الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: سرقات اختلف في وجوب الحد بها؛ لقيام شبهة في الركن الشرعي
مما سبق من تعاريف الفقهاء لسرقة يبين ما وضعه الفقهاء من شروط لاعتبار الفعل سرقة، وتتمثل هذه الشروط بصفة عامة في الأخذ خفية، وأن يكون الشيء المأخوذ محرزًا، متمولًا، مملوكا للغير، تصل قيمته حد النصاب أو تزيد، وأن يكون المسروق، مما لا يتسارع إليه التلف، وأن لا يكون للسارق تأويل ولا شبهة.
فمن قام بالفعل المادي للسرقة، واستوفى فعله هذه الشروط، واكتملت أركانه عوقب على فعله هذا بالعقوبة الحدية.
أما من وقع منه هذا الفعل المادي مع وجود شبهة من الشبهات، التي تلحق الركن الشرعي بجريمة السرقة، فإن عقوبتها الحدية تندرئ عنه، ولا يلزم بها، سواء تترتب على ذلك إعفاؤه من جنس العقوبة، أو إعفاؤه من العقوبة الحدية فقط، وإلزامه بعقوبة تعزيرية تناسب ما وقع منه من سلوك.
وسأذكر فيما يلي بعض الوقائع، التي اكتمل فيها الركن المادي لجريمة السرقة غير أن العقوبة الحدية المترتبة على ذلك، قد لا تلحق الجاني نظرًا قيام شبهة من الشبهات التي تحلق الركن الشرعي للجريمة.
سواء أكانت هذه الشبهة من الشبهات التي يعتد بها من يعمل قاعدة درء الحدود بالشبهات، أم كانت هذه الشبهة من الشبهات التي يعتد بها البعض، ويعملها دون بقية الفقهاء.
مع بيان وجهة نظر كل منهم، ودليله على ما ذهب إليه:
1-
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن السرقة الحدية لا يكتمل وصفها، إلا إذا انتهك السارق الحرز، وأخرج منه المسروق، واستولى عليه وأدخله في حيازته.
وعلى هذا لو دخل شخص منزلًا، وجمع من هذا المنزل متاعًا بلغ حد النصاب أو يزيد، ووضع هذا المتاع في حقيبة مثلًا، ثم حملها وهم بالخروج من المكان الذي سرق منه المتاع، وقبل أن يخرج أمسك به صاحب المتاع أو غيره، فإن جمهور الفقهاء يرون أن مثل هذا الفعل لا يعد سرقة موجبة للعقوبة الحدية؛ لأن وصف الجريمة الحدية لم يكتمل بعد في حق السارق؛ لأنه لم يخرج بما أخذه من متاع خارج حرزه الذي وضع فيه، ولم يصبح المال المأخوذ في حيازة آخذه، وعليه فإن قيام شبهة عدم دخول المال المأخوذ في حيازة آخذه من حرزه، تدرأ العقوبة الحدية عن هذا الآخذ، وإن ألزم عقوبة تعزيرية مناسبة1.
وروي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- والحسن البصري، وإبراهيم النخعي أن من دخل الحرر، وجمع المتاع ثم تهيأ للخروج، ولم يخرج، فإنه يجب قطعه2.
وهذا أيضًا هو ما ذهب إليه ابن حزم، وذلك كله مبني على أساس عدم اشتراط الحرز، أو جوب القطع بالسرقة، واستدل ابن حزم على
1 فتح القدير ج5 ص385، المدونة ج16 ص72 الحرشي ج8 ص97، المهذب ج2 ص279، المغني ج8 ص255، نيل الأوطار ج7 ص146، الموطأ بشرح الزرقاني ج5 ص107، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285.
2 فتح القدير ج5 380، المغني ج9 ص110.
ما ذهب إليه بأدلة منها ما أورده في قوله: قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فوجب بنص القرآن أن كل من سرق فالقطع عليه، وبالضرورة الحسية، وباللغة يدري كل آخذ أن من سرق من حرز، أو من غير حرز، فإنه سارق -فقطع يده واجب بنص القرآن، ولا يحل أن يخص القرآن بالظن الكاذب، فإن من قال: إن الله تعالى أراد في هذه الآية من سرق من حرز، فإنه مخبر عن الله تعالى، بما لم يخبر به عن نفسه، ولا أخبر به عن نبيه صلى الله عليه وسلم".
كما استدل ابن حزم أيضًا بما جاءت به السنة النبوية، مما يفيد العموم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد".
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده"، ثم علق بن حزم على هذين الحديثين بقوله:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يد السارق جملة، ولم يخص عليه السلام حرزًا من غير حرزه إلى أن يقول: واو "أن الله عز وجل أراد أن لا يقطع يد السارق حتى يسرق من حرزه، ويخرجه من الدار، لما أغفل ذلك".
ولا أهمله، ولا أعنتنا بأن يكلفنا علم شريعة لم يطلعنا عليه، وليبينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم"1.
واستدل أصحاب هذا الاتجاه أيضًا بما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع يد السارق الذي سرق ثوبًا من المسجد2، إذ المسجد لا يعتبر
1 المحلى ج13 ص340-353.
2 روي أن صفوان بن أمية، قال:"كنت نائمًا في المسجد في خميصة لي فسرقت، فأخذنا السارق، فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه، فقلت: يا رسول الله أفي خميصة ثمن ثلاثين درهمًا؟ أنا أهبها له. قال: فهلا كان قبل أن تأتيني؟ روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء، ثمنه ثلاثة دراهم"، نيل الأوطار ج7 ص145-146، وما بعدهما.
حرزًا، وعليه فإن من سرق سواء أكان من حرز، ولم يخرج بالمسروق، أم كان من غير حرز وجب قطعه، إذا اكتملت فيه باقي شروط السرقة.
وما ذهب إليه فقهاء الجمهور هو ما أرجحه، وأميل إليه لوجود شبهة عدم دخول المال المأخوذ في حرزه من أخذه من حرز، وعدم الاستيلاء الكامل عليه.
أما ما ذهب إليه ابن حزم، ومن وافقه من عدم اعتبار الحرز في إيجاب العقوبة الحدية، فقول مردود بما ذهب إليه أئمة اللغة، الذين عرفوا السرقة، والاستراق بالمجيء مستترًا لأخذ مال غيره من حرز1.
فالحرز شرط لا يجانب العقوبة الحدية، وعدم مفارقة الحرز تنهض شبهة في حق الآخذ؛ لجواز أن يستيقظ ضميره قبل مفارقته المكان، فيترك الشيء المأخوذ.
أما ما استدل به ابن حزم من أن الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية جاءت عامة شاملة كل من سرق من حرز، أو غيره -ولا يجوز أن يخص القرآن بالظن، فقول يحتاج إلى مناقشة.
1 القاموس المحيط مادة سرق، ويراجع ما أوده الشوكاني في نيل الأوطار ج7 ص147، وابن حجر في فتح الباري ج5 ص116 "ط مصطفى الحلبي سنة 1959م".
لأن ما جاء من أدلة تفيد العموم قد خصصت بدليل أنه لا قطع على الصبي، أو المجنون، ولا على من سرق شيئًا غير متمول1.
وعلى هذا فإن الدليل العام قد دخله التخصيص، وما جاز تحصيصه خصص بالدليل الظني2، ومع هذا فإن تخصيص العموم
1 يقول ابن الهمام: "وقد ثبت أن لا قطع في أقل من ثمن المجن، ولا في حريسة الجبل، فتخصصت الآية به، فجاز تخصيصها بعدها بما هو من الأمور الإجماعية، وبأخبار الآحاد، فتح القدير ج5 ص38.
2 اللفظ العام يشمل جميع أفراده على سبيل الاستغراق، لكن قد يرد ما يدل على إخراج بعض ما يشمله اللفظ العام، وقصره على بعض أفراده، ودليل التخصيص قد يكون الفعل أو العرف، أو نصًا مخصصًا، ويتفق الأصوليون على التخصيص بالعقل والعرف، فخطاب الله تعالى بالتكليف في قوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، وقوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، وقوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، "جاء الخطاب بلفظ عام لكن العقل يخرج الصبيان والمجانين.
كما اتفق الأصوليون على أن العام إذا خصص بدليل قطعي، فإنه يجوز تخصيصه بعد ذلك بأي دليل ولو ظني؛ لأن العام بعد تخصيصه أصبحت دلالته على العموم ظنية حتى عند الحنفية.
من ذلك قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، فلفظ البيع عام وقد خصص بنص قطعي، وهو "حرم الربا"، فأصبحت دلالته بعد ذلك على باقي أفراده ظنية: ولذا جاز تخصيصه بأخبار الآحاد، كما جاز تخصيصه بالقياس" يراجع أصول الفقه الإسلامي -أستاذي الدكتور سلام مدكور ص226-235 الأستاذ الدكتور زكريا البزي ص213-218.
هنا تخصيص بما هو مجمع عليه، وبما ورد من الأخبار من رواته موثوق بهم1.
وثمرة لهذا الخلاف تنتج الشبهة تحلق الركن الشرعي للجريمة، يترتب عليها درء العقوبة الحدية عن الفاعل.
1 وذلك مثل ما رواه رافع بن خديج قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا قطع في ثمر ولا كثر"، نيل الأوطار ج7 ص143، وما روي عن الإمام مالك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل"، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن، الموطأ بشرح الزرقاني ج5 ص107 "ط أولى".
وقد ذكر ابن قدامة هذا الخلاف عند حديثه عن شروط وجوب القطع، فقال:"أن يسرق من حرز يخرجه منه"، وهذا قول أكثر أهل العلم، وهذا مذهب عطاء والشعبي، وأبي الأسود الدؤلي، وعمر بن عبد العزيز والزهيي، وعمر بن دينار، والثوري، ومالك، والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحد من أهل العلم خلافهم، إلا قولا حكي عن عائشة والحسن، والنخعي فيمن جمع المتاع، ولم يخرج به من الحرز عليه القطع، وعن الحسن مثل قول الجماعة، وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز؛ لأن الآية لا تفصيل فيه، وهذه أقوال شاذة غير ثابتة عمن نقلت عنه، قال ابن المنذر، وليس فيه ثابت، ولا مقال لأهل العلم، إلا ما ذكرناه، فهو كالإجماع والإجماع حجة على من خالفه، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رجلًا من مزينة، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمار، فقال:"ما أخذ في غير كمامة، فاحتمل ففيه قيمته، ومثله معه، وما كان في الخزائز ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن"، رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب، المغني ج8 ص248.
2-
النشال:
أو الطرار، وهو من يأخذ ما مع الشخص المتيقظ في غفلة منه1.
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب القطع على النشال، إذا أخذ نصاب السرقة، وأثبت عليه ذلك.
سواء شق الجيب، وأخذ منه المال، أو أدخل يده في الكم، أو في الجيب مأخذ من غير شق، وكذا ما أخذ من حقيبة، شقها أو لم يشقها؛ لأن كل هذه الأشياء التي أخذ منها هي عند جمهور الفقهاء حرز لما وضع فيها عرفًا، فإذا أخذه في غفله من صاحبه، فهو إذا سارق، ولا ينظر إلى شق أو غيره؛ ولأن مال الشخص محرز بوجوده معه.
وذهب الإمام أبو حنيفة، ومن وافقه إلى أن النشال لا قطع عليه، إلا إذا شق الجيب أو الكم؛ لأن هتك الحرز قد تحقق، وقد بين ذلك كله ابن الهمام بقول: هـ.. "وعن أبي يوسف أنه أي الطرار يقطع على كل حال، وهو قول الأئمة الثلاثة؛ لأن صورة أخذه من خارج الكم إن لم يكن محرزًا بالكم، فهو محرز بصاحبه، وإذا كان محرزًا بصاحبه، وهو نائم إلى جنبه2، أفلأن يكون محرزًا، وهو يقظان والمال يلاصق بدنه أولى، قلنا: بل الحرز هنا ليس إلا الكم؛ لأن صاحب المال يعتمد الكم، أو الجيب لا قيام نفسه، فصار الكم كالصندوق، وهذا؛ لأن المطرور كمه أما في حالة المشي أو في غيره، فمقصوده في الأولى ليس إلا قطع المسافة لا حفظ المال، وإن كان الثاني فمقصوده الاستراحة عن حفظ
1 طر أي شق، ومنه الطراز وهو الذي يقطع النفقات، ويأخذها على غفلة من أهلها، المصباح المنير.
2 يشير بذلك إلى ما روي من حديث صفوان بن أمية، السابق نيل الأوطار ج7 ص145-146.
المال وهو شغل قلبه بمراقبته، فإنه متعب للنفس فيربطه ليريح نفسه من ذلك، فإنما اعتمد الربط، والمقصود هو المعتبر في هذا الباب1، والذي أرجحه هو وجوب القطع على النشال، سواء أشق جيبًا أو قميصًا، أم لم يشق، وسواء أخذ المال من الجيب، أم أخذه من حقيبة يحملها المسروق منه في يده، ما دام قد غافله النشال، وأخذ منه ما أخذه من مال، أو غيره مما يتقوم بالمال على سبيل الخفية والمغافلة؛ لأنه إن أخذه بغير ذلك فله حكم آخر، يأتي في الحديث عن جريمة السرقة الكبرى، كما أن ما وقع لصفوان بن أمية2، وحكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب القطع، يدل صراحة على وجوب قطع النشال، سواء كان المسروق منه نائمًا، أم متيقظًا فسارق خميصة صفوان قد سرقها، وصفوان نائم، ومع ذلك اعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم قد سرقت من حرر لنومه عليه، فمن باب أولى من ينشل من المتيقظ المشغول بما حوله اعتمادًا على أن حاله في جيبه، أو حقيبته، وما إلى ذلك ما دام السارق قد أخذ ماله في الخفاء بعد أن غافله، والشبهة هنا قد نتجت من عدم وضوح دلالة كلمة السرقة على ما وقع من النشال من فعل، ولاختصاص النشال باسم غير اسم السارق، عند اللغوين3، هذا بالإضافة إلى ما أورده الفقهاء، من مسألة اعتبار ما أخذ منه النشال حرزًا أم لا.
1 فتح القدير ج5 390-391 المدونة الكبرى ج15 ص280 المهذب ج2 ص279 المغني لابن قدامة ج8 ص256، أحكام القرآن للقرطبي ج6 ص170.
2 أبو وهب، صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجميحي، صاحبي من أشراف قريش أسلم بعد الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، مات بمكة تهذيب التهذيب ج4 ص424.
3 أصول الفقه الإسلامي الدكتور سلام مدكور ص283 أصول.
الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور، زكريا البري ص236، ويراجع أيضًا المرآة على المرقاة ص106 شرح المنار لابن مالك، وحاشية الرهاوي المصري ص361-363، نقلًا عن أصول الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور.
وعليه، فالشبهة هنا من الشبهات التي تلحق الركن الشرعي للجريمة.
3-
النباش:
هو الذي ينبش القبور لأخذ أكفان الموتى1، ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب القطع على النباش؛ لأن عمله يصدق عليه أنه سرقة، وأن النباش يصدق عليه أنه سارق، يقول ابن حزم مبينًا ذلك:"ووجدنا" السارق "في اللغة التي نزل بها القرآن، وبها خاطبنا الله تعالى: هو الأخذ شيئًا لم يبح الله له، فيأخذه متملكًا له مستخفيا به، فوجدنا النباش هذه صفته، فصح أنه سارق
…
فقطع يده واجب -وبه نقول2، واستدل ابن قدامة لذلك أيضًا بما روي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت:"سارق أمواتنا سارق أحياءنا"،3 واستدل فقهاء الشيعة لذلك أيضًا، بما روي من أن عليا -رضي الله تعالى عنه- نباش القبر، فقيل له: أتقطع في الموتى؟
فقال: "إنا نقطع لأمواتنا، كما نقطع لأحيائنا"4.
1 النبش: الاستخراج: يقال: نبشت الأرض نبشًا: كشفتها موته سمي الإنسان الذي يحفر القبور، ويستخرج منها أكفان الموتى، نباشًا، مبالغة المصباح المنير، ولسان العرب.
2 المحلى ج3 ص358.
3 المغني ج8 ص272.
4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص296.
وذكر الخرش وجوب القطع على النباش، إذا أخذ الكفن، سواء كان القبر قريبًا من العمران أم لا "حتى ولو ألقى الميت في البحر؛ لأن البحر حينئذ صار حرزًا له"1.
أما فقهاء الشافعية، فقد فصلوا القول في ذلك بأن من نبش قبرًا، وسرق منه الكفن، فإن كان في برية لم يقطع؛ لأنه ليس بحرز للكفن، وإنما يدفن في البرية الضرورة، وإن كان في مقبره تلي العمران قطع لما روى البراء بن عازب2 -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه، ومن نبش قطعناه"3.
وذهب فقهاء المالكية، والشافعية والحنابلة، ومن وافقهم إلى أن النباش إن سرق ما زاد على الكفن المشروع، فلا قطع عليه؛ لأنه قد أخذ من غير حرز، وكذا لو سرق ما وضع مع الميت من طيب، أو ذهب أو فضة، أو جوهر وما شابه ذلك، فلا قطع عليه؛ لأن ذلك ليس بكفن، وليس القبر بحرر له فتركه في القبر سفه وتضييع4.
1 الخرشي ج8 ص99.
2 البراء، أبو عمارة البراء بن عازب، وهو وأبوه صحابيان، وأول مشاهدة أحد شهد بيعة الرضوان، وروي له 305 من الأحاديث، ونزل الكوفة توفي بها في عهد عبد الملك بن مروان بعد منتصف القرن الهجري الأول.
3 المهذب ج2 ص278.
4 وهذا ما ذهب إليه عمر، وابن مسعود، والسيدة عائشة، ومن العلماء أبو ثور والحسن، والنخعي، وقتادة، وحماد، وعمر بن عبد العزيز يراجع في ذلك الخرشي ج8 ص99، المهذب ج2 ص278 فتح القدير ج5 ص375 المبسوط ج9 ص159.
وذهب الإمام أبو حنيفة، ومن وافقهما إلى أنه لا قطع على النباش، واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا قطع على المختفي" 1، والمختفي هو النباش في عرف أهل المدينة.
وروي عن الزهري2 قال: أخذ نباش في زمن معاوية، وكان مروان على المدينة، "فسأل من بحضرته من الصحابة والفقهاء، فأجمع رأيهم على أن يضرب ويطاف به"3.
ومبني ذلك عند أبي حنيفة ومن وافقه، أن القبر ليس بحرز؛ لأنه حفره في الصحراء مأذون للعموم من المرور به ليلًا ونهارًا، ولا غلق عليه ولا حارس منصد لحفظه، فلم يبق إلا مجرد دعوى أنه حرز تسمية ادعائية بلا معنى، ولا يترك ذلك عن أن يكون في حرزيته شبهة، وبه ينتفي القطع، وهذه هي الشبهة الأولى عند أبي حنيفة ومن وافقه، وهي من الشبهات التي تتصل بالركن الشرعي للجريمة.
أما الشبهة الثانية عند أبي حنيفة، فهي في كون الكفن مملوكًا لأحد، فالإمام أبو حنيفة يرى أن الكفن مملوك لأحد، لا للميت؛ لأنه ليس أهلًا للملك، ولا للوارث؛ لأنه لا يملك من التركة لا ما يفضل عن حاجة الميت، فإن صح أنه لا ملك فيه لأحد فلا قطع بسرقته، وإلا فتحققت شبهة في مملوكيته بما ذهب إليه الإمام، ويتحققها لا قطع به أيضًا.
1 نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي ج3 ص366 "ط أولى"، ووافق أبو حنيفة، ومحمد كلا من ابن عباس والثوري، والأوزاعي، ومكحول والزهري، فتح القدير ج5 ص375 المبسوط ج9 ص159.
2 وروى ابن أبي شيبة عن الزهري، قال: أتى مروان بقوم يختفون أي ينبشون القبور فضربهم، ونفاهم والصحابة متوافرون. أخرجه عبد الرازق في مصنفه، وزاد فيه وطوف بهم فتح القدير ج5 ص375.
3 المرجع السابق.
وأضاف ابن الهمام ما تلزم به شبهة أخرى، وهو أن في مالية الكفن قصورًا؛ لأن المال ما يجرى فيه الرغبة، والضنة1، والكفن ينفر عنه كل من علم أنه كفن ميت، إلا نادرًا من الناس، وهاتان الشبهتان أيضًا مما يعتري الركن الشرعي للجريمة من شبهات.
كما أورد ابن الهمام شبهة أخرى بقوله: "شرع الحد للانزجار"، والحاجة إليه لما يكثر وجوده، فأما ما يندر فلا يشرع فيه لوقوعه في غير محل الحاجة؛ لأن الانزجار حاصل طبعًا"2.
كما أورد فقهاء الأصول شبهة في وجوب القطع على النباش؛ لأنه وضع له اسم غير السارق، وعليه فلا ينطبق اسم السارق عليه، وقد أورث ذلك شبهة في حقه.
كما ذكروا أن السارق تقطع يده، إذا خاصمه مالك المسروق، والكفن لا مالك له كما قال بذلك الإمام أبو حنيفة3.
وقد أورد أبو القاسم الموسوي بعض أقوال عن بعض فقهاء الشيعة، يرون فيها أنه لا قطع على النباش، إلا إذا عرف بذلك واعتاده، وقد حاول الطعن في صحة ذلك بأن من أوردهما لم يرد فيه توثيق، ولا مدح4.
1 الضنه: البخل، المنجد ولسان العرب مادة "صن".
2 فتح القدير ج5 ص375-376 المبسوط ج9 ص160.
3 أصول الفقه الإسلامي أ. د سلام مدكور ص283. أ. د: زكريا البري ص237.
4 من ذلك صحيحه الفضيل، عن أبي عبد الله "عليه السلام"، قال: "النباش إذا كان معروفًا بذلك قطع..؟ وفي أخرى سألته عن رجل أخذ هو ينبش؟ قال: لا أرى عليه قطعًا إلا أن يؤخذ، وقد نبش مرارًا فاقطعه. يقول أبو القاسم: وهاتان الروايتان، لا يمكن الأخذ بهما؛ لأن الأولى لم يرد في راوياها توثيق ولا مدح، وأما الثانية فإن المعروفية غير التكرار.
روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا قطع على المختفي"، فقد قال عنه الزيلعي1 أنه غريب:"كما أن المختفي يمكن حمله على المظهر للأخذ نظرًا؛ لأن فعله أخفى: من أسماء الأضداد"2، وصرف اللفظ على ظاهر، أو ما استعمل فيه فيما اشتهر من لغة العرب أولى من صرف إلى اسعمال فئة من الناس من غير أن تقوم على ذلك قرينة، "أما ما يراه الإمام من شبهة عدم الحرز، فمردود بما ذكره الجمهور من أن القبر حرز للميت، وثيابه تبعه له، فيكون حرزًا لهما أيضًا".
وذكر ابن قدامة في ذلك:
أن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر دون غير، ويكتفي به في حرزه، ألا ترى أنه لا يترك الميت في غير ذلك القبر من غير أن يحفظ كفنه، ويترك في القبر وينصرف عنه3.
1 الزيلعي: أبو محمد عثمان بن علي الملقب بفخر الزيلعي نسبة إلى زيلعي، وهي بلد تقع على ساحل بحر الحبشة، قدم القاهرة سنة 705، ودرس بها وأفتى واشتهر بالفقه والنحو ت سنة 743هـ.
2 يراجع في ذلك لسان العرب، المصباح المنير مادة خفي.
3 المغني ج8 ص272.
ولأن حرز كل شيء ما يليق به، فحرز الدواب بالاصطبل، والثياب بما أعد لها من حقائب أو ما ماثلها، ولو وضع الشيء في غير حرزه، وسرق لم يجب به قطع لكن الكفن في حرزه، ويتساءل المثبتون للحرز فيقولون: ألا ترى أن الوصي إذا كفن صبيًا من ماله لا يضمن لورثته شيئًا، فلو لم يكن محرزًا، كان تضييعًا موجبًا للضمان، فكان أخذا الكفن من القبر عين السرقة1.
أما ما ذكر من شبهة أنه لا مالك للكفن، فهو قول مردود؛ لأن الكفن مملوك للميت؛ لأنه كان مالكًا له في حياته، ولا يزول مالكه إلا عما لا حاجة به إليه ووليه يقوم مقامه في المطالبة، كقيام ولي الصبي في الطلب بماله2.
كما أن ما ذكره الإمام أبو حنيفة من شبهة عدم مالية الكفن، بدليل أنه لا تجري فيه الرغبة والضنة، وأنه ينفر عنه كل من علم أنه كفن ميت، إلا نادرًا من الناس، فهذه الشبهة ترد بأن من يسرق الكفن، يمكن أن يبيعه لمن لا يعلم حقيقته، وبذا يكون قد استعاض عنه بمال، ومن الأكفان ما يتعالى فيه، فيختار من نوع غال من القماش وهكذا، كما أنه إذا رغب فيه بعض الناس مع علمهم بحقيقة، أصبح للكفن قيمة مالية عندهم.
وما ذهب إليه من أن الحد شرع للانزجار، وأما ما يندر فلا يشرع فيه، أو وقوعه في غير محل الحاجة؛ لأن الانزجار حاصل طبعًا.
1 فتح القدير ج5 ص376، المبسوط ج9 ص160-161.
2 المغني ج8 ص272، المهذب ج2 ص278، ويراجع أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور زكريا البري ص237.
فهذا مردود بما أصبح متفشيا بين الكثير، الذين وصل بهم الحد إلى سرقة جثة الميت ذاتها، والاتجار فيها لطلاب كليات الطب، كما أن الطباع قد ألفت أشياء كثيرة، كانت النفرة عنها غالبة في الماضي.
وعلى هذا، فإن وجوب القطع على النباش بشروط القطع الأخرى، أوجب وألزام بل والزيادة على القطع؛ لأنه بجانب كونه سارقًا، فهو قد انتهك حرمات الموتى، وهذا ما أراه مناسبًا لتعليل ما جاء من أقوال بقتل النباش، أو بقطع يده ورجله1.
وقد ذهب بعض فقهاء القانون الوضعي إلى القول بشبهة عدم امتلاك أكفان الموتى، وما يوضع في القبور من مصوغات، وغير ذلك، واعتبروا ذلك كله من قبيل الأموال المتروكة، التي لا يلزم من سرقها بعقوبة على فعله.
وإن كان الرأي الراجح قد اعتبر ذلك كله من الأموال المتروكة.
ونصت محكمة النقض على أن أكفان الموتى، والملابس والحلي، وغيرها من الأشياء التي اعتاد الناس إيداعها القبور مع الموتى، وإنما هي مملوكة لورثة هؤلاء، وقد خصصوها لتبقى مع جثث أهليهم لما وقر في نفوسهم، واستقر في ضمائرهم من وجوب كرمهم في أجداثهم على هذا النحو2، وما ذهب إليه الفقه الإسلامي من التفريق بين الكفن، وغيره، مما يوضع في القبر أولى، أما ما استقر من عقائد باطلة في نفوس البعض، فالأولى بمحكمة النقض أن تحاول إصلاحه؛ لأن فيه إضاعة أموال بغير داع.
1 المحلى ج13 ص356.
2 قانون العقوبات القسم الخاص. أ. د: أحمد الألفي ص284.
4-
سرقة أحد الزوجين من مال الآخر:
علاقة الزوجية كرمها الإسلام، ورفعها منزلة عالية، وألزم كلا من الزوجين حقوقًا، وفرض عليه واجبات.
فهي علاقة تزيل الحجب التي لا تزال، ولا ترفع في ظل هذه العلاقة، فقد جعل القرآن الكريم كلا من الزوجين لباسًا للآخر:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 1.
ولما كانت علاقة كل من الزوجين بهذه المنزلة، فإن للفقهاء آراء في إيجاب العقوبة الحدية على كل من الزوجين، إذا سرق من مال الآخر.
فقد ذهب فقهاء الأحناف، وفي رأي للإمام الشافعي، أنه لا قطع على أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه، سواء أكان هذا المال غير محرز عن السارق، أم كان محرزًا عنه، وجد هذا المال في المكان الذي يسكنان فيه، أو في مكان آخر، ومبنى ذلك أن بين الزوجين بسوطة في الأموال عادة ودلالة، فإنها لما بدلت نفسها، وهي أنفس من المال كانت بالمال أسمح؛ ولأن بينهما سببا يوجب التوارث من غير حجب حرمان كالوالدين.
ويكفي لإسقاط الحد عن أحدهما قيام الزوجية بينهما، وقت للسرقة فقط، كما لو سرق منها، ثم أبانها ولو رفعت دعواها عليه بعد انقضاء عدتها.
وأيضًا يكفي لإسقاط الحد عن أحدهما قيام الزوجية بينهما، ولو بعد السرقة، سواء أكان التزاوج بعد أن قضى بالقطع، أو لم يقض، وإن
1 من الآية 187 من سورة البقرة.
كان أبو يوسف يرى أن التزواج لو حدث بعد أن قضى بالقطع يقطع.
ولا يجب القطع أيضًا إذا سرق من امرأته المبتوتة، أو المختلفة في العدة، وكذا إذا سرقت هي من الزوج في العدة1.
كما ذهب فقهاء الأحناف إلى أن من سرق من بيت زوجته ابنه، أو أبيه أو زوج ابنته أو زوج أمه، أو بنت زوج أمه، فإنه لا قطع عليه أن كان يجمعهما منزل واحد، أما إذا كان كل منهما في منزل على حده، فإن الإمام أبا حنيفة يرى عدم القطع؛ لأنه لا يرى قطعًا بالسرقة من منزل الأصهار، أو الأختان، وإن كان الصاحبان يريان القطع ما دام لا يجمعهما منزل واحد؛ لأانه لا شبهة في ملكيتهما، واستدل فقهاء الأحناف لما ذهبوا إليه، بالإضافة إلى ما ذكر بأن شهادة كل من الزوجين لا تقبل لصاحبه؛ لاتصال المنافع بينهما، وعليه فلا قطع لأحدهما على الآخر؛ لأنه لو سرق من ماله، فإنه قد سرق من مال له فيه منفعة؛ لأنها لها عليه النفقة، وله عليها الحبس.
واستدلوا لذلك أيضًا بما روي من أن عمر -رضي الله تعالى عنه- أتى بغلام سرق مرآة لامرأة سيده، فقال: ليس عليه شيء، خادمكم سرق متاعكم:"فإذا لم يقطع خادم الزوج، فالزوج أولى".
وبهذا استدل أيضًا بعض فقهاء الحنابلة للقول بإسقاط القطع عن كل من الزوجين، إذا سرق من مال أحدهما، حتى ولو كان محرزًا عن الآخر2، وذهب فقهاء المالكية والشيعة، وجمهور فقهاء الحنابلة، ورأي
1 المبسوط ج9 ص190.
2 فتح القدير ج5 ص382-383، البحر الرائق ج5 ص62-63، مغني المحتاج ج4 ص162، المهذب ج2 ص281 المغني ج8 ص276-277، المبسوط ج9 ص188.
عند الشافعية إلى أنه لا قطع على كل من الزوجين، إذا سرق من مال الآخر إذا كان غير محرز عنه، أما لو سرق أحدهما من مال الآخر المحرز عنه، فإنه يقطع به.
يقول الخرشي: "ويقطع أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه، بشرط أن يكون المال المسروق في مكان محجور عن السارق أن يدخله، أما لو سرق من مكان يدخله، فإنه لا قطع عليه؛ لأنه حينئذ خائن لا سارق"1.
كما استدلوا لذلك بعموم الآيات والأخبار؛ ولأن النكاح عقد على منفعة فلا يؤثر في درء الحد، كالإجارة لا يسقط بها الحد عن الأجير، أو المستأجر إذا سرق أحدهما من الآخر؛ لأنه سرق مالًا محرزًا عنه لا شبهة له فيه.
واشترط فقهاء المالكية أن الحجر إنما يعتبر بغلق لا بمجرد الكلام بالمنع، وذهب الإمام الشافعي في رأي ثالث إلى وجوب القطع على الزوج، فيما سرق من مال الزوجة المحرز عنه بخلافها، فيما لو سرقت من مال زوجها المحرز عنها؛ لأن لها حقًا في ماله بالنفقة، وليس له في مالها مثل ذلك.
وقد عرض الشيرازي الآراء الثلاثة في قوله: "وإن سرق أحد الزوجين من الآخر ما هو محرز عنه، ففيه ثلاثة أقوال أحدها:
1 المغني ج8 ص276-277، الخرشي ج8 ص98، حاشية الدسوقي ص340، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285، مغني المحتاج ج4 ص162، المهذب ج2 ص281، ويراجع شرح الزرقاني ج5 ص120، الموطأ ص236.
أنه يقطع؛ لأن النكاح عقد على المنفعة، فلا يسقط القطع في السرقة كالإجارة، والثاني: أنه لا قطع؛ لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج، والزوج يملك أن يحجر عليها، ويمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء، فصار ذلك شبهة، والثالث: أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة، ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن الزوجة حقًا في مال الزوج بالنفقة، وليس الزوج حق في مالها1.
وذهب ابن حزم إلى أن القطع واجب على من يسرق، وتوافرت فيه شروط القطع بصرف النظر عن كونه زوجًا، أو زوجة للمسروق منه، فمن سرق ما لم يبح له أخذه وجب حده، ولا يلتفت إلى ما بين السارق والمسروق منه من علاقة زوجية.
ورد ابن حزم على من لا يرى القطع في مثل ذلك، فقال:"إن من لا يرى القطع على أحد الزوجين إذا سرق من مال الأخرى، يحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولدها، وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، "فمن لا يرى القطع يقول: إن كل واحد من الزوجين راع في مال الآخر وأمين عليه، فلا قطع عليه كالمودع، كما جاء به الحديث الشريف، ويقول ابن حزم: إن كل هذا لا حجة لهم فيه أصلًا؛ لأن الحديث الشريف لا دليل فيه على ترك القطع في السرقة، كما أن الحديث الشريق قد بين أن كل من ذكر راع فيما ذكر، وأنهم مسئولون عما استرعوا، والمعلوم يقينًا أن من كان مسئولًا لم تبح له السرقة، أو الخيانة
1 المهذب ج2 ص281-282، مغني المحتاج ج4 ص162.
فيما استودع، وأسلم إليه، وهؤلاء إن لم يكونوا كالأجنبيين، وأقل أمورهم أن يكون عليهم ما على الأجنبيين.
كما يضيف ابن حزم: "إن من ذكرهم الحديث لا يختلف أحد في أن عليهم ما على الأجنبيين من إلزام رد ما خانوا وضمانه، فهلا قاسوا -من لم يقولوا بالقطع ما اختلفت فيه من السرقة، والقطع فيها على ما اتفق عليه من حكم الخيانة".
أما قياسهم الزوج والزوجة بالمودع، أو المأذون له في الدخول لا حجة لهم في هذا القياس؛ لأنهم لا يختلفون في أن المودع إذا سرق ما لم يودع عنده، أكان من مال آخر للمودع في حرزه، وأن المأذون له في الدخول "لو سرق من مال محرز عنه للمدخول عليه الإذن له في الدخول، لوجب القطع عليهما بلا خلاف، فيلزم من هذا التشبيه أن لا يسقط القطع عن الزوجين، فيما سرق أحدهما من الآخر، إلا فيما ائتمن عليه، ولم يحرز منه"1.
ورد ابن حزم قول من رأى القطع على الزوج دون الزوجة، إذا سرق أحدهما ما أحرزه عنه الآخر لما لها في ماله من صداق، ونفقة كسوة وإسكان وخدمة، فهي بذلك كالشريك، وذلك كله يترتب عليه شبهة حق في ماله بالنسبة لها، "وذكر ابن حزم أن دليل من قال بذلك، هو ما جاء من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن شكت إليه بخل زوجها، وعدم إعطائه لها ما يكفيها وولدها"، إذ قال صلى الله عليه وسلم:"خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف".
1 المحلى ج13 ص286-288.
إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلق يدها على مال زوجها، تأخذ منه ما يكفيها وولدها، فهي مؤتمنه عليه كالمستودع ولا فرق.
ويرد ابن حزم على هذا بقوله: "أما قولهم أن لها في ماله الحقوق المذكورة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلق يدها بالصورة الموضحة، فهذا ما لا ينكره أحد.
ولكن الذي لا يشك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلق يدها على ما لا حق لها فيه من مال زوجها، ولا على أكثر من حقها، كما أن إباحة أخذها حقها، وما يكفيها ليس فيه دليل على إسقاط حدود الله تعالى على من أخذ الحرام غير المباح، وقاس ابن حزم ذلك بمن شرب عصيرًا حلالًا، ثم تعداه إلى شراب المسكر الحرام منه.
وقال، بوجوب الحد في الحالين، ولا فرق بين المسألتين عنده من حيث إلزام الفاعل فيما حد ما قام به من أفعال.
وسوى ابن حزم بين الزوجة، إذا أخذت من مال زوجها ما يزيد عن حقها، وبين الأجنبي، إذا كان له حق عند غيره، وتعمد أخذ ما ليس له بحق، حيث لزام الحد.
وبنى ذلك كله على ما ذكره من أن الله تعالى لم يخص إذ أمر بقطع السارق والسارقة، إلا أن تكون زوجة من مال زوجها، وإلا أن يكون زوجًا من مال زوجته، وما كان ربك نسيا1.
وما ذكره ابن حزم يحتاج إلى نظر، ومناقشة:
أولًا: لم يقل أحد أن في الحديث الشريف دليلًا على إباحة السرقة للزوجين من مال أيهما، وكل ما هنالك أنه نتيجة لوجود شبهة
1 المحلى ج13 ص289- 291.
لكل منهما في مال الآخر نظرًا لقيام حق لكل منهما في مال صاحبه، ولوجود البسطة بينهما في المتاع، وقيام علاقة الزوجية، وما يترتب عليها من مخالطة ومودة، كل ذلك يترتب عليه نفي قيام حرز لمال أحدهما بالنسبة للآخر، ونفي قيام حرز لما لهما بالنسبة لكل منهما، أمر يترتب عليه درء العقوبة الحدية، إذا سرق أحدهما من مال صاحبه.
ولم يقل أحد أنه يترتب على ذلك كله، أو أن في الحديث الشريف ما يفيد إباحة السرقة لكل منهما من مال الآخر، هذا ما لم يقل به أحد.
وكل ما قيل: أن ما ذكر ينتج شبهة لكل منهما في مال صاحبه تدرأ العقوبة الحدية، ولا تسقط العقوبة كلية إذ تبقى العقوبة التعزيرية، التي يختار منها القاضي ما يراه مناسبًا، كما يبقى أيضًا رد المال لصاحبه.
ثانيًا: لا يلزم من التسوية بين الزوجين، والأجنبيين في وجوب الرد، والضمان أن يسوي بينهما في إلزام العقوبة الحدية؛ لأن علة كل من الحكمين غير منضبطة.
نظرًا؛ لأن التسوية بين الزوجين والأجنبيين، فيما لكل منهما من حق في مال من سرق منه منعدمة.
إذ أنه لا حق لأجنبي في مال غيره ممن هو أجنبي بالنسبة له، أما الزوج والزوجة، فإن ما بينهما من الحقوق، وما على كل منهما للآخر من الواجبات، وما تحتمه العلاقة الشرعية بينهما من المخالطة ورفع الحجب، ما يوجب لكل منهما حقا في مال صاحبه، أو على الأقل ما يورث شبهة حق، أو أن ما أخذه من مال الآخر قد أخذه لغرض آخر غير السرقة، وحتى لو ادعى ذلك، فإن له من العلاقات بزوجه ما يقوي ما يدعيه ويرجحه، ويغلب احتمال صدق مقالته.
وعليه، فإنه لا وجهة التسوية بين الزوجين، والأجنبيين في إلزام كل منهما الحد إذا سرق أحد الزوجين من مال صاحبه، وسرق شخص من آخر غريب عنه.
ثالثًا: يرى ابن حزم أنه ليس في إباحة أخذ الزوجة حقها، وما يكفيها ما يسقط حدود الله بالنسبة لمن أخذ الحرام غير المباح، وهذا مما لا يختلف عليه أحد. لكنه يفهم من الحديث صراحة، إباحة أخذ الزوجة من مال الزوج ما يكفيها، دون تحديد نوع المال الذي تأخذ منه؛ لأن الحديث أطلق.
وابن حزم ممن لا يحمل النصوص أكثر مما يدل عليه ظاهرها.
وما دام ظاهر الحدجيث قد أباح الأخذ، وأطلق دون تحديد جهة أو نوع معين من مال الزوج، فلا شك أن ذلك يترتب عليه إسقاط حرز مال الزوج بالنسبة للزوجة.
وإسقاط الحرز يترتب عليه عدم إلزام العقوبة الحدية، لوجود شبهة تتصل بالركن الشرعي للجريمة، نظرًا؛ لأن جمهور الفقهاء يرى أن من أخذ مالًا حرامًا غير محرز لا يقطع بأخذه، وإنما يعاقب بعقوبة تعزيرية مناسبة، إذا رأى القاضي ذلك.
رابعًا: استدل ابن حزم على وجوب القطع على الزوجة، إذا سرقت من مال زوجها، مع أن لها فيه حقًا، بقياسه ذلك على ما يجب على من شرب عصيرًا حلالًا، ثم تعده إلى شرب المسكر منه.
ولا شك أن تسوية ابن حزم بين الحالتين تسوية غير منضبطة، وقياسه هذه بتلك قياس فاسد؛ لأن الزوجة التي أخذت من مال زوجها، قد أخذت مما لها في حق ثابت، أو على الأقل شبهة حق.
أما من تعدى شرب العصير الحلال إلى شرب المسكر الحرام مع علمه ذلك، فلا حق له، ولا شبهة حق قيما أقدم عليه.
فالقياس غير قائم، مع أن ابن حزم لا يعتبر القياس حجة مطلقًا1، "وحتى من يعتبر القياس حجة لا يعمله في إيجاب العقوبة الحدية".
خامسًا: التسوية بين "الزوجة وبين الأجنبي إذا أخذ كل منهما ما يزيد على حقه، في وجوب الحد على كل منهم بذلك، تسوية غير منضبطة؛ لأن حق الأجنبي معروف له، ومحدد تمامًا أما حق الزوجة، فليس بمحدد ولا معين المقدار؛ لأن تحديد ذلك يرجع فيه إلى مقدار حاجتها، وما يكفي شراء ما يلزمها، وتحديد ذلك يرجع فيه إلى الظروف والأحوال، والعمدة، فيه هو العرف، وذلك كله يختلف باختلاف الظروف من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، ومن زمان لآخر.
والتسوية بين الزوجة والأجنبي، إذا أخذ كل منهم ما يزيد عن حقه، تسوية غير مقبولة أيضًا؛ لأن ما تأخذه الزوجة، وتنفقه على نفسها وولدها، وإن كان زائدًا على ما يكفيها، وولدها إلا أنه غالبًا ما يسعد زوجها، وخصوصًا حين يرى آثار ذلك على ولده، وزوجته التي هي من نفسه ولباس له.
أما الأجنبي إذا أخذ ما يزيد على حقه، وأنفقه على نفسه، أو على ولده، فمما لا شك فيه أن ذلك يوفر صدر المأخوذ منه، ويثير حنقه، فالتسوية إذا غير منضبطة من كل جوانبها، ونواحيها.
1 يراجع في ذلك أ. د: سلام مدكور أصول الفقه الإسلامي ص650.
سادسًا: ما ذكره ابن حزم من أن الله سبحانه وتعالى لم يخص إذا أمر بقطع السارق والسارقة، إلا أن تكون زوجة من مال زوجها، وإلا أن يكون زوجًا من مال زوجته:"قد سبق الرد عليه بأن الآيات الكريمة لم تذكر شروط السرقة، ولا تصابها وما إلى ذلك".
وما دامت الآيات قد قبلت التخصيص في ذلك، فماذا يمنع من أن يكون من بين ما تخصص به أيضًا سرقة الزوجين من مال أحدهما، نظرًا لما لكل منهما في مال الآخر ما يورث شبهة، سواء أكانت شبهة حق طبقًا لما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حزم:"خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف".
أو كانت شبهة انتفاء الحرز نظرًا لطبيعة علاقة الزوجية، ولا يخفى بعد هذا كله أن ابن حزوم لا يرى درء الحد بالشبهة، هذا مذهبه، وقد سبقت مناقشته في الباب الأول، مع أن الشبهة هنا قد وصلت حدا انتقاص شرط من شروط إيجاب الحد على السارق، ألا وهو شرط إحراز المال المسروق بالنسبة للسارق، إذ الإذن بالدخول ينتفي معه الحرز يندرئ الحد، ولا يمنع درء الحد من إلزام السارق عقوبة تعزيرية مناسبة.
وقد ذهب فقهاء القانون الوضعي إلى أن الأمر بين الزوجين، لا يخلو من أحد فروض ثلاث، فإما أن يكون المال خاصًا بأحد الزوجين كالملابس، والأوراق وعندئذ يكون اغتياله من الآخر سرقة.
وإما أن يكون المال في عهدة أحد الزوجين لحفظه، أو التصرف فيه على وجه معين، وهنا يكون اغتياله تبديدًا.
وأخيرًا قد يكون المال في حيازة الزوجين معًا، ولو كان مملوكًا
لأحدهما، وعندئذ يكون اغتيال أحدهما مال الآخر خيانة للأمانة لا سرقة1.
ومن هذا يتضح أن القانون قد جعل لأخذ أحد الزوجين مال الآخر غير المحرز عنه، حكمًا غير حكم السرقة، وعاقب عليه بعقوبة مغايرة.
أما مال أحدهما المحزر عن الآخر، فقد عد أخذ الآخر له سرقة يلزمه بها عقوبتها، وهذا يتفق وما قال به فقهاء المالكية، والشيعة وجمهور الحنابلة، ورأي للإمام الشافعي، كما سبق بيانه.
5-
سرقة الشخص مما يشاركه فيه غيره:
المشاركة في المال أما أن تكون مشاركة فعلية، أو تكون مشاركة اعتبارية.
أ- المشاركة الفعلية:
ويراد بها أن يكون السارق شريكًا حقيقيًا في المال الذي سرق منه، ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا قطع على الشريك، إذا سرق من المال الذي له فيه شركة، وإن قل نصيبه؛ لأن له في المال المسروق حقًا شائعًا، ويترتب على ذلك تدرأ الحد عنه2.
وذهب فقهاء الشيعة إلى أن من سرق من المال المشترك بينه، وبين غيره بقدر حصته، أو أقل لم يقطع، ولكنه يعزر، أما لو سرق ما يزيد على حصته بقدر ربع دينار من الذهب، قطعت يده3.
1 أ. د: محمود مصطفى: القسم الخاص ص453-454، ص481-482.
2 المبسوط ج9 ص152، فتح القدير ج5 ص376-377 مغني المحتاج ج4 ص162، المهذب ج2 ص281، المغني ج8 ص278.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص284.
أما فقهاء المالكية، فقد ذهبوا إلى أن من سرق من مال شركة بينه، وبين آخرين يقطع بشرطين:
الأول: أن يحجب السارق عن مال الشركة، أي ليس له فيه تصرف.
الثاني: أن يسرق فوق حقه نصابًا من جميع مال الشركة ما سرق، وما لم يسرق إن كان مثليًا، كما إذا كان جملة المال اثني عشر درهما، وسرق منه تسعة دراهم، وأما إن كان مقومًا فالمعتبر أن يكون فيما سرق فوق حقه، مما سرق لا من جميع المال نصابًا.
وعليه فإن من سرق من مال له فيه شركة، ولم يكن المال محجوبًا عنه، فلا قطع عليه.
وكذا لو كان محجوبًا عنه، وسرق ما دون النصاب1، وعلل فقهاء المالكية تفريقهم بين المثلى، والمقوم حيث اعتبروا في المثلى كون النصاب المسروق فوق حقه في جميع المال المشترك، ما سرق وما لم يسرق، واعتبروا في المقوم كون النصاب المسروق فوق حقه، فيما سرق فقط، أن المقوم لما كان ليس له أخذ حظه منه، إلا برضاء صاحبه لاختلاف الأغراض في القوم كان ما سرقه بعضه حظه، وبعضه حظ صاحبه، وما بقي كذلك، وأما المثلى، فلما كان له أخذ حظه منه أبى صاحبه، لعدم اختلاف الأغراض فيه غالبًا، فلم يتعين أن يكون ما أخذه منه مشتركًا بينهما، وما بقي كذلك2.
1 الخرشي ج8 ص97، حاشية الدسوقي ج4 ص337.
2 المرجع السابق.
أما ابن حزم، فقد ذهب إلى أن من سرق من شيء له فيه نصيب، فإن كان نصيبه هو ما أخذه فقط، فلا قطع عليه.
أما إن أخذ نصيبه وزيادة، فإن كانت الزيادة مما يجب القطع في مثلها قطع، ولا بد، إلا أن يكون منع حقه في ذلك، أو احتاج إليه، فلم يصل إلى أخذ حقه إلا بما فعل، ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا قطع إذا عرف ذلك، وإنما عليه أن يرد الزائد على حقه فقط؛ لأنه مضطر إلى ما أخذ، إذا لم يقدر على تخليصه1.
والذي أرجحه من ذلك ما ذهب إليه الجمهور من القول بعدم قطع من سرق مالًا له فيه شركة، أو حق حتى وإن زاد ما أخذه على ماله في هذه الشركة من حق بمقدار النصاب وزيادة، وسواء أكان مثليًا أم منقولًا؛ لأن وجود حق السارق في المال يبيح له اتصال بهذا المال، فيصبح المال غير محرز بالنسبة له.
كما أنه تقوم في حقه شبهة ملكه لبعض المسروق، وهي وحدها تكفي لدرء العقوبة الحدية عنه.
والتفريق بين المثلى والمنقول تفرقة لا يقوم عليها دليل، حتى عند من أخذ بها.
ويكفي لرد رأي من قال بالقطع، ما روي من أن عاملًا لعمر -رضي الله تعالى عنه، كتب يسأله عمن سرق من مال بيت المال.
فقال عمر: لا تقطعا فما من أحد إلا وله فيه حق.
1 المحلى ج13 ص355.
وروى الشعبي1 أن رجلًا سرق من بيت المال، فبلغ عليًا كرم الله وجهه، فقال: إن له فيه سهمًا ولم يقطعه2.
فإذا كان السارق من بيت المال لم يقطع؛ لأن له فيه سهمًا، وهذا السهم غير معلوم المقدار، ولا مخصص بكونه مثليًا بالنسبة لما سرق أو قيميا، ومع ذلك درء الحد عنه لوجود هذا السهم له، فمن باب أولى يدرأ الحد عمن سرق مالًا له فيه شركة، وحق ونصيب.
هذا بالإضافة إلى أن مال بيت المال حرزه قائم بالنسبة لمن سرق منه، أما مال شركة السارق، فالحرز حتى وإن كان موجودًا، إلا أنه لا يقوم بالنسبة له، لجواز دخوله على هذا المال في أي وقت، سواء للاطمئنان عليه، أو لرعايته أو لمراجعته، وما إلى ذلك.
فإذا كانت سرقته المحرز لا يقطع بها أن كان للسارق فيما سرقه حق، فما بالنا بسرقته غير المحرز عنه، مما له فيه شركة ونصيب.
ويرى فقهاء القانون أن السرقة جريمة من جرائم الاعتداء على المال بقصد تملكه، فلا يتصور إذن حصولها من مالك، ونبغي على هذا أن من يختلس ماله لا يكون سارقًا، ولو كان سيئ القصد معتقدًا وقت الاختلاس أن المال يملكه غيره، وتسري هذه القاعدة، حتى ولو كان للغير حقوق على الشيء المختلس نجلعه أولى بالحيازة من مالكه.
غير أن القانون الإنجليزي قد توسع، فأخذ بعموم قاعدة أنه يعد سارقًا كل من يختلس من آخر شيئًا، لا يكون المختلس أحق بحيازته ممن اختلسه منه، ولو كان المختلس مالكًا للشيء، ولو بطريق الاشتراك مع
1 عامر بن شراحبيل ولد بالكوفة، كان يكره الرأي، سمع عليه أبو حنيفة الحديث ت 105.
2 المهذب ج2 ص281.
الغير، فيعتبر سارقًا الشريك الذي يفتح مخزن الشركة بمفاتيح مصطنعة، ويستولي خلسة على شيء من البضائع1.
فالقاعدة الأساسية تقضي بعدم عده سارقًا، وهذا ما ذهب إليه الجمهور من الشرعيين، وإن كان الاتجاه الإنجليزي قد ضيق الرأي، فاعتبروه سارقًا حتى، ولو كان ما أخذه مقدار نصيبه في الشركة2.
ب- المشاركة الاعتبارية:
ويراد بذلك أن يكون للسارق حق ما في المال، الذي سرق منه تقرر -هذا الحق له بدليل شرعي.
ولم يقرر هذا الحق عن طريق المشاركة الفعلية الناتجة عن مساهمة كل من المشاركين في رأس المال، محل الشركة، فالمشاركة الاعتبارية بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرت بالنسبة لكل من الزوجين، الواجب على شخص آخر، أوجد هذا النوع من الحق رعاية المصالح، والروابط التي يقررها الشرع، ويحميها ويحترمها، ويلزم على أساسها شخصًا الإنفاق على آخر وإعاشته.
وهذا النوع من المشاركة ينتج شبهة، تدرأ الحد عمن سرق من المال الذي حدد له الشرع الإعاشة منه، وتتضح صور المشاركة الاعتبارية، بالإضافة إلى ما سبق
أن ذكرت بالنسبة لكل من الزوجين مع الآخر، فيما يأتي من صور أيضًا:
1 أ. د: محمود مصطفى القسم الخاص ص464-466. أ. د: أحمد الألفي القسم الخاص ص181.
2 المرجعان السابقان.
أولًا: المشاركة التي بين الأقرباء ذوي الرحم المحرم كل في مال الآخر، وتشمل مشاركة الوالد ولده، والابن لأبيه، وكل من نفي عنه الحرج في أن يأكل من بيت من تربطه بن صلة، مما حددته الآية الكريمة.
ثانيًا: المشاركة القائمة بين جماعة من الجماعات في مال من الأموال التي تملكوها، أو ثبت لكل منهم حق فيه، ولم تتم قسمة هذه الأموال بينهم، ولم يعين ما يخص كل فرد منهم، أو لم يفصل عن باقي الأموال بوضوح، ولم يوضع في حرز خاص به.
هذه هي صورة المشاركة الاعتبارية، وسأذكر قيما يأتي آراء الفقهاء، فيما إذا سرق أحد هؤلاء من المال الذي له فيه شركة اعتبارية.
ونظرًا؛ لأنه قد سبق الحديث عن سرقة كل من الزوجين من مال الآخر. فسأخص بالحديث هنا ما بقي من صور.
أولًا: سرقة ذوي الرحم المحرم بعضهم من بعض
اهتم الإسلام اهتمامًا عظيمًا بصوة علاقة الأبوة، والحفاظ عليها، فأمر الله سبحانه وتعالى في كثير من آيات القرآن الكريم، بالإحسان إلى الوالدين، ورعايتهما والقيام بشئونهما.
1 من الآية 61 من سورة النور.
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الابن، وكل ماله لأبيه، ومن هنا ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الوالد، إذا أخذ شيئًا من مال ابنه، ولو على سبيل السرقة، فإنه لا يقطع بذلك؛ لأنه أخذ مالًا له فيه ملك، وثبوت هذا الملك للوالد في مال ولده ينتج شبهة في الركن الشرعي لجريمة السرقة، يترتب عليها درء العقوبة الحدية عنه.
والأب هنا مراد به الأم أيضًا، فإنه لا قطع عليها إذا سرقت من مال ابنها لما سبق.
وذهب فقهاء الأحناف، والشافعية والحنابلة، والشيعة إلى إطلاق الأب، وإن علا وكذا الأم وإن علت، أما فقهاء المالكية فقد اختلفوا في إطلاق الأب على الجد، وإعطاء الجد حكم الأب هنا، فقال ابن الحاجب1: وفي الجد قولان قال في التوضيح: اختلف الأجداد من قبل الأب والأم، فقال ابن القاسم:2 أحب إلي أن لا يقطع؛ لأنه أب؛ ولأنه ممن تغلظ عليه الدية، ورد ادرءوا الحدود بالشبهات، وقال أشهب3: يقطعون؛ لأنهم لا شبهة لهم في مال أولاد أولادهم، ولا نفقة لهم عليهم، وتأمل بعضهم قول ابن القاسم: أحب إلي على الوجوب، ولا خلاف في قطع
1 ابن الحاجب: أبو عمر عثمان بن عمرو المالكي، المتوفى سنة 646هـ، وهو صاحب كتاب منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل.
2 ابن القاسم المصري، أبو عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة، صاحب مالكًا عشرين سنة، وهو صاحب المدونة، وعنه أخذ سحنون، وقد روى الموطأ أيضًا توفي سنة 191هـ.
3 أشهب بن عبد العزيز القيسي، فقيه مصر ولد سنة 145هـ، ومات سنة 204هـ، انتهت رياسة المذهب المالكي بمصر بعد ابن القاسم.
باقي القرابات، وقد تبين له الخلاف في الجد مطلقًا لا في خصوص الجد لأم1.
وذهب جمهور الفقهاء من الأحناف، والشافعية والحنابلة، والشيعة إلى أن الابن، وإن سفل لا يقطع بسرقة مال والده، وإن علا.
وظاهر قول الخرقي2 من فقهاء الحنابلة، وأبي ثور من فقهاء الشافعية، وابن المنذر3 والإمام مالك أن الابن يقطع بسرقته من مال والده، لظاهر الكتاب؛ ولأنه يحد بالزنا بجاريته، ويقاد بقتله، فيقطع بسرقة ماله كالأجنبي.
ورد ذلك جمهور الفقهاء نظرًا لما بين الابن، وأبيه من قرابة تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه، فلا يقطع الابن إذا بسرقته من مال والده، كما لا يقطع الوالد بسرقته من مال ابنه.
ولأن النفقه تجب للابن من مال أبيه حفظًا له من التلف، وعليه فلا يجوز إتلافه حفظًا للمال.
ولا يجوز قياس قطعه بسرقته من مال أبيه على وجوب الحد
1 حاشية الدسوقي ج4 ص337، الخرشي ج8 ص96، المبسوط ج9 ص151، فتح القدير ج5 ص381، المذهب ج2 ص281، المغني ج8 ص275، مباني المنهاج ج1 ص285، شرح الأزهار ج2 ص375.
2 هو، أبو القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي، فقيه حنبلي من أهل بغداد، له تصانيف منها المختصر في الفقه، توفي بدمشق سنة 334هـ.
3 أبو بكر، محمد بن أبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيهًا عالمًا صنف في اختلاف العلماء كتبًا لم يصنف مثلها ت ص309، أو سنة 310.
عليه إذا زنى بجارته لما بين الحالتين من فروق أهمها أن للابن شبهة في مال أبيه، وليست هذه الشبهة موجودة في جارية الأب.
وقد بين هذا الشيرازي في قوله: ومن سرق من ولده، أو ولد ولده، وإن سفل أو من أبيه من جده وإن علا، لم يقطع.
وقال: أبو ثور يقطع، لقوله عز وجل:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فعم ولم يخصص، وهذا الخطأ لقوله عليه السلام:"ادرءوا الحدود بالشبهات"، وللأب شبهة في مال الابن وللابن شبهة في مال الأب؛ لأنه جعل ماله كماله في استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه، والآية نخصها بما ذكرناه"1.
وزاد فقهاء الأحناف، والشيعة على ما ذكر القول بعدم القطع على من سرق من ذي رحم محرم.
أما جمهور الفقهاء، فقد ذهبوا إلى قطع من سرق من ذي رحم محرم، أو من سائر أقاربه، عدا ما ذكر في الآباء والأبناء.
واعتمد الجمهور في ذلك على أنه ليس بين باقي ذي الرحم المحرم أبوة، ولا بنوة، وعليه فلا تتمكن الشبهة لأحدها في مال الآخر، بدليل قبول شهادة كل واحد منهم لصاحبه، وجواز إعطائه الزكاة؛ ولأن ما بينهما من قرابة لا يترتب عليها حرمة النكاح أيضًا، ولا استحقاق
1 يراجع في ذلك، المهذب للشيرازي ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص162المغني ج8 ص276، المبسوط ج9 ص151، فتح القدير ج5 ص380-382، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285-289 شرح الأزهار ج4 ص375، الخرشي ج8 ص96 حاشية الدسوقي ج4 ص337.
النفقة، ولهذا يقطع أحدهما إذا سرق من الآخر، ورد فقهاء الأحناف ومن وافقهم، ما ذهب إليه جمهور الفقهاء بأن له سبحانه وتعالى قد رفع الجناح، على الدخول في بيت الأخرى، والأعمام، والأكل منه، وظاهر هذا يقتضي الإباحة، والظاهر وإن ترك لقايم الدليل يبقى شبهة.
كما أن الآية الكريمة عطفت بيوت الأخوة، والأعمام على بيوت الآباء والأولاد، والمعطوف حكمه حكم المعطوف عليه.
ولا يتعرض على ذلك بما جاء من قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} ؛ لأن الصداقة هذه تنتفي مع السرقة، فتنتفي معها الشبهة، والأخوة لا تنتفي مع السرقة كالأبوة والبنوة.
كما ذهب الأحناف أيضًا إلى أن هذه القرابة، يتعلق بها استحقاق النفقة، والعتق عند الدخول في الملك، فإذا ثبت استحقاق النفقة، وما إلى ذلك استتبع وجود حق لبعضهم في مال بعض من وجه.
وعلى ذلك تنهض في حقهم شبهتان، أولاهما انتفاء الحرز بالإذن بالدخول، والثانية وجود حق في مقال بعضهم لبعض، ووجود هاتين الشبهتين، أو إحداهما يكفي لدرء العقوبة الحدية، كما أن العقوبة الحدية لا تلزم أيضًا إذا سرق من مال الغير، أو متاعه الموجود في بيت ذي الرحم لوجود الإذن بالدخول، بخلاف ما إذا سرق مال ذي الرحم المحرم من بيت غيره، فإنه يلزمه به القطع، لعدم الإذن بالدخول، ووجود الحرز.
وقد بين ذلك كله ابن الهمام بقوله: "وأما وجه عدم القطع في قرابة الولادة؛ فلأنها عادة تكون معها البسوطة في المال، والإذن في
الدخول في الحرز حتى يعد كل منهما بمنزلة الآخر، ولذا منعت شهادته له شرعًا. ويخص سرقة الأب من مال الابن قوله عليه الصلاة والسلام:"أنت ومالك لأبيك".
وأما غير الولادة، فألحقهم الشافعي رحمه الله بالقرابة البعيدة، ونحن ألحقناهم بقرابة الولاد، وقد رأينا الشرع ألحقهم بهم في إثبات الحرمة، وافتراض الوصل، فلذا ألحقناهم بهم في عدم القطع بالسرقة، ووجوب النفقة.
ولأن الإذن بين هؤلاء ثابت عادة للزيارة، وصلة الرحم، ولذا حل النظر منها إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة، وما ذاك إلا للزوم الحرج لو وجب سترها عنه مع كثرة الدخول عليها، وهي مزاولة الأعمال، وعدم احتشام أحدهما من الآخر.
وأيضًا فهذه الرحم المحرمة يفترض وصلها، ويحرم قطعها، وبالقطع يحصل القطع، فوجب صونها بدرئه.
ومما يدل على نقصان الحرز فيها قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} .
ورجع الجناح عن الأكل من بيوت الأعمام، أو العمات مطلقًا يؤنس طلاق الدخول، ولو سلم فإطلاق الأكل مطلقًا يمنع قطع القريب، ثم هو أن ترك لقيام دليل المنع بقيت شبهة الإباحة على أوزان ما قلنا في:"أنت ومالك لأبيك".
فإن قلت: فقد قال: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} ، كما قال:{أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ} ، والحال انه يقطع بالسرقة من صديقه، أجيب بأنه لما قصد سرقة ماله فقد عاداه، فلم يقع الأخذ إلا في حال العداوة.
ولو سرق من بيت ذي الرحم المحرم متاع غيره لا يقطع، ولو سرق مال ذي الرحم المحرم من بيت غيره، يقطع اعتبار للحرز وعدمه1.
وذهب ابن حزم إلى وجوب القطع على السارق مطلقًا، سواء أسرق من غريب عنه، أم من ذي رحم محرم، أو من والده أو من ولده، أخذا بظاهر آية السرقة التي أوجبت القطع على كل من سرق، إذا اكتملت فيه شروط القطع، سواء أكان بينه وبين المسروق منه صلة قرابة محرمية أم لا.
ورد على ما استدل به الجمهور فيما سبق، فقال: فأما الآية فحق، ولا دليل فيها على ما ذكروا، بل هي حجة عليهم، وقد كذبوا فيها أيضًا، أما كونها لا دليل فيها على ما ادعوه، فإنه ليس فيها إسقاط القطع على من سرق من هؤلاء لا بنص ولا بدليل، وإنما فيها إباحة الأكل لا إباحة الأخذ بلا خلاف من أحد من الأمه.
فإن قالو: قسنا الأخذ على الأكل قلنا لهم: القياس كله باطل، وأما قولهم:"إن إباحه الله تعالى الأكل من بيوت هؤلاء، يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم"، فليت شعري أين وجدوا هذا في هذه الآية أو في غيرها، فيدخل الصديق منزل صديقه بغير إذنه، هذا عجب من العجب، أما سمعوا قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} 2.
1 فتح القدير ج5 ص381، المبسوط ج9 ص151-152، البحر الرائق ج5 ص62-63، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285-290، شرح الأزهار ج4 ص375، حاشية الدسوقي ج4 ص337 المذهب ج2 ص281، المغني ج8 ص276.
2 من الآيتين 58-59 من سورة النور.
منكم.. إلى قوله تعالى: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، فنص الله تعالى على أنه لا يدخل بالغ أصلًا على أحد إلا بإذن، ودخل في ذلك الأب والابن وغيرهما، حاشا ما ملكت أيماننا، والأطفال، فإنهم لا يستأذنون إلا في هذه الأوقات الثلاثة فقط.
وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فقد أوضحنا أن ذلك حبر منسوخ قد صح نسخه بآيات المواريث، فإن قالوا: إن الوالدين حقًا في مال الولد؛ لأنهما إذا احتاجا أجبر على أن ينفق عليهما، فلا يقطع الأب أو الأم فيما سرقا من ابنهما، فهذا تمويه ظاهر، ولم يخالفهم أحد في أن الوالدين إذا احتاجا، فأخذا من مال ولدهما حاجتهما، باختفاء أو بقهر، أو كيف أخذا، فلا شيء عليهما، فإنما أخذ حقهما، وإنما الكلام فيهما إذا أخذا مالًا حاجة بهما إليه، أما سرا وإما جهرًا، فاحتجاجهم بما ليس من مسألتهم تمويه، كما أنهم لا يختلفون فيمن كان له حق عند أحد، فأخذ من ماله مقدار حقه، فإنه لا يقطع ولايقضي عليه برده، فلو كان وجوب الحق للأبوين في مال الولد إذا احتاجا إليه مسقطًا للقطع عنهما، إذا سرقا من ماله مالًا يحتاجان إليه، ولا حق لهما فيه، لوجب ضرورة أن يسقط القطع عن الغريم، الذي له الحق في مال غريمه، إذا سرق منه مالًا حق له فيه، وهذلًا مالًا يقولونه، فبطل ما موهوا به من ذلك1.
وما ذكره ابن حزم لا يخلو مما يرد عليه، إذ لم يقل أحد أن الآية أباحت السرقة، لكنها أباحت الأكل، وإباحة الأكل بترتب عليها وجود شبهة حق لمن أبيح له، في المال المباح الأكل منه، وشبهة الحق هذه تدرأ العقوبة الحدية، كما سبق الإشارة إلى ذلك،
1 المحلى ج13 ص380-386.
ولا يخفى أن ابن حزم لا يعمل الشبهات في درء الحدود، وقد سبق الرد عليه أيضًا،
وإباحة الأكل أيضًا لم يقل أحد بأنها تبيح الأخذ، وإنما تدرأ الحد فقط مع بقاء العقوبة التعزيرية، ووجوب رد المال، ولم يقال أحد أيضًا أن إباحة الأكل يترتب عليها إباحة دخول المنازل بغير إذن، وإنما يترتب عليها انتفاء حرز المال بالنسبة لمن أبيح له الأكل منه.
كما أن الآية التي تحدثت عن تحديد أوقات الدخول بالنسبة لما ملكت أيماننا وأطفالنا، فالدخول هنا مقصود به دخول مكان النوم، الذي قد يتخفف الإنسان فيه من ملابسه، أو تنكشف فيه عورته، بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال:{ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1.
وأما قول ابن حزم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أنت ومالك لأبيك"، قد نسخ بآيات المواريث، فقول مردود؛ لأنه لا تعارض بين ما يدل عليه الحديث وآيات المواريث؛ لأن هذا الحديث لم يسبق في معرض بيان نصيب الأب في مال ولده، أما محاولة استدلال ابن حزم على وجوب القطع على الوالدين، إذا أخذوا من مال ابنهما خفية ما يجب القطع به، قياسًا لهما بمن كان له حق عند آخر، فأخذ من غريمه أكثر من حقه، فقول مردود؛ لأنه قد جاء في أقوال الفقهاء، فيما مضى التفريق بين حالتين من الحالات التي يأخذ الغريم فيما ما زاد عن حقه، إذ أنهم قد أسقطوا الحد عن الغريم
1 من الآية 58 من سورة النور.
الذي لم يستطع الوصول إلى حقه، إلا بأخذ ما زاد عنه معه1.
ولا يخفى أن التسوية بين الوالدين، ولا بين الغريم تسوية غير مقبولة؛ لأن ما أخذه الوالدان قليل من كثير، إذا ما قيس بما أعطياه لابنهما، كما أن الابن إذا رأى آثار هذا المال على والديه، فلن يوغر صدره مثلمًا يراه على غريم.
أما فقهاء القانون الوضعي، فإنهم قد اعتبروا سرقة الفروع من أصولهم، أو الأصول من فروعهم، وكذا الأزواج، سرقة تختلف عن غيرها من السرقات، كل ذلك من باب المحافظة على الأسرة، وعلاقاتها.
فتنص المادة 312 من قانون العقوبات على أنه: لا تجوز محاكمة من يرتكب سرقة إضرارا بزوجه، أو زوجته، أو أصوله أو فروعه الأبناء على طلب المجني عليه، والمجني عليه أن يتناول عن دعواه بذاك في أية حالة كانت عليها الدعوى، كما له أن يوقف تنفيذ الحكم النهائي عن الجاني في أي وقت شاء.
وهذه المادة جاءت بدلًا من مادة أخرى، كانت تقضي بأنه لا يحكم بعقوبة ما على من يرتكب سرقة إضرارًا بزوجه، أو زوجته أو أصوله، أو فروعه.
1 من هؤلاء الفقهاء الأحناف، ويراجع في ذلك المبسوط ج9 ص178، فتح القدير ج5 ص377، بل وقد قرر ذلك ابن حزم نفسه، حين تحدث عمن سرق ما يزيد على حقه، فقال: إلا أن يكون منع حقه، أو احتاج إليه فلم يصل إلى
أخذ حقه إلا بما فعل، ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا يقطع إذا عرف ذلك، وإنما عليه أن يرد الزائد على حقه فقط؛ لأنه مضطر إلى أخذ ما أخذ إذا لم يقدر على تلخيص مقدار حقه، والله تعالى يقول:{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 6: 119.
يراجع في ذلك المحلى ج13 ص355.
ويعلق الأستاذ الدكتور: محمود مصطفى على المادة السابقة بقوله: وقد رؤي بهذا النص المحافظة على مصلحة الأسرة، فلم يشأ المشرع أن يخول للنيابة السير في الدعوى العمومية، رغم إرادة المجني عليه، الذي قد يرى أن مصلحة العائلة عدم إثارة الجريمة
…
وسواء أكان الفاعل يعلم بهذه العلاقة التي تربطه بالمجني عليه، أو أكان يجهلها1.
ثانيًا: السرقة من المال الذي تملكه الجماعة
والمال الذي تملكه الجماعة ينقسم بحسب ما يصدق عليه لفظ الجماعة إلى قسمين:
الأول: المال الذي تملكه جماعة محددة بسبب اغتنامها له، أو وقفه عليها، أو الإيصاء به لها، أو تخصيصه للإنفاق منه عليها.
الثاني: المال العام، أو الذي تملكه الدولة، وهو ما يسمى عند الفقهاء مال بيت المال.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من سرق من مال له فيه حق، فلا قطع عليه سواء أخذ حقه، أو ما زاد عنه اعتمادًا على أن وجود له في المال ينهض شبهة تدرأ الحد عنه.
وقد سبق بيان ذلك2:
وقيد أبن حزم، وفقهاء الشيعة الجعفرية عدم القطع بما إذا سرق
1 أ. د: محمود مصطفى القسم القاص ص481-483. أ. د: رءوف عبيد جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال ص413-418 "ط سنة 1978 دار الفكر العربي
2 المبسوط ج9 ص188. فتح القدير ج5 ص376-377.
المهذب ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص163، المغني ج8 ص277 شرح الأزهار ج4 ص376، ويراجع في ذلك ما جاء في الباب الأول، عند الحديث عن الشبهات التي تلحق الدليل الشرعي، وشبهة الحق.
مقدار حقه أو نصيبه، فإن زاد عن ذلك مقدار ما يجب القطع به قطع به قطع:"إلا أن يكون قد منع حقه، ولم يستطع الوصول إليه، إلا بما فعل ولم يقدر على أخذ حقه خالصًا، ولزمه في هذه الحالة رد الزائد على حقه".
وإسقاط الحد عنه في هذه الحالة ناتج من اضطراره لذلك1، وذهب الفقهاء الملكية، وحماد، وابن المنذر إلى أن من سرق من بيت المال -ومنه الشون التي توضع فيها الأقوات، أو من مال الغنيمة بعد أن تم جمعها، وقبل قسمتها، وإعطاء كل فرد نصيبه وجب قطعه، ولا يجوز النظر إلى أن له في ذلك شبهة، إذا سرق مال الجيش؛ لأنها شبهة ضعيفة لا تقدر على درء الحد، أما بيت المال فإن فقهاء المالكية يرون أنه لا شبهة أصلًا فيه لأحد، فيلزم القطع كل من سرق منه بشروطه، وجاء مثل ذلك في رأي الفقهاء الشافهية2، وأضاف المالكية إلى ذلك أن من سرق من مال الغنيمة قبل أن يتم جمعها، فلا قطع عليه، ويبدو أنهم بنوا ذلك على أساس أن الغنيمة قبل أن يتم جمعها مال غير محرز.
ويقول الخرش مبينًا ذلك: "وكذلك يقطع من سرق من بيت المال لضعف شبهته في بيت مال المسلمين، وسواء كان منظما أم لا، وكذلك يقطع من سرق من الغنيمة، بعد حوزها لضعف شبهته في الغنيمة، ويدخل
1 المحلى ج13 ص355، مباني المنهاج ج1 ص284.
2 مغني المحتاج ج4 ص163.
في بيت المال الشؤون بخلاف من سرق من الغنيمة، قبل حوزها، فإنه لا يقطع1.
وما ذهب إليه فقهاء الملكية، ومن وافقهم هو ما أرجحه؛ لأن بيت المال أو المال العام بصورته الحالية، لا توجد فيه شبهة لأحد من رعايا الدرعة، تبيح له السرقة من هذا المال العام؛ لأن الدولة قد حددت لكل فرد وطائفة راتبًا معينًا، ونصيبًا تستحقه، قل أم كثر، وحددت الجهة التي يصرف منها ذلك الراتب، وبينت الطريق الذي يتبع عند الطب أو التقاضي، وبدا لم تبق شبهة لأحد في المال العام.
اللهم إلا من احتاج ما يسد به رمقه ولم يجد، وهذا له حكم خاص به.
وقد ذهب فقهاء القانون الوضعي إلى مذهب إليه الإمام مالك، فقرروا أن أموال الدولة سواء وقعت في ملكيتها العامة، أو الخاصة، ليست من الأموال المباحة، ولذا فهي تصلح محلا للسرقة، فمن يستولي على شيء من ذلك يعد سارقًا.
وذهبوا إلى أن من الأموال ما تكون ملكية الدولة لها من قبيل الملكية السياسية العليا، فتأخذ حكم الأموال المباحة، وقد جرى قضاء محكمة النقض على أن أخذ الأحجار من الجبال من غير المناطق المخصصة للمحاجر لا يعتبر سرقة، إلا في صورة ما إذا ثبت أن الحكومة قد وضعت يدها عليها، وضعًا صحيحًا يخرجها من أن تكون
1 الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ج4 ص337، المغني ج8 ص277.
مباحة إلى أن تكون داخلة في ملكها الحر، أو المخصص للمنفعة العامة1.
6-
الاشتراك في السرقة:
يتحقق الاشتراك في السرقة بقيام أكثر من شخص بالركن المادي للجريمة.
ولا يخلو حال المشتركين في السرقة، عما يأتي:
أ- أن يقوموا جميعًا بإخراج المسروق من حرزه.
ب- أن يقوم البعض بإخراج المسروق من حرزه، والبعض بمراقبة الطريق، وما يتبع ذلك.
ج- أن يشارك في الإخراج من لا يجب عليه الحد.
وللفقهاء آراء في إلزام العقوبة الحدية للسراق في كل حالة من هذه الحالات:
أ- إذا قام السراق بإخراج المسروق من حرزه، ذهب فقهاء الأحناف والشافعية -عدا أبي ثور- ووافقهما إسحاق2، وهذا ما اختاره ابن قدامه: أنه إذا اشترك جماعة في سرقة، فلم تبلغ حصة كل منهم نصابًا، فلا قطع عليهم.
1 أ. د. محمود مصطفى القسم الخاص ص468.
أ. د. أحمد الألفي القسم الخاص ص283.
أ. د. رءوف عبيد جرائم الاعتداء على الأشخاص، والأموال ص342-347.
2 هو، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهوية أحد أعلام نيسابور، نقل عنه أنه أملى أحد عشر ألف حديث من حفظه، وكان فقيهًا عالمًا، ومحدثًا ت سنة 238، عن سبع وسبعين سنة.
وبنوا رأيهم هذا على أساس اشتراط النصاب لوجوب القطع، فما دام لم يبلغ نصيب كل سارق نصابًا، فلم يعد هناك ما يقضي قطعه؛ لأنه لا نص في ذلك ولا هو في معنى المنصوص عليه لاختلاف قيمة ما يجب به الحد.
وذلك كله يترتب عليه شبهة في إلزام العقوبة، والحد مما يدرأ بالشبهات، بين هذا ابن قدامة عند حديثه عن السراق، الذين اشتركوا في إحراج المسروق، فقال:"قال الثوري1، وأبو حنيفة، والشافعي، وإسحاق": لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصه كل واحد منهم نصابًا؛ لأن كل واحد لم يسرق نصابًا، فلم يجب عليه القطع، كما لو انفرد بدون النصاب، "ويعلق ابن قدامة على هذا بقوله": وهذا القول أحب إلي؛ لأن القطع هنا لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه، فلا يجب، والاحتياط بإسقاطه أولى من الاحتياط بإيجابه؛ لأنه مما يدرأ بالشبهات2.
وزاد الشيرازي المسألة تفصيلًا، فقال:
"وإنة نقب اثنان حرزًا وسرقا نصابين قطعا؛ لأن كل واحد منهما سرق نصابًا، وإن أخرج أحدهما نصابين، ولم يخرج الآخر شيئًا قطع الذي أخرج دون الآخر؛ لأنه هو الذي انفرد بالسرقة، فإن اشتركا في نصاب لم يقطع واحد منهما3.
ولا يخفى أن أبا حنيفة قد قيد قطعهم، إذا كان نصيب كل
1 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، مات بالبصرة متواريًا من السلطان سنة 161هـ.
2 المغني ج8 ص282.
3 المهذب ج2 ص277.
منهم نصابًا بحالة ما إذا لم يكن واحد منهم ذا رحم محرم من المسروق منه، ولا صبي1، وسيأتي بيان ذلك.
وذهب فقهاء المالكية، والحنابلة عدا ابن قدامة إلى وجوب القطع عليهم إذا بلغ ما أخرجوه نصابًا لكل واحد منهم، سواء أخرجوه أو استقل به واحد منهم، أما إذا لم يبلغ نصيب كل واحد منهم نصابًا، وبلغ المسروق في مجموعه نصابًا، فإن جمهور الحنابلة يرون القطع عليهم أيضًا، وقد فصل المالكية القول.
فقد أورد ابن قدامة، أن جمهور الحنابلة قد احتجوا بأن النصاب أحد شرطي القطع، فإذا اشترك الجماعة فيه كالواحد قياسًا على هتك الحرز؛ ولأن سرقة النصاب فعل بوجوب القطع، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص، ولم يفرق أصحابنا بين كون المسروق ثقيلًا يشترك الجماعة في حمله، وبين أن يخرج كل واحد منه جزءًا، ونص أحمد على هذا، وقال مالك: إن انفرد كل واحد بجزء منه لم يقطع واحد منهم، كما لو انفراد كل واحد من قاطعي اليد بقطع جزء منه، لم يجب القصاص2.
وزاد المالكية المسألة تفصيلًا، فرأوا أنه إن ناب كل واحد نصابًا قطعوا، استقل كل واحد بإخراجه أم لا، وإن لم ينب كل واحد نصابًا، بل ناب كل واحد أقل من نصاب، فإن استقل كل واحد بإخراجه من الحرز فلا قطع، وإلا فالقطع عليهم، وكذا القطع على جماعة رفعوه على ظهر أحدهم في الحرز، ثم خرج به إذا لم يقدر
1 فتح القدير ج5 ص363، المبسوط ج9 ص147.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص335، الخرشي ج8 ص95، الموطأ بشرح الزرقاني ج5 ص115، المغني ج8 ص282.
على إخراجه إلا برفعه معه، ويصيرون كأنهم حملوه على دابة، فإنهم يقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها، وأما لو حملوه على ظهر أحدهم، وهو قادر على حمله على ظهره دونهم كالثوب قطع وحده، ولو خرج كل واحد منهم من الحرز حاملًا لشيء من الآخر، وهم شركاء فيما أخرجوهم، لم يقطع منهم إلا من أخرج ما قيمته ثلاثة دراهم1.
وقال بذالك أيضًا فقهاء الشيعة بدون تفصيل، فقالوا:"لا فرق في ثبوت الحد على السارق أخرج متاعًا واحدًا للمتاع من حرز بين أن يكون مستقلًا، أو مشاركًا لغيره، فلو أخرج شخصان متاعًا واحدًا، ثبت الحد عليهما جميعًا، ولا فرق في ذلك أيضًا بين أن يكون الإخراج بالمباشرة، وأن يكون بالتسبب فيما إذا أسند الإخراج إليه لإطلاق الأدلة"2.
واستدل فقهاء المالكية، وجمهور فقهاء الحنابلة، وأبو ثور لذلك بوجوب القصاص على من اشترك في القتل، فكذلك يجب القطع على من اشتركا في سرقة النصاب.
وما ذهب إليه فقهاء الأحناف، والشافعية وابن قدامة ومن وافقهم أولى بالاتباع؛ لأن الاحتياط بالقول بإسقاط الحد أولى من القول بإيجابه.
وفرق بين إسقاط الحد في السرقة، وإسقاط عقوبة القصاص بالاشتراك.
ففي القصاص لو لم يجب على من اشتركوا في القتل، لغدا الاشتراك في القتال طريقًا لإسقاط القصاص، وإهدار الدماء، بخلافه
1 المراجع السابقة.
2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص289.
ما في الاشتراك في السرقة؛ لأنه لو كان نصيب كل فرد منهم نصابًا وجب القطع عليهم جميعًا، أما إذا لم يبلغ نصابًا غدت الشبهة مسقطة الحد على من لم يخرج بالنصاب، أو لم يحمل مع الآخرين مشتركين ما قيمة نصابًا، ودرء الحد لن يعفي من رد السرقة، وإلزام الفاعلين الذين لم يحدوا عقوبة تعزيرية مناسبة.
ب- إذا قام البعض بإخراج المسروق من الحرز، والبعض بمراقبة الطريق، وما يتبع ذلك من معاونة:
ذهب فقهاء الأحناف -ما عدا زفر- إلى أن المتعاونين في إخراج المسروق عليهم القطع جميعًا استحسانًا.
وجه الاستحسان أنهم اشتركوا في هتك الحرز، وصار المال مخرجًا بمعاونتهم فيلزم القطع، كما لو أخرجوه على ظهر الدابة.
وهذا؛ لأن هذه زيادة حيلة معروفة بين السراق، أن يباشر حمل المتاع واحد منهم، وأصحابه يكونون مستعديين لدفع صاحب البيت عنه، وعن أنفسهم، فلا يجوز أن يكون ذلك مسقطًا للحد عنهم.
وقد قاس فقهاء الأحناف ذلك بمسألة من يكون ردءا قبل قطع الطريق، إذ يجب عليه ما يجب على المباشر للقطع؛ لاعتباره مشاركًا له في أخذه، واحتماء به والاعتماد عليه1.
أما باقي الفقهاء، فلم يروا القطع إلا على من أخرج المسروق فقط من الحرز؛ لأنه هو السارق.
ولم يقس هؤلاء المسألة هنا بمسألة الردء في قطع الطريق؛ لأنهم يرون أن حد قطع الطريق بسب المحاربة، والردء مباشر للمحاربة؛ لأن
1 المبسوط ج9 ص149، فتح القدير ج5 ص290.
المحاربة في العادة هكذا تكون، فإنهم لو اشتغلوا جميعًا بالقتال، فإذا وقعت الهزيمة عليهم لا تستقر قدمهم، وإذا كان بعضهم ردءا، فإذا وقعت الهزيمة على المباشرين للحرب التجئوا إلى الردء، فلهذا كانت العقوبة عليهم، بخلاف السرقة، فالحد هنا إنما يجب بمباشرة فعل السرقة، وذلك في إخراج المال من الحرز، فإذا كان المخرج بحكم فعله، لم يجب القطع على غيره.
وهذا التعليل من القائلين بالقطع على من أخرج المال من الحرز فقط، وإن كانت له وجاهته، إلا أنه يترتب عليه ضياع الحقوق؛ لأن السراق لن يعدموا حيلة يحاولون بها الهروب من القطع، ولا يخفى أن بعض الفقهاء مثل الشيعة والحنابلة، وغيرهم يرون أنه لو هتك شخص الحرز، وأخذ المال شخص آخر فلا قطع عليهما1، وفي هذا حض على اللجوء إلى الحيلة تحاشيًا للحد.
ج- إذا شارك في إخراج المسروق من لا يجب عليه الحد:
الذي لا يجب عليه الحد بالسرقة، أما أن يكون غير مكلف كالصبي والمجنون، وأما أن يكون مكلفًا كالأب، والأم والجد.
وفقهاء الأحناف قد رأوا أنه إذا شارك في السرقة من لا يلزمه الحد بها، فلا قطع على باقي المشاركين له فيها؛ لأن عدم وجوب القطع على أحد الشركاء، تنتج عنه شبهة في حق الباقين، ويترتب على هذه الشبهة درء الحد عنهم.
1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص286، المغني ج8 ص284، ويراجع في الموضوع
المهذب ج2 ص277، الخرشي ج8 ص95، فتح القدير ج5 ص390.
يقول السرخسي:
"وإذا سرق رجلان ثوبًا من رجل، وأحدهم أب للمسروق منه لم يقطع واحد منهما"، أما الأب فلتأول له في مال والده بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم. "أنت ومالك لأبيك"؛ ولأنه قد يدخل بيته من غير استئذان عادة، فلا يكون بيته حرزًا في حقه، والسرقة فعل من السارق، فإذا امتنع القطع على أحدهما للشبهة، يمتنع وجوبه على الآخر للشركة، وهو نظير ما قلنا في الأب، والأجنبي إذا اشتركا في قتل الولد، لم يجب القصاص على واحد منهما1.
هذا إذا كان الشريك أبا للمسروق منه ومن في حكمه، أما إذا كان الشريك صبيًا، فقد ذهب أبو يوسف إلى أنه إذا حمل البالغ المتاع، وخرج به فعليه القطع، ولا معتبر بفعل الصبي، وعلل رأيه بأن درء القطع لهذا يتطرق السراق به إلى إسقاط القطع؛ لأن كل سارق لا يعجز عن أن يستصحب صبيًا، أو معتوهًا مع نفسه.
كما ذهب فقهاء الأحناف أيضًا إلى أنه إذا كان واحد من السراق أخرسًا، فلا قطع، لتمكن الشبهة في حق الأخرس؛ لأنه لو كان ناطقًا ربما يدعي شبهة يدرأ عبها الحد عن نفسه، وأما الناطق فلأجل المشاركة2.
وذكر ابن قدامة أنه إذا كان أحد الشريكين في السرقة، من لا قطع عليه كأبي المسروق منه قطع شريكه في أحد الوجهين، لو شاركه في قطع يد ابنه.
والثاني: لا يقطع وهو أصح؛ لأن سرقتهما جميعًا صارت علة
1 المبسوط ج9 ص151، 152، فتح القدير ج5 ص363.
2 المبسوط ج9 ص189.
لقطعهما، وسرقة الأب لا تصلح موجبة للقطع؛ لأنه أخذ ماله أخذه، بخلاف قطع يد ابنه، فإن الفعل تمخض عدوانًا، وإنما سقط القاص لفضيله الأب لا لغنى في فعله، وههنا فعله قد تمكنت الشبهة منه، فوجب أن لا يجب القطع به كاشتراك العامد والخاطئ، وإن أخرج كل واحد من السارقين نصابًا، وجب القطع على شريك الأب؛ لأنه انفرد بما يوجب القطع1.
وذهب فقهاء المالكية إلى أن من سرق نصابًا مع شركة صبي له في السرقة أو مجنون، يقطع المكلف فقط حتى، ولو كان النصاب المسروق ملكًا للمجنون المصاحب للسارق، أو كان المجنون أبا للمسروق منه؛ لأن المجنون كالعدم، فيجب القطع على المكلف، أما إذا كان شريك السارق أبا للمسروق منه، أو أما أوجدًا، وكان عاقلًا فلا قطع على الشريك لدخوله مع ذي شبهة قوية2.
وذهب فقهاء الشافعية، والشيعة إلى وجوب القطع على من لا يقوم المانع في حقه، سواء ثشاركه فعله صبيًا، أو مجنونًا أو أبا للمسروق، أو غير ذلك ممن لا يقطع بسرقته، هذه؛ لأن عدم القطع نشأ عن سبب خاص بأحد الشريكين، فلا يتعداه للآخر3.
وما ذهب إليه فقهاء المالكية هو ما أرجحه؛ لأن من كان شريكه في السرقة أبا للمسروق منه، أو أما أو جدا تقوم في حقه شبهة، لجواز أنه ذهب لمساعدة هذا الأب مثلًا؛ ولأن دخول الحرز بمصاحبة من له
1 المغني ج8 ص283.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص335، الخرشي ج8 ص95- شرح الزرقاني ج5 ص95.
3 سني المطالب ج4 ص138، 139، ماني المنهاج ج1 ص689 شرح الأزهار ج4 ص364.
دخوله شبهة قوية تدرأ الحد عنه، ويلزم برد المال وبعقوبة تعزيرية مناسبة؛ لأن مثل هذا نادرا بحرص الأب، والأم والجد على مال ابنهما غالبًا أكثر من حرص صاحب المال نفسه.
وذهب فقهاء القانون الوضعي إلى عدم اشتراط أن يكون الاستيلاء على الشيء بيد الجاني، بل يكفي أن يكون بفعله، فمن يدرب قردًا على النشل، أو يحرض كلبًا على السرقة، أو يهيئ أسباب انتقال الحيازة إليه، كمن يحول مجرى مياه الغير إلى أرضه يعد سارقًا.
وكذا لا ينفي الاختلاس إذا حدث التسليم من صغير، أو مجنون أو سكران ففي ذلك كله تقوم في حق المدبر لذلك، والمخطط والمنفذ جناية السرقة، مع أنه لم يقم بالاستيلاء على الشيء بيده1.
7-
سرقة ما اختلف في ماليته:
اشترط الفقهاء لوجوب القطع في السرقة أن يكون المسروق مالًا، أو ما يمكن أن يعتاض عنه بمال.
هذا ما اتفق عليه الفقهاء، وإن كانت وجهة نظرهم قد اختلفت في مالية بعض الأشياء، مما نتج عنه اختلاف آرائهم في القول بوجوب القطع على من سرقها، ومن ذلك الاختلاف على ماليته، ما يأتي:
أ- الصبي.
ب- المصحف وكتب العلم.
ج- بعض الحيوانات.
د- آلات اللهو.
هـ- مال الحربي المستأمن.
1 أ. د: محمود مصطفى القسم الخاص ص442-443 أ. د: أحمد الألفي القسم الخاص ص269.
"أ" سرقة الصبي:
الصبي الذي يتعرض السرقة، إما أن يكون حرًا أو عبدًا، فإن كان حرًا فقد ذهب جمهور فقهاء الأحناف، وفقهاء الشافعية، والحنابلة إلى القول بعدم وجوب القطع على من سرقه؛ لأنه لم يسرق مالًا، فإن كان على الصبي حلي بمقدار -النصاب، فلا قطع عندهم أيضًا بسرقته؛ لأن هذا الحلي تابع لما لا قطع في سرقته؛ ولأن يد الصبي عليه ثابتة، بدليل أن ما يوجد في اللقيط يكون له.
وذهب فقهاء الشافعية في أحد رأييهم أنه لو سرق صبيًا عليه حلي بقدر النصاب قطع؛ لأنه قصد سرقة ما عليه من مال، وذهب أبو يوسف، وفقهاء المالكية والشيعة، وابن حزم إلى القول بوجوب القطع على من سرق صبيًا حرًا كان أم عبدًا، معه حلي أم لا، وإن كان أبو يوسف قد اشترط وجود الحلي معه، وإلا فلا قطع بسرقة الصبي عنده إن كان حرًا.
أما من سرق عبدًا، فإن كان يعقل، وينطق فلا قطع بسرقته، إلا إذا سرق وهو نائم أو سكران، أو مغمى عليه، بحيث لا يقدر على الامتناع من السرقة1.
وما أرجحه ممن ذلك وهو وجوب القطع على من سرق صبيًا حرًا كان، أو عبدًا معًا لمال، أم لا يعقل وينطق أم لا؛ لأن سرقة الصبي أشد ضررًا من سرقة المال، وهذا مما لا ينكره أحد، فقد تسرق أموال بعض الناس، ولا يشغلهم ذلك كثيرًا، بينما لا يوجد من لا يفزع لسرقة ابنه، خصوصًا إن كان صغيرًا.
1 فتح القدير ج5 ص371.
ب- سرقة المصحف، وكتب العلم:
ذهب فقهاء الأحناف إلى أنه لا يجب القطع بسرقة الكتب المشتملة على علم الشريعة، وتشمل هذه الكتب المصحف، وكتب الحديث والفقه، والتفسير والأدب والشعر؛ لأن الحاجة داعية إلى معرفة ما فيها، وذلك ينتج شبهة يترتب عليها إسقاط الحد عن سارقها، حتى ولو كان عليها حلية؛ لأنها تابعة لما لا قطع فيه.
يقول ابن الهمام:
ولا يقطع في الدفاتر كلها: للكتب المشتملة على علم الشريعة كالفقه، والحديث والتفسيير، وغيرها من العربية والشعر، وقد اختلف في غيرها فقيل محلقة بدفاتير الحساب، فيقطع فيها، وقيل: بكتب الشعر؛ لأن معرفتها قد تتوقف على اللغة والشعر، والحاجة وإن قلت كفت في إيراد الشبهة.
وذهب جمهور الفقهاء إلى القول بقطع من سرق المصحف، أو كتب العلم إذا توافرت فيه باقي شروط القطع؛ لأنه بسرقته ذلك قد دخل في عموم من تشمله أدلة القطع من القرآن والسنة؛ ولأنها متقومة سواء أكانت هذه الأشياء المسروقة، من المصاحف أو الكتب محلاة أم غير محلاه، ما دام المسروق قد بلغت قيمته نصابًا1.
وما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع؛ لأن المصاحف وكتب العلم ينفق على طبعها، ونشرها مال كثير، وهذه أيضًا تباع، وتشترى، وتقدر
1 المبسوط ج15 ص277، المغني ج8 ص247-248، المحلى ج13 ص369-370، أسنى المطالب ج4 ص141، الإقناع في حل ألفاظ أبي الشجاع ج4 ص171.
قيمتها من حيث أوراقها، وطباعتها بمال بل ومال كثير، والقول بعدم ماليتها يرده الواقع والمشاهد.
وقد يضر المرء إذا سرق منه مصحف، أو كتاب من كتب العلم أكثر مما يضر بسرقة ما تبلغ نصاب السرقة، أو يزيد من المال، بل إن القوانين الوضعية ذهبت إلى أكثر من هذا، فعاقبت من سرق حق مؤلف فيما ألف، ومن اشترى نسخة من كتاب، ثم قام بنقل ما فيها، وطبعه دون موافقة مؤلفه الأصلي.
بل إن سرقة الاختراع العلمي حتى الذي لم يدخل مرحلة التنفيذ، أمر له اعتباره القانوني.
ج- سرقة بعض الحيوانات -المختلف في ماليتها:
اختلف الفقهاء في مالية بعض الحيوانات كالكلاب، والسباع، والفهود وما ماثلها، وقد أدى اختلافهم هذا إلى الاختلاف في إيجاب القطع بسرقة هذه الحيوانات.
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بعدم قطع من سرق مثل هذه الحيوانات، نظرًا؛ لأن هذه الحيوانات مباحة الأصل، وغير مرغوب فيها؛ ولأن اختلاف الفقهاء في ماليتها يورث شبهة، يترتب عليها درء الحد عمن سرقها.
ولم يفرق القائلون بعدم القطع بين كون هذه الحيوانات معلمة، أو مدربة أم لا؟
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيع الكلب، ولم يقيد بكونه معلمًا، أو مدربًا على عمل من الأعمال أم لا، ومثل الكلب أيضًا الخنزير، ولو كان ملكًا لذمي1.
1 فتح القدير ج5 ص371، المبسوط ج9 ص154، الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ج4 ص336، المهذب ج3 ص280، مغني المحتاج ج4 ص160، المغني ج8 ص160، المحلى ج3 ص366.
وذهب عطاء إلى القول بالقطع على من سرق خمرًا، أو خنزيرًا من أهل الكتاب؛ لأنه حل لهم في ينهم1.
وذهب أشهب من فقهاء المالكية، إلى وجوب القطع على من سرق حيوانًا مأذونًا في اتخاذه، أما ما لم يؤذن في اتخاذه، ولم يكن مملوكًا لأحد، فلا قطع على من سرقه2.
والذي أرجحه من ذلك هو قول الجمهور بعدم قطع من سرق حيوانًا من هذه الحيوانات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعها، فيترتب عليه عدم ماليتها، وإن جاءت بعض الناس وقاموا ببيع هذه الحيوانات وشرائها، وهذه المخالفة لا يترتب عليها مالية هذه الحيوانات، كما أن الأصل فيها أن تكون مباحة3، وذلك كله يترتب عليه شبهة، ينتج عنها درء الحد عمن سرقها.
1 المحلى ج13 ص364، 365.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص336.
3 ذكر أستاذي الدكتور سلام مدكور عند حديثه، عما أباح الشارع استهلاكه وتملكه، وبصفة خاصة عن المادة والإباحة: أن الماء في المجاري العامة كالأنهار، والترع التي تنشئا الدولة فيها إباحة عامة، والأصل في هذه الإباحة العامة الأصلية، ما رماه ابن ماجه، عن أبي هريرة بسند صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار". أما الماء المحرز في الأواني والأنابيب، والصهاريج ونحوها فهو مالك خاص لصاحبه، لا حق لأحد فيه، وخرج عن الإباحة الأصلية، وذكر أن هناك قول بعدم وجوب حد السرقة على من سرق هذا الماء المحرز، نظرًا =
د: "سرقة آلات اللهو":
ذهب الفقهاء إلى أن اتلاف آلات اللهو، التي لا تستعمل إلا فيه جائزًا، أما ما استعمل منها في أغراض مباحة كتدريب الجيوش، وما إلى ذلك، فهي آلات تؤدي عرضًا مشروعًا، فيجوز اقتناء ما يحتاج إليه منها.
كما ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بعدم القطع في سرقة آلات اللهو من دف وما أشبهه؛ لأنها ليست بمال متقوم، وإنما هي آلات معصية.
يقول السرخسي:
"ولا قطع في الدف، وما أشبهه من الملاهي، أما عندهما؛ فلأنه
= لأن هذا الماء، وإن صار ملكًا بالإحراز، إلا أنه فيه شبهة الشركة الطبيعية التي أثبتها الحديث الصحيح: الناس شركاء في ثلاث الماء، والكلأ والنار"؛ ولأن الشركة وأن أزالتها اليد المتوالية، فقد بقيت شبهتها، ثم بين أستاذي الدكتور سلام أن الذي يراه في هذا، هو أن شبهته الشركة هنا غير واضحة. وأن اقتضاءها لعدم القطع غير مستقيم، ولا سيما أن ابن ماجه قد أورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه، وهذا يدل على أن الماء المحرز ملك لمن أحرزه، وأنه لا شركة فيه، فمن أين تجيء شبهة الشركة، ثم أورد أقوال كثير من الفقهاء، والأئمة توجب قطع يد السارق للماء المحرز، إذا بلغت قيمته نصابًا، وما ذهب إليه القائلون بعدم وجوب القطع هو ما أرجحه؛ لأن شبهة الشركة، وإن زالت عن الماء المحرز، إلا أن شبهة اختلاف الفقهاء المسماة بشبهة الجهة قائمة، وقوية المدرك، وعليه فإن الحد يندرئ، وإن ألزم السارق بعقوبة تعزيرية ورد قيمة ما أخذه، تراجع الإباحة عند الأصوليين. والفقهاء ص113-157
ليس بمال متقوم حتى لا يضمن متلفه، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وإن كان يجب الضمان على المتلف باعتبار معنى آخر فيه سوى اللهو؛ ولأن للآخذ تأويلًا في أخذه؛ لأنه يقصد به النهي عن المنكر، وهو استعماله للتلهي، فيصير ذلك شبهة"، واختلف في طبل الغزاه، فقيل: لا يقطع به أيضًا، وقيل: يقطع؛ لأنه مال متقوم ليس موضوعًا للهو، فليس آلة للهو1.
ويقول ابن قدامة:
"ولنا أنه آلة للمعصية بالإجماع، فلم يقطع بسرقته كالخمر؛ ولأن له حقًا في أخذها لكسرها، فكان ذلك شبهة، مانعة من القطع كاستحقاقه مال ولده، فإن كانت عليه حلية تبلغ نصابًا، فلا قطع فيه أيضًا؛ لأنه متصل بما لا قطع عليه2.
وهذا ما ذهب إليه أيضًا فقهاء الشافعية، إذا كان لا يصلح إلا للمعصية، أما إن كان يصلح لمنفعة مباحة، فإنهم يقطعون بسرقته؛ لأنه مال متقوم على متلفه3.
وذهب فقهاء المالكية إلى أنه إذا بلغت قيمة متلفة نصابًا قطع بسرقته، وجاء مثل هذا أيضًا في رأي فقهاء الحنابلة4.
ولا يدخل في ذلك ما صنع من أجهزة استقبال كالمزياع المسموع.
أو المسموع والمرئي؛ لأنه لا يقصد منه اللهو، وإنما هو وسيلة إعلامية وثقافية، والذي أرجحه أن من سرق شيئًا من آلات اللهو لا قطع عليه
1 المبسوط ج9 ص154، فتح القدير ج5 ص371.
2 المغني ج8 ص273.
3 المهذب ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص160.
4 الخرشي ص96 حاشية الدسوقي ج4 ص336.
وإن ألزم بضمان قيمتها، وبعقوبة تعزيرية يقدرها القاضي؛ لأنه إن كان يبغي الإصلاح، فليس بهذا الطريق يتم الإصلاح، ولا قطع عليه لما فيها من شبهة.
هـ: "سرقة مال الحربي المستأمن"
لا خلاف بين الفقهاء على أن من سرق مالًا لذمي، يقطع به كالسرقة من مال المسلم، حتى ولو كان هذا المسروق صلبيا، إذا كانت قيمة الصلب تبلغ نصاب السرقة، وبشروط القطع والإمام أبو حنيفة وإن لم ينص بالقطع فيه إلا أنه أوجب ضمان ما فيه من المالية، أما أبو يوسف، فقد فصل القول في ذلك بأنه إذا كان الصليب في مصلاهم، فإنه لا قطع على من سرقه؛ لأنه أخذه من مكان مأذون في دخوله، أما إن كان في حرز لا شبهة فيه قطع من سرقة؛ لأنه مال محرز على الكمال.
أما مال الحربي المستأمن، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب القطع على من سرقه:"أيا كان نوع هذا المال؟ "، فيقول الدسوقي في معرض حديثه، عما يجب القطع بسرقته، "دخل فيه -أي فيما يجب القطع بسرقته- مال حربي دخل عندنا بأمان، فيقطع سارقه المسلم"1.
ويقول ابن قدامة:
"ويقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي، ويقطع الذمي بسرقة مالهما، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، فأما الحربي إذا دخل إلينا مستأمنا، فسرق فإنه يقطع أيضًا.. ثم يقول:
1 حاشية الدسوقي ج4 ص336، الخرشي ج8 ص96، ويراجع أيضًا: المهذب ج2 ص281، المحلى ج13 ص364-366، ص371-272.
"وإذا ثبت هذا، فإن المسلم يقطع بسرقة ماله، وعند أبي حنيفة لا يجب، ولنا: أنه سرق مالا معصومًا من حرز مثله، فوجب قطعه كسارق مال الذمي"1.
أما فقهاء الأحناف، فقد جاء عنهم: أنه لا يقطع السارق من مال الحربي المستأمن عندنا استحسانًا، وفي القياس، وهو قول زفر رحمه الله؛ لأن ماله محرز بدارنًا، فإنه معصوم كالذمي، وجه الاستحسان أن العصمة بالإحراز بالدار، وإحراز المستمن لا يتم، ألا ترى أن إحراز المال تبع لإحراز النفس، ولا يتم إحراز نفسه بدار الإسلام حتى يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب، فكذلك لا يتم إحراز ماله؛ ولأنه بقي حربيًا حكمًا، حتى يبقى النكاح بينه، وبين زوجته في دار الحرب، ومال الحربي مباح الأخذ، إلا أنه يتأخر إباحة الأخذ بسبب الأمان إلى أن يرجع إلى دار الحرب، فيصير ذلك شبهة في إسقاط لقطع عن السارق"2.
وما دمنا نقطع الحربي المستأمن إذا سرق من مسلم، فكيف لا نقطع المستأمن هو ما أرجحه، وأميل إليه، نظرًا؛ لأن ما اعتمد عليه الجمهور أقوى مما اعتمد عليه الأمام أبو حنيفة.
وما دمنا نقطع الحربي المستأمن، إذا سرق من مسلم، فكيف لا نقطع المسلم إذا سرق من الحربي المستأمن.
إن ذلك هو الأولى، بل إن نفس ما ذكره الأحناف يقرر ذلك، فهم قد اعترفوا أن القياس يحتم القطع بسرقة ماله، ولم يقطعوه استحسانًا.
1 المغني ج8 ص268.
2 المبسوط ج9 ص181، فتح القدير ج5 ص369.
والذي يرجع إليه في تقرير الحدود للفصل في هذه القضية، هو ما جاء من عموم في النصوص التي قررت الحدود، وهي قد شملت بعمومها كل سارق وسارقة، والرجوع إلى ذلك أولى من الرجوع إلى غيره، سواء في تقرير حد، أو الإخراج منه بالنسبة لما تحدث عنه الفقهاء في هذا الموضوع.
كما أن الحربي بدخول ديارنا، وإعطائه الأمان قد أحرز نفسه، وماله ما دام ملتزما بهذا الأمان، وما يقتضيه من شروط، وواجبات أما أن نقضه، أو رفع هذا الأمان عنه لسبب ما من الأسباب، فإنه يصبح حربيًا له ما للحربي من معاملات، وأحكام.
8-
الخصومة: آراء الفقهاء في اشتراط قيامها لإيجاب القطع
فرق جمهور الفقهاء بين ثبوت المال على السارق للمسروق منه، وبين وجوب القطع على السارق، فذهب الجمهور إلى أن المال يثبت على السارق بإقراره، أو بإقامة البينة على سرقته حسبة.
أما وجوب القطع على السارق، فاشترط له حضور المسروق منه، ومطالبته بالسرقة؛ لأن الخصومة شرط لطهورها، وعلى هذا، فإذا أقر السارق عند الحاكم، وذكر أنه سرق مالًا لفلان، نصابًا من حرز لا شبهة له فيه، فإن الحكم لا يقطعه حتى يحضر صاحب المال، ويدعيه ويخاصم السارق ومبنى الشبهة هنا، أن الإباحة من المالك أباح ذلك المال.
أو أن المالك أذن في دخول بيته، فاعتبرت المطالبة دفعًا لهذه الشبهة، فالمعول عليه أن ملك المقر قائم ما لم يصدقه لمقر له1.
1 المبسوط ج9 ص186، 187، فتح القدير ج5 ص400، 401، المهذب ج2 ص282- أسنى المطالب ج4 ص152 مغني المحتاج ج4 ص175، المغني ج8 ص269، مباني المنهاج ج1 ص313.
وزاد الإمام أبو حنيفة، ووافقه محمد القول باشتراط بقاء الخصومة، حتى يتم التنفيذ، ولا يكفي قيامها حتى القضاء فقط، وقد بين السرخسي ذلك بقوله: "وإذا حكم على السارق بالقطع ببينة، أو بإقرار ثم قال المسروق منه: هذا متاعه، أو قال: لم يسرقه مني إنما كنت أودعته.
أو قال: شهد شهودي بزور، أو قال: هو باطل بطل القطع عنه، لانقطاع خصومته، وقد بينا أن بقاء الخصومة إلى وقت استيفاء القطع شرط، وأن المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء في الحد، كالمنقرن بأصل السبب، وهذا بخلاف رد المال بعد القضاء"1.
وذهب الإمام مالك، وفي رأي سرجوح عند الإمام أحمد، والشيعة الجعفرية إلى أن قيام الخصومة، ليس شرطًا لقبول الشهادة في السرقة، والحكم بمقتضاها بالعقوبة المقدرة، وعلى هذا إذا حضر الشهود، وشهدوا بالواقعة سمعت شهادتهم، وألزم السارق بمقتضاها بعقوبة السرقة، حتى ولو لم يحضر المجني عليه، وسواء أكان المجني عليه حاضرًا بالبلدة، التي أقيمت الدعوة فيها على السارق حسبة، أم كان غائبًا عنها، أو كان المجني عليها مجهولًا2.
بل وأكثر من ذلك لو كذب المسروق منه السارق، أن كان الإثبات بالإقرار، أو الشهود إن كان بالبينة، فإن فقهاء المالكية يرون إلزام السارق الحد، ويرتبون على تكذيب المجني عليه للبينة، أو الإقرار أن يصير المتاع السارق مع إلزامه الحد، فيقول الخرشي مبينًا ذلك في معرض حديثه عن السرقة الموجبة للقطع: "أو نصاب ملك غير، فإنه
1 المبسوط ج9 ص186، ويراجع أيضًا بدائع الصنائع ج7 ص81.
2 المدونة ج15 ص289، المغني ج8 ص270، مباني المنهاج ج1 ص313، 314.
يقطع، ولو كذبه ربه، صورة المسألة إن السارق مقر بالسرقة، ورب المتاع يكذبه فعليه القطع، وحينئذ يصير المتاع للسارق، إلا أن يدعيه ربه بعد ذلك"1.
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير عند شرح قوله: ولو كذب ربه "معنى أن السارق إذا أقر بالسرقة من مال شخص، أو قامت عليه بينة بذلك، وكذبه ذلك الشخص، فإنه يقطع ولا يفيده تكذيبه ذلك الشخص للمقر أن للبينة، "ويبقى المسروق بيد السارق"، أي على وجه الحيازة، واستظهر بعضهم أنه يجعل في بيت المال؛ لأن كلا من السارق وربه ينفيه من ملكه، ما لم يدعه ربه أي بعد ذلك"2.
وما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع، لجواز أن صاحب المال قد أباح ماله لطائفة منهم السارق، أو وهبه السارق، ولم يعلم السارق بذلك، أو أذن للسارق دخول الحرر، وذلك كله يترتب عليه شبهة تنتج درء الحد، ولذا فإن القول باشتراط المخاصمة لإيجاب الحد أولى بالاتباع.
وما ذكره فقهاء المالكية، ومن وافقهم من إيجاب القطع، حتى ولو كذب رب المال الإقرار، أو البينة قول لم يقم عليه دليل، ولا يتفق مع ما ذهبوا إليه من القول بدرء الحد بالشبهة، والشبهة بالتكذيب ببينة.
1 الخرشي ج8 ص95.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص336، شرح الزرقاني ج8 ص97.