الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقسام العقوبة
تنقسم العقوبة باعتبارات مختلفة إلى أقسام عدة:
فتنقسم أولًا باعتبار ذاتيتها إلى:
1-
عقوبة أصلية.
2-
عقوبة بديلة.
3-
عقوبة تبعية.
4-
عقوبة تكميلية.
1-
العقوبة الأصلية:
هي العقوبة التي حددها المشرع الحكيم، ونص على لزومها لكل من أتى جريمة معينة.
ومن ذلك العقوبات الحدية التي نص الشارع على وجوبها على من ارتكب من الجنايات الحدية، كالسرقة أو الزنا أو شرب الخمر، عند من رأى ذلك.
ومثل عقوبة القصاص التي تلزم كل من ارتكب جناية من الجنايات التي توجبها، وكذا الدية والكفارة.
وكالعقوبات التعزيرية التي نص المشرع عليها، ولم تصل مقدار العقوبة للحدية.
2-
العقوبة البدلية:
هي العقوبات التي يلزم بها الجاني لسبب من الأسباب، التي يراها المشرع مانعة من إلزام الجاني العقوبة الأصلية المقررة للجنايات التي ارتكبها.
وذلك كما إذا اندرأ الحد عن الجاني لقيام شبهة من الشبهات المانعة من إلزام الجاني العقوبة الحدية لكن الجناية لا تزال قائمة، ففي مثل ذلك يلزم الجاني بعقوبة من العقوبات البدلية على سبيل التعزير كإلزامه
الدية مثلا بدلا من القصاص الذي اندرأ عنه لسبب من الأسباب التي يقرها الشرع.
والعقوبات البدلية هذه ما هي في حقيقتها، إلا عقوبات أصلية غير أنها أخف من غيرها.
ولذا فإن القاضي لما لم يلزم الجاني بالعقوبة الأشد لسبب شرعي ألزمه بعقوبة أصلية أخرى، ولكنها هنا بدلًا من العقوبة الأشد.
3-
العقوبة التبعية:
هي العقوبة التي تلزم الجاني بناء على ما ارتكب من جناية استحق بارتكابها عقوبة من العقوبات الأصلية، التي يترتب على الحكم بها عليه، إلزامه بعقوبة أخرى لم ينص عليها القاضي في حكمه، ولكنها مترتبة على ارتكاب الجريمة، والحكم عليه بعقوبتها، ومثل ذلك: حرمان القاتل من أن يرث المقتول، فإن الحرمان هنا عقوبة تبعية تلزم الجاني بمجرد حكم القاضي عليه بأنه هو الذي -أي الجاني- ارتكب جناية قتل مورثه.
4-
العقوبة التكميلية:
هي العقوبة التي تلحق الجاني نتيجة الحكم عليه بعقوبة أصلية بشرط أن ينص القاضي في حكمه على إلزام الجاني العقوبة التكميلية، ومثل ذلك: عقوبات النفي أو التغريب، التي ينص القاضي في حكمه على إلزام الجاني بجانب عقوبته الأصلية، عقوبة التغريب هذه.
والعقوبة التكميلية توافق العقوبة التبعية في أن كلًا منهما تأتي مترتبة على الحكم بعقوبة أصلية.
ويختلفان في أن العقوبة التكميلية لا بد وأن يحكم بها القاضي على الجاني، مع حكمه عليه بالعقوبة الأصلية.
أما العقوبة التبعية، فإنها لا يشترط فيها ذلك، إذ أنها تلزم الجاني بمجرد إلزامه بعقوبة أصلية من العقوبات التي يتبعها غيرها.
هذه هي أقسام العقوبة باعتبار ذاتيتها.
ولما كان هذا البحث خاصًا بالشبهات التي تعترى العقوبات الحدية، التي هي أحد أنواع العقوبات الأصلية.
لذا فسأقصر التفصيل على بيان هذه العقوبات الحدية التي هي مقررة، ومحددة من لدن المشرع الحكيم.
بادئا ببيان الحكمة من تقسيم العقوبات إلى عقوبات حدية، وعقوبات تعزيرية.
معرفًا العقوبة الحدية، ذاكرًا العقوبات التي حددها المشرع الحكيم، ونص على بيانها.
أولًا: الحكمة من تقسيم العقوبات إلى حدية، وتعزيرية
قد يسأل سائل لماذا حدد المشرع بعض العقوبات، ونص على ذلك وبينه، وترك البعض الآخر ولم يحدده؟
أو يقول قائل: لماذا لم يترك المشرع لولي الأمر شأن تحديد العقوبات كلها، وتقديرها حسبما يرى ولي الأمر ويقدر؟
والإجابة عن مثل هذا سهلة ميسورة لمن تدبر حكمة المشرع ورعاها.
أما بالنسبة للسؤال الأول: فإن المتدبر أن المشرع الحكيم العليم الخبير بالنفوس والعقول، في كل أطوارها وأزمانها، يعلم أن الناس سيعتريها، من الأحداث والأحوال، وأمور دينها ومعيشتها ما ينشأ عنه استحداث أمور لم تكن من قبل موجودة؛ لأن الأحداث، والأشياء لا تنتهي عند حد أو زمن.
لذا ورعاية من المشرع الحكيم لخلقه، لم ينص على كل العقوبات على سبيل الحصر والتحديد، والتقدير.
وإنما ترك لولي الأمر أن يضع من العقوبات، ويستحدث ما يناسب الجرائم المختلفة التي تستحدث، وتنشأ تبعًا لتطور الأحداث، واختلاف الظروف والأحوال.
واقتصر سبحانه وتعالى على تحديد بعض العقوبات، وتقديرها بالنسبة لجرائم معينة ناط بها هذه العقوبات المقدرة من لدنه، حفظًا للأمور الضرورية للإنسانية جمعاء، والتي لا تختلف بالنسبة لأنفس دون آخرين، ولا لزمن دون زمن.
أما بالنسبة للسؤال الثاني: فإن من تبصر يجد أن الشريعة الإسلامية هدفها خلق المجتمع الفاضل، الذي يأمن الناس فيه على أنفسهم، وأعراضهم، ودينهم ودنياهم، وكل ما لا تتحقق إنسانيتهم إلا به من ضروريات لذا رأى المشرع هذه الضروريات، وحدد عقوبة من يعتدي عليها، لا فرق بين رئيس ومرءوس أو غني وفقير، وإنما الجميع سواء.
أما عدا ذلك، فلولي الأمر أن يضع من التشريعات ما يحميه، ويحفظه ملتزمًا في ذلك الحق، والعدل بالصورة التي يرضى عنها الله ورسوله.
ثانيًا: العقوبة الحدية
الحد في اللغة المنع.. لذا سمي البواب حدادا، لمنعه الناس من الدخول، وسمي السجان حدادا لمنعه من في السجن من الخروج.
ويطلق للحد على الفصل بين الشيئين؛ لئلا يختلط أحدهما بالآخر، وجمعه حدود وحد كل شيء منتهاه؛ لأنه يرده ويمنعه عن التمادي، وحدود الديار نهايتها لمنعها ملك الغير عن الدخول فيها، أو خروج بعضها إليه.
ويسمى اللفظ المانع حدا؛ لأنه يجمع معنى الشيء، ويمنع دخول غيره فيه، وسميت العقوبات حدودا؛ لأنها موانع من ارتكاب أسبابها معادوة، وحدود الله محارمه؛ لأنها ممنوع عنها {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} ، وهي أيضا أحكامه؛ لأنها تمنع من التخطي إلى ما وراءها ومنه {حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} 1، أما عند الفقهاء فالحد يطلق على العقوبة شرعًا، ومنهم زاد على ذلك قيدًا آخر بقوله "حقًا لله تعالى"2.
فمن رأي أن الحد هو العقوبة المقدرة شرعًا، جعل المعيار عنده للتسمية تقدير الشارع للعقوبة، سواء أكان الحق المعتدى عليه لله سبحانه وتعالى، كما في جنايات الزنا والسرقة مثلًا.
أم كان الحق المعتدى عليه حقًا للعبد كما في الجنايات المعاقب عليها قصاصًا، وكون العقوبة الحدية مقدرة من لدن الشارع الحكيم، ويترتب
1 لسان العرب.
2 البحر الرائق ج5، ص2، شرح التحرير ج2، ص42ط الحلبي كشاف القناع للبهوتي ج6، ص77، المبسوط ج9، ص36، شرح الزرقاني ج4، ص2.
عليه مغايرتها للعقوبات التعزيرية؛ لأن تقدير هذه العقوبات مرده لولي الأمر، وقد يشاره في ذلك القاضي الذي يحكم الواقعة من هنا، فإن من يرى أن الحدود هي العقوبة المقدرة شرعًا، جعلها تشمل القصاص وحد القذف، وحد الردة، وحد الزنا، وحد السرقة، وحد الشرب على الرأي القائل بأنه من العقوبات الحدية.
أما حد قطع الطريق، فمن الفقهاء من عهده حدا متميزا، ومنهم من اكتفى بذكر حد السرقة، وجعل نوعين سرقة صغرى وسرقة كبرى، وأطلق السرقة الكبرى على قطع الطريق، لما فيه من الإرهاب وإخافة السالكين، وما إلى ذلك1.
ومن زاد على تعريف الحد السابق "حقا لله"، فإنه قصر العقوبات الحدية على العقوبات التي ليس للعبد حق فيها يخول له إسقاطها، أو إبدالها بغيرها.
والعقوبات الحدية عند أصحاب هذا الاتجاه هي: حد الزنا، وحد السرقة، وحد الشرب عند عده عقوبة مقدرة، "وحد القذف"؛ لأنه متى ثبت لم يعد للمجني عليه حق إسقاطه، وحد السكر عند من يشترط للعقوبة على شرب أنواع معينة من الشراب أن تصل بمن شربها إلى السكر.
كما أن من أصحاب هذا الاتجاه من ذكر قطع الطريق، ومنهم من لم يذكره باعتبار أنه داخل في حد السرقة الذي يشمل السرقة الصغرى، والسرقة الكبرى.
كما أن هؤلاء أيضًا من لم يذكر حد الردة، بناء على أن المرتد
1 تحفة المُحتاج لأحمد بن حجر ج9، ص101 ط مصطفى محمد.
عندما يعامل معاملة الكافر الحربي من حيث إهدار الدم، وكما أنه لا يسمى قتل الكافر الحربي حدًا.
كما أن من قيد الحد يذكر قيد "حق الله"، جعل منه حد البغي الذي هو عقوبة مقدرة حقًا لله تلزم كل من خرج على الإمام، بشروطها كما أخرج عقوبة القصاص من الحدود؛ لأنها وإن كانت عقوبة مقدرة شرعًا، إلا أنها حق للعبد يمكنه التنازل عنه وإسقاطه، حتى بعد الحكم بها على الجاني1.
وما كان كذلك من العقوبات، فإنه يكون قد خرج عن النطاق الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للعقوبات الحدية، إذ العقوبات الحدية لا يجوز إسقاطها، أو الشفاعة فيها، إذا وجبت وألزم الجاني بها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أنكر شفاعة من جاء يشفع في حد من حدود الله تعالى، وقال: صلى الله عليه وسلم: "فما بلغني من حد، فقد وجب"2.
لهذا كله، فسأقصر حديثي على العقوبات الحدية التي تلزم الجاني، ولا تسقط عنه، طالما ارتكب حدها، وألزمه القاضي بها.
1 كشاف القناع ج6، ص77 وما بعدها، بدائع الصنائع ج7، ص33، البحر الرائق ج5، ص27-31 المبسوط ج9، ص133.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص298-300.
2 شرح فتح الباري على صحيح البخاري ج12، ص78.
عقوبة جريمة الزنا:
تختلف النظم التشريعية الوضعية في نظرتها إلى الزنا، فالتشريع الإنجليزي لا يعقاب على الزنا حتى وإن وقع من زوج أو زوجة، ووجهة النظر عندهم مبنية على أساس أنه لا فائدة من معاقبة من لا تردعه مبادئ الأخلاق، هذا فضلًا على أن إثارة الفضيحة قد ينجم عنها ضرر بالعائلة، أبلغ مما يترتب للمجتمع.
الجزاء الطبيعي في نظر المشرع الإنجليزي هو الحكم بالطلاق، أو الفرقة1، أما باقي التشريعات الوضعية الأخرى، فإنها تتفق والتشريع الإنجليزي في عدم العقاب على الزنا إذا ما تم برضاء الرجل والمرأة، إذ أن ما تم بينهما في نظر هذه التشريعات علاقات شخصية بحتة لا يتدخل القانون فيها، طالما ليست هناك علاقة زوجية تربط أحدهما بشخص آخر.
أما ما تعاقب عليه من زنا، فهو ما وقع من رجل، أو امرأة أثناء ارتباطهما بزواج صحيح من وجهة النظر القانونية.
والعقاب هنا في حقيقته ليس عقابًا على الفعل، وإنما عقاب على الاعتداء على حرمة العلاقة الزوجية.
كما أن هذه النظم ضيقت من داترة العقاب على ذلك، فاشترطت لتحريك الدعوى، أن يقوم به المجني عليه وحده.
1 كما أوصى المؤتمر الدولي التاسع لقانون العقوبات المنعقد بلاهاي في أُغسطس سنة 1964م بعدم تحريم الزنا.
شرح قانون العقوبات القسم الخاص أ. د. محمود مصطفى ص334ط سنة 1975م.
كما نص المُشرع المصري على أن هذه الجريمة لا تقوم بالنسبة للزوج، إلا إذ وقع منه الزنا في منزل الزوجية.
وجعل للزوج الحق في إسقاط العقوبة عن زوجته إذا زنت حتى بعد الحكم النهائي عليها.
ثم بعد ذلك كله جعل عقوبة الزوجة إذا زنت الحبس مدة لا تزيد على سنتين، وعقوبة الزوج إذا زنى الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر1.
هذه هي نظرة التشريعات الوضعية لجريمة الزنا، والعقوبة عليها.
أما الشريعة الإسلامية، فإنها قد وضعت من النظم ما يمكن معه للإنسان السوي أن يعف نفسه، ويحفظ عرضه من الدنس، ولم تبح العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة بأي صورة من الصور إلا في ظل العلاقة الشرعية، التي تكفلت الآيات القرآنية ببيانها:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 2، والعادون هؤلاء رصدت لهم الشريعة الإسلامية من العقاب ما يكفل إصلاحهم، وتخليص المجتمع من شرهم، والقضاء على هذه الجريمة، فهي قد أمرت برجمه إن كان محصنًا، وجلده إن كان غير محصن.
1 شرح قانون العقوبات، لقسم الخاص أ. د. محمود نجيب حسني ص457، وما بعدها في أصول النظام الجنائي الإسلامي د/ محمد سليم الغواص 200، وما بعدها دار المعارف.
2 الآيات 5، 6، 7 من سورة المؤمنين 29، 30، 31 من سورة المعارج.
الرجم عقوبة الزاني المحصن:
يطلق الرجم على الرمي بالحجارة، ويطلق على القتل، أي على النتيجة التي يؤدي إليها الرجم، ويطلق أيضًا على ما يرجم به، كما يطلق على العقوبة التي تجب على الزاني المحصن، ويلزم بها1.
وهذا ما جاءت به السنة الشريفة، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". رواه الجماعة إلا البخاري والكسائي2.
كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم في قضية العسيف بقوله:
"الوليد والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"3.
هذا وغيره كثير مما رواه الصحابة الأجلاء من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ومن فعله، يدل على أن عقوبة الزاني المحصن هي الرجم.
وقد ذكر فقهاء الحنابلة، فيما استدلوا به على وجوب رجم الزاني المحصن، ما روي عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كان فيما
1 معجم ألفاظ القرآن الكريم ط، ص471-479ط الهيئة المصرية للتأليف والنشر.
2 مشكاة المصابيح ج2، ص228، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج2، ص186، النووي على مسلم ج11، ص207.
3 نيل الأوطار ج7، ص 97-106ط الحلبي تفسير القرطبي ج2، ص1652-1658ط، دار الشعب.
أنزل آية الرجم فقرأتها ووعيتها، وقرأ الآية: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم1.
وعد الأصوليون ذلك مما نسخ لفظه، وبقي حكمه2.
1 المغني ج3، ص200، ج8، ص157-158 مكتبة الجمهورية العربية نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص102 ط مصطفى الحلبي.
فتح الباري شرح صحيح البخاري ج2 ص119.
أصول الفقه الإسلامي أ. د/ سلام مدكور ص10ط دار النهضة العربية.
2 وجود مثل هذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه فرض مرفوض، القول به غير مقبول وغير معقول، وما ورد من ذلك منسوب إلي السيدة عائشة رضي الله عنها، وإلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يحتاج إلى تحقيق، فقد استبعده البعض، كما أن صحة السند لا تعني في كل الأحوال سلامة المتن.
فقد نسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: ولولا أن يقال: زاد عمر في المصحف لكتبتها.
وذلك يوهم أن لفظها لم ينسخ، مع أن من رواها يقول: أنها منسوخة اللفظ.
ومما يطعن في أن يكون مثل ذلك فيما أنزل من القرآن، أن الآية كما يطلق عليها جاءت بعبارات مختلفة في كل رواية من الراويات المتعددة، التي تحدثت بها.
فمن الروايات ما ذكرت قيد الزنا بعد ذكر الشيخ والشيخة، ومنها ما لم نذكره، ومنها ما ذكرت عبارة "نكالًا من الله"، وأخرى لم تذكرها، رواية تعلل الحكم، فتورد "بما قضيا من اللذة" إلى آخر ذلك من الائتلافات، وما هكذا تكون الآيات القرآنية، ولو نسخ لفظيًا، كم أنه يقال: كنت أقول كذا، لغير القرآن وعمر -رضي الله تعالى عنه- قال: ولولا أني أكره أن يقال: زاد عمر في القرآن لزدته، إذا فهذا ليس من القرآن. النسخ في القرآن الكريم أ. د/ مصطفى زيد ص283-285ط دار الفكر العربي.
وهو قول لا مبرر لوجوده ولا حكمه من ورائه، وقد ذكر ابن كثير أن هذا مما نسخ لفظه وحكمه1.
وعلى هذا فعقوبة الرجم المحصن جاءت بها السنة الشريفة، لذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في المرأة التي جلدها ورجمها: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله، وهذا ما استقر عليه رأي الفقهاء عدا الأزارقة من الخوارج، الذين قالوا: إن ما جاء به القرآن الكريم من عقوبة الزاني هو الجلد بكرًا أم ثيبًا، لقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 2.
وهذا فقط هو الثابت عندهم بطريق القطع واليقين، أما الرجم واليقين للأخذ بما جاء عن طريق أخبار الآحاد.
ولأن ذلك في رأيهم يفضي إلى نسخ الكتاب بالسنة، وهو غير جائز3.
1 تفسير ابن كثير ج3، ص465، الحلبي سنة 1376هـ.
2 من الآية 2 من سورة النور.
3 خبر الآحاد قسم من أقسام السنة النبوية المُطهرة، روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم رواية لم تبلغ حد التوتر أو الشهرة، وهذا القسم ينقسم من حيث قبوله إلى صحيح وحسن لذاته، وحسن لغيره، وضعيف.
والثلاثة الأولي مقبولة ويعمل بها، أما الضعيف فغير مقبول إذا اعتضد شاهد، أو متابع.
ويروي الجبائي، ومن وافقه أن العمل بخبر الواحد مستحيل، بما يستلزمه من احتمال إحلال الحرام، وتحريم الحلال، وهو باطل.
وقد رد ذلك على الأستاذ الدكتور/ سلام مدكور بقوله: هذا احتمال يقابله احتمال آخر رجع ما دام الراوي عدلا، فإن احتمال الصدق في خبره أقوى، وأرجح والعمل به هو ما أجازه جمهور العلماء، مناهج الاجتهاد أ. د/ سلام مدكور ص45-49 ج1، ص1969 أصول الفقه الإسلامي أ. د/ سلام مدكور ص116-17ط سنة 1976. الأحكام للآمدي ج1، ص161ط دار المعارف سنة 1914م.
وما ذهبت إليه هذه الفرقة من الخوارج، دعوى واهية، فرجم الزاني المحصن قد ثبت وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق روايات كثيرة، كما أن القضايا التي تحكم فيها بالرجم من القضايا المشهورة، والتي ألزم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من زنى وهو محصن عقوبة الرجم، مسلمًا كان أم كتابيا1.
كما أن القول برجم الزاني المحصن، لا يترتب عليه نسخ لقوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ، وإنما هو من باب التفصيل والبيان تخصيص الجلد بغير المحصن، وتخصيص القرآن بالسنة أمر جائز2، بل إن هناك من أجاز نسخ القرآن
1 نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص103-106ط، مصطفى الحلبي النسخ في القرآن أ. د/ مصطفى زيد، ص828:836.
2 يقول أ. د/ سلام مدكور: يخصص القرآن بالسنة، ومن ذلك تخصيص حل البيع في قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، بما ورد في السنة من النهي عن البيوع الفاسدة، وتخصيص عموم تحريم الربا =
بالسنة، وإن كان الإمام الشافعي، والإمام أحمد، ومن تابعهما لا يرون ذلك1.
وقد قال ابن المنذر عارض بعضهم الشافعي، فقال: الجلد ثابت على البكر بكتاب الله، والرجم ثابت بسنة رسول الله، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه2.
وتصبح عقوبة الزاني المحصن هي الجلد والرجم، وعلى الأخذ بهذا لا يبقى وجه للقول بالنسخ الذي اعترضه الأزارقة.
كما أن عمر بن عبد العزيز -رضي الله وتعالى عنه- الذين يعدهم
= بما ورد في السنة من ترخيص رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا بخرصها، فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق، أصول الفقه الإسلامي ص121.
ويذكر أ. د/ زكريا البري أن من السنة ما يخصص ما جاء به القرآن عامًا، وذلك كحديث:"نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"، فقد خصص هذا الحديث عموم قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْإِنْثَيَيْنِ
…
} ، وجعله غير شامل للأنبياء.
أصول الفقه الإسلامي ص742 دار النهضة العربية سنة 1979.
1 أصول الفقه الإسلامي أ. د/ محمد سلام مدكور ص109ط دار النهضة العربية سنة 1976م.
النسخ في القرآن الكريم أ. د/ مصطفى زيد ص203-204، ص828-836 دار الفكر العربي.
2 نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص103ط مصطفى الحلبي.
للجمهور من الخوارج كذلك -فبينوا أن عقوبة الرجم ثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وصفوا الأزارقة الذين رأوا غير ذلك بالكفر، والخروج من الدين1، 2.
وجمهور الفقهاء، وإن اتفقت كلمتهم على التفرقة بين عقوبة المحصن، وعقوبة غيره إذا زنا، إلا أنهم لم يتفقوا فيما قبل من جلد الزاني المحصن قبل رجمه.
فقد ذهب الظاهرية، والشيعة الزيدية كما ورد في رواية عن فقهاء الحنابلة أيضًا، إلا أن المحصن إذا زنى يجب أن يجلد مائة جلدة قبل أن يقام عليه حد الرجم.
1 جاء رسل الخوارج إلا عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان في جملة ما عابوا عليه الرجم، وقالوا: ليس في كتاب الله إلا الجلد
…
فقال لهم عمر: وأنتم لا تأخذون إلا بما في كتاب الله؟ قالوا: نعم. فأخبروني عن عدد الصلوات المفروضات، وعدد أركانها، وركعاتها، ومواقيتها أين تجدونه في كتاب الله تعالي؟ وأخبروني عما تجب الزكاة فيه، ومقاديرها ونصبها؟ فقالوا: لم نجده في القرآن. قال: فكيف ذهبتم إليه؟
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وفعله المسلمون بعده، فقال لهم: فكذلك الرجم.
المغني ج8، ص158ط مكتبة الجمهورية العربية.
المحلى لابن حزم ج10، ص196ط مكتبة الجمهورية العربية.
2 المدونة في فقه الإباضية لأبي غانم، ورقة 261، والإنصاف في أصول الفقه الإباضي للوارجلاني مخطوط ورقة 73 من المجلد الثالث.
عن أ. د/ محمد سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي ص202ط دار المعارف.
واستدلوا لذلك بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه قال: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"1.
واستدلوا أيضًا بما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- من أنه حين رجم المرأة التي زنت وهي محصنة، ضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال:
جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم2.
وقد روي عن عمر وعثمان -رضي الله تعالى عنهما- رجمًا ولم يجلدا، وروي عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: إذا اجتمع حدان لله تعالي منهما القتل، أحاط القتل بذلك3.
1 رواه الإمام أحمد في مسنده، وأخرجه مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت نيل الأوطار ج7، ص98، مشكاة المصابيح ج2، ص228، اللؤلؤ والمرجان، فيما اتفق عليه الشيخان ج2، ص186، أ. د/ محمد سليم العوا، في أصول التشريع الجنائي الإسلامي ص203.
2 وقد روي هذا الرأي أيضًا عن ابن عباس، وأبي بن كعب، وأبي ذر -رضي الله تعالى عنهم أجمعين، المغني ج8، ص160، نيل الأوطار ج7، ص97-103.
3 وهذا ما ذهب إليه النخعي، والزهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأبو ثور أصحاب الرأي، واستدل هؤلاء بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه رجم ماعز، ولم يجلده ورجم الغامدية، ولم يجلدها المغني ج8، ص160.
وقد حاول البعض التوفيق بين ما ذكر من أقوال، فذهب إلى القول بأن الجلد من استحق الرجم غير واجب لا غير جائز1.
والذي أميل إليه، وأرجحه هو ما ذهب إليه الجمهور من عدم الجمع بين الرجم والجلد، وذلك؛ لأن الرجم هو العقوبة الأشد، وأنه محتم أن ينتهي بالموت فما فائدة الجلد حينئذ، إن كان للردع أو الزجر، فإن الرجم أشد ردعًا وزجرًا، وما دامت العقوبة قد فقدت ما وضعت له، وتحقق الهدف الذي يرجى من ورائها بعقوبة أشد منها، وضعها المشرع الحكيم، فلا داعي لها لاشتمال العقوبة الأشد عليها وزيادة.
وما روي عن الإمام علي -رضي الله تعالى عنه- من الجمع بين الرجم، والجلد يمكن حمله على أن جلدها يوم الخميس؛ لأنه لم يكن يعلم إحصانها، أو لعدم ثبوت إحصانها، فلما علم ذلك، أو ثبت ندبه أقام عليها عقوبة المحصنة إذا زنت.
الجلد والتغريب عقوبة غير المحصن:
إذا ارتكب غير المحصن جناية الزنا، فإن عقوبة المتفق عليها عند الفقهاء هي ما جاءت بها الآية القرآنية:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 2.
1 نيل الأوطار ج7، ص102-203، شرح فتح القدير ج5، ص224.
المحلى ج13، ص320، المهذب ج2، ص226.
الخرشي ج8، ص81-82، حاشية الدسوقي ج4، ص320.
مباني تكملة المنهاج لأبي قاسم الموسوي ج1، ص195-199، القرطبي ج2، ص1657.
2 من الآية 2 من سورة النور.
فهذه الآية القرآنية الكريمة قد حددت عقوبة الزاني غير المحصن، التي لم يختلف أحد من الفقهاء فيها.
وقد ورد في الحديث الشريف: "البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام" 1، كما ورد أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم في قضية العسيف بالجلد مائة، وتغريب عام2.
من هذا يبين أن الزاني غير المحصن يعاقب بعقوبة التغريب بالإضافة إلى عقوبة الجلد.
والفقهاء لم تتفق كلمتهم، فيما قالوه بالنسبة لعقوبة التغريب إذ إن فقهاء المالكية والشافعية، والحنابلة قد قالوا بوجوب عقوبة التغريب بالإضافة إلى عقوبة الجلد بالنسبة للزاني غير المحصن، أخذا بما جاء في الأحاديث النبوية المشرفة، ووافقهم فقهاء الشيعة3، والمالكية وإن وافق قولهم ما قال به الشافعية والحنابلة، إلا أنهم يفرقون بين الذكر، والأنثى بالنسبة لوجوب عقوبة التغريب، فهم يوجبونها فقط على الزاني غير المحصن إذا كان ذكرًا، أما الأنثى إذا زنت وكانت غير محصنة، فإنهم لا يوجبون عليها التغريب بالإضافة
1 صحيح مسلم بشرح النووي ج4، ص266.
2 العسيف هو الأجير -صحيح البخاري مع شرح فتح الباري ج13، ص114.
3 المهذب ج2، ص267، مغني المحتاج ج4، ص148-149.
نيل الأوطار ج7، ص100، المغني ج8، ص168، مباني تكملة المنهاج ج1، ص199.
إلى العقوبة الأصلية، لما يخشى عليها في غربتها من التردي في مثل ما ارتكبت1.
أما فقهاء الأحناف، فإنهم قد ذهبوا إلى أن التغريب غير واجب، وأن عقوبة الزاني غير المحصن هي الجلد فقط، ويمكن للإمام أن يحكم بتغريب الزاني غير المحصن إذا رأى في تغريبه مصلحة، بالقدر الذي يراه مناسبًا، على سبيل العقوبة التعزيرية2.
هذا ما ذهب إليه الفقهاء بالنسبة لعقوبة التغريب.
وما أميل إليه، وأرجحه هو ما قال به فقهاء الأحناف.
غير أنني أرى أن يحبس الجاني بدلًا من التغريب، وعلى الأخص في مثل ما نحن فيه الآن؛ لأن التغريب لن يؤدي إلى الهدف المرجو منه، بل قد يكون باعثًا على الفساد للانحراف؛ لأن المغرب سيجد نفسه في مكان لا يعرفه أحد فيه، وقد يدعوه ذلك للتمادي في مسلكه الذي غرب بسببه، وحينئذ يصبح تغريبه مفسدة له، ووبالًا على المجتمع.
كما أرى أن الحبس بدلًا من التغريب لا يقتصر على الذكور فقط، وإنما يطبق أيضًا على النساء غير المحصنات إذا ارتكبن جريمة الزنا.
مع ملاحظة أن يكون حبسهن في أماكن خاصة بهن.
1 الخرشي ج8، ص82-83ط، دار المعرفة ببيروت.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص321، 322.
2 شرح فتح القدير ج5، ص241-244ط، مصطفى الحلبي، المبسوط للسرخسي ج9، ص44-45.
تفسير القرطبي ص1657، 1659ط، دار الشعب.
ويحبسهن يصبحن غير محتاجات لمحرم، الأمر الذي ذهب المالكية إلى إسقاط عقوبة التغريب عنهم بسببه.
عقوبة السرقة:
العقوبة الحدية التي تجب على السارق بعد ثبوت جريمة السرقة عليه مع توافر ما وضعه الفقهاء من شروط هي القطع.
والأصل في ذلك ما حكم الله سبحانه وتعالى حيث قال:
هذه عقوبة السرقة التي نص عليها القرآن الكريم.
والحديث عن هذه العقوبة يقتضي ذكر بعض ما يتصل بها، خصوصًا من حيث وجوبها على من وقعت منه جريمة السرقة للمرة الأولى، ثم بيان ما يقطع إذا تكررت هذه الجريمة.
1-
القطع في السرقة:
أورد أبو بكر الرازي، وابن حزم ما رواه البعض مما يقضي بعدم قطع السارق على سرقته الأولي، وإنما القطع على السارق العائد، والقائلون بهذا قد استشفوا مقالتهم مما جاء به القرآن الكريم، حين عبر عمن تجب عليه عقوبة السرقة الحدية، يقول الله سبحانه وتعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ، يقول الشيخ أبو زهرة ناقلًا ما أورده أبو بكر الرازي: فجاء بعض الذين يبحثون، وقال: إن كلمة السارق وكلمة السارقة وصفان لا فعلان، والوصف لا يتحقق في الشخص إلا بالتكرار.
1 الآية 38 من سورة المائدة.
فلا يقول لمن ظهر منه الجود مرة أنه جواد، ولا من وقع منه الكذب مرة أنه كذاب، ولا للفاسق الذي لا يقول الحق، أو المنافق الذي يخفي لمن يتكرر منه فعلها حتى تكون اسمًا له، وعنوانًا يعرف به.
وقد عضد هؤلاء رأيهم بأن الله سبحانه وتعالى، قد ذكر عقب آية السرقة قوله تعالى:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، وذكر التوبة الظلم ممن سرق لا يكون له محل في الظاهر، إلا إذا كان العقاب أن وقع، لذا فإن بعض الباحثين يرى أن التوبة تمنع القطع إذا وقعت قبله.
ويعقب الشيخ أبو زهرة على هذا بقوله: وظاهر الآية يقرب من تفكيرهم.
والتوبة النصوح لا تكون في الغالب ممن يتكرر منه الفعل، بل إنها تكون لمن يرتكب الفعل بجهالة2.
كما أورد ابن حزم ما استدل بمن يقول بعد القطع في السرقة الأولى من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى بعبد قد سرق، فقيل: يا رسول الله هذا عبد سرق، وأخذت معه سرقته، وقامت البينة عليه.
فقال رجل: يا رسول الله هذا عبد بني فلان، أيتام، وليس لهم مال غيره فتركه، قال: ثم أتي به الثانية سارقًا، ثم الثالثة، ثم الرابعة
1 الآية 39 من سورة المائدة.
2 أحكام القرآن لأبي بكر الرازي ج2 ص416ط استامبول العقوبة للشيخ أبو زهرة ص147.
كل ذلك يقول فيه كما قيل في الأول، ثم أتي به الخامسة، فقطع يده ثم أتي به السادسة فقطع رجله، ثم السابعة فقطع يده، ثم أتى به السادسة فقطع رجله، ثم السابعة فقطع يده، ثم الثامنة فقطع رجله.
ويعلق راوي الحديث عليه بقوله: أربع بأربع، فأعفاه الله أربعا وعاقبه أربعًا1.
كما يذكر الشيخ أبو زهرة مستدلًا لهذا الرأي ما روي من أن عمر -رضي الله تعالى عنه- لما أراد قطع يد شاب سرق، قالت له أم هذا الشاب: اعف عنه يا أمير المؤمنين، فإن هذه أول مرة فقال عمر لها: إن الله أرحم من أن يكشف ستر عبده لأول مرة.
ثم يعقل الشيخ أبو زهرة على ذلك بقوله: ويظهر أن الإمام عمر رضي الله عنه يرى أن القبض على السارق متلبسا، أو وجود شهود يشهدون، يدل على التكرار.
والشيخ أبو زهرة وإن ذكر الآثار الواردة لم يكن فيها ما يشير إلى وجوب التكرار لإقامة الحد.
إلا أنه يظهر اتجاهه إلى وجاهة هذا الرأي القائل القطع في السرقة الأولى بقوله: ونذكر هنا كلمة نهمس بها، وهي أن الحدود
1 أورد ابن حزم هذا الحديث برواية حمام عن ابن مفرج عن ابن الأعرابي عن الديري عمر عبد الرازق، عن ابن جريح عن عبد ربه بن أبي أمية، عن الحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وابن سابط الأحوال، وعلق عليه بقوله: هذا حديث مرسل ولا حجة في مرسل، المحلي ج13 ص391.
غير مطبقة، فلا يصح أن نخالف الإجماع، ونوهن أقوالل الفقهاء في أمر غير مطبق1.
والقضية هنا ليست هي فيما حاول به الشيخ أبو زهرة ستر رأيه، ورآه من أن الحدود غير مطبقة.
وإنما القضية هل حل تقطع يد السارق في السرقة الأولى أم لا؟ والذي عليه الجمهور هو القطع في السرقة الأولى، استنادًا لما ورد من نصوص فهم منها جمهور فقهاء المسلمين وجوب القطع بالسرقة الأولى، والذي أميل إليه هو أن الخلاف هنا خلاف اعتمد فيه القول على أدلة معقولة ومقبولة، ومثل هذا يعد ضمن ما أطلق عليه الفقهاء شبهة الجهة، التي يترتب عليها إسقاط الحد.
وسأذكر بيان ذلك عند الحديث عن الشبهات في الباب الأول من هذا البحث.
2-
آراء الفقهاء فيما يقطع إذا تكررت السرقة:
ثم تتفق كلمة الفقهاء على ما يقطع في السرقة الثانية، وما بعدها، فمنهم من قال: لا يقطع شيء بعد قطع اليد اليمنى.
ومنهم من قال: تقطع في السرقة الثانية الرجل اليسرى، ولا قطع بعد ذلك إذا سرق مرة ثالثة، فما فوق، وإنما يحبس حتى يتوب، ومن الفقهاء من قال: إن محل القطع هو اليدان فقط، ولا يقطع بعد ذلك.
ومنهم من قال: تقطع يمناه ثم إن سرق تقطع رجله اليسرى، وفي الثالثة تقطع يده اليسرى، وفي الرابعة تقطع رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك عذر.
1 العقوبة للشيخ أبو زهرة ص149.
ومن الفقهاء من يرى أن من يسرق بعد قطع يديه، ورجليه يجب قتله، وهذه هي مقالة كل ودليله.
المقالة الأولى:
ذهب عطاء فيما روى عنه إلى أن من يسرق بعد ذلك لم يقطع منه شيء؛ لأن الله تعالى قال: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، ولو شاء أمر بالرجل، ولم يكن الله تعالى نسيًا1.
المقالة الثانية:
يرى ابن حزم ومن وافقه أن من قطعت يده في سرقة، ثم سرق ثانيًا قطعت يده الثانية، فالقطع لا يقع إلا على اليدين فقط، ولا تقطع الرجل، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} .
كما روي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- قولها: "لم تكن الأيدي على عهد رسوله الله صلى الله عليه وسلم تقطع في الشيء التافه".
كما روي في الأحاديث الشريفة: "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها، لا تقطع اليد إلى في ربع دينار فصاعدًا، لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده".
1 جاء في المحلى لابن حزم ج13 ص399. فأما من قال: لا تقطع إلا يده فقط -كما نا حمام بن مفرج نا ابن الأعرابي، نا الديري نا عبد الرازق، عن ابن جريح قلت لعطاء: سرق الأولى، قال: تقطع كفه
…
قلت لعطاء: سرق الثانية قال: ما أرى أن يقطع إلا في السرقة الأولى اليد فقط.
فالسنة الصحيحة، والآثار الثابتة بالإضافة إلى الآية الكريمة، فقد جاءت كلها بقطع الأيدي، ولم يأت فيها للرجل ذكر، وقد قال الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 1.
يقول ابن حزم: قد بينا أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قطع رجل السارق شيء أصلًا، ولو صح لقنا به وما تعديناه.
ورد ابن حزم على ما روي عن أقوال تفيد غير ما ذهب إليه بأن هذه الأقوال ليست بإجماع؛ لأن الإجماع عنده هو ما تيقن أن الصحابة، والفقهاء أولهم وآخرهم قد قال به، وعلموه جميعًا دون سكوت أحد منهم، ولا خلاف من أحد منهم.
أما غير ذلك فليس بإجماع عنده، وعلى هذا فهو يرى أن ما جاء به القرآن الكريم، والسنة النبوية هو قطع اليد، ولا تقطع رجل، وهذا ما لا إشكال فيه عنده2.
المقالة الثالثة:
ذهب فقهاء الأحناف إلى القول بأن من سرق تقطع يده اليمنى، فإن سرق بعد ذلك تقطع رجله اليسرى، فإن ثالثًا يقطع بل يعزر، ويخلد في السجن حتى يتوب أو يموت.
واستدل أصحاب هذا الرأي بأدلة كثيرة منها ما روي عن على بن أبي طاب كرم الله وجهه أنه قال: إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمنته السجن حتى يحدث خبرا،
1 من الآية 3 من سورة الأعراف، نيل الأوطار ج7 ص140-143.
2 المحلى لابن حزم ج13 ص398-404.
إني لأستحي من الله أن أدعه ليس له يد يأكل بها، ويستنجي بها، ورجل يمشي عليها.
كما استدلوا أيضًا بما روي من أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- استشار أصحابه في سارق، فأجمعوا على مثل قول علي.
وأصحاب هذا الرأي يرون أن في قطع أكثر من يده، ورجله إهلاكًا للمقطوع، والحدود زواجر لا مهلكات؛ ولأن من يسرق بعد قطع يده، ورجله نادر الوجود، والحد لا يشرع إلا فيما يغلب.
خبر لحقه.
ولا يتعرض على ذلك بالقصاص؛ لأنه حق العبد فيستوفيه ما أمكن، ويقول الكاساني: إن في قطع يده اليسرى تفويتا لجنس منفعة من منافع النفس أصلًا وهي منفعة البطش؛ لأنها تفوت بقطع اليد اليسرى بعد اليمنى، فتصبر النفس في حق هذه المنفعة هالكه، فكان قطع اليد اليسرى إهلاك النفس من وجه؛ لأن الثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه، وإهلاك النفس من كل وجه، لا يصلح حدًا في السرقة، وهكذا إهلاك النفس من وجه1.
المقالة الرابعة:
ذهب الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد ومن وافقهم أن السارق الذي قطعت يده اليمنى، ورجله اليسرى لو سرق بعد ذلك تقطع يده اليسرى. فإن سرق للمرة الرابعة تقطع رجله اليمنى.
1 بهذا قال علي والحسن، والشعبي والنخعي والزهري، وحماد والثوري وأصحاب الرأي.
فتح الباري ج15 ص106، شرح فتح القدير ج5 ص394.
بدائع الصنائع ج7 ص86، المبسوط ج9 ص140، المغني ج8 ص260-265، المحلى ج13 ص399-400.
فقد روى الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه- بإسناده، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في السارق:"إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله"1.
كما استبدل أصحاب هذا الرأي بما روي من أن رجلًا من أهل اليمن أقطع اليد والرجل نزل على أبي بكر، فشكا إليه أن عامل اليمن قد ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر: ما ليلك بليل سارق، ثم إنهم فقدوا عقدًا لأسماء بنت عيسى امرأة أبي بكر، فجعل الرجل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاءه به، فاعترف الأقطع وشهد عليه، فأمر به أبو بكر، فقطعت يده اليسرى، وقال أبو بكر: لدعاؤه على نفسه أشد عليه من سرقته2.
وقد قال أصحاب هذا الرأي أن الحكمة في قطع اليد والرجل، أن السارق يعتمد في سرقته على البطش والمشي، والقطع من خلاف يفوت جنس المنفعة على السارق، كما في قطع الطريق، فتضعف حركته.
ولأن السرقة مرتين تعدل الحرابة، ولما كان المحارب تقطع أولًا يده اليمنى، ورجله اليسرى، فإن عاد إلى الحرابة تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، فكذا في السرقة إن تعددت.
كما أن أصحاب هذا الرأي يرون أن من قطعت أطرافه الأربعة، وسرق بعد قطعها، فإنه يعزر ولا يقتل.
1 مغني المحتاج ج4 ص178، المغني ج8 ص265.
2 شرح الزرقاني ج5 ص113، شرح فتح القدير ج5 ص395.
وذلك؛ لأن القطع ثبت بالكتاب والسنة، ولم يثبت بعد ذلك شيء بالنسبة للسرق من قتل، أو غيره من العقوبات المحددة، لذا فإنه يعاقب بعقوبة تعزيرية منسبة لكونه أتى معصية من المعاصي1.
المقالة الخامسة:
وهي مقالة أبي مصعب الزهري المدني من أصحاب الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه-، وروى ابن القدامة أنها مقالة عن عثمان، وعمرو بن العاص، وعمر بن عبد العزيز، وهي تتفق مع ما ذهب إليه الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، والقول المشهور عند الإمام مالك من أن السرق إذا سرق بعد قطع يده اليمنى، تقطع رجله اليسرى، فإن سرق بعد ذلك تقطع يده اليسرى، ثم إن سرق للمرة الرابعة تقطع رجله اليمنى، فهي تتفق والمقالة الرابعة، غير أنها تزيد على المقالة الرابعة أن السارق إذا سرق بعد قطع يده ورجليه، وجب قتله وقد استدلوا لذلك بما رواه جابر -رضي الله تعالى عنه- من أنه جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق، فقال:"اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: اقطعوه، قال: فقطع، ثم جيء الثانية، فقال: اقتلوه، قالو: يا رسول الله إنما سرق. قال: اقطعوه فقطع، ثم جيء به الثالثة، فقال: اقتلواه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، قال: اقطعوه. ثم أتي به الرابعة، فقال: اقتلواه فقالوا: يا رسول الله إنما سرق قال: اقطعوه ثم أتي به الخامسة، فقال: اقتلواه قال جابر: فانطلقنا، فقتلناه ثم اجتررناه، فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة"2.
1 مغني المحتاج ج4 ص178، المهذب ج2 ص183، الخرشي ج8 ص93، حاشية الدسوقي ج4 ص332.
2 سنن أبي داود ج2 ص454 الخرشي ج8 ص93، فتح القدير ج5 ص395 المغني ج8 ص264.
هذا ما ذهب إليه الفقهاء في مقالاتهم عن عقوبة السرقة.
وما أميل إليه، وأرجحه هو ما ذهب إليه الإمام علي -رضي الله تعالى عنه- من أنه لا يقطع إلا اليد اليمنى، فإن سرق ثانية قطعنا رجله اليسرى، فإن سرق بعد ذلك لا يقطع، وإنما يعزر ويسجن حتى يتوب، أو يموت وما ذكره الإمام علي من حجة أرى أنها حجة قوية، تتفق وما تهدف إليه الشريعة سواء من حيث العناية بالإنسان، أو من حيث معاقبته إذا سرق.
ولا شك أن هذا الرأي يوائم بين الهدفين؛ لأنه يعاقب السارق بالعقوبة الرادعة الزاجرة، كما أنه يحميه من أن يصبح عالة عاجزًا عن العمل والتكسب.
كما أن من لم يقلع عن هذه الفعلة القبيحة بعد قطع يده، ورجله لا علاج له إلا العزل عن المجتمع حماية له، وللمجتمع حتى يغير الله من أمره، ويقوم إعوجاجه، وما ذهب إليه من القول بقطع اليد، وعدم قطع شيء بعدها إذا سرق المقطوع
مردود بما روى عن علي، وعمر وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
أما ما استدل به من رأى قطع الأعضاء الأربعة، فإن سنده مطعون فيه، وعلى هذا لا يصح أن يطون دليل عقوبة حدية، كما أن ما رد به ابن حزم من اشتراط كون الإجماع هو ما صوبه الجميع، وعملوا به دون سكوت من أحد منهم، ولا خلاف، فهو رد غير مقبول؛ لأنه لا يخفى أن كثيرًا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت لهم أعمال تشغلهم عن حضور مثل هذه الأمور، وما ذلك من ابن حزم إلا سعى للأخذ بما جاء به القرآن، ووافقته السنة، دون إضافة أو تفسير، كما هو اتجاه ابن حزم.
عقوبة الحرابة:
بين الله سبحانه وتعالى عقوبة الحرابة1 في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2.
وقد ذهب الفقهاء مذهبين، فيما للحاكم من حرية اختيار العقوبة هنا المذهب الأول، وبه قال الإمام أبو حنيفة، والشافعي، وأصحاب الإمام أحمد وغيرهم أن جرائم الحرابة لما كانت متعددة، فإن الله سبحانه وتعالى قد وضع لكل جريمة منها عقوبة من العقوبات، وعلى هذا فتكون الآية قد بينت نوعيات العقوبة.
فكلمة "أو" التي وردت في الآيات الكريمة مقصود بها البيان، والتنويه المذهب الثاني، وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب، ومجاهد والحسن والضحاك وغيرهم: أن كلمة "أو" للتخيير، فالإمام مخير في إنزال ما يراه مناسبًا من العقوبات التي تحدثت عنها الآية بمن ارتكب جناية من جنايات الحرابة، على ما هو ظاهر النص مطلقًا.
وإن كان الإمام مالك قد فصل الرأي في ذلك بأن المحارب الذي لم يصدر منه قتل يندب للإمام أن ينظر في حاله، فمن كان له تدبير في الحروب، وفي الخلاص منها تعين له القتل لا القطع من خلاف؛ لأنه لا يدفع ضرورة، وإن كان المحارب من أهل البطش، والشجاعة، فيتعين قطعه من خلاف فإن لم يكن عنده تدبير، ولا بطش بل اتصف بغيرهما، أو وقعت منه الخرابة فلتة مخالفة حاله، وموافقة لغيره تعين له الضرب منه الحرابة، فله مخالفة لظاهر حالة، وموافقة لغيره تعين له الضرب
1 يأتي الحديث عن الحرابة في الباب الثاني.
2 الآية 33 من سورة المائدة.
والنفي أي يضربه وينفيه، ثم إن الإمام هو الذي يعين ما يفعل بالمحارب من العقوبات الأربع المذكورة1.
هذه نظرات إجمالية تقتضي البيان بذكر آراء الفقهاء، والعقوبة التي جعلوها قرينة كل من أفعال الحرابة.
هذه الأفعال التي لا تخرج في جملتها عما يأتي:
1-
إخافة السبيل دون أخذ مال أو قتل.
2-
إخافة السبيل وأخذ المال لا غير.
3-
إخافة السبيل والقتل دون أخذ المال.
4-
إخافة السبيل وأخذ المال والقتل.
ولكل مذهب من المذاهب الفقهية رأيه حيال عقوبة كل فعل من هذه الأفعال، وسأحاول فيما يأتي ذكر ما يلقي الضوء على هذه الآراء.
أولًا: عقوبة إخافة السبيل دون أخذ مال أو قتل
يرى الإمام أبو حنيفة، والإمام أحمد أنه إذا خرج فرد، أو جماعة محاربين فقطعوا الطريق، ثم استطاع الإمام أخذهم قبل أن يحدثوا جناية أخرى من الجنايات التي يحدثها أمثالهم، فإن عقوبتهم حينئذ هي النفي.
وقد قرر الإمام الشافعي، وبعض فقهاء الشيعة أن الإمام إذا علم
1 فتح القدير ج5 ص423 بدائع الصنائع ج7 ص93، المغني ج8 ص298، ص299، مغني المحتاج ج4 ص182 شرح الأزهار ج4 ص377 الخرشي ج8 ص106، تفسير القرطبي ج3 ص2149 ط دار الشعب.
أن قومًا يخيفون الطريق، ولم يأخذوا مالًا، ولم يقتلوا نفسًا عزرهم بحبس وغيره، ويظل الحسب واقعًا بهم حتى تظهر توبتهم1.
ويرى الإمام مالك وابن حزم، ومن وافقهما أن الإمام مخير في هؤلاء بين النفي، أو القطع أو القتل أو الصلب، وذلك طبقًا لما قالوا به من أن العقوبة هنا تخيير به يختار الإمام منها ما يناسب الحالة، ويؤدي إلى العلاج2.
وقد أطلق النفي إطلاقات عدة منها أن المراد بالنفي الطرد من دار الإسلام، وهذا ما ذهب إليه ابن القيم.
وروي عن ابن عباس أن المراد بنفي هؤلاء طلب الإمام لهم ليقيم فيهم حدود الله.
وقال ابن سريج: نفيهم حبسهم في بلد غير بلدهم، وهذا ما قال به الإمام مالك؛ لأن إخراجهم إلى مكان يقطعون فيه الطريق، ويؤذون به الناس لا يفي بالغرض الذي تهدف إليه عقوبتهم.
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفية من بلد إلى بلد فيؤذيهم، وهذا هو الرأي] ؛ لأن تركهم بعد نفيهم فيح حث لهم على
1 فتح القدير ج5 ص423، بدائع الصنائع ج7 ص97، المغني ج8 ص294، مغني المحتاج ج4 ص181، أسنى المطالب ج4 ص154-155، شرح الأزهار ج4 ص376، مباني تكملة المنهاج ج1 ص318.
2 المدونة ج16 ص98-99، الخرشي ج8 ص106، شرح الزرقاني ج8 ص110-111 المحلى ج13 ص314.
مواصلة جرائهم، كما أن نقلهم من بلد إلى أخرى لحبسهم هناك، لا طائل من ورائه، ما دام حبسهم في البلد الذي أخذوا فيه سيحقق الهدف من العقوبة.
وقد ذكر ابن القيم أن نفيهم يحتمل أن يكون مدة عام كالنفي في الزنا، أو يكون حتى تظهر توبتهم1.
والذي أرجحه هو أن لا يقتصر في النقل على عام، وإنما يظل النفي حتى تظهر توبتهم، ولا مجال لقياس النفي هنا في جريمة الزنا، لاختلاف ما يقصد من وراء النفي في كل.
ثانيًا: عقوبة إخافة السبيل، وأخذ المال
إذا قطع المحاربون السبيل على المارة، وأخذوا مالًا -على التفصيل الذي أورده الفقهاء، فيما يطقع به من المال- فإن الإمام أبا حنيفة والشافعي، وابن حنبل وبعض الشيعة يرون قطع المحاربين من خلاف، فتقطع يد كل منهم اليمنى، ورجله اليسرى.
وقد فصل الفقهاء القول في ذلك، وفي حالة ما إذا كانت إحدى يديه، أو رجله أو كلاهما مقطوعة أو شلاء2.
1 القرطبي ج3 ص2149-2150 ط دار الشعب، المغني ج8 ص94.
2 يقول الشيرازي: وإن سرق وله يد ناقصة الأصابع قطعت؛ لأن اسم اليد يقع عليها، وإن لم يبق غير الراحة، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع وينتقل الحد إلى الرجل؛ لأنه قد ذهبت المنفعة المقصودة بها، ولهذا لا يضمن بأرش مقدر، فصار كما لو لم يبق منها شيء، والثاني: أنه يقطع ما بقي =
أما قطع يد المحارب فللسرقة، وأما قطع رجله للحرابة وإخافة السبيل، وهي الحالة التي صاحبت السرقة، وتمت السرقة في ظلها وتحت وطأتها، تغليظ للعقوبة لتناسب الجناية1.
وقد ذهب الإمام مالك وابن حزم، ومن وافقهما إلى القول بأن الإمام مخير ينزل بالمحاربين العقوبة التي يراها مناسبة من بين العقوبات التي تحدث عنها الآية الكريمة2.
= لأنه جزء من العضو الذي تعلق به القطع فوجب قطعه، كما لو بقيت أنملة فإن سرق وله يد شلاء، فإن قال أهل الخبرة: إنها إذا قطعت انسددت عروقها قطعت، وإن قالوا: لا تسد عروقها لم تقطع؛ لأن قطعها يؤدي إلى أن يهلك.
المهذب ج2 ص283، ويقول ابن قدامة: وإن سرق من يده اليسرى مقطوعة أو شلاء، أو مقطوعة الأصابع، أو كانت يداه صحيحتين قطعت اليسرى، أو شلت قبل قطع يمناه لم تقطع يمناه على الرواية الأولى، ويقطع على الثانية.. وفي قطع رجل السارق وجهان: أصحهما لا يجب؛ لأنه لم يجب بالسرقة، وسقوط القطع عن يمينه لا يقتضي قطع رجله كما لو كان المقطوع يمينه، والثني: تقطع رجله.. وإن كانت يمناه صحيحة ويسراه ناقصة نقصًا يذهب بمعظم نفعها مثل أن مذهب منها الإبهام أو الوسطى، أو السبابة احتمل أن يكون كقطعها وينتقل إلى رجله، وهذا قول أصحاب الرأي، واحتمل أن تقطع يمناه؛ لأن له يد ينتفع بها. المغني ج8 ص266.
1 فتح القدير ج5 ص423، أسنى المطالب ج4 ص115، المهذب ج2 ص284 مغني المحتاج ج4 ص181، المغني ج8 ص288، شرح الأزهار ج4 ص377.
2 شرح الزرقاني ج8 ص110-111، الخرشي ج8 ص105، للمحلى ج13 ص314 تفسير القرطبي ج3 ص2148-2148 ط دار الشعب مباني تكملة المنهاج ج1 ص318.
ثالثًا: عقوبة إخاقة السبيل والقتل دون أخذ مال
إذا قتل قطاع الطريق ولم يأخذوا مالًا، فإن الإمام أبا حنيفة والشافعي وغيرهما، ورواية عن الإمام أحمد، أن الإمام في هذه الحالة يجب عليه قتلهم حتعى وإن عفا أولياء الدم، فإن عفوهم لا يقبل؛ لأن الحد هنا خالص لله تعالى، ولا يسمع فيه عفو غيره.
وقد جاءت رواية عن الإمام أحمد أن المحاربين هنا يصلبون بعد قتلهم، كالذين أخذوا المال.
وقد روى ابن قدامة هذه الرواية مستدلًا بالخبر المروي في مثل هؤلاء، والذي جاء فيه:"ومن قتل ولما يأخذ المال قتل ولم يذكر صلبًا".
ولأن جنايتهم بأخذ المال مع القتل تزيد على الجناية بالقتل وحده، فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ، ولو شرع الصلب هنا لاستويا، والحكم في تحتم القتل وكونه حدا ههنا، كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال1.
والإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- قد ذهب إلى أن الإمام مخير في هذه الحالة بين شيئين فقط.
أحدهما قتلهم فقط، وثانيهما صلبهم ثم قتلهم، ولا خيار للإمام في هذه الحالة غير هاتين الحالتين2.
1 فتح القدير ج5 ص423، مغني المحتاج ج4 ص182، المهذب ج2 ص284 المغني ج8 ص292.
2 المدونة ج16 ص99، شرح الزرقاني ج8 ص110-111 الخرفس ج8 ص105 حاشية الدسوقي ج349.
رابعًا: عقوبة إخافة السبيل، وأخذ المال والقتل معًا
أما الظاهرية فهم على رأيهم بأن الإمام مخير في كل الحالات يختار ما يناسب من العقوبة، بشرط ألا يجمع على المحارب عقوبتين من العقوبات التي ذكرتها الآية الكريمة1.
إذا أخذ المحاربون المال، وقتلوا فالإمام أبو حنيفة يرى أن ولي الأمر بالخيار في أن يقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف ثم يقتلهم ويسلبهم، أو يقتلهم فقط دون صلب أو قطع، وله أيضًا صلبهم أحياء ثم قتلهم.
واشترط أبو يوسف الصلب للنص عليه.
ورأي محمد بن الحسن أن للإمام قتلهم وصلبهم، وليس له قطعهم، وقد وافق رأي محمد بن الحسن كل من الإمام الشافعي والإمام أحمد، والشيعة الزيدية2.
1 يقول ابن حزم بعد مناقشة لآراء من جمع بين عقوبتين: فصح يقينا أن الله تعالى لم يوجب قط عليهم حكمين من هذه الأحكام، ولا أباح أن يجمع عليهم خزيين من هذه الأخزاء في الدنيا، وإنما أوجب على المحارب أحدها لا كلها. ولا اثنين منها ولا ثلاثة، فصح بهذا يقينا لا شك فيه أنه إن قتل فقد حرم صلبه وقطعه ونفيه، وإنه إن قطع فقد حرم قتله وصلبه وقطعه، وإنه إن صلب فقد حرم قتله وقطعه ونفيه، لا يجوز ألبتة غير هذا، فحرم بنص القرآن صلبه أن قتل، المحلى ج13 ص335، والإمام مالك -لا يرى أن صلبهم وقتلهم عقوبتان، وإنما هما عقوبة واحدة؛، لأن الصلب عنده من صفات القتل، الخرشي ج8 ص105.
2 فتح القدرير ج5 ص425، مغني المحتاج ج4 ص182، المغني ج8 ص290 شرح الأزهار ج4 ص377.
أما فقهاء الشيعة الجعفرية فإنهم يرون، أن على الإمام أن يقطع اليد اليمنى للمحاربين الذين أخذوا المال وقتلوا، ثم يدفعهم إلى أولياء المقتول، فيتبعونهم بالمال، ثم يقتلونهم وإن عفا عنهم أولياء المقتول كان على الإمام قتل المحاربين. ولا يجوز لأولياء المقتول أن يأخذوا من المحاربين الدية، ويتركوهم1.
وقد أثار ابن قدامة مسألة التكافؤ بين القاتل والمتقول، وبين أنه قد ورد فيها روايتان:
إحداهما: لا يعتبر التكافؤ وعلى هذا يقتل المسلم بالذمي، والأب بالابن وذلك؛ لأن القتل حد لله تعالى، فلا تعتبر فيه المكافأة.
الثانية: تعتبر المكافأة لما ورد من أنه لا يقتل مسلم: بكافر والحد فيه انحتامه2، بدليل أنه لو تاب قبل القدرة عليه سقط انحتامه، ولم يسقط القصاص.
فعلى هذه الرواية إذا قتل المسلم ذميًا، أو الحر عبد وأخذ ماله، قطعت يده ورجله من خلاف لأخذه المال، وغرم دية الذمي، وقيمة العبد، وإن قتله ولم يأخذ مالًا غرم دينه ونفي، وذكر القاضي: إنه يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال، وإن قتله لغير ذلك من عداوة مثلًا كانت بينهما، فالواجب القصاص3.
1 مباني تكملة المنهاج لأبي القاسم الموسوي ج1 ص318 ج النجف الأشراف.
2 الحتم: القضاء، قال ابن سيده: الحتم إيجاب القضاء وحتمت عليه الشيء: أوجبت: وانحتم الأمر: وجب وجوبًا لا يمكن إسقاطه. لسان العرب والمنجد مادة حتم.
3 المغني ج8 ص290.
والذي أميل إليه أن المحارب الذي قطع الطريق، وقتل المارة تجب معاقبته بالقتل حدا لا قصاصًا بصرف النظر عما قيل من تكافؤ، سواء صاحب القتل أخذ مال أم لم يصاحبه.
لأن اشتراط أخذ المال لإيجاب القتل حدا على المحارب الذي وقع منه القتل اشتراط في غير محله.
لجواز أن المحارب قتل بهدف أخذ المال، ثم بعد أن نفذ القتل لم يجد مع المقتول مالًا.
فكيف ترتب على عدم وجود المال مع المقتول حينئذ تغاير العقوبة من القتل حدا إلى القتل قصاصًا.
وكذا من قتل حال حرابته شخصًا، ثم ادعى أنه قتله لعداوة بينهما، فإن ما ادعاه
حتى ولو كان صحيحًا لا يجوز أن يعد مبررًا؛ لأن تغاير بين عقوبته وجعلها القتل قصاصًا بعد أن كانت القتل حدًا.
لأنه لا يخفى ما في ذلك من فتح باب الهروب من العقوبة بدفع الدية، الأمر الذي يغري المحاربين بارتكاب عديد من جنايتهم، وقتلهم للأبرياء.
والأولى بهم إن كانوا يبحثون عن باب للنجاة الحقة، هو أن يتوبوا ويبادروا بالعودة إلى الله؛ لأن في ذلالك نجاة حقيقية لهم في الدنيا والآخرة.
هذا ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه القائل بالترتيب.
أما الإمام مالك، وابن حزم، ومن ذهب معهم إلى القول بالتخيير فهم هنا، وفي حالة القتل، ولإخافة السبيل دون أخذ مال، قد حكموا على
المحاربين بعقوبة متوافقة، من صلب وقتل عند الإمام مالك، ومن تطبيق عقوبة واحدة عند ابن حزم.
والذي أرجحه في كل ما سبق هو أن الإمام ملزمًا بالترتيب، وليس به اختيار العقوبة حسب ما يرى ويرغب؛ لأن عقوبات الحدود من سماتها، أن الشارع الحكيم قد حددها تحديدًا دقيقًا، ولم يبق لولي الأمر إلا إثبات الجناية فقط، والقول بالتخيير يتعارض مع هذا، كما أنه يفتح باب المجاملة ومراعاة الأشخاص، الأمر الذي كم عانت منه النظم الوضعية، والذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
عقوبة شرب الخمر:
اتفق الفقهاء على تحريم شرب الخمر1، ووجوب عقاب شاربها، وأن عقوبته هي الجلد، ولكنهم لم يتفقوا على مقدار هذه العقوبة، فقد حددها فقهاء الأحناف، والمالكية، والغالب عن الحنابلة ثمانين جلدة.
أما فقهاء الشافعية، والظاهرية، ومن وافقهم من الشيعة، وما جاء في رواية عن الإمام أحمد، فإنهم ذهبوا إلى أن حد شرب الخمر أربعون جلدة.
واستدل كل لرأيه بأدلة.
أولًا: ما استدل به القائلون بأنها ثمانون جلدة:
1-
لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشارب خمر، وكان عنده صلى الله عليه وسلم أربعون رجلًا أمرهم أن يضربوه، فضربه كل رجل منهم بنعليه، فكان ذلك في معنى ثمانين جلدة2.
1 يأتي تعريف الخمر في الباب الثاني من هذا البحث.
2 صحيح الترمذي بشرح ابن العربي ج6 ص221.
2-
سأل خالد بن الوليد أمير المؤمنين عمر -رضي الله تعالى عنه- حين انهمك من عنده في شرب الخمر وتحاقروا العقوبة، فاستشار عمر -رضي الله تعالى عنه- أصحابه، ومنهم المهاجرون والأنصار، فأجمعوا على أن يضرب الشارب ثمانين، وقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد، وأبي عبيدة بالشام1.
3-
روي أن عليًا -رضي الله تعالى عنه- قال: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة2.
أما ما استدل به القائلون بأن عقوبة شارب الخمر أربعون، فهو ما يأتي:
1-
روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر، فضربه بالنعال نحوا من أربعين3.
2-
ما روي من أن عليًا -رضي الله تعالى عنه- جلد الشارب أربعين ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر أربعين، وكل سنة وهذا أحب إلي4.
1 صحيح مسلم بشرح النووي ج4 ص289، سنن أبي داود ج2 ص472.
2 نيل الأوطار ج7 ص163، تفيسر ابن كثير ج3 ص265. فتح القدير ج5 ص310.
3 صحيح مسلم بشرح النووي ج4 ص289.
4 المرجع السابق ص290-291، مختصر المازني على الأم ج5 ص174، المغني ج8 ص307، مغني المحتاج ج4 ص189.
هذا جانب من أقوال الفقهاء في عقوبة شارب الخمر.
كما روي أيضًا عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم "ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين".
وروي عن السائب بن يزيد قوله: كنا نؤتي بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا، وأرديتنا حتى كان آخر أمره عمر، فجلد أربعين حتى إذا عفوا أو فسقوا جلد ثمانين1.
من هذا كله، وما ماثله يبين أن القرآن لم يات بنص يبين مقدار العقوبة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد مقدار عقوبة شارب الخمر، وأنه كان يأمر بضرب شارب الخمر دون أن يحدد للضاربين عددًا مبينًا.
ولهذا فإن الصحابة الأطهار لم يتفقوا على مقدار معين، وإنما؛ لأنهم فهموا أن المقصود ردع الشاربين وزجرهم، اجتهدوا في تقدير ما يحقق ذلك، فقدر أبو بكر العقوبة بأربعين جلدة، وتبعه في ذلك أمير المؤمنين عمر في أول خلافته، فلما تحاقر المجرمون هذه العقوبة ردها أمير المؤمنين بمشورة أصحابه إلى ثمانين.
بل إن أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- لم يقرر أربعين جلدة، إلا بعد أن يسأل أصحابه، وإذا كان أبو بكر، وهو صاحب الرسول
1 صحيح البخاري ج8 ص196، 197 ط دار الشعب بالقاهرة.
ورفيقه لا يعلم لهذه العقوبة مقدار معينًا قد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان عمر -رضي الله تعالى عنه لا يعلم أيضًا مقدارًا معينا قد ورد عن الرسول في ذلك، وإذا كان علي -رضي الله تعالى عنه- قد لجأ إلى القياس لاستخراج مقدار معين للعقوبة، فجعلها تساوي عقوبة الافتراء، إذا كان ذلك كله قد وقع، فلا أدل منه على أن عقوبة شرب الخمر عقوبة تعزيرية يترك تقدير عدد الجلدات فيها لولي الأمر، حسب ظروف الأمة، وأحوال الرعية أما ما استدل به القائلون بأن عقوبة شرب الخمر عقوبة حدية مقدرة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ضرب في شرب الخمر أربعين، وأن أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه قد تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكذلك عمر في أول ولايته، وقال هؤلاء: لو كانت عقوبة شرب الخمر تعزيرية من أول أمرها لما كتب خالد إلى عمر -رضي الله تعالى عنهما يستشيره، ويأخذ رأيه في زيادة العقوبة لما شاعت هذه الجريمة، وتحافر الناس عقوبتها1.
وما استدل به هؤلاء هو نفسه يرد عليهم، ويدرأ مقالتهم وذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد ضرب بعض شاربي الخمر أربعين، فإنه أيضًا قد ورد عنه لما أتى بشارب وهو بحنين، حثا في وجهه التراب، ثم أمر أصحابه فضربوه بنعالهم وما كان في أيديهم، حتى قال لهم:"ارفعوا" فرفعوا.
فهو عليه الصلاة والسلام، هنا تركهم يضربون الشرب حتى وجد أن فيما ضرب كفاية لزجره، وردعه هو أو أمثاله.
ومن هنا، فإن الصحابة الأجلاء لم يعرفوا لهذه العقوبة حدا معينًا.
1 البخاري بشرح الكرماني ج23 ص182-184، نيل الأوطار ج7 ص157.
ولو عرفوا لما استطاع أحد منهم أن يخالف ذلك الحد، ولما سأل أبو بكر، ولكان هذا الحد قد عرف، واشتهر كباقي الحدود، ولما كان باستطاعة عمر أن يزيد، ولا لعلي أن يقبس؛ لأن عقوبات الحدود لا تثبت بالقياس.
أما سؤال خالد لأمير المؤمنين عمر -رضي الله تعالى عنهما-، فإنه لا يصلح دليلًا على كونها عقوبة محددة.
فخالد قد سأل؛ لأن عمر حدد له مقدارًا معينا، فكيف لخالد أن يخالفه، فلا بد له من مشورة عمر ورأيه.
كما أن العقوبة التعزيرية إن كانت تقدر بأمر من ولي الأمر، فإن خالد لا بد وأن يسأل عمر ليقدر عمر له، وإن كان أمرها متروكًا للقاضي، فإن سؤال خالد يكون من باب الاستئناس برأي أمير المؤمنين، ولا يؤخذ ذلك على أنها عقوبة حدية لسؤال خالد أمير المؤمنين.
ولأنه قد روي عن علي بن أبي طالب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسن في ذلك سنة"1، وليس أصرح من هذا في أن عقوبة شارب الخمر عقوبة تعزيرية، وليست عقوبة حدية.
هل يقتل شارب الخمر في المرة الرابعة:
ذهب ابن حزم إلى أن شارب الخمر يقتل في المرة الرابعة، واستدل على ذلك بأحاديث كثيرة مروية، عن طريق معاوية بن أبي
1 نيل الأوطار د7 ص159، سنن أبي داود ج2 ص475، المدخل للفقه الإسلامي أ. د/ سلام مدكور ص738، المسئولية الجنائية أ. د/ سلام مدكور ص17.
سفيان، وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما، جاء فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم".
وقال أيضًا: "إذا سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه"1.
يقول ابن حزم معلقًا على ذلك: فكانت الرواية في ذلك عن معاوية، وأبي هريرة ثابتة تقوم بها الحجة
…
وقد صح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الشارب في المرة الرابعة ولم يصح نسخه، ولو صح لقلنا به -ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم-2.
أما جمهور الفقهاء، فقد ذهبوا إلى أن هذا منسوخ، واستدلوا لذلك بما رواه الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن شرب الخمر فاجلوده، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به الثانية فجلده، ثم أتي به الثالثة فجلده، ثم أتي به الرابعة فجلده، ووضع القتل فكانت رخصة"، ثم يقول الإمام الشافعي: والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره وهذا مما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته3.
1 سنن أبي داود ج2 ص473-474.
2 المحلى ج13 ص418-426.
3 الأم للإمام الشافعي ج6 ص130 ط دار الشعب، سنن أبي داود ج2 ص474.
والواقع يشهد لما قال به الإمام الشافعي من أن ذلك نسخ ما جاء، فيما رواه معاوية؛ لأن الحديث اللاحق ينسخ ما سبق، وقد كان ذلك الذي رواه الإمام الشافعي بعد الفتح متأخرًا عما رواه معاوية الذي أسلم قبل الفتح1.
كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل شاربًا للمرة الرابعة، ولو كان فعل ذلك لاشتهر عنه، لكنه له يعرف، كما لم يقل به أحد من الصحابة الأجلاء، حتى زمن تفشي هذه الجريمة في عهد عمر -رضي الله تعالى عنه-، الأمر الذي دعاه لاستشارة الصحابة، فأشاروا عليه برفع العقوبة إلى ثمانين جلدة، ولم يشر عليه أحد بقتل الشارب للمرة الرابعة.
هذا ما أميل إليه وأرجحه، ويمكن لولي الأمر حبس مدمن الخمر إذا رأى في ذلك علاجًا له خصوصًا، وقد أنهيت إلى أن العقوبة هنا كلها عقوبة تعزيرية.
عقوبة القذف:
حدد الله سبحانه وتعالى عقوبة القذف2 بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.
1 نيل الأوطار ج7 ص165-168 ط مصطفى الحلبي ط الأخيرة.
2 يأتي تعريف القذف بالباب الثاني.
3 الآيتان: 4-5 من سورة النور.
فهذا النص القرآني الكريم قد اشتمل على عقوبتين للقذف.
إحداهما عقوبة أصلية وهي الجلد، والثانية عقوبة تبعية وهي عدم قبول الشهادة.
العقوبة الأولى:
حدد الله سبحانه وتعالى عقوبة القذف بثمانين جلدة1.
وللفقهاء آراء في إمكان إسقاط هذه العقوبة بعفو المجني عليه، وهم يربطون بين ذلك، وبين اشتراط مطالبة المقذوف، وقيامه برفع الدعوى أمام القاضي.
فقهاء الشافعية، والحنابلة يرون أن عقوبة القذف حق للآدمي، ومن ثم فلا بد من مطالبته بها، وإقامة الدعوى منه على الجاني، كما أنهم جعلوا له حق إسقاط العقوبة بعفوه عن الجاني؛ لأنه لما كانت هذه العقوبة لا تستوفى إلا بعد مطالبته بها، فإنها تسقط بعفوه كالقصاص.
كما أنها لا تقام بقذف الوالد ولده، وإن نزل، وقد وافقهم في ذلك أبو يوسف، فأسقطها بعفو المجني عليه2.
أما جمهور فقهاء الأحناف والظاهرية، فإنهم يرون أن عقوبة القذف حق لله تعالى؛ لأن الفائدة تعود من إقامتها إلى المجتمع كله.
1 إذا كان مرتكب الجريمة من الأحرار، إما إذا كان عبدًا، فإنه يلزم نصفها وهو أربعين جلده نظرًا؛ لأنها عقوبة تبعض فيكون العبد فيها على النصف من الحر، المغني ج8 ص217، الخرشي ج8 ص88، المهذب ج2 ص72، فتح القدير ج5 ص319.
2 المهذب ج2 ص74، المغني ج8 ص217-219، تحفة المحتاج لابن حجر ج7 ص120 فتح القدير ج5 ص327.
ويتحقق بها صيانة سمعة الأفراد، وحفظ أنسابهم، وما كان نفعه عامًا اعتبر الحق فيه لله سبحانه وتعالى1.
أما فقهاء المالكية، فإنهم يفرقون بين العقوبة قبل رفع الدعوى للقاضي، وبينهما بعد رفع الدعوى.
فالعقوبة عندهم حق للآدمي طالما يرفع الدعوى للقاضي، فإذا قام برفع الدعوى، فإن العقوبة حينئذ تصبح حقًا لله سبحانه وتعالى.
فلا تسقط بعفوا المجني عليه.
كما ذهب فقهاء المالكية إلى أن الحد لا يجب للولد على ابنه، وهذا هو الراجح، وذكر بعضهم أنه إذا طالب الابن حد الأب، وعد الابن فاسقا، هذا رأي عند المالكية، وإن كانت المعتمد عندهم أنه لا حد على الأب لو صرح لولده.
كما يرون أن من قذف كافرًا أو عبدًا، فلا حد له عليه ما لم يكن أبوا الرقيق حرين مسلمين2.
من هذا يبين أن من الفقهاء من جعل عقوبة القذف حقا للآدمي، وأسقطها بعفوه عن الجاني.
ومنهم من جعلها حقا لله، فلم يسقطها بعفو المجني عليه.
ومنهم من فصل القول، وفرق بينهما قبل رفع الدعوى وبعدها.
وهذا الخلاف أساسه ما ذهب إليه بعضهم من اشتراط مطالبة المقذوف، وإقامته للدعوى.
1 بدائع الصنائع ج7 ص56، وما بعدها شرح فتح القدير ج5 ص319، وما بعدها المحلى لابن حزم ج13 ص287-290.
2 الخرشي ج8 ص88-90، حاشية الدسوقي ج4 ص327 وما بعدها.
والذي أميل إليه وأرجحه، أن الأعتداء هنا قد وقع على حقين حق لله سبحانه وتعالى، وهو ما يمس المجتمع وسمعة الأفراد، وحق للعبد وهو ما تعرض له شرفه ونسبه عن ضرر، وأذى غير أن حق العبد هنا هو الحق الغالب، وعليه فلا بد من مطالبته بحقه، وإقامته للدعوى، مادام قادرًا على ذلك، فإذا لم يطالب بحقه ولم يقم الدعوى، ويثبت الجناية عند القاضي، وأمكن القاضي أن يلزم الجاني بعقوبة تعزيرية مناسبة، ولا يلزمه بالعقوبة الحدية لعدم مطالبة المجني عليه التي تحتمل معها الشبهة.
أما إذا أقام المجني عليه الدعوى، وثبتت الجناية، فإن الحق هنا أصبح حقا لله سبحانه وتعالى، ولا يسقط بعفو المجني عليه.
كما أن قذف الوالد لولده لم تلزم به العقوبة الحدية، إلا أن للقاضي أن يقيم على الوالد عقوبة تعزيرية مناسبة لتعريضه للضرر.
عقوبة الردة:
يرى جمهور الفقهاء أن من ارتد من المسلمين يجب قتله أن لم يعد إلى الإسلام بعد عرضه عليه، عملًا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه"1.
والمراد من بدل دين الإسلام الذي اعتنقه، وخرج منه إلى دين الكفر وجب قتله.
1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص21، البخاري بشرح ابن حجر ج2 ص267.
ولا يجوز الاعتراض بأن الحديث على عمومه، فيشمل كل دين.
لأن الدين الذي ورد في الحديث هو الإسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلام} 1.
كما أن الكفر ملة واحدة، فقد بين ذلك الإمام مالك بقوله: لم يعن بذلك فيما نرى والله أعلم، من خرج من اليهودية إلى النصرانية، ولا من النصراية إلى اليهودية، ولا من يغير دينه من أهل الأديان كلها، إلا الإسلام.
فمن خرج من الإسلام إلى غيره، وأظهر ذلك، فذلك الذي عني به، والله أعلم2، هذا ما ذهب إليه الجمهور من أن من خرج من الإسلام إلى غيره، وجب قتله رجلًا كان أو امرأة.
وإن كان الإمام أبو حنيفة، وبعض فقهاء الشيعة لا يرون قتل المرأة إذا ارتدت: وقالوا بأنها تجبر على الإسلام بأن تحبس، ثم يعرض عليها الإسلام، فإن أسلمت كان بها، وإلا ظلت في حبسها حتى تموت.
واعتمدوا في ذلك على ما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن قتل المرأة الكافرة، فإذا كانت المرأة لا تقبل بالكفر الأصلي، فالأولى لا تقتل بالكفر الطارئ.
وقد ورد الفقهاء على ذلك بأن امرأة يقال لها: أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن تستتاب
1 من الآية 19 من سورة آل عمران.
2 فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج12 ص272، الموطأ ص459 ط دار الشعب.
فإن تابت وإلا قتلت؛ ولأنها شخص مكلف بدل دينه، فتقتل كالرجل1.
أما نبي الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المرأة الكافرة، فالمراد بها الكافرة الأصلية؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة، وكانت كافرة أصلية، ولذا فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى الذين بعثهم للدفاع عن الإسلام -عن قتل النساء، ولم يكن فيهم مرتدة، كما نهى عن قتل الأطفال والشيوخ.
ويخالف الكفر الأصلي الكفر الطارئ، بدليل أن الرجل يقر على كفره الأصلي، والإسلام قد نهى عن قتل أهل الصوامع، والشيوخ، والمكافيف عند فتحه لبلاد الكفر2.
وذهب النخعي إلى أن المرتد يستتاب أبدًا رجلًا كان أو امرأة، ووافقه في ذلك غير من تحدث عنهم ابن حزم، وأورد مقالتهم دليلهم رواه الشعبي، عن أنس بن مالك: أنا أبا موسى الأشعري قتل جحينه الكذاب وأصحابه، قال أنس: فقدم على عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، وهل كان سبيل إلا القتل؟. فقال عمر: لو أتيت بهم لعرضت عليهم الإسلام، فإن تابوا وإلا استودعتهم السجن، وقد رد ابن حزم هذا القول؛ لأنه لو صح في رأيه لبطل الجهاد جملة؛ لأن الدعاء يلزم أبدًا مكررًا بلا نهاية، وهو يرى أن مثل هذا القول لا يقول به مسلم3.
1 بدائع الصنائع ج7 ص135، نيل الأوطار ج7 218 مباني تكملة المنهاج؟؟؟ ص330-331 مغني المحتاج ج4 ص39. المحلى لابن حزم ج13 ص119 وما بعدها.
2 المغني ج8 ص123-124، نيل الأوطار ج7 ص218.
3 المرجع السابق ص217-221، الموطأ للإمام مالك ص310 المحلى ج13 ص124-125.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء في عقوبة الردة، وقد أورد الشيخ شلتوت والدكتور العوا أقوالًا حولا ما استدل به الجمهور من حديث:"من بدل دينه فاقتلوه"، وأنه حديث أحاد، وحديث الأحاد لا يثبت به حد، وعليه فإن عقوبة الردة ليست عقوبة حدية، وإنما هي عقوبة تعزيرية يستطيع الإمام أن يصل بها إلى حد القتل، كما أن له قتل شارب الخمر في المرة الرابعة1.
كما أن الدكتور العوا يرى صرف الأمر في حديث: "من بدل دينه، فاقتلوه" من الوجوب إلى الإباحة، واستدل لذلك بأدلة كثيرة أهمها ما رواه البخاري، ومسلم من أن أعرابيًا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءه، فقال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى فخرج الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما المدينة تنفي خبثها، وينصع طيبها"، وقد ذكر الحافظ ابن حجر، والإمام النووي نقلًا من القاضي أن الأعرابي كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم-2.
وقد حاول من ساق هذا الحديث الاستدلال به على أن هذه حالة ردة ظاهرة، ومع ذلك لم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل، ولا أمر بعقابه بل ترك يخرج من المدينة دون أن يتعرض له أحد.
1 الإسلام عقيدة وشريعة للإمام محمود شلتوت ص301 ط دار الشروق، في أصول النظام الجنائي الإسلامي أ. د/ محمد سليم العواص 150-155 ط دار المعارف.
2 البخاري بشرح ابن حجر ج4 ص96 وما بعدها، مسلم بشرح النووي ج9 ص455-، وما بعدها في أصول التشريع الجنائي الإسلامي أد/ محمد سليم العوا ص152 ط دار المعارف -يراجع في ذلك المحلى ج13 ص119 وما بعدها، المصنف لعبد الرازق الصنعاني ج10 ص164، وما بعدها.
وليس لمن أورد هذا الحديث أن يستدل به على ذلك.
لأن من روى الحديث لم يورد أن إشارة تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يأمر بعقاب هذا الرجل، أو لم يتعرض له.
فكيف استخلص ذلك، وهو أمر لا يجوز استنتاجه من غير دليل صريح؟.
كما أن من قال: إن الرجل كان يطلب إقالته من الإسلام لم يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقش الرجل، أو استتابه أو نظر فيما دعاه إلى الرجوع عن الإسلام، وهو أمر لا يجوز من أحد خصوصًا رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-، وإلا كنا غير مطالبين باستتابة المرتد، ومناقشته- وهو ما لم يقل به أحد، ثم إن الحديث جاء فيه أن الرجل أصابه وعك بالمدينة، فهو إذا طلب الخروج من المدينة لعدم احتماله جوها، مثلًا بدليل ما أصابه من وعك، وليس طلب الخروج، والإقالة نتجا عن ارتداده عن الدين؛ لأن من يرتد لا يأتي يستأذن الرسول عله يقيله من دينه خصوصًا، وأنه لن يعاقب على حد قول هؤلاء، هذا أمر بعيد الاحتمال، ولا يدل عليه الحديث، وليس في ذلك العقاب على الرده بالقتل إكراه على الدخول في الإسلام؛ لأنه لا يعاقب بها إلا من كان مسلمًا، وأراد أن يهزا بالإسلام، وفرق كبير بين الحالين، هذا ما أرجحه واختاره.
سمات تمتاز بها العقوبة الحدية:
تمتاز العقوبات الحدية عن غيرها من باقي العقوبات التي تقررها الشريعة الإسلامية، سواء أكانت عقوبات قصاص أو تعزير، نص عليها المشرع الحكيم، أو حددها ولي الأمر.
فعقوبات القصاص، وإن كان الشارع هو الذي وضعها، وبين حدودها إلا أنها حق للعباد يمكنهم التنازل عنها في أي مرحلة من مراحل إقامة الدعوى، أو بعد الحكم بها.
كما أن العقوبات التعزيرية التي يقررها الحاكم، وإن وضع لها حدا ما إلا أنه حد مرن إذ يمكن للقاضي أن يختار العقوبة المناسبة للواقعة التي ينظرها، ومن بين ما وضعها ولي الأمر، سواء أكان ذلك هو حد العقوبة التعزيرية الأعلى، أو الأدنى أو ما بينهما.
وقد لا يخلو الأمر عند القانونين أحيانًا من النزول عن الحد الأدنى للعقوبة المحددة قانونًا بتطبيق مواد قانونية تبيح للقاضي ذلك، وتلزمه في حالات معينة النزول عن الحد الأدنى المحدد قانونًا للعقوبة1.
ومن أهم ما تتميز به العقوبات الحدية ما يأتي:
1 تنقسم أسباب التخفيف إلى نوعين: أسباب تخفيف وجوبي يطلق عليها تعبير " الأعذار"، وأسباب تخفيف جوازي يطلق عليها تعبير "الظروف المخففة"، والفرق الجوهري بينهما أن التخفيف عند توافر القدر الزمني للقاضي في حين أنه جوازي عند توافر الظروزف المخففة، شرح قانون العقوبات القسم العام لكل من أد/ محمود نجيب حسني ص681ط 1977.
أد/ محمود مصطفى ص635، 638 ط 1974م.
أولًا: المشرع الحكيم هو الذي حددها، وبين نوعها ومقدارها، ولم يدع لغيره -حاكما كان أو محكومًا، قاضيا كان أم مقضيا عليه- أن يمس مقدارها بالزيادة أو النقصان، التغيير أو التبديل، أو الإسقاط عمن وجبت عليه، من غير مبيح
شرعي، وليس له أيضًا أن يلزم بها أحدًا من غير أن يكون قد ارتكب ما يقضي بإلزامها له.
وكل ما لهؤلاء هو أن يتحروا وجوبها على الجاني الذي وقع منه عما يوجبها عليه، وليست هناك شبهة في فعله، أو قصده.
كما أن على من يلزمه بها أن يدقق، ويمحص إدلة إثبات جناية الجاني بالصورة التي
رسمها الشرع الشريف.
ثانيًا: ليس لشخصية الجطاني أي اعتبار من حيث التأثير في كم العقوبة الحدية أوكيفيتها، إذ إن ذلك لا يختلف باختلاف الأشخاص.
ولا يعارض ذلك ما تجب مراعاته في الحكم بعقوبة الزنا من كون الزاني محصنًا، أو غير محصن إذ إن ذلك ليس راجعًا لاعتبار شخص، وإنما؛ لأن الشارع وضع لكل منهما عقوبة خاصة به.
ثالثًا: عقوبات الحدود إذا ثبتت جنايتها، فإن القاضي لا يملك إلا الحكم بعقوبة ما ثبت عنده، ولا يجوز له أن يحجم عن الحكم بالعقوبة الحدية التي ثبتت، ولا أن يقبل شفاعة أحد أيا كان الشافع، أو المشفوع له.
كما أنه ليس من حقه أيضًا أن يعفو عن الجاني إشفاقًا عليه أو رحمة به، وإن كان له أن يؤجل استيفاء الرجم مثلًا بالنسبة للحامل، حتى تضع حملها، وحتى ترضع1.
1 نيل الأوطار ج7 ص25 وما بعدها.
رابعًا: لا تجب العقوبات الحدية بشبهة، ولا تقام مع وجود الشبهة المعتبرة شرعًا، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء، ووافقهم ابن حزم في أنها لا تجب لشبهة.
ومبنى ذلك عند الفقهاء أن هذه العقوبات عقوبات شديدة، وجسيمة فلا بد إذن من تيقن وقوع جريمتها من الجاني، وإثبات ذلك عليه عند القاضي الذي يحكم الواقعة، إثباتًا بالصورة التي حددها الشرع.
والعقوبات الحدية تغاير في ذلك كله العقوبات التعزيرية؛ لأن الأخيرة عقوبات لم يرد نص من الشارع ببيان مقدارها فيه عقوبات تأديبية، يصلح بها الحاكم اعوجاج الأفراد، والمجتمع ولذا، فإن أمر تقديرها متروك لولي الأمر الذي يستطيع أن يقدرها بالصورة المناسبة، والتي قد تختلف من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، ومن زمان لآخر كما أنه يمكن لولي الأمر أن يسقط العقوبة التعزيرية عن الجاني مع ضمان حقوق الأفراد، إذا كانت الجناية متعلقة بها1.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن الإمام الشافعي، ومن وافقه يرون أن من حده الإمام، فترتب على حده تلف، فإنه لا ضمان فيه بخلاف ما يحدث من تلف نتيجة العقوبة التعزيرية، وإن كان الإمام أبو حنفية، ومن معه لا يرون فرقًا بينهما2.
1 الأحكام السلطاانية لأبي يعلى ص264. مغني المحتاج 400 ص193، شرح فتح القدير ج5 ص346.
2 فتح القدير ج5 ص352.