الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: أدلة من لم يقل بدرء الحد بالشبهة
ذهب فقهاء الظاهرية إلى إنكار مشروعية درء الحدود بالشبهات، وردوا ما جاء في ذلك ما آثار، وطعنوا في كل ما ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تقرير ذلك، وعابوا على جمهور الفقهاء أعمالهم لهذه القاعدة.
يقول ابن حزم: وأما درء الحدود بالشبهات، فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قط من طريق فيها خير، ولا نعلمه أيضًا جاء عنه عليه السلام لا مسندًا، ولا مرسلًا، وإنما هو قول روي عن ابن مسعود وعمر1.
ويقول: ذهب قوم إلى أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأشدهم قولا بها واستعمالًا لها، أبو حنيفة وأصحابه ثم المالكيون، ثم الشافعيون، وذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة، ولا أن تقام بشبهة، وإنما هو الحق لله تعالى ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم":"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام"، وإذا ثبت الحد لم يحل أن تدرأ بشبهة لقول الله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} 2.
ثم قال: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في اللفظ الذي يتعلق به من تعلق أيصح أم لا؟ فنظرنا فيه، فوجدناه قد جاء من طريق ليس فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم نص، ولا كلمة، وإنما هي عن بعض أصحابه من طرق كلها لا خير فيها3.
هذا طرف من مقالة ابن حزم في رده لقاعدة درء الحدود بالشبهات
1 المحلى لابن حزم ج9 ص126 ط مكتبة الجمهورية العربية الحديث المرسل هو، ما انقطع إسناده على أوجه، وهو نوعان:
1 مرسل الصحابي: وهو ما يرويه صحابي عن صحابي.
2 مرسال التابعي وهو: الحديث الذي أخبر به التابعي.
2 الآية 229 من سورة البقرة.
3 المحلى لابن حزم ج13 ص61.
وتتمثل الطعون التي وجهها لهذه القاعدة فيما يلي:
1-
رد ابن حزم كل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الخصوص، والذي يتمثل في:"ادرءوا الحدود بالشبهات"، وعلل ابن حزم رده لذلك بأن الروايات التي أتى ذلك كله عن طريقها روايات مرسلة1.
2-
لم يعمل ابن حزم قاعدة درء الحدود بالشبهات، وذلك؛ لأن أعمالها في رأيه يؤدي إلى إبطال الحدود جملة على كل حال.
وحجته في ذلك أن كل واحد مستطيع أن يدرأ كل حد يأتيه، وعنده
1 ذكر أستاذي الدكتور مدكور: أن الحديث المرسل عند الفقهاء والأصوليين، وجماعة من المحدثين، ما انقطع إسناده على أي وجه كان انقطاعه، وقال كثير من المحدثين: لا يسمى الحديث مرسلًا إلا إذا أخبر فيه التابعي عن رسول الله مباشرة، فلا يعتبر حديث الصحابي مرسلًا إذا رواه عن الرسول، وهو يطلق عليه عند الآخرين مرسل الصحابي، وما أكثر مراسيل ابن عباس.
والأصوليون والفقهاء يعتبرون مراسيل الصحابي إنفاقًا؛ لأن ما يرويه الصحابي محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو من صحابي آخر، وكلهم عدول.
أما مرسل التابعي، فالإمام أبو حنيفة ومالك يعملان به أيضًا كمرسل الصحابي، وافقهم أحمد في إحدى روايتين منه، أما الشافعي فإنه لا يأخذ به إلا إذا انضم إليه ما يقويه، كان يكون قد عمل به بعض الصحابة أن روي مرسلا من طريق آخر، أو كان من مراسيل سعيد بن المسيب أصول الفقه الإسلامي ص119-120، ويراجع أيضًا نهاية السول ج3 ص811 الأحكام للآمدي ج1 ص333 وما بعدها، أ. د: زكريا البري أصول الفقه ص51.
أن ذلك خلاف إجماع أهل الإسلام، وخلاف الدين والقرآن والسنن، ولهذا فهو يسقط هذه القاعدة، وينفي أن يكون فيما جاء حجة لاستعمالها، أو للقول بها.
3-
يرى ابن حزم أن لفظ الشبهات الذي جاء في: "ادرءوا الحدود بالشبهات" لا سبيل إلى استعماله؛ لأنه ليس فيه بيان لتلك الشبهات، فليس لأحد عنده -أن يقول في شيء يريد أن يسقط به حدًا: هذا شبهة- إلا كان لغير أن يقول: ليس بشبهة، ولا كان لأحد أن يقول في شيء لا يريد أن يسقط به حدًا، ليس هذا شبهة، إلا كان لغيره أن يقول: بل هو شبهة، ويعقب على هذا بقوله: ومثل هذا لا يحل استعماله في دين الله تعالى، أنه لم يأت به قرآن ولا سنة صحيحة، ولا سقيمة، ولا قول صاحب ولا قياس، ولا معقول مع الاختلاط الذي فيه كما ذكرنا1.
هذا ما وجهه ابن حزم من طعون للقائلين بقاعدة درء الحدود بالشبهات، مستهدفًا بذلك عدم الاعتداد بها في شيء.
لكن ابن حزم وهو المجادل البارع قد جانبه الصواب هنا فيما وجهه من طعون.
أما عن طعنه الأول ورده لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قوله:"ادرءوا الحدود بالشبهات"، بحجة أنه حديث مرسل، فالإرسال لا ينفي صحة الحديث في مثل هذا؛ لأن الموقوف في هذ له حكم المرفوع2؛ لأن إسقاط الواجب بعد ثبوته بشبهة خلاف
1 المحلى ج13 ص61-63.
2 الموقوف: هو ما انتهى إسناده إلى الصحابي من قول أو فعل، أو تقرير وخلا عن قرينة الرفع سواء اتصل سنده أولًا، والمرفوع: هو ما انتهى إسناده- إلى النبي صلى الله عليه وسلم أ. د: موسى لاشين، أ. د: عبد العال أحمد. المنهل الحديث ج1 ص12 ط1957.
مقتضى العقل، بل مقتضاه أن بعد تحقق الثبوت لا يرتفع بشبهة، فحيث ذكره صحابي حمل على الرفع.
كما أن الرواية المرسلة إذا وردت رواية أخرى تتضمن معنى ما في الرواية المرسلة: فإنها تعضدها وتقويها.
كما أن تتبع المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة الأطهار ما يقطع في المسألة، فقد راجع النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا عند مجيئه مقرًا، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان يلقنه الرجوع عن الإقرار، كما أن مراجعه للنبي صلى الله عليه وسلم لماعز يفهم منها حثه ماعزا على الرجوع؛ لأن المراجعة وإن كان من بين أهدافها التأكد والاستيثاق، إلا أن الوصول بها إلى هذا الحد مع إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن ماعز يدل على ترجيح إرادة الرجوع على التأكد والاستيثاق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو كان مريدً التأكد، والاستيثاق بصفة خاصة لأقيل على ماعز إقبال من يريد التأكد، أما وقد أعرض وأشاح بوجهه الشريف، فإن ذلك يدل على إرادته الرجوع من ماعز، مرجحًا الرجوع على ما عداه، ومثل ما كان مع ماعز من مراجعة، بل وزيادة عليه قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمن جيء به سارقًا، إذ قال صلى الله عليه وسلم له:"أسرقت ما أخاله سرق".
ومثل ذلك أيضًا قاله النبي صلى الله عليه وسلم للغامدية1.
وقد حاول ابن حزم التشكيك في أن مقالة النبي صلى الله عليه وسلم لماعز لم تكن محاولة إرجاعه عن إقراره أيضًا، ورأى أن مراجعته
1 فتح القدير ج5 ص249.
-صلى الله عليه وسلم لماعز كانت لتهمته إياه في عقله، وفي جهله ما هو الزنا فقط1.
ومقالة ابن حزم هذه تستوجب وقفة لمناقشته في قوله: "إنما كان لتهمته في عقله، وفي جهله ما هو الزنا".
فتهمة ماعز في عقله، أو جهله تورث الشك والشبهة في دليل الإثبات، أو في القصد الجنائي، أو فيهما معا لهذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم بالمراجعة على حد قول ابن حزم -الاستيثاق، وما ذلك إلا إزالة الشبهة، ثم ما مراد "ابن حزم من الجهل بالزنا؟ أن كان جهلًا لتحريمه، فهو شبهة في الركن الشرعي لقيام الجريمة.
وإن كان جهلًا ماديًا، فهو شبهة في قيام الركن المادي للجريمة الثابت أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد راجع ماعزا بقوله:"لعلك" حتى وصل إلى حد النطق بما يكره، وهذا ثابت عند ابن حزم، إذا فما هدف الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك كله؟
إن كان التأكد من سلامة الإقرار الحد بحيث لا يقيمه بشبهة، فهذا نتفق فيه مع ابن حزم وأصحابه.
وإن كان للتأكد من عدم وجود شبهة تتصل بالجاني، أو بدليل الجناية أو بمادياتها، وهذا ما لا يستطيع ابن حزم إنكاره، فهذا هو الدليل القاطع على إعمال مبدأ درء الحدود بالشبهات، يقدمه ابن حزم نفسه رادًا به على نفسه.
ويقول ابن حزم: وإنما روي عن بعض الصحابة أنه قال: كنا
1 المحلى ج13 ص102-103.
نتحدث أن ماعزا والغامدية لو رجعا بعد اعترافهما، أو لم يرجعا "بعد اعترافهما" لم يطلبهما.
ويعلق ابن حزم على هذا بقوله: وهذا ظن والظن لا يجوز القطع به، وقول القائل لو فعل فلان كذا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا كذا، ليس بشيء إذ لم يفعل ذلك لفلان1.
والأمر ليس بظن كما قال ابن حزم، وإنما هو تقرير لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وإطلاق ابن حزم على هذه الحالة بأنها من باب الظن، إطلاق خطأ إذ إن الظن يتحقق فيما لو أن ماعزًا، والغامدية رجعا عن إقرارهما، أو لم يرجعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الإقرار الأول، فتوهم الصحابة أن الحد قد سقط عنهما، وقالوا مقالتهم هذه، وإذ بالرسول يقيم الحد عليهما بإقرارهما مرة واحدة، أو يرسل يطلبهما، ويستنطقهما الإقرار.
هذه هي الحالة التي يمكن أن يطلق ما على قبله الصحابة ما ذكره ابن حزم من أنه ظن، والظن لا يجوز القطع به.
ولكن الحالة مختلفة، والأمر متغاير، فما قاله الصحابة ليس بظن، وإنما هو تقرير لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار.
كما أن ابن حزم قد قال فيما ذكره عن جابر2، وأقر بصحته
1 المحلى لابن حزم ج9 ص125.
2 جابر بن عبد الله بن عمر بن حرام بن كعب الأنصاري السلمى أحد المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم، شهد تسع عشرة غزوة، كانت له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم، ت عام 78هـ، عن أربع وتسعين سنة الإصابة في تمييز الصحابة ج1 ص213 "ط المثنى ببغداد"
ووروده عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال جابر:"أنا أعلم الناس بأمر ماعز، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلا تركتموه وجئتموني به"؟ ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فأما لترك حد فلا.
هذا نص كلام جابر فهو أعلم بذلك، ولم يرجع ماعز قط عن إقراره، وإنما قال: ردوني إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني، وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي1.
والوقفة هنا لمناقشة ابن حزم، فيما أورده في مسألتين:
الأولى: قول جابر -رضي الله تعالى عنه: ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ماذا يريد جابر "بيستثبت" هذه مع أن الرسول قد راجع ماعزا، وسأله واستفسر منه، وسأل قومه عنه
…
ثم إن الاستثبات هنا لا يمكن أن يكون معناه إثبات الجناية على ماعز؛ لأن الجناية قد تثبت عليه، وبدأ تنفيذ العقاب.
إن ما يبقى من معنى تستثبت ها هنا هو التأكد من عدم وجود
1 المحلى لابن حزم ج9 ص126 "ط مكتبة الجمهورية العربية".
ما يدرء الحد عن ماعز كرجوعه عن إقراره مثلًا، أو غير ذلك من الشبهات الدارئة: التي قد يثيرها ماعز.
الثانية: عند قول ماعز: إن قومي قتلوني وغرروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي.
هذا القول يدل صراحة على أن ماعزا قد توهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم، سيعفو عنه كما أخبره قومه، وهذا ما دفع ماعزا إلى الإصرار على إقراره بالرغم من مراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم له.
والنتيجة أن ماعزا لو لم يكن متوهمًا ذلك لما استمر في إقراره، ولرجع عنه قبل أن يصل به إقراره إلى حالته التي كان فيها، ويتبين من ذلك في وضوح أن رجوع ماعز عن إقراره كان كافيًا لدفع العقاب عنه، وإسقاط ما لزمه من حد نتيجة إقراره.
أما الظن الثاني الذي قدمه ابن حزم، وهو أنه لم يصح عنده ما ورد عن:"ادرءوا الحدود ما استطعتم"، وما في معناه، نظرًا؛ لأن أعمال ذلك يؤدي في رأيه إلى إبطال الحدود، إذ أن في استطاعة كل فرد أن يدرأ كل حد يأتيه، فلا يقيمه.
فهذا التعليل الذي ذكره ابن حزم، وبنى عليه رده لقاعدة درء الحدود بالشبهات، تعليل مردود ودليل ذلك ما يأتي:
1 يناقض ما ذهب إليه ابن حزم من الحرص على الإبقاء على الإدانة بالحد، وعدم نفيها أو إسقاطها، ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من نصوص تأمر المسلم أن يحاول ستر نفسه بستر الله سبحانه وتعالى، بقدر ما يستطيع، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس: قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، فمن أصاب من هذه
القاذورات شيئًا، فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله" 1.
فهذا الحديث الشريف قد حض المسلمين على التستر على أنفسهم بصورة، جعلت المستر على النفس من بين الواجبات على كل المسلمين.
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد قال لمن جاء يشهد على آخر:"لو سترته بردائك كان خيرًا لك"2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة"3.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة"4.
فإذا كان جزاء الستر على الآخرين بهذه الصورة المبينة في الحديث الشريف، والتي تصل بالمسلم إلى منزلة استحقاق ستر الله له في الآخرة، وتصور الأحاديث لزوم الستر على المسلم بصورة تقارب الواجب الذي إذا خولف أثم من خاله، مما لا شك فيه أن ستر الإنسان على نفسه
1 رواه الإمام مالك في الموطأ قال: أخبرنا مالك، حدثنا زيد بن سلم إلخ الموطأ ص244 "ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1387هـ".
2 رواه الإمام مالك عن مالك عن يحيى بن سعيد، كما أخرجه النسائي بسنده إلى الليث عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المتكدر عن ابن هزال، عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الموطأ ص245.
3 صحيح مسلم بشرح النووي ج17 ص21 ط المصرية.
4 المرجع السابق ج16 ص143 ط القاهرة عام 1349هـ.
ومحاولته دفع الحد عنها أمر حث عليه الأحاديث الشريفة، فماذ يغضب ابن حزم إذا من محاولة المسلم أن ينفي الحد عن نفسه، أو أن يدرء كل حد يأتيه، فلا يقام الحد عليه، كما أن درء الحدود بالشبهات لا يقصد به إبطال الحدود، وإلغاؤها وإضاعة حقوق الناس، وإشاعة الفوضى.
وإنما المراد به التثبت من وجوب الحدود، وإكمال مقتضاها بصورة تصل إلى اليقين، فإذا لم يكتمل ما يوجب الحد، اكتمال يصل حد اليقين، فكيف يمكن إقامة هذا الحد الذي أحاطت به الشبهات، وخالطه الشك.
إن عدم إقامة الحد لا يجوز أن يوصف بأنه تضييع للحدود أو تعطيل لها، وإنما هو التثبت من وجوبها بالصورة التي حددها الإسلام، وعرفها عنه أتباعه ومن يطبقون أحكامه، والتزم بها كل من يشهد على جناية من الجنايات إذ لا بد أن يكون الأمر الذي يشهد بها واضحًا له وضوح الشمس، وإلا فليدع الشهادة به، وليس عليه من إثم، بهذا يحتقق العدل ولا تضيع حدود الله، على أن الشبهة الدارئة للحد لم يقل أحد أنها دائمًا تسقط العقوبة كلية، فإن كثيرًا ما ينقل العقاب من الحد إلى التعزير، أما الطعن الثالث الذي يقول فيها ابن حزم: إن لفظ الشبهات الذي جاء في: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، لا سبيل إلى استعماله؛ لأنه ليس فيه بيان لتلك الشبهات.
فما ذلك القول من ابن حزم إصرارا منه، وتأكيدًا لتمسكه بظاهر النصوص، كما هو مبدأ الظاهرية جميعهم.
أما محاولة تفسير المسائل، وشرح المبهم وبيانه بما يتفق، ويتحقق غرض الشريعة. فذلك أمر يبتعدون عنه في ظاهر مذهبهم، وإن كانوا قد استخدموه، وعملوا به كما هو واضح مما جاء في كتبهم، وعلى الأخص كتاب المحلى لابن حزم نفسه.
كما أن السابقين قد يبنوا المراد بالشبهات، وإن كان قد جاء اختلاف في تفسيراتهم للشبهات، فليس ذلك عيبًا يسقط الأخذ بها، أو ينفي أعمالها، وإنما هو رحمة من الله سبحانه وتعالى، وإقرار لمبدأ الاجتهاد، وإعمال له.
ويكفي في الرد على ابن حزم في كل ما أثاره من طعون ما ذكره هو نفسه، فيما رواه عن أبي موسى الأشعري1 -رضي الله تعالى عنه- من أنه قال:"أتيت وأنا باليمن بامرأة فسألتها؟ فقالت: ما تسأل عن امرأة حبلى، ثيب من غير بعل، أما والله ما خاللت خليلًا، ولا خادنت خدنا، منذ أسلمت، ولكني بينما أنا نائمة بفناء بيتي، فوالله ما أيقظني إلا الرجل حين ركبني، وألقى في بطني مثل الشبهات، فقال: فكتبت فيها إلى إلى عمر بن الخطاب، فكتب إلي: أن وافني بها وبناس من قومها، فوافيته بها في الموسم، فسأل عنها قومها؟ قالوا: خيرًا، وسألها، فأخبرته كما أخبرتني، فقال عمر: شابة تهامية تنومت قد كان ذلك يفعل، فمارها عمر وكساها، وأوصى بها قومها خيرًا".
ثم يقول ابن حزم معقبًا على هذا كله: "هذا خبر في غاية الصحة"2، وهنا سؤال يوجه إلى ابن حزم فيما رواه بصحته، لماذا لم يقم أبو موسى الأشعري الحد على هذه المرأة؟.
وما الذي حدا به لسؤال عمر في أمرها؟.
1 أبو موسى الأشعري، اسمه عبد الله بن قيس بن سليم، ينتهي بسبه إلى الأشعر أسلم، وهاجر إلى الحبشة استعماله النبي على اليمن، واستعمله عمر على البصرة، ففتح بلاد الأهواز وأصبهان ت سنة 42هـ.
2 المحلى لابن حزم ج9 ص123-124.
إن الإجابة واضحة، فأبو موسى لم يكن يسأل عمر في كل ما يعرض عليه من قضايا، وإنما؛ لأن الأمر اشتبه عليه، وحفت قضية هذه المرأة بالشبهات التي حالت بين أبي موسى، وبين إقامة الحد على هذه المرأة، ولم يجد إلا سؤال عمر رضي الله عنهما، وتجيء المرأة وثمرة جريمتها واضحة لا لبس فيها ولا خفاء. فهل حدها عمر، وترك مقالتها؟ ولم يلتفت إلى ما أثارته من شبهة؟ لقد دفع عمر الحد عنها؛ لأن مقالتها أورثت شبهة في حقها، فليس أمام عمر إلا أن يدرء عنها الحد أعمالًا للشبهة واعتدادًا بها، وليس ذلك فقط بل أطعمها وكساها، وأوصى بها خيرًا.
من هذا يتبين أن ابن حزم قد صحح خبرًا ورد عن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أعمل فيه الشبهة، ودرء بها الحد.
كما أن الخبر تضمن أيضًا توقف الصحابي الجليل، أبي موسى الأشعري، عن القضاء، فيما تلزم به هذه المرأة، لما اشتبه عليه أمرها.
ونهضت في حقها شبهة جهلها الحكم، نظرًا؛ لأنها لم تعلم، أو؛ لأنها أكرهت على الفعل أو أتاها وهي نائمة، آلى غير ذلك مما عده الفقهاء شبهة تدرء الحد.
وقد أوضح ابن الخطاب حالتها بأنها "تنومت وقت أن كان ذلك يفعل".
ومما لا شك فيه أن ذلك يحتمل أنها لم تكن نائمة، وإنما تنومت، ومع ذلك درء عمر عنها الحد.
فإذا انضم هذا إلى ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعده
ابن حزم مرسلًا، تقوي به ما روي مرسلًا1 خصوصًا، وأن ابن حزم قد صححه.
كما أن ورود ذلك عن صحابي جليل، وقد حكم أمام صحابة أجلاء يفصل في القضية، ويصحح ما حاول ابن حزم التشكيك فيه توطئه لعدم الأخذ به، وطريقًا لرده، وعدم إعماله.
كما يبين مما سبق أن ابن حزم، وإن كان قد أنكر قاعدة درء الحدود بالشبهات، إلا أنه لا يخالف الفقهاء القائلين بها، فيما تؤدي إليه من أنه لا يجوز أن يقام حد بشبهة، بل هو قد صرح بذلك حين بين أن الحدود لا يجوز أن يقام حد بشبهة، بل هو قد صرح بذلك حين بين أن الحدود لا يجوز أن تقام بشبهة، ولا أن تدرء بشبهة، فمتى لم يتم إثبات الجريمة على الجاني بصورة يقينية، فإنه لا يجوز إقامة الحد عليه.
1 يقول ابن القيم: إن الصحابي إذا قال قولًا أو حكم بحكم أو أفتى بفتيا، فله مدارك ينفرد بها عنا، ومدارك تشابهة فيها، فأما ما يختص به فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم شفاها، أو من صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما انفرد به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به لم يركل منهم ما سمع، وأين ما سمعه الصديق رضي الله عنه، والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- إلى ما رووه: فلم يرو عن صديق الأمة مائة حديث، وهو لم يغب عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من مشاهده، بل صحبه من حين البعث، بل قبل البعث إلى أن توفي وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم، وبقوله وفعله وهديه، وكذلك جلة الصحابة روايتهم قليلة جدًا بالنسبة إلى ما سمعهو من نبيهم، وشاهدوه: أعلام الموقعين ج4 ص147-148. ويقول الشيخ أبو زهرة: إن آراء الصحابة لا يمكن أن نعتبرها آراء عقلية خالصة.،إنما اجتهادهم أقرب إلى التلقي منه إلى الاستنباط العقلي المجرد، تاريخ المذاهب الفقهية ص21 وما بعدها.
ومتى تم ذلك وجب إنفاذ الحد على الجاني، ولم يخالف أحد من الفقهاء في ذلك.
وعليه فإن الفريق بين ابن حزم، وجمهور الفقهاء فيما قال به كل منهم، وإن بدا بعيدًا من الناحية النظرية، إلا أنه يكاد يتطابق من الناحية الجوهرية.
لأن ما يسقطه جمهور الفقهاء من الحدود لقيام الشبهة، يعتبره ابن حزم لم يجب أصلًا؛ لأن شروطه لم تكتمل في رأيه بمقاييسه، فما يسقطه جمهور الفقهاء من الحدود لوجود شبهة في الفاعل، كأن كان جاهلًا الحكم جهلًا يعتد به، لا يوجبه ابن حزم أصلًا حتى يمكن أن يسقطه، ومثل هذا كثير.
ويبقى بعد ذلك مسائل قليلة هي التي يتحقق فيها اختلاف وجهتي النظر، وذلك مثل ما اكتملت فيه شروط الحد مع وقائع، وتم إثباتها وألزم الجاني فيها بعقوبة السرقة الحدية، ثم تملك السارق الشيء المسروق قبل إقامة الحد لسبب أو لآخر.
أو غاب أحد الشهود قبل تنفيذ الحكم سواء أكان غيابًا حقيقيًا، أم كان اعتباريًا كأن يفقد أهليته عند من يشترط بقاء الشهود على حالتهم التي أدوا الشهادة بها حتى ينفذ الحكم، وهذه وما ماثلها من المسائل هي التي ينحصر الخلاف فيها.