الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: شبهة الحق
ويراد بشبهة الحق أن يكون للشخص الذي وقع منه الفعل نوع ما من الحق، الذي يعده جمهور الفقهاء شبهة يترتب عليها درء العقوبة الحدية.
وقد عد فقهاء الأحناف هذه الشبهة، ضمن ما أطلقوا عليه شبهة المحل لأنها تشمل عندهم كلا من شبهة الدليل، وشبهة الملك، وشبهة الحق، طبقًا لما وضح من الأمثلة التي ذكروها1.
غير أن شبهة الحق تغاير كلا من شبهة الدليل، وشبهة الملك، نظرًا؛ لأن ما وقع عليه الفعل هنا لا ملك للفاعل فيه، كما أنه ليس هناك دليلان عارض كل منهما الآخر في تقرير حكم هذا الفعل، وإنما كل ما هنالك أن لتفاعل نوعا من من الحق في المحل الذي نيط به الفعل، أنتج هذا النوع من الحق شبهة أعملها الجمهور، ورتبوا على وجودها درء العقوبة الحدية عن هذا الفاعل.
وتتضح شبهة الحق بذكر ما يأتي من وقائع تقوم في كل منها هذه الشبهة، وتنهض دارئة للعقوبة الحدية عمن وقع منه ذلك.
1 رجل دخل بمن طلقها طلاقًا بائنا على مال، وكان دخوله في زمن عدتها، فإن هذا الرجل تقوم في حقه شبهة الحق عند فقهاء الأحناف نظرًا؛ لأن فراش الزوجية يعتبر قائمًا طوال فترة العدة، وهذا وإن لم يفد الحلية، إلا أنه يورث شبهة يترتب عليها عندهم إسقاط الحد عنه.
ومثل هذا عند فقهاء الأحناف من دخل بالمرأة التي طلقها الطلقة
1 يقول ابن الهمام: والشبهة في المحل في ستة مواضع: جارية ابنه والمطلقة طلاقًا بائنًا بالكنايات، والجارية المبيعة إذا وطئها البائع قبل تسليمها إلى المشتري، والمجعولة مهرًا إذا وطئها الزوج قبل تسليمها إلى الزوجة؛ لأن الملك فيها لم يستقر للزوجة والمشتري، والمالك كان مسلطًا على وطئها بتلك اليد مع الملك، وملك اليد ثابت، والملك الزائل مزلزل والمشتركة بين الواطئي وغيره، والمرهونة إذا وطئها المرتهن في رواية كتاب الرهن، وعلمت أنها ليست بالمختارة، فتح القدير ج5 ص252 ط الحلبي.
المكملة لثلاث، ظانًّا أنها تحل له أو اشتبه عليه حلها له، وهي في عدتها منه.
فإن هذا الرجل تنهض في حقه عند فقهاء الأحناف شبهة الحق؛ لأنه بنى ظنه على نوع دليل، وهو بقاء النكاح في حق الفراش، وحرمة الأزواج، فظن أنه بقى في حق الحل أيضًا، وهذا وإن لم يصلح دليلًا على الحقيقة يفيد حل الدخول، وإباحته إلا أنه يترتب عليه درء العقوبة الحدية عنه نظرًا لقيام شبهة الحق بالنسبة له1.
هذ ما ذهب إليه فقهاء الأحناف، وإن كان مثل ذلك أليق بالذكر عند الحديث عن الشبهات التي يعتري القصد الجنائي؛ لأن قيام الشبهة في مثل هذا مرتبط باشتباه الأمر على الفاعل، وظنه الفعل الذي أقدم عليه، وإباحته بالنسبة له.
الأمر الذي ينتج عنه انتفاء قصده الجنائي.
2 رجل عقد على أمة، ثم دخل بها مع أن عنده حرة، فإن العقد وإن كان فاسدًا إلا أنه أثبت لهذا الرجل نوعا من الحق ينتبج عه شبهة تدرأ الحد عنه. كما هو معمول به عند الإمام أبي حنيفة، ومثل ذلك أيضًا من يعقد على مرتدة ويدخل بها، فإن هذا العقد، وإن كان
1 فتح القدير ج5 ص252، كما جاء في البحر الرائق عند الحديث عن المطلقة ثلاثًا: "أنه بقي فيها بعض الأحكام كالنفقة والسكن والمنع من الخروج، وثبوت النسب وحرمة أختها وأربع سواها، وعدم قبول شهادة كل منهما لصاحبه. فحصل الاشتباه لذلك، فأورث شبهة عند ظن الحل؛ لأنه في موضع الاشتباه. ج5 ص130.
عقد فاسدًا إلا أنه ينتج نوعًا من الحق تترتب عليه شبهة، وهذه الشبهة وإن لم تثبت حل الفعل، إلا أنها تنتج إسقاط الحدية1.
3 قامت البينة على رجل، وامرأة غريبين بأنهما وجدا، وهو يطأها فادعيا الزوجية، أو ادعى أحدهما الزوجية وأنكرها الآخر، وقد ذهب الفقهاء في إيجاب الحد عليهما، أو انتفائه إلى ما يأتي:
أولًا: في حالة ادعائهما الزوجية
أ- يرى الإمام مالك، وأصحابه مطالبتهما بالبينة على زواجهما، فإن أقاما بينة، فلا حد وإن لم يقيما بينة لزمهما الحد.
وقد روي مثل هذا عن إبراهيم النخعي2، إذ أنه يرى أنهما لو صدقا من غير أن يقيما بينة لما أقيم حد على فاجر؛ لأن ادعاء الزوجية أمر سهل إذا ما أحدق الخطر بالزانيين3.
ب- ذهب الإمام أبو حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد إلى أنه لا حد عليهما ما داما قد قالا بأنهما تزوجا سواء أكانا معروفين، أم غير معروفين.
واستدلو لذلك بما روي من أن رجلًا، وامرأة رفعا إلى علي بن أبي طالب
1 البحر الرائق ج3 ص181، العقوبة، للشيخ أبي زهرة ص225.
2 إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي من أكابر التابعين من أهل الكوفة، من أكابر حفاظ الحديث، مات متخفيًا من الحجاج سنة 96هـ.
3 منح الجليل ج7 ص501 الطبعة السابعة.
المحلى لابن حزم ج13 ص210 ط مكتبة الجمهورية العربية.
-رضي الله تعالى عنه- فسألهما، فقال الرجل: هي ابنة عمي تزوجتها، فقال لها علي: ما تقولين؟ فقال لها الناس: قولي: نعم، فقالت: نعم، فدرء عنها الحد.
بل ذكر ابن نجيم أنه لو أقر أحد الزانيين، وأنكر الآخر، فإنه لا حد عليهما ما دام أن من أنكر قد قال بأنهما زوجان، وهذا ما ذهب إليه الشيخان، وإن كان الإمام أبو حنيفة يكتفي بمطلق الإنكار، ولم يقيده بالقول بالزوجية، وحاصل دليل أبي حنيفة أن الزنا فعل مشترك بينهما قائم بهما، فانتفاؤه عن أحدهما يورث شبهة في الآخر1.
ج- ذهب ابن حزم إلى أن من وجد مع امرأة يطؤها وقامت البينة بالوطء، فقال هو: إنها امرأته وصدقته هي في قوله فإنه ينظر: فإن كانا غريبين أو لا يعرفهما أحد، فلا شيء عليهما؛ لأن الناس كانوا يهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أفذاذا، ومجتمعين من كل بلاد العرب -بأهلهم ونسائهم وإمائهم وعبيدهم، فما حيل بين أحد وبين من زعم أنها امرأته أو أمته، ولا كلف أحد على ذلك بينة.
ومثل هذا أيضًا إذا كان أحدهما معروفًا والآخر غير معروف، وقالا بالزوجية وأمكن ما قالا به، فإنه لا شيء عليهما حينئذ؛ لأن الأصل عصمة دمائهما وأبشارهما، ولا يجوز إباحة ما حرم الله تعالى إلا بيقين لا شك فيه.
أما لو تيقن كذبهما؛ لأنه لا دليل معهما وهما معروفان، ولا
1 البحر الرائق ج5 ص20، فتح القدير ج5 ص273، تحفة المحتاج ج4 ص133.
المغني ج8 ص196، المحلى ج13 ص210-213.
احتمال لقيام الزوجية بينهما، فالحد واجب عليهما، وهما إذا ممن ينطبق عليهما ما قيل من أنه فاجر أن يدعي الزوجية1.
وهذ القسم الذي قال به ابن حزم تقسيم منطقي، يحفظ على المسلمين دماءهم، ويصون أعراضهم، ويحمي حدود الله سبحانه وتعالى من عبث العابثين.
ثانيًا: إذا اعترف أحدهما بالزوجية، وأنكر الآخر
أ- ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا يجب الحد بإقرار أحد الزانيين إذا أنكره الآخر؛ لأن دعوى النكاح تحتمل الصدق، وهو يقوم بالطرفين فأورث شبهة، وأطلق الإمام هذا فشمل ما إذا قال لم أطأ أصلًا، أو قل: "تزوجت، وشمل ما إذا كان المنكر الرجل أو المرأة؛ لأن الزنا فعل مشترك، وانتفاؤه عن أحدهما يورث شبهة في الآخر، وقد وافق الصاحبان أبا حنيفة في حالة ما إذا قال المنكر: أنهما قد تزوجا.
أما إذا قال المنكر: ما زنيت، ولم يدع ما يسقط الحد فلم يقل أنهما تزوجا، وجب على المقر الحد دون المنكر عند الصاحبين خلافًا لأبي حنيفة2.
1 المحلى ج13 ص212-213.
2 البحر الرائق لابن نجيم ج5 ص20، فتح القدير ج5 ص273-274.
يقول ابن نجيم: لا يجب الحد بإقرار الزانيين إذا انكره الآخر؛ لأن دعوى النكاح تحتمل الصدق، وهو يقوم بالطرفين، فأورث شبهة إلى أن يقول: فشمل ما إذا قال: لم أطأ اصلًا أو قال: تزوجت وشمل ما إذا كان المنكر الرجل، أو المرأة، وهو قول الإمام، وقالا: إن أدعى المنكر منهما الشبهة بأن قال: تزوجته فهو كما قال، وإن أنكر بأن قال: ما زنيت ولم يدع ما يسقط الحد، وجب على المقر الحد دون المنكر، وحاصل دليل الإمام أن الزنا فعل مشترك بينهما قائم بهما، فانتفاؤه عن إحدهما يورث شبهة في الآخر.
وهذا ما ذهب إليه أهل المدينة1.
ب- وذهب ابن قدامة إلى أن من أقر بأنه وطئ امرأة، وادعى أنها امرأته، وأنكرت المرأة أن يكون زوجها نظر، فإن لم تقر بوطئه إياها فلا حد عليه؛ لأنه لم يقر بالزنا، وذكر أن الإمام أحمد رضي الله عنه قد سئل عن رجل وطئ امرأة، وزعم أنها زوجته، وأنكرت هي أن يكون زوجها، وأقرت بالوطء قال: فهذا قد أقرت على نفسها بالزنا، ولكن يدرأ عنه الحد بقوله: إنها امرأته ولا مهر عليه، ويدرأ عنها الحد حتى تعترف مرارًا2.
وأرى أنه يطبق عليهما ما مضى من تفصيل من حيث كونهما معروفين، أم لا فإن كانا غير معروفين، فلا حد على من قال بالزوجية، أما إن كانا معروفين أو من ادعى الزوجية معروفًا، ولم يغب عن أهله وذويه وقتًا يمكن له أن يتزوج فيه، فإنه لا بد من إقامة بينة على ما يدعيه.
فإن أقام البينة على زواجه فلا حد عليهما، وإلا الزاما بالحد حتى لا تضيع حدود الله بالدعاوى الباطلة.
4-
من سرق من مال أبويه:
ذهب الإمام أبو حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد إلى أن من سرق من مال أبويه، وإن علوا فإنه لا قطع عليه نظرًا؛ لأن النفقة تجب للابن في مال أبيه حفظًا للابن، فلا يجوز إذا اتلافه حفظا لمال والده
1 المغني ج8 ص197.
2 المغني ج8 ص196.
كما أن للابن حق الأكل من مال والديه، ووجود هذا الحق للابن ينتج شبهة يترتب عليها درء الحد عنه أن سرقه1، وهذا هو مذهب فقهاء الشيعة2.
أما الإمام مالك، وأبو ثور من الشافعية وابن حزم، فإنهم يرون أن القطع واجب على الابن إذا سرق من مال والديه، لظاهر الكتاب؛ ولأنه يحد بالزنا بجاريته، ويقاد منه بقتله، فإنه يقطع بسرقة ماله
1 يقول ابن الهمام: ومن سرق من أبويه، وإن عليا أو ولده وإن سفل، أو ذي رحم محرم منه كالأخ والأخت والعم والخال، والعمة لا يقطع.
فتح القدير ج5 ص380 طبعة الحلبي.
كما يقول الشيرازي: من سرق من مال ولده أو ولد ولده، وإن سفل أو من أبيه أو من جده، وإن علا لم يقطع، وقال أبو ثور: يقطع لقوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ولم يخص، وهذا خطأ لقوله عليه السلام:"ادرءوا الحدود بالشبهات"، وللأب شبهة في مال الابن، وللابن شبهة في مال الأب؛ لأنه جعل ماله كما له في استحقاق النفقة. المهذب ج2 ص281 ط الحلبي.
كما يقول ابن قدامة: ولا يقطع الابن وإن سفل بسرقة مال والده، وإن علا ووجه ذلك أن بينهما قرابة تمنع قبول إحدهما لصاحبه، فلم يقطع بسرقة ماله كالأب؛ ولأن النفقة تجب في مال الأب لابنه حفاظًا له، فلا يجوز إتلافه حفظًا للمال، المغني ج8 ص276 ط مكتبة الجمهورية العربية.
2 يقول أبو القاسم الموسوي عند حديثه عن السرقات التي لا يجب القطع بها: ومثل ذلك السرقة من منزل الأب، ومنزل الأخ والأخت، ونحو ذلك مما يجوز الدخول فيه، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285 ط النجف الأشرف.
كالأجنبي؛ ولأن الشبهة هنا التي تنتج من كون أن للابن حقًا في مال والديه شبهة ضعيفة لا تقوى على درء الحد عنه1.
وما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أصحاب الرأي القائل بعدم القطع، أولى نظرًا لما للابن من حق على والديه؛ ولأن والديه لا يرضيان أن تقطع يد ابنهما حتى وإن أخذ كل منهما، وهذا ما لا يختلف عليه والد بالنسبة لولده.
أما قياس -الإمام مالك وابن المنذر، ومن ذهب مذهبهم وجوب القطع بسرقة مال أبويه على وجوب الحد على الابن إذا زنا بجارية أحد أبويه، فقياس مردود؛ لأن للابن شبهة في مال والديه، كما قال بذلك الإمام مالك، ومن ذهب مذهبه -ولكنه لا شبهة له في وطنه جارية أحد أبويه، وفرق بين الواقعتين.
5-
سرقة باقي الأقارب بعضهم من بعض:
ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قطع في السرقة من ذي رحم محرم كالأخ والأخت والعم، والخال والعمة والخالة، نظرًا؛ لأن ما بينهما من قرابة تمنع النكاح، وتبيح النظر، وتوجب النفقة وعلى هذا، فإنها تشبه قرابة الولادة2.
ووافق الإمام أبا حنيفة فقهاء الشيعة؛ لأنهم لا يرون القطع على من سرق من محل يجوز له الدخول فيه، ويباح له الأكل منه3 أما
1 جاء في الخرشي ج8 ص96 ط بيروت: أما الابن إذا سرق من مال أبيه، أو من مال جده، فإنه يقطع لضعف الشبه، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص337 المحلى لابن حزم ج13 ص385 ط مكتبة الجمهورية العربية. المهذب ج2 ص281.
2 فتح القدير ج5 ص380.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص385.
باقي الفقهاء، فإنهم يرون وجوب القطع على من سرق من ذي رحم محرم قدرًا يجب القطع به.
لأنهم يرون أن قرابة ذي الرحم المحرم التي لا تمنع شهادة كل منهما لصاحبه لا تمنع وجوب القطع على أحدهما إذا سرق مال صاحبه1، وهذا ما أميل إليه؛ لأن إباحة الدخول توجب زيادة المحافظة على مال من أبيح له الدخول عليه. كما أنه فرق كبير بين قرابة الولادة، وقرابة ذي الرحم المحرم.
6-
سرقة أحد الزوجين من مال الآخر:
أ- يرى الإمام أبو حنيفة أنه إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر، فإنه لا يقطع بذلك، وكذا إذا سرق غلام أحدهما من مال الآخر.
نظرًا لوجود الإذن في الدخول بالنسبة لكل منهما على صاحبه، والإذن بالدخول يترتب عليه الإخلال بالحرز.
واستدل الإمام أبو حنيفة بما روي من أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال لمن جاءه قائلًا: إن غلامي مرآة امرأتي فرد عليه عمر بقوله: لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم.
وعليه فإنه إذا لم يقطع غلام الزوج بسرقته امرأة سيده، فإن سيده أولى بعدم القطع.
كما أن كلًا من الزوجين لا تقبل شهادة للآخر لاتصال المنافع، وعليه فإن كلًا منهما لا يقطع بسرقته مال الآخر.
وقد وافق الإمام أبا حنيفة في ذلك بعض فقهاء الشيعة، وزاد
1 المغني ج8 ص276، الخرشي ج8 ص96، المهذب ج2 ص281، المحلي ج13 ص385.
الإمام أبو حنيفة على ذلك، وتوسع في مفهوم الزوجية، وجعله يشمل من سرق مال امرأة، ثم تزوجها سواء تزوجها بعد أن قضى بالقطع، أو قبله.
وخالفه أبو يوسف في ذلك، وقال: إذا كان قد قضى بالقطع قبل زواجه منها قطع، أما لو تزوجها قبل أن يقضى عليه بالقطع سقط القطع عنه.
وقال الإمام أبو حنيفة بإسقاط القطع عن كل منهما إذا سرق أحدهما من مال الآخر في زمن عدة كل منهما من صاحبه، نظرًا؛ لأن وجود نوع من الخلطة بينهما في زمن العدة يورث شبهة حق لكل منهما في مال الآخر يترتب عليها إسقاط العقوبة الحدية1.
ب- يرى الإمام مالك، والإمام أحمد، وفي رأي للإمام الشافعي، وبعض فقهاء الشيعة تقسيم مال كل من الزوجين إلى قسمين:
القسم الأول:
ما ليس بمحرز عن أحدهما سواء أكان مال الزوج، أو مال الزوجة، وهذا المال لو سرقه أحدهما من صاحبه، فلا قطع عليه نظرًا
1 يقول ابن نجيم: أطلق في الزوجية فشمل الزوجية وقت السرقة فقط بأن سرق منها، ثم أبانها وانقضت عدتها ثم ترافعا فلا قطع، والزوجية بعدها كما إذا سرق من أجنبية ثم تزوجها، ثم ترافعا فلا قطع ولو بعد القضاء، وكذا عكسه لوجود الشبهة قبل الإمضاء، وشمل الزوجية من وجهه، كما إذا سرق من مبتوتة في العدة، أو سرقت هي منه لوجود الخلطة، بخلاف ما إذا سرق منها بعد الانقضاء، فإنه يقطع.
والحاصل أن في باب السرقة يكتفى بوجود الزوجية في حالة من الأحوال قبل القطع لسقوطه، البحر الرائق ج5 ص63 ط بيروت، فتح القدير ج5 ص382 شرح الأزهار ج4 ص376 ط الحلبي سنة 1947م.
لقيام شبهة الحق لكل منهما في هذا المال، وحتى لو كان الحق غير مستقر لأحدهما، فيما سرق إلا أن وجود شبهته قائم، ويترتب عليه درء الحد.
القسم الثاني:
ما أحرزه كل منهما عن صاحبه، ومنعه منه سواء أكان المال المحرز في مكان السكن، أو في مكان آخر.
وهذا المال لو قام أحدهما بسرقته من صاحبه، فإنه يقطع به نظرًا؛ لأنه سرق مالًا محرزًا عنه لا شبهة له فيه، فهو والأجنبي سواء1، وذهب الإمام الشافعي في قول ثان إلى أنه لا قطع على كل من الزوجة، والزوج؛ لأن الزوجة تستحق النفقة من مال زوجها يملك منعها من التصرف في مالها، والحجر عليها على قول بعض الفقهاء.
وفي قول ثالث فرق الإمام الشافعي بين كون السارق من مال صاحبه الزوجة أم الزوج.
فإذا كانت الزوجة هي التي سرقت من مال زوجها، فلا قطع عليها نظرًا؛ لأن لها في ماله حق النفقة وغيرها، كما أن الزوجة في قبضة زوجها، فما سرقته منه لن يخرج عن ملكيته.
1 جاء في الخرشي ج8 ص98 ط دار الفكر بيروت: وكذا يقطع أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه بشرط أن يكون المال المسروق في مكان محجور عن السارق أن يدخله، أما لو سرق من مكان يدخله، فإنه لا قطع عليه؛ لأنه حينئذ خائن لا سارق، وحكم أمة الزوجة حكمها في السرقة من مال الزوج، وحكم عبد الزوج حكمه إذا سرق من مال الزوجة، مغني المحتاج ج4 ص162، المغني ج8 ص276-277. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص340، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285.
أما إذا كان الزوج هو الذي سرق من مال زوجته، فإنه يقطع بهذه السرقة؛ لأنه لاحق له في مال زوجته، كما أن زوجته ليس لها عليها يد بحيث يبقى ما سرقه منها في ملكيتها1.
1 يقول الشيرازي: وإن سرق أحد الزوجين من الآخر ما هو محرز عنه، ففيه ثلاثة أقوال:
إحداهما: أنه يقطع؛ لأنه النكاح عقد على المنفعة، فلا يسقط القطع في السرقة كالإجارة.
والثاني: أنه لا يقطع؛ لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك أن يحجر عليها يمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء، فصار ذلك شبهة.
والثالث: أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة، ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن للزوجة حقًا في مال الزوج بالنفقة، وليس للزوج حق في مالها المهذب ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص162 ط مصطفى الحلبي سنة 1958م.
وقد أجمل ابن قدامة هذه الأقوال في قوله:
"وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر، فإن كان مما ليس محرزًا عنه، فلا قطع فيه، وإن سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان.
إحداهما: لا قطع عليه، وهي اختيار أبي بكر، ومذهب أبي حنيفة لقول عمر -رضي الله تعالى عنه- لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي، حين قال له: أن غلامي سرق مرآة امرأتي، أرسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم، وإذا لم يقطع عبده بسرقة مالها فهو أولى؛ ولأن كل واحد منهما يرث صاحبه بغير حجب، ولا يقبل شهادته له، ويتبسط في مال الآخر عادة، فأشبه الوالد الولد.
والثانية: يقطع وهو مذهب مالك، وابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرشي، لعموم الآية؛ ولأنه سرق مالًا محرزًا عنه لا شبهة له فيه.
أشبه الأجنبي، وللشافعي كالروايتين، وقول ثالث أن الزوج يقطع بسرقة مال الزوجة؛ لأنه لا حق له فيه، ولا تقطع بسرقة ماله؛ لأن لها النفقة فيه المغني ج8 ص276-277.
والقول الثالث للإمام الشافعي يحتاج إلى نظر، إذ أن الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه، قد ذكر أن من بين الأسباب التي أدت إلى القول بعدم قطع الزوجة إذا سرقت من مال زوجها، أن الزوجة في قبضة زوجها، فما سرقته منه لن يخرج عن ملكيته، وذلك أحرى أن يسقط القطع عن الزوج؛ لأنه إذا كانت الزوجدة في قبضة زوجها، وإذا كان ما في يدها لا يخرج عن ملكية زوجها. فإن ذلك يثبت له على ما في يدها سلطان، ومثل ذلك يورث شبهة تنتج درء الحد عنه.
هذا ما أميل إليه، وأرجحه.
ج- ذهب ابن حزم إلى وجوب القطع على كل من الزوجين، إذا سرق من صاحبه ما لم يبح له أخذه مثله في ذلك مثل الأجنبي سواء بسواء، سواء أكان المال المأخوذ محرزًا، أو غير محرز.
ورد ابن حزم ما ذهب إليه باقي الفقهاء من عدم قطع الزوجة بما سرقته من مال زوجها نظرًا؛ لأن لها في ماله حقوقًا من صداق وكسوة، وغير ذلك، فقال: أما قولهم: إن لها في ماله حقوقًا من صداق ونفقة، وكسوة، وإسكان وخدمة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلق يدها على ماله حيث كان من حرز أو غير حرز، لتأخذ منه ما يكفيها وولدها بالمعروف -إذا لم يوفيها وإياهم حقوقهم- فنعم، كل هذا حق واجب، وهكذا نقول.
ولكن لا يشك ذو مسكة ممن حس سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يطلق يدها على ما لا يحق لها فيه من مال زوجها، ولا على أكثر من حقها، لا شك في ذلك، فإباحة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لأخذ المباح ليس فيه دليل أصلًا على إسقاط
حدود الله تعالى عن من أخذ الحرام غير المباح1
…
وفي في ذلك كالأجنبي.
أي أن للزوجة حقها سواء من مال محرز أو غير محرز، فإن أخذت ما ليس لها بحق، عوقبت بالحد الموضوع لفعلتها.
لأن الله سبحانه وتعالى لم يخص إذ أمر بقطع يد السارق والسارقة، إلا أن تكون زوجة من مال زوجها، ولا يكون زوجًا من مال زوجته2.
وقياس ابن حزم كل من الزوج والزوجة بالأجنبي قياس بعيد؛ لأن الزوزج والزوجة بينهما من المخالطة، والألفة ما ليس بين الأجنبي وغيره، فعقد الزواج يقيم رابطة قوية بين الزوجين، بل هي من أسمى الروابط التي يعنى بها الإسلام لدرجة أنه جعل الزوجين بمنزلة النفس الواحدة:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 3.
ومما لا شك فيه أن الفرق إذا بين الزوجين، والأجنبيين -في مخالطة كل منهما لصاحبه، وإباحة ماله بالنسبة له- أمر واضح لا يحتاج إلى تكثير إعمال فكر.
وعليه فإن سرقة كل منهما من الآخر، وإن أوجبت عقوبة على
1 يشير ابن حزم بذلك إلى ما رواه من أن هند بنت عتبة، أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان لا يعطيها وولدها ما يكفهما، فقال صلى الله عليه وسلم لها:"خذي ما يكفيك وولده بالمعروف".
المحلى ج10 ص103-149، 522، ج11 ص294، ج13 ص389.
2 المحلى ج3 ص390.
3 من الآية 21 من سورة الروم.
السارق ما لا يباح له، إلا أني أرى أنها عقوبة لا تصل حد العقوبة الحدية المقدرة.
هذا ما أميل إليه، وأرجحه دون تفريق بين الزوجين، أو الزوجة في شيء من ذلك.
7-
السرقة من المال العام:
أ- يرى فقهاء الأحناف والحنابلة، وفقهاء الشيعة الزيدية، ورأي للإمام الشافعي أن من سرق من المال العام لا قطع عليه إذا كان له فيه حق؛ لأن وجود للسارق في المال المسروق ينهض شبهة تدرء الحد عنه.
واستدل ابن الهمام، وابن قدامة لذلك بما روي عن عمر وعلي -رضي الله تعالى عنهما، من أنهما أجابا من سأل عن حكم من سرق من بيت المال؟ أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق ما دام مسلمًا.
وذكر ابن قدامة أن من سرق ماله حق فيه، أو لمن لا يقطع بسرقة ماله لا يقطع لذلك، فقال: ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق، أو لولده أو لسيده، أو لمن لا يقطع بسرقة ماله لم يقطع لذلك، وإن لم يكن من الغانمين ولا أحد من هؤلاء الذين ذكرنا فسرق منها قبل إخراج الخمس لم يقطع؛ لأن له في الخمس حقًا.
وإن أخرج الخمس فسرق من الأربعة الأخماس قطع، وإن سرق من الخمس لم يقطع، وإن قسم الخمس خمسة أقسام، فسرق من خمس الله تعالى ورسوله لم يقطع، وإن سرق من غيره قطع، إلا أن يكون من أهل ذلك الخمس.
وزاد الشربيني هذا القول تفصيلًا، فقال: ومن سرق وهو مسلم
مال بيت المال أن فرز لطائفة كذوي القربى، والمساكين، وكان منهم أو أصله أو فروعه فلا قطع، أو فرز لطائفة ليس هو منهم قطع، إذ لا شبهة له في ذلك، وإلا بأن لم يفرز لطائفة فلا، والأصح أنه إذا كان له حق في المسروق كمال مصالح بالنسبة لمسلم فقير جزمًا، أو غنى على الأصح، وكصدقة وهو فقير أو غارم لذات البين، أو غاز فلا يقطع في المسألتين، أما في الأولى؛ فلأن له حقًا وإن كان غنيًا؛ لأن ذلك قد يصرف في عمار المساجد، والرباطات، والقناطر فينتفع بها الغني والفقير من المسلمين
…
إلى أن يقول، وإلا بأن لم يكن فيه حق قطع لانتفاء الشبهة1.
ب- ذهب الإمام مالك إلى أن من سرق من بيت المال المقدار الذي يجب به الحد، فإنه يقطع بسرقته، ولا يحوز درء الحد عنه لكونه له حق في بيت المال؛ لأن ذلك وإن أورث شبهة، إلا أنها شبهة ضعيفة لا يعتد بها في درء الحد عنه.
وكذا من سرق من الغنيمة بعد حوزها، أما سرقته منها قبل حوزها، فإنه لا يقطع بها؛ لأنها مال غير محرز حينئذ2.
وذهب الإمام الشافعي في أحد آرائه إلى وجوب القطع على من سرق من بيت المال ملطقًا، كوجوب القطع عليه بسرقة مال غيره المحرز عنه3.
1 مغني المحتاج ج4 ص163، المهذب ج2 ص281، المغني ج8 ص277، فتح القدير ج5 ص376، 377، البحر الرائق ج5 ص60 شرح الأزهار ج4 ص376.
2 الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ج4 ص337.
3 مغني المحتاج ج4 ص163.
ج- ذهب ابن حزم إلى أن من سرق من شيء له فيه نصيب، كبيت المال أو الخمس أو الغنم، أو غير ذلك، فإنه ينظر فيما سرقه إن كان نصيبه محددًا معروف المقدار كالغنيمة، أو ما اشترك فيه ببيع أو ميراث أو غير ذلك.
فإن أخذ ما يزيد عن نصيبه مما يجب في مثله القطع قطع، ولا بد أما أن أخذ أقل من حقه، فلا قطع عليه.
ويستثنى من سرقته ما يزيد على حقه، فلا يجب القطع فيها ما إذا منعه حقه، أو احتاج إليه، ولم يستطع الوصول إلى حقه إلا بسرقته، وما يزيد عليه لعدم قدرته على تخليص حقه فقط مما زاد عليه؛ لأنه والحالة هذه مضطر إلى أخذ الزائد. وأن وجب عليه رد المقدار الزائد على حقه الذي أخذه تبعًا له1.
والذي أميل إليه:؛ أن من سرق مالًا له فيه حق، وكان باستطاعته الوصولم إلى حقه بغير طريق السرقة، يجب تعزيره على مسلكه هذا إن أخذ حقه فقط.
أما إن زاد على حقه، فإنه يعامل في الزائد معاملة السارق، فيلزم الحد بشروط أما إذا لم يمكنه الوصول إلى حقه إلا عن هذا الطريق، فهذه ضرورة تقدر بقدرها، وسيأتي هذا بشيء من التفصيل عند الحديث عن السرقة بالباب الثاني.
1 المحلى ج13 ص355، وتراجع أيضًا نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص435.
ثانيًا: إثبات جريمة الشرب بالبينة، وما يعتريه من شبهات
تثبت جريمة شرب الخمر بشهادة شاهدين، فأكثر بالشروط التي سبق بيانها، عند الحديث عن الإثبات بالبينة.
وذهب الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى اشتراط وجود رائحة المسكر بفم الشارب، عند تأدية الشهود شهادتهم عليه، فإذا جاء الشهود من مكان بعيد، فاستغرق حضورهم وقتًا، زالت فيه رائحة الخمر من فم لزمهم الشارب أن يقولوا: أخذناه، وريح الخر موجودة بفمه1.
ويرى جمهور العلماء عدم اشتراط وجود الرائحة بفم الشارب، فيكفي شهادة رجلين أنهما رأياه يشرب الخمر، فإذا لم يشهدا بأنهما رأياه يشربها فلا حد. كأن يقولا: شممنا منه يرحها أو رأينها سكرانا، أو وجدناه يقيء خمرًا ودرء الحد عنه هنا مبني على أساس احتمال أن يكون شرب الخمر غلطًا، أو مكرها، والحد يدرأ بالشبهة، بين ذلك ابن قدامة بقوله:"وإن وجد سكرانًا أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرهًا، أو لم يعلم أنها تسكر، وهذا مذهب الإمام الشافعي"2.
1 فتح القدير ج5 ص301، 303.
2 المغني ج8 ص309، مغني المحتاج ج4 ص190.