إمكان إلزام الجاني عقوبة من نوع آخر
ذهب من يعمل أثرًا للتقادم من فقهاء الشريعة الإسلامية إلى أن من سقطت الدعوى بالجريمة الحدية في حقه، أو زالت عنه العقوبة الحدية المحكوم عليه بها، لتقادم ذلك بالنسبة له، يمكن للقاضي أن يلزمه بعقوبة تعزيرية حسبما يرى. فسقوط سماع الدعوى، أو إلزام العقوبة للتقادم، لا ينفي حق القاضي في إلزام الجاني عقوبة من العقوبات التعزيرية المناسبة.
أما فقهاء القانون، فلا يرون مثل ذلك، إذ أن من سقط سماع الدعوى في حقه، أو زالت عنه العقوبة للتقادم لا يمكن للقاضي أن يلزمه بعقوبة أخرى نظير جنايته، أو العقوبة التي سقطت لتقادم أي منهما.
ولا يخفى ما في النظم العقابي الذي أخذ به فقهاء الشريعة في هذا الموضوع من علاج، وإصلاح للمجرم.
إذ أن تركه بلا أي عقاب، قد يكون فيه بالنسبة لكثير من المجرمين تحريض على الجريمة، واستساغة لها طالما قد أعفي، ونجا من كل عقوبة بأمر من القانون نفسه.
د: التوبة وما ينتج عنها من آثار
الجرائم: التي يأتيها الجاني إما أن تكون جرائم تعزيرية، أو جرائم حدية.
والجرائم التعزيرية قد فوض الشارع فيها ولي الأمر في اختيار ما يناسب كل جريمة، ومن جناها من العقوبات.
وعلى هذا فإن ولي الأمر إذا رأى أن الجاني قد تاب توبة ظهرت أماراتها، فإن له أن يعفو عنه، ويكفي ما كان من أمر إحضاره، أو حضوره لمجلس القضاء، ويطالب بما للآدميين من أموال، إن كانت جنايته قد أتت عليها إلا أن يسامحوه فيها.
يدل على قبول التوبة، وإسقاط العقوبة التعزيرية بها ما ورد من أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا، فأقمه علي، ولم يسأله الرسول، وحضرت الصلاة، فصلى الرجل مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتهت الصلاة، قام الرجل، وقال: يا رسول الله إني أصبت حد، فأقم علي ما في كتاب الله قال صلى الله عليه وسلم:"أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو حدك". أخرجه البخاري ومسلم.
وفي رواية: إني عالجت امرأة من أقصى المدينة، فأصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا فأقم علي ما شئت، فقال له عمر: لقد ستر الله عليك، لو سترت على نفسك1.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط العقوبة عن هذا الرجل لتوبته التي رأى أماراتها في مجيئه تائبًا يطلب أن تقام عليه العقوبة.
1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص114 ط مصطفى الحلبي.
والعقوبة هنا عقوبة تعزيرية بدليل ما جاء في الرواية الأخيرة، وأمرها هنا مفوض لولي الأمر.
أما الجرائم الحدية، فإن ما وقع منها على حق العبد، فإنه لا أثر للتوبة فيه، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
يقول الإمام الشافعي عند حديثه عن التوبة، وأثرها في إسقاط الحدود:"فإما حدود الآدميين من القذف وغيره، فتقام أبدًا لا تسقط"1.
أما ما وقع من الجرائم الحدية على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، فإن للفقهاء فيه مقالًا.
إذ إن منه جرائم اتفق الفقهاء على إسقاط عقوباتها الحدية بالتوبة، ألا وهي جريمة الحرابة بشرط أن تكون من المحارب قبل القدرة عليه أخذا بما جاء من قول الله سبحانه وتعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.
فالآية قد نصت على أن توبة المحارب قبل القدرة عليه تسقط عنه حد الحرابة.
1 الأم ج7 ص51 ط دار الشعب. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج7 ص6 سنة 1292هـ البدائع للكاساني ج7 ص96، فصول الاستروشني ص3، 4 مواهب الخليل ج7 ص316 جناية المجتهد ج2 ص382، المغني ج8 ص295-296 أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ج2 ص197، 198ط سنة 1325هـ مطبعة الكردي بالأزهر.
2 الآية 34 من سورة المائدة.
أما ما لزمه من حدود أخرى، فإن بعض فقهاء الشافعية، والحنابلة قد قالوا بأن توبة المحارب قبل القدرة عليه يترتب عليها إسقاط كل ما لزمه من حدود، وقع الاعتداء على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى.
وقد أجاب الإمام الشافعي على ما يمكن أن يثار من أن الآية الكريمة إنما تتكلم عن الحرابة، وهذه قرينة على أن أثر التوبة قاصر على التأثير في الحرابة فقط، فقال بعد أن ذكر أن الحد حدان، حد الله تعالى وحد للآدميين:"فأما أصل حد الله تبارك وتعالى في كتبه، فقوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، إلى قوله {رَحِيم} ، فأخبر الله تبارك اسمه بما عليهم من الحد إلا أن يتوبوا من قبل أن يقدر عليهم، ثم ذكر حد الزنا والسرقة، ولم يذكر فيما استثنى، فاحتمل ذلك أن لا يكون الاستثناء إلا حيث جعل في المحارب خاصة، واحتمل أن يكون كل حد لله عز وجل، فتاب صاحبه قبل أن يقدر عليه سقط عنه، كما احتمل حين قال النبي صلى الله عليه وسلم في حد الزنا في ماعز "ألا تركتموه" أن يكون كذلك عند أهل العلم، السارق إذا اعترف بالسرقة، والشارب إذا اعترف بالشرب، ثم رجع عنه قبل أن يقام عليه الحد، سقط عنه.
ومن قال هذا: قاله في كل حد لله عز وجل، فتاب صاحبه قبل أن يقدر عليه سقط عنه حد الله تبارك وتعالى في الدنيا، وأخذ بحقوق الآدميين، واحتج بالمرتد عن الإسلام، ثم رجع إلى الإسلام، فيسقط عند القتل1.
وما دام إطلاق الآية الكريمة قد احتمل أن يكون أثر التوبة مسقطًا لكل حد لله عز وجل، فلم يضيق الأمر إذا.
1 الأم ج7 ص51ط دار الشعب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج8 ص6 القرطبي ج3 ص2155 دار الشعب.
كما أن في إسقاط كل ما لزمهم زمن حرابتهم، وما كان قبله نتيجة توبتهم في ذلك حيث لهم على الإسراع إلى التوبة، وترغيب لهم فيها، ومزيد العون لهم وضمهم إلى صفوف الأمة.
ولا يخفى أن في إلزامهم عقوبة ما ارتكبوا من حدود غير الحرابة، ومطالبتهم بهذه الحدود بعد توبتهم عن الحرابة، وعودتهم إلى حوزة الأمة، فيه تنفير لهم فقد يكون منهم من ارتكب جناية حدية يترتب عليها إلزامه الرجم، فإذا علم أنه إذا تاب وعاد إلى حوزة الأمة، أقيم عليه حد الرجم -فإنه لا بد أن يحجم عن العودة إلى صفوف الأمة.
ويثبت على ما هو فيه من تشريد لنفسه، وإضرار للآخرين.
والتوبة إذا أسقطت حد الحرابة مع ما فيها من هتك للحريات، واستباحة للأموال، وإرهاب وقطع سبيل فأولى بها أن تسقط ما دون ذلك من حدود.
وهذا ما ذهب إليه ابن تيمية، وابن القيم من فقهاء الحنابلة1.
كما ذهب جمهور فقهاء الشيعة الزيدية إلى أن من جاء إلى الإمام تائبًا قبل القدرة عليه سقط عنه كل ما لزمه من حد، وسقط عنه أيضًا ما قد أتلف من حقوق الآدميين، ولو كان الذي عليه قتلًا2.
ولا يخفى ما في القول بإسقاط كل حد بالتوبة من تعويض حقوق الآدميين إلى الضياع، ودمائهم إلى الإهدار وحرمانهم إلى تهتك، فما أسهل على أصحاب النزوات إذا انكشف سترهم، ادعاء التوبة كي يفلتوا من عقاب جرائمهم.
1 المغني ج8 ص295-296، "أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ج2 ص197.
2 شرح الأزهار ج4 ص378 ط حجازي بالقاهرة سنة 1357هـ.