الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الإرادة
ويقصد بها هنا النشاط النفسي الذي يهدف إلى تحقيق غرض معين، ويقتصر دورها عند البعض على الحركة الإجرامية المتمثلة في النشاط الإجرامي؛ لأن هؤلاء يرون أن حدوث النتيجة ما هو إلا ثمرة لقوانين طبيعية لا تستطيع الإرادة السيطرة عليها، والعمد عندهم يتحقق بمباشرة النشاط الإجرامي مع الرغبة في حدوث النتيجة1.
فالجاني حينما يقبل على فعلته المجرمة، ويقدم عليها باختياره عن قصد مستهدفًا أحداث نتيجة معينة، يسمى في هذه الحالة فاعلًا مختارًا مريدًا بفعله أحداث نتيحة معينة.
فالإرادة إذا عنصر لا بد من وجوده لقيام القصد الجنائي، الذي هو أساس قيام المسئولية الجنائية، إذ لا يسأل شخص عن نشاطه، وما نتج عنه إلا إذا كان هذا النشاط تعبيرًا عن إرادته، يستوي في ذلك أن تكون الجريمة عمدية، أو غير عمدية، إيجابية أو سلبية2.
فالإرادة الواعية أمر لا بد من التحقق من وجوده للحكم بتحقق القصد الجنائي؛ لأن العلم بالتجريم أمر مفترض كما سبق.
أما لو أكره الفاعل على ارتكاب العمل الإجرامي بأن وقع تحت ضغط زال بسببه رضاه، وانعدمت إرادته، فإنه والحالة هذه يفقد
1 أصول قانون العقوبات أ. د. أحمد فتحى سرور ص533-535.
2 تتجه الإرادة في الجريمة العمدية إلى تحقيق الفعل، وإحداث النتيجة، إما في الجريمة غير العمدية، فالإرادة تتجه نحو الفعل دون النتيجة الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د. سمير الجنزوري ص435. شرح قانون العقوبات أ. د. محمود مصطفى ص417.
اختياره وينعدم قصده الجنائي، وعليه فإن عقوبته تتناسب تناسبًا عكسيًا مع درجة إكرهه؛ لأن الإكراه منه ما هو إكراه تام ينعدم معه الرضا، ويفسد الاختيار.
ومنه ما هو إكراه ناقص ينعدم معه الرضا، ولا يفسد الاختيار1، ولكل منهما أثره في دفع العقوبة، أو التخفيف منها، حسب درجته والجريمة التي ترتبت على قيام المكره -بفتح الراء- بالفعل الذي أكره عليه.
ويقتضى بين ذلك حديثًا موجزًا عن الإكراه بقدر ما يتطلبه المقام.
الإكراه:
ويراد به: ما يفعل بالإنسان مما يضره، أو يؤلمه لحمله على القيام بفعل، أو قول لا يريده2.
أو هو فعل يفعله الإنسان بغيره، فيزول رضاه أو يفسد اختياره، أو هو أن يهدد المكره قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه، وغلب على ظنه أنه يفعل به ما هدد به إذا امتنع عما أكرهه عليه3.
1 يرجع المدخل للفقه الإسلامي ص336، الإباحة عند الأصوليين ص390.
2 مواهب الجليل ج4 ص45 ط أولى السعادة3.
3 أسنى المطالب لأبي يحيى زكريا الأنصاري ج3 ص282، ط أولى المطبعة الميمنية، عرف ابن حزم الإكراه بما عرفه به اللغويون، وقال: هو كل ما سمي في اللغة إكراهًا، وعرف الحبس أنه إكراه كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك، أو الوعيد بالسجن كذلك، والوعيد بإفساد المال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه" المحلى ج9 ص259 يراجع المدخل لفقه الإسلامي ص336.
والإكراه نوعان:
1-
إكراه تام: ويسمى الإكراه الملجئ، وهو ما خيف فيه تلف النفس، وهذا النوع من الإكراه يفسد الاختيار، ويعدم الرضا.
2-
إكراه ناقص، أو إكراه غير ملجئ، وهو ما لا يخاف فيه التلف عادة كالحبس لمدة قصيرة، والضرب الذي لا يخشى منه التلف، وهذا النوع لا يفسد الاختيار لكنه يعدم الرضا1.
والإكراه التام، أو الملجئ منه ما هو مادي، وهو ما كان التهديد والوعيد فيه قائمًا، ومنه ما هو معنوي، وهو ما كان التهديد والوعيد فيه منتظرا، والإكراه التام بنوعيه يتفاوت من جريمة إلى أخرى، ذلك؛ لأن من الجرائم ما لا يؤثر الإكراه في حكمها وتجريم الإقدام عليها، وإلزام عقوبتها لمن ارتكبها حتى ولو كان مكرها -بفتح الراء، ومنها ما يؤثر الإكراه في حكمها، وتجريم الإقدام عليها، وإلزام عقوبتها لمن ارتكبها مع إكراهه، ودرجة تأثيره تتفاوت من جريمة إلى أخرى بمعنى أنه يترتب عليه رفع المسئولية الجنائية عمن ارتكب في ظله جرائم معينة، ويرفع العقوبة بصفة عامة بالنسبة لجرائم أخرى لعده سببا من أسباب إباحة الفعل، كما أنه يتفاوت من شخص لآخر؛ لأن ما يعتبر إكراها لذوي المروءات قد لا يعد إكراها بالنسبة لغيرهم.
والإكراه التام، أو الملجئ بنوعيه يؤثر على الإرادة، بمعنى أنها
1 البحر الرائق ج3 ص80 "ط أولى".
تنعدم معه، ويذهب الرضا، ولا يوجد اختيار مع وجود هذا الإكراه، إذا فإن القصد الجنائي ينعدم بوجوده، وتندرئ به العقوبة الحدية فيما عدا ما يجب بارتكاب جريمة القتل، أو قطع الطرف أو الضرب المهلك، فالإكراه على ارتكاب مثل هذه الجرائم لا ينتج عنه إعفاء المكره -بفتح الراء- من العقوبة الجنائية1؛ لأن الفقهاء أجمعوا على أن من أكره على قتل غيره لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمة بجلد أو غيره، فلا بد للمكره أن يصبر على البلاء الذي ينزل به، ولا يحل له أن يفتدي نفسه بغيره2.
أما ما عدا القتل، فأقوال الفقهاء متغايرة في درء الحد أو إقامته، ففي جريمة الزنا اتفق الفقهاء على أن المرأة التي تستكره على الزنا لأحد عليها، وهذا ما قضى به عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في الوليدة التي استكرهت على الزنا، فقد ذكر ابن قدامة أنه:"لا حد على مكرهة في قول عامة أهل العلم، وروي ذلك عن عمر والزهدي، وقتادة والثوري، والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وعن جابر بن وائل عن أبيه: "أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدرأ عنها الحد"
…
"إلى أن يقول ابن قدامة"، أتي عمر بامرأة قد زنت، فقالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها؛ ولأن هذا شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات
1 الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390-391.
2 المغني: ج7 ص645، والمهذب: ج2 ص189، وبدائع الصنائع ج7 ص179، والبحر الرائق: ج8 ص74، ومواهب الجليل: ج6 ص242، والخرشي ج8 ص80، والجامع لأحكام القرآن: ج5 ص 3799، والإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390.
ولا فرق بين الإكراه بالإلجاء، وهو أن يغلبها على نفسها، وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه1.
أما بالنسبة للرجل الذي أكره على الزنا، فإن الإمام أبا حنيفة يرى أنه إذا كان الذي أكرهه هو السلطان، فلا حد عليه، وإن أكرهه غير السلطان حد عند أبي حنيفة؛ لأنه يرى أن الإكراه من غيره لا يدوم إلا نادرًا، ولتمكن المكره -فتح الراء- من الاستعانة بالسلطان، أو بجماعة المسلمين، أو يدفع الإكراه عن نفسه بالسلاح، وقال الصاحبان: لا يحد؛ لأن الإكراه كما يتحقق من السلطان يتحقق
من غيره، ووافقهما الشافعي، وابن المنذر.
وقد علل أبو حنيفة رأيه بأن الزنا لا يتصور من الرجل إلا بعد انتشاره، وذلك دليل الطواعية، ورد على ذلك بأن الانتشار دليل متردد؛ لأنه قد يكون عن غير قصد؛ لأن الانتشار قد يكون طبعًا لا طوعًا كما في النائم، فأورث شبهة2.
وهذا الرأي الأخير هو ما أميل إليه، وأرجحه إعمالًا لما ذكر من حديث الرسول
صلى الله عليه وسلم برفع جرم الفعل الذي استكره عليه مرتكبه، طالما ليس هذا الفعل قتلًا، أو قطع أحد الأعضاء، أو ضرب مهلك.
1 المغني: ج8 ص186-187، وذكر أستاذي الدكتور مدكور أن الإكراه بالتهديد بالقتل، أو يتر أحد الأعضاء، أو بالضرب الذي يخاف فيه تلك النفس أو
العضو، إكراه تام ويسمى بالإكراه الملجئ، وهو معدم للرضا أيضًا غير أن الاختيار لا يفسد به؛ لأن المكره يستطيع تحمل الأذى المهدد به، المدخل للفقه الإسلامي ص336.
2 فتح القدير: ج5 ص273، والخرشي/ ج8 ص80، والمغني: ج8 ص187، والجامع لأحكام القرآن الكريم: ج5 ص3799.
وبالنسبة لشرب الخمر، فالفقهاء قد اجتمعوا على أن من أكره على ذلك إكراهًا ملجئًا لا عقوبة عليه، وإن كانوا قد اختلفوا على كون الفعل مباحًا للمكره، أو غير مباح1.
والقوانين الوضعية، وإن نصت على أنه لا عقاب على من ارتكبه جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة، وقاية نفسه، أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به، أو بغيره ولم يكن بإرادته دخل في حلوله، ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى.
فهي وإن نصت على هذا إلا أنها لم تعتبر الإكراه سببًا من أسباب الإباحة، كما ترى الشريعة الإسلامية، وإنما عدته فقط سببًا من أسباب موانع المسئولية2.
1 بدائع الصنائع ج7 ص176: والمغني ج8 ص307-308: والخرشي ج8 ص109، والمحلى: ج13 ص429، ومواهب الجليل: ج5 ص318، والإباحة عند الأصوليين ص390.
2 الأسس العامة لقانون العقوبات: ص573، قانون العقوبات الأستاذ الدكتور نجيب حسني ص578-582، والأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور: ص524-525، الإباحة عند الأصوليين والفقهاء لأستاذي الدكتور سلام مدكور ص391.