الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقسام الجريمة باعتبار العقوبة المستحقة
تختلف الجريمة قوة وضعفًا بقدر ما تحلق بالمجني عليه من ضرر، وبقدر ما تخيف المطمئنين، وتروع المجتمع الهادئ الآمن، وتهدر قيمه ومن هنا اختلف العقوبة المستحقة من جريمة إلى آخرى، ولذا يمكن أن تقسم الجرائم باعتبار العقوبات المترتبة إلى قسمين أساسيين:
القسم الأول: جرائم ذات عقوبة محددة من لدن الشارع الحكيم لا تتغير عقوبتها باختلاف زمان، أو مكان طالما وقعت الجريمة، وتحققت شروط إلزام عقوبتها.
وتنقسم هذه الجرائم المحددة العقوبة إلى:
1-
جرائم حدية إذا ثبتت على الجاني لزمته عقوبتها، ولم يعد لأحد الحق في إسقاط هذه العقوبة، أو استبدال عقوبة أخرى بها.
وهذه الجرائم هي: "أ" الزنا، "ب" شرب الخمر عند من يرى أن عقوبتها من العقوبات الحدية، "ج" السرقة، "د" القذف، "هـ" الردة، "و" الحرابة.
ويطلق الفقهاء على هذه الجرائم الحدود دون ذكر لفظ الجريمة، وعند الحديث عن العقوبة يذكرون لفظ الجريمة التي يعاقب عليها بعد ذكر كلمة الحد، فيقولون مثلًا: حد الزنا، ويريدون بذلك العقوبة المعاقب بها من أتى جريمة الزنا، وهكذا:
2-
جرائم القصاص والدية: وهي:
القتل العمد، أو شبه العمد، أو الخطأ، والجناية على ما دون النفس عمدًا أو خطأ1.
فهذه الجرائم كلها جرائم حدد المشرع عقوبتها، وجعل العقوبة فيها حقًا للمعتدى عليه، ثم لورثته من بعده.
فجرائم القصاص حدد الله سبحانه وتعالى عقوبتها، فيما جاء به القرآن الكريم من قول الله سبحانه وتعالى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.
1 يقصد بالاعتداء على ما دون النفس الاعتداء الذي لا ينتج عنه موت المعتدى عليه.
2 الآية: 178 من سورة البقرة.
"أ" دية تجب أصلًا على القاتل.
"ب" دية تجب بدلًا عن القصاص.
فالدية التي تجب أصلًا على القاتل هي: دية القتل الخطأ.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم حدودها بأن قضى أن من قتل خطأ، فديته مائة من الإبل1.
وقدرت الدية بثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، واستمر الأمر كذلك حتى استخلف عمر رحمه الله فقام خطيبًا فقال:
"ألا إن الإبل قد غلت ففرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح مقدارًا لم يحفظه من روى ذلك".
هذا وغيره مما ذكره المحدثون والفقهاء مطولًا في باب الدية2، أرى أن يلتزم به كحد أدنى للدية بالنسبة لكل ما تجب فيه الدية سواء أكان نفسًا بشرية أم عضوًا من الأعضاء، أو أكثر مع إمكان الزيادة على هذا المقدار على سبيل التعويض في حالة ما إذا كان الشخص المعتدى عليه ذا قيمة خاصة بين مواطنيه وأقرانه، وكذا بالنسبة للعضو الذي تعرض للتلف بسبب الاعتداء؛ لأن الأعضاء تتفاوت قيمتها من شخص
1 سنن أبي داود ج2 ص491-492 ط مصطفى الحلبي.
2 المراجع السابق. الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت ص399، وما بعدها ط مكتبة الجمهورية العربية، العقوبة للشيخ أبو زهرة ص606 وما بعدها ط دار الفكر.
النظام العقابي الإسلامي دراسة مقارنة د. أبو المعاطي حافظ ص 427، وما بعدها.
لآخر، إذ أن يد الفارس نفعها أكبر من يد العاطل، وقدم لاعب الكرة مثلًا -التي يعتمد عليها في مهارته- تزيد قيمة الاعتماد عليها عن قدم غيره، وهكذا كل عضو أساسي يعتمد عليه صاحبه أكثر من غيره من ذوي الحرف الأخرى في تحصيل كسبه، وإنقاذ عمله.
وقد يستأنس لذلك بما روي عن الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- من أنه كان يغلظ الدية الواجبة على الوالد الذي قتل ولده عمدًا1.
وبما روي عن الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه- من أنه كان يغلظ الدية في قتل الخطأ إذا كان القتل قد وقع في الحرم، أو في الأشهر الحرم، أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل2.
وقد روى مثل ذلك أيضًا عن الإمام أحمد -رضي الله تعالى عنه3.
1 المدونة ج6 ص306-307ط 1323 هـ.
2 يقول الشيرازي: وإن كان القتل في الحرم أو في الأشهر الحرم، أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل وجبت دية مغلظة، لما روى مجاهد أن عمر -رضي الله تعالى عنه- قضى قتل في الحرم أو في الأشهر الحرم أو محرمًا، بالدية وثلث الدية، وروى أبو النجيح عن عثمان -رضي الله تعالى عنه- أنه قضى في امرأة قتلت في الحرم، فجعل الدية ثمانية آلاف دية وألفين للحرم، وروى نافع بن جبير أن رجلًا قتل في البلد الحرام في الأشهر الحرم، فقال ابن عباس: ديته اثنا عشر ألفًا وللشهر الحرام أربعة آلاف، فكملها عشرين ألفًا، فإن كان القتل في المدينة، ففيه وجهان أحدهما أنه يغلظ.
المهذب ج2 ص196 ط عيسى الحلبي.
3 يقول ابن قدمة: وذكر أصحابنا أن الدية تغلظ بثلاثة أشياء، إذا قتل في الحرم، والشهور الحرم، وإذا قتل محرمًا في الحرم أو في الشهر الحرام، فأما إذا قتل ذا رحم محرم، فقال أبو بكر: تغلظ ديته.
وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أننا لا تغلظ.. وعن ابن عمر أنه قال: من قتل في الحرم أو ذا رحم محرم، أو في الشهر الحرام فعليه دية وثلث المغني ج7 ص772-774 ط مكتبة الجمهورية العربية.
كما جاء عن فقهاء الشيعة الزيدية ما يفيد تغليظ الدية في بعض الحالات، كما في دية شبه العمد، فتغلظ عندهم في الدراهم، والغنم، والبقر، والحلل بزيادة خمس الدية، واعتبر التغليظ في الإبل بأسنانها1.
ففي كل ما سبق مما ذكره الفقهاء غلظت، وتغليظها وأن كان مرجعه فيما ذكر هو الوصف الذي يربط الجاني بالمجني عليه، أو مراعاة للمكان أو الزمان الذين وقعت فيهما الجريمة، إلا أنه وصف خرجت به الدية عن مقدراها، وزادت عن حدها الواجب للحالات الأخرى التي لم يتوافر فيها وصف من هذه الأوصاف السابقة التي أوردها الفقهاء اجتهادًا، واستئناسًا بذلك أرى أن يلتزم بالقدر الذي حدد دية -كحد أدنى بالنسبة لما تجب فيه الدية نفسًا، أو غيرها ثم بعد ذلك يمكن أن يزاد في الدية الاعتبارات الأخرى يقدرها الإسلام، ويرفع من شأن، ومنزلة من تتوفر فيه هذه الاعتبارات على سبيل التعويض، وأمر ذلك كله متروك تقديره لولي الأمر، ما دام النظر إلى ذلك معتبرًا من باب تقدير العقوبات التعزيرية.
فما يزيد عن الدية العادية نظرًا؛ لأن من وقع عليه ما يوجب الدية له منزلة خاصة -هو عقوبة تعزيرية يلزم بها الجاني زيادة على العقوبة المقررة من لدن الشارع الحكيم.
القسم الثاني: جرائم ليست لها عقوبة محددة، إذ لم يرد نص من الشارع بتقدير عقوبة محددة لها، وإنما ترك لولي الأمر، فهو الذي يضع العقوبة المناسبة لكل جريمة من هذه الجرائم التعزيرية بما يكفل حماية المجتمع، وأمن الفرد والحفاظ على القيم، والفضائل
1 الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، لشرف الدين بن الحسين بن أحمد اليمني الصنعاني ج4 ص249-252 ط مطبعة السعادة سنة 1349هـ.
والأخلاق، ومن ثم يمكن أن تختلف هذه العقوبات باختلاف الزمان والمكان، وكذا باختلاف الأشخاص1.
1 الرأي المعتمد عند فقهاء الأحناف؟؟ أن التعزير عقوبة مفوضة إلى رأي الحاكم من حيث المبدأ، والحاكم يحدد لكل عقوبة حدًا أعلى وحدًا أدنى، والقاضي يختار المناسب من الحدين أو ما بينهما وما يعلم أن الجاني ينزجر به مع النظر إلى حال الجريمة والمجرم، أما بالنسبة للجريمة، فيقول الاسترشمني: "ينبغي أن ينظر القاضي إلى سببه، فإن كان من جنس ما يجب به الحد، ولم يجب لمانع وعارض يبلغ التعزير أقصى غايته، ولكنه مفوض إلى رأي الإمام فصول الاسترشمني ص14، وبالنسبة للمجرم ومراعاة حاله يقول الزيلعي: أنه في تقدير التعزير ينظر إلى أحوال الجانين، فإن من الناس من ينزجر باليسر، ومنهم من لا ينزجر إلا بالكثير، ويرى بعض الأحناف عدم تفويض القاضي في العقوبة التعزيرية لغلبة جهل القضاة، وعدم الرأي فيهم من حيث الدين والدنيا، وقد قال الطرسوسي في شرح منظومة الكنز بحواز التفويض للقاضي المجتهد الذي يعرف الأحكام الشرعية، والذي أرجحه هو أن تقدير العقوبة التعزيرية متروك لولي الأمر يقدره حسب المصلحة.
ونظرًا؛ لأن ولي الأمر غالبًا ما يكون من غير المختصين في أمور التشريع، فإنه يختار لذلك من هو أهله من العلماء المتخصصين، ويجعل لكل عقوبة حدًا أعلى، وحدًا أدنى والقاضي مفوض حينئذ في اختيار العقوبة المناسبة من بين ما قدره
ولي الأمر، كما أنه لا يجوز أن يلي القضاء من يجهل الأحكام الشرعية هذا، والراجح عند الحنفية هو الذي عليه المالكية، وهو ما رآه الشافعية والحنابلة كل
ذلك إذا لم يكن التعزير بالضرب، فإذا كان التعزير ضربًا، فولي الأمر مقيد
بحيث لا يزيد ما حدده الفقهاء فيما ذكروه.
ابن عابدين 3/ 183، السندوق 7/ 603-605، تبصرة الحكام 2/ 366، نهاية المحتاج 7/ 174-175 الماوردي ص224، السياسة الشرعية ص53، الحسبة ص38، د. عبد العزيز عامر: التعزير ط 393-401 الإسلام عقيدة وشريعة، الشيخ محمود شلتوت ص 311 ط دار الشرق النظام العقابي الإسلامي. د. أبو المعاطي حافظ ص473-474
والتقسم السابق للجرائم المبني على أساس تقدير العقوبة، أو عدم تقديرها يظهر أثره بالنسبة للجرائم، وعقوبتها من حيثيات مختلفة.
أما بالنسبة لجرائم القسم الأول، وعقوبتها فإن منها جرائم لا يجوز العفو عنها إذا بلغت الحاكم حتى ولو لم يحكم فيها.
ومنها ما أجاز فقهاء الشافعية، وابن قدامة العفو فيها حتى وإن رفع الأمر للقاضي نظرًا؛ لأن الحق للآدمي، وتلزم مطالبته1.
أما الجرائم التي لا يجوز العفو عمن ارتكبها إذا بلغت الحاكم، فمثل جريمة الزنا، وجريمة شرب الخمر عند من يرى أن عقوبتها من العقوبات الحدية.
أما جريمة القذف، فإن هناك من الفقهاء من أجاز العفو عن الجاني مطلقًا رفعت إلى القاضي، وحكم فيها أو لم يحكم فيها، بشرط أن يكون العفو خالصًا لوجه الله.
ومن الفقهاء من قيد العفو فيها بكونه قد وجد قبل صدور الحكم، أما إذا وجد بعد صدور الحكم فلا أثر له؛ لأنه بعد الحكم في جريمة القذف أصبح الاستيفاء حقًا لله تعالى، ولم
1 ذهب فقهاء الشافعية إلى أن عفو المقذوف يسقط الحد عن القاذف؛ لأن ما يجب بالقذف من حد، وتعزير هو حق للمقذوف يستوفي إذا طلبه، ويسقط إذا عفى عنه، ووافقهم في ذلك ابن قدامة؛ لأن الحق في إسقاط عقوبة القذف لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه. المهذب ج2 ص274 المغني ج8 ص269 أما فقهاء الأحناف، فإنهم لم يجيزوا إسقاط عقوبة القذف بعفو المقذوف إذا ثبتت -الجريمة بالحجة، بدائع الصنائع ج9 ص4601 مطبعة الإمام بالقلعة.
يعد للمقذوف حق حينئذ، وبين القائلون بعدم قيام أثر للعفو رأيهم بقولهم: إن حقوق العباد بطريق المماثلة، إما صورة ومعنى، وإما معنى لا صورة؛ لأنها تجب بمقابلة المحل جبرًا، والجبر لا يحصل إلا بالمثل ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة ولا معنى، فلا يكون حقه ولا ينفي كونه حقًا لله تعالى اشتراط الدعوى من المقذوف1.
والذي أميل إليه أنه إذا كان إثبات الجريمة بالبينة، وقد حكم القاضي بالعقوبة الحدية، فلا أثر لعفو المقذوف حينئذ، لكون الحق أصبح لله تعالى خالصًا أما إذا كان عفو المقذوف قبل حكم القاضي بالعقوبة الحدية، فإن ذلك العفو ينتج أثره، ولا يلزم الجاني بالعقوبة الحدية، نظرًا لانعدام المطالبة وطلبًا للستر على المقذوف؛ لأن في إنقاذ الحد على القاذف زيادة أعلام بما كان منه من قذف، وهو أمر مطلوب دفعه، ومنعه وإزالته، أما جرائم القصاص فإن العفو فيها ممكن، سواء قبل رفع الدعوى أو بعد رفعها قبل صدور الحكم، أو بعد صدوره؛ لأن الحق الغالب هنا هو حق العبد2.
أما بالنسبة لأثر العفو في جريمة السرقة، فإن ما رود عن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفاد جواز عفو المسروق منه عن السارق قبل رفع الأمر إلى القاضي، أما بعد رفع الأمر للقاضي، فلا أثر للعفو حينئذ، لما روي من أن رجلًا جاء
بسارق ردائه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي بالسارق أن يقطع، فقال من جاء به: لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فهلا قبل أن تأتيني"
1 بدائع الصنائع للكاساني ج9 ص4203 مطبعة الإمام بالقلعة.
فتح القدير لابن الهمام ج5 ص327 ج الحلبي.
2 لمرجع السابق، الأم للإمام الشافعي ج6 ص13ط دار الشعب.
قال الشوكاني: هذا الحديث رواه الخمسة إلا الترمذي1، أما فقهاء
الشيعة الزيدية، فقد ورد عنهم أن مما يسقط القطع عن السارق عفو المسروق منه، فإذا كان المال المسروق مملوكًا لشخص واحد، وعفا عن السارق سقط القطع، وإن ألزم السارق رد المال.
أما لو كان المال المسروق مملوكًا لجماعة، فقد اشترط فقهاء الشيعة الزيدية لإسقاط القطع، أن يكون العفو عن السارق قد صدر عن جميع الخصوم الذين لهم حق في المال المسروق، حتى ولو طلبوا رد المال، ولو لم يكن نصيب كل واحد منهم إلا دون النصاب.
1 نيل الأوطار ج7 ص145، وذهب الإمام أبو حنيفة، ومحمد إلى أن السارق إذا
وهب المسروق بعد القضاء، وقبل الإمضاء سقط عنه الحد، وقد ردوا على ما
ذهب إليه أبو يوسف من القول بوجوب القطع استنادًا لما جاء به الحديث المذكور: بأن لا حجة لأبي يوسف فيه؛ لأن المروي قوله: هو عليه صدقة وقوله: "هو" يحتمل أنه أراد به المسروق، ويحتمل أنه أراد به القطع، وهبة القطع لا
تسقط الحد: يدل عليه أنه روى في بعض الرويات أنه قال: وهبت القطع. وكذا يحتمل أنه تصدق عليه بالمسروق، أو وهبة منه، ولكنه لم يقبضه والقطع إنما يسقط بالهبة مع القبض: بدائع الصنائع ج9 ص4279.
وما ذهب إليه أبو حنيفة، ومحمد بعيد الاحتمال: إذ كيف يتصور أن المسروق منه يهب القطع؟ وأما ما قالاه من أن بعض الروايات قد جاءت بذلك، فهي رويات لرواة اختلط عليهم الأمر، وأمثال هؤلاء لا يعتد برواياتهم هذه في أمور التشريع الخاصة بالحدود، أما قولهما بأنه تصدق عليهم بالمسروق، أو وهبه ولكنه لم يقبضه، فهو قول لا تنهض به حجة؛ لأنه لو أمكن إسقاط القطع في مثل ذلك بالهبة لأمضى ذلك الرسول قبض الموهوب، أو لم يقبض؛ لأنه لا يتصور من الرسول قطع يد لتأخر قبض الموهوب.
وعلى هذا، فلو عفا البعض وتمسك البعض لزم السارق القطع.
وأجابوا عما يمكن أن يوجه إليهم من اعتراض مصدره أنهم فرقوا بين عفو أحد الشركاء هنا، وبين عفو أحد الشركاء في استحقاق القصاص إذ أنهم قالوا بأن عفو أحد الشركاء في استحقاق القصاص، إذ أنهم قالو بأن عفو أحد الشركاء في القصاص يترتب عليه إسقاطه أجابوا بقولهم: أن الشركاء في القصاص لا يستحق كل منهم إلا البعض، والقصاص لا يتبعض لذا، فإنه يسقط بعفو أحد الشركاء.
أما القطع، فإنه لكل واحد من الشركاء ثبت له بهتك حرزه1.
هذا ما قاله فقهاء الشيعة الزيدية، وإن كنت أخالفهم الرأي نظرًا؛ لأنهم لم يذكروا سندهم الذي اعتمدوا عليه في القول بذلك.
كما أن الحديث السابق يدل دلالة قاطعة على عكس ما قالوا به، وذهبوا إليه إذ أن المسروق منه لما وجد أن السارق ستقطع يده، بادر بالعفو عنه ووهبه ما سرقه، ومع ذلك أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"هلا قبل أن تأتيني".
وهذا ولا شك بين واضح في إثبات ما دامت الخصومة قد وجدت، وقضى في القضية، وحكم على السارق بالقطع.
فلا عبرة بعد ذلك بعفو المسروق منه؛ لأن الحق في القطع وإنفاذه حينئذ أصبح لله سبحانه وتعالى: وحق الله تعالى هنا لا يجوز التنازل عنه.
1 شرح الأزهار ج4 ص374 ط حجازي سنة 1357 هـ التاج المذهب لأحكام المذهب، لأحمد بن القاسم العنسي اليمني الصنعاني ج4 ص328 ط، أولى عيسى الحلبي، ويراجع ما جاء من أقوال الفقهاء في اشتراط النصاب من عدمه نيل الأوطار ج7 ص141-143.
وما بقي للآدمي بعد الحكم بالعقوبة هو ملكيته لما سرق منه إن شاء طالب به، وإن شاء تنازل عنه.
أما بالنسبة لجرائم القسم الثاني، وهي الجرائم التعزيرية، فإن منها جرائم لا تقبل العفو فيها -وعفو المجني عليه في هذه الجرائم، وإن كان لا يسقط العقوبة كلية، إلا أنه يعد من الظروف المخففة عن الجاني.
والجرائم التي لا تقبل العفو فيها -مع اعتبار العفو فيها ظرفًا مخففًا هي الجرائم التي تمس حقوق المجتمع.
أما الجرائم التي تقع على الأفراد، ويعاقب عليها تعزيريا، فإن من حق هؤلاء الأفراد الذين وقعت عليهم أن يعفو عما يمسهم، ويتصل بحقوقهم، وللقاضي بعد ذلك أن يعفو عن الجاني كلية.
فإذا لم يعف الأفراد عما يتصل بحقوقهم من الجرائم التعزيرية، فإن للقاضي أن يعفو عن الجاني إذا رأى أن ذلك أصلح للمجتمع، وأنفع وهذا ما ذهب إليه فقهاء الشافعية1.
أما ما عليه الجمهور، فإنه لا يجوز للقاضي أن يعفو عما يتصل بحقوق العباد من جرائم تعزيرية إلا بموافقتهم2.
ثانيًا: مدى ما للقاضي من سلطة حيال العقوبة الحدية
ذهب فقهاء أهل السنة، ومن وافقهم إلى أن جرائم القسم الأول ذات العقوبة المحددة، إذا رفع أمرها للقاضي، وثبتت عنده لم يكن له
1 أسنى المطالب ج4 ص162-163، نهاية المحتاج ج7 ص175.
2 حاشية ابن عابدين ج3 ص188 تبصرة الحكام لابن فرحون على هامش فتح العلي المالك ج2 ص 369، مواهب الجليل ج 6 ص 320 المغني ج10 ص 349 يراجع التعزير الدكتور عبد العزيز عامر ص 414-425 التشريع الجنائي ج1 ص 81-82.
سوى الحكم بعقوبتها، وإنفاذها على الجاني عملًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"تخافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب"، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"إنما أهلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفس محمد بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" 1، فقد أفاد الحديث بجانب التسوية بين الناس "الزام السارق الحد"، فالسيدة فاطمة -رضي الله تعالى عنها-، وهي من أشراف القوم وسادتهم بين صلى الله عليه وسلم أنه لو كان منها هذه الجناية الحدية لإلزمها العقوبة، وأقامها عليها، ولم يكن له وهو النبي الموحي إليه بالشرع أن يعفي أحب الناس إليه من العقوبة الحدية إذا لزمتها.
أما فقهاء الشيعة الزيدية، فقد أجازوا للإمام إسقاط الحدود عن بعض الناس إذا كان ذلك لمصلحة.
وله أيضا تأخيرها إلى وقت آخر لمصلحة، كما أجاز بعضهم للإمام إسقاط القصاص إذا كان فيه مصلحة2.
والقائلون بذلك لم يقدموا دليلًا على ما ذهبوا إليه سوى ما ساقوه من أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخر قتل بني قينقاع حين طلب ذلك منه عبد الله بن أبي أكثر من مرة.
ودليلهم هذا وإن صلح الاستدلال به على جواز تأخير إقامة الحد لمصلحة ما -وهذه قضية لا خلاف عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخر إقامة بعض الحدود لظروف خاصة بمن سيقام عليها الحد-3
1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص148 المعني ج8 ص241 فتح القدير ج5 ص212.
2 شرح الأزهار ج 4 ص334.
3 سنن أبي داود ج 2 ص461-463 نيل الأوطار ج7 ص125-128 الروض النضير ج4 ص201-203 ط أولى السعادة سنة 1349 هـ.
إن صلح الاستدلال بذلك على تأخير إقامة الحد، فإنه لا يصلح دليلًا على جواز إسقاط الحدود بعد لزومها، بل هو دليل على إلزام الحد إذا وجهت اقامته، وثبتت على الجاني جنايته.
أما جرائم القسم الثاني ذات العقوبة التعزيرية، فقد خول الشرع الشريف لولي الأمر فيها سلطات واسعة، بحيث يلائم بين الجريمة، وعقوبتها بما يراه رادعًا للجاني محققًا أمن المجتمع، مراعيًا لكل ما يحيط بالجريمة، والمجرم من ظروف وملابسات، وبخاصة في الجرائم التي يترتب عليها حق لأحد الأفراد.
أما إذا ترتب على الجريمة حق لأحد الأفراد، كان على ولي الأمر مراعاة هذا الحق بدقة، وإلزام الجاني بما يكفل لصاحب الحق استيفاء حقه1، ويلاحظ في ذلك كله أن يكون دافع القاضي مراعاة الله سبحانه وتعالى، وإصلاح شأن الأمة.
1 فتح القدير ج5 ص345-346 ط الحلبي.
التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عوده ط82 ط بيروت.