الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: الجهل
وردت كلمة الجهل كثيرًا فيما كتبه الفقهاء، وعلماء الأصول، وعلماء الكلام لارتباطها بكثير من الأحكام والقضايا.
والذي يعنينا هنا من الجهل هو الجهل بالحكم الشرعي لمسألة ما من المسائل؛ لأن هذا الجهل هو محل نظر الفقهاء، وبحوثهم من حيث الاعتداد به، أو عدم النظر إليه، واعتباره غير قائم.
قسم الفقهاء والأصوليين الجهل أقسامًا عدة يتصل بموضوع هذا البحث منها ما يأتي:
أولًا: الجهل الذي لا يعتد به، ولا يعتبر عذرًا ولا شبهة، ومن هذه جهل الباغي الخارج على الإمام الحق -كالخلفاء الراشدين مثلًا بتأويل فاسد، وجهل من عارض اجتهاده الكتاب الكريم، وجهل المسلم المقيم بدار الإسلام بتحريم الخمر وغيرها مما يوجب الحد.
ثانيًا: الجهل الذي يعتد به، ويصلح عذرًا وتنتج عنه شبهة يترتب عليها درء الحدود، والكفارات ونحوها، ومن هذا الجهل في موضوع اجتهاد صحيح لا يخالف الكتاب ولا السنة المشهورة ولا الإجماع، وذلك كقتل أحد الوليين لقاتل موليهما بعد عفو الآخر، فإن القاتل هنا
لا يقضي منه لاختلاف الفقهاء في القول بسقوط دم المولى بعفو أحد الأولياء.
وهذا الأختلاف قد أنتج شبهة تدرء الحد عن الولي القاتل1، ومثل هذا جهل الحربى الذي دخل دار الإسلام، فأسلم ثم شرب الخمر لجهله بحرمة شربها، نظرًا؛ لأن تحريم ذلك لم تنص عليه جميع المعتقدات المخالفة للإسلام، كما أنه حديث عهد بالدين، هذا بخلاف ما لو أسلم ثم شرب الخمر، وادعى جهله بتحريمها، فإنه يلزم بالعقوبة؛ لأن جهلة هذا لا يعد عذرًا دارئًا للعقوبة الحدية، نظرًا لشيوع تحريم الخمر في دار الإسلام، وهو ممن يقيمون بها.
وبخلاف ما لو دخل الحربي -الكتابي- دار الإسلام، فأسلم ثم زنى جاهلًا التحريم، فإن جهله هذا لا يعد عذرًا، لحرمة الزنا في جميع الأديان2، من هذا يبين أن الجهل بالأحكام لا يعتبر دائمًا عذرًا رافعًا للإثم والحرج في ترك امتثال أوامر الشارع، وإنما يكون عذرًا يعتد به درء العقوبة الحدية في بعض الحالات، سواء أنتج رفع الإثم عن الفاعل، وإسقاط جنس العقوبة عنه أم درء الحد فقط مع بقاء الإثم، وإلزام الفاعل العقوبة التعزيرية.
كما أن القول بأن لا عذر بالجهل في دار الإسلام قول لا يؤخذ على عمومه وإطلاقه، فهناك من الأمور ما يعد بالجهل بأحكامها من بعض المقيمين في دار الإسلام عذرًا، نظرًا لعدم تيسير ذلك لهم.
وقد أشار إلى ذلك الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور بقوله: وقد لمست روح الشريعة في هذا المقامن فيما أورده الكمال وغيره من
1 مغني المحتاج ج4 ص145 ط مصطفى الحلبي.
2 تيسير التحرير للكمال باد شاه أمير ج4 ص211-227.
الأصوليين والفقهاء من أن الأمة كانت في دار الإسلام تعذر بجهل أحكام الشريعة لتشاغلها بخدمة سيدها، وقد يكون مسلمًا بل من علماء المسلمين، فماذا عسى أن يقولوا على مقتضى هذا الاتجاه الفقهي السليم في شأن أولئك الذين شغلهم فوق ما شغل تلك الأمة من العدو، وراء مطالب الحياة اندفاعًا في فلك الدهر، وسيرًا مع عجلة الحياة التي لا ينقطع بها السير في لحظة من اللحظات مع بعدهم عن موجهات الدين، واللوافت إليه من العلماء، وأمراء وعدم التفكير في شيء من ذلك، ولا محاولته مع تمام الجهل بلغته التي كان يجب أن نفكر في إيصالها إليهم، كما فكرنا في إيصال لغاتهم إلينا1، هذا وإن كان الجهل بسبب الانشغال بمطالب الحياة أمرًا يعذر به المسلم، ومن يقيم بدار الإسلام، فإن العذر بهذا يقبل القول به في غير ما يوجب العقوبة الحدية، أما ما يوجبها، فالجهل بحكمة لا يقبل الاعتذار به؛ لأن أحكام ما يوجب العقوبة الحدية من الأحكام التي تعلم من الدين بالضرورة، والاعتذار بالجهل بها لا يقبل؛ ولأن العلم بها لا يقصد به العلم بالفعل فقط، وإنما يشمل أيضًا مجرد إمكان العلم بالحكم الشرعي، فالعلم بالقوة ينزل منزلة العام بالفعل ويقوم مقامه، لذا لا يعذر بالغ عاقل بجهله بما فرض عليه، وطلب منه الالتزام به على وجه القطع طالما يسر له علم ما فرض، ومعرفة ما حرم عليه، بالرجوع إلى نصوص القرآن والسنة، وبسؤال أهل العلم ما دام قادرًا على ذلك، وفيما يأتي بيان لقصص الجهل المذكورين:
1 الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص516 ط دار النهضة
العربية سنة 1965م.
أولًا: الجهل الذي لا يعتد به، ولا يعتبره الفقهاء شبهة
اتضح مما سبق ومن الحديث عن الجريمة، وأركانها أن الصفة غير المشروعة للسلوك ركن أساسي من أركان الجريمة، فلكي يحكم على العمل بأنه عمل إجرامي لا بد من أن يكون هذا العمل قد نهى عنه الشرع، وحرمه نهيًا جازمًا غير قابل للإباحة إلا بمسوغ شرعي، وعلى هذا كان من اللازم معرفة الجاني تجريم الشرع للأفعال، حتى يمكن إلزامه العقوبة الحدية.
وعلى هذا فما المراد إذن بعلم الجاني بتجريم الشرع للأفعال معينة؟ أهو علم الجاني في الحقيقة والواقع؟ أم إمكان علمه لو أراد لكنه قصر في التحصيل، والمعرفة مع قدرته على ذلك؟.
لو أن المقصود بعلم الجاني علمه في الحقيقة، والواقع لنتج عن ذلك إلزام من سيحكم بالعقوبة على متهم إثبات أن هذا المتهم الذي ارتكب الفعل الجنائي كان يعلم تجريم الشرع لما أتاه من أفعال قبل أن يقوم بهما، وإثبات علم الجاني بذلك أمر صعب إمكانه والتحقق منه، الأمر الذي يترتب عليه إفلات الجناة من العقاب المستحقق على ما قاموا به من جرائم، أو تغاير هذا العقاب، وتخفيفه لدرجة لا تتفق وهدف المشرع من الردع بالعقوبة المقررة للفعل.
ويصبح ادعاء الجهل بتجريم الأفعال ثغرة ينفذ منها الجناة، ويحول دون سريان النصوص، وعليه فليس المقصود بالعلم هنا قيام العلم في الحقيقة والواقع بالنسبة للجاني، وإنما يقصد به العلم المفترض وجوده افتراضًا حتى ولو كان الجاني جاهلًا في الحقيقة والواقع؛ لأن جهله إذن غير معتبر الوجود عند الفقهاء، فوجوده كعدمه
من حيث الاعتداد به في دفع العقوبة الحية، إذ المعتبر هنا إمكان العلم لا تحققه1.
هذه هي القاعدة وورد الاستثناء عليها لا يخرجها عن كونها الأصل، وعليه فلا يعتد بجهل المسلم الذي يقيم في بلاد الإسلام2، ولا بجهل الذي يقيم في البلاد الإسلامية بالنسبة للأفعال التي لا تختلف أحكامها من ديانة إلى أخرى، كما أن إقامة الذمي بالبلاد الإسلامي توجب عليه معرفة الأحكام المطبقة في هذه البلاد، فإن قصر فلا يعذر بتقصيره، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بإقامة الحد على يهوديين زنيا، وأقيم الدليل على جريمتهما عنده3، ولو كان لهما ما يدرء الحد عنهما لادعياه.
1 يؤيد هذا ما ذكره الأستاذ الدكتور سلام مدكور من أن ما دل الدليل الشرعي على حكمه، وجب أن يعرفه كل مكلف، فإذا جهل حكم الشرع مكلف من المكلفين، ولم يتمثل فعلًا أو كفا، فهو آثم بجهله ومطالب بما كسب. وذلك؛ لأنه يرى أن عدم الامتثال للأمر لا يستلزم العلم لكونه مطلبًا، فكل مكلف مطالب بأمور ينبغي أن يعلمها، فإن لم يعلمها، فإن الطلب قائم لا يسقط عنه، راجع الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص508، 509.
2 الرسالة للإمام الشافعي ص154 "ط مصطفى الحلبي سنة 1388هـ".
3 جامع الأصول لابن الأثير ج4 ص299 "د السنة المحمدية سنة 1269هـ، وقد ذكر ابن قدامة "أنه إذا رفع إلى الحاكم من أهل الذمة من فعل محرمًا يوجب عقوبة مما هو محرم عليه في دينه كالزنا، والسرقة والقذف، والقتل فعليه إقامة حده عليه، فإن كان زنا جلد أن كان بكرًا.
وغرب عام، وإن كان محصنًا رجم، لما روى ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين، فجرا بعد إحصانهما، فأمر بهما فرجما".
روى أنس: "أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين متفق عليه، وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يحد؛ "لأنه لا يعتقد تحريمًا، فلم يلزم عقوبته كالفر، وإن تظاهر به عذر؛ لأنه أظهر منكرًا في دار الإسلام -فعذر عليه كالمسلم المغني ج8 ص214-215.
ما ذكر خاص بالجهل بذات النص المحرم للفعل، ويلحق به الجهل بالمعنى الحقيقي للنص في عدم الاعتداد بكل منهما في درء العقوبة الحدية، فلا عبرة بمن يخرج عن المعنى الحقيقي للنص الذي فهمه العلماء منه، سواء أكان خروجه هذا ناشئًا عن جهله بالمعنى الحقيقي، أم مرادًا به التحريف والتزييف، وهذا ما قرره أمير المؤمنين عمر الفاروق حين جاءه رجل من المهاجرين، وقد شرب الخمر فأمر به أن يجلد، فقال للرجل: لم تجلدني وبيني وبينك كتاب الله؟
فقال عمر: وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟
فقال له الرجل: إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 1، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا، ثم اتقوا وأحسنوا....
فقال عمر: ألا تردون عليه ما يقول؟
فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلت لمن عذر، وحجة على الناس.
فقال عمر لابن عباس: صدقت ماذا ترون؟. فقال علي -رضي الله تعالى عنه: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى،
1 من الآية 93 من سورة المائدة.
وعلى المفتري ثمانون جلده: فأمر عمر -رضي الله تعالى عنه، فجلد ثمانين جلده1.
وفي رواية أخرى قال عمر -رضي الله تعالى عنه- لمن احتج بالآية، وفسرها على غير وجهها، وأخطأ التفسير -أخطأت التأويل، إذا اتقيت الله، اجتنبت ما حرم الله، وأمر به فجلد2.
مما سبق يتضح حكم من جهل ذات النص المحرم، أو معناه الحقيقي، وهذا النوع من الجهل الذي لا يعتد به، ولا يعد شبهة دارئة للعقوبة الحدية هو أحد شطري الجهل بالقانون.
وهناك نوع آخر من الجهل يسمى الجهل بالوقائع، وهو شطران:
أحدهما: جهل بالوقائع غير الجوهرية، وقد يطلق عليه لفظ الغلط، وهو من الجهل الذي لا يعتد به أيضًا في دفع العقوبة، أو إسقاط الحد؛ لأنه لا يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي، فمن ذهب لسرقة مال شخص معين يقيم في مكان ما، فيسرق مالًا فيتضح أنه جهل مكان الشخص الذي يريد سرقته، ودخل مكانا آخر، وسرق مال شخص آخر لا حق للسارق في ماله، فإن هذا الجهل جهل غير جوهري لا ينفي القصد الجنائي لدى الجاني، وبالتالي لا أثر له في إسقاط العقوبة الحدية.
ومثله من ذهب لقتل غريم له، ودخل مكان نومه، وأجهز على من وجده نائمًا في الفراش على أساس أنه هو الشخص الذي يريد قتله، فاتضح أن المقتول غير الشخص الذي أراد الجاني قتله، فإن جهل الجاني هنا بشخص المقتول لا يعد شبهة، ولا يترتب عليه إسقاط العقوبة المقررة لجنايته، إذ الجهل هنا لا يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي،
1 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج3 ص2294.
2 المرجع السابق: ص2295.
كما أنه في الحالتين جهل وقع في أمر جوهري خارج عن عناصر الجريمة التي يعد الجهل نافيًا للقصد الجنائي، إذ الجهل هنا يتعلق بموضوع النتيجة، وليس منصبًا على ذات النتيجة، وموضوع النتيجة لا يلتفت إليه، ولا يعد أساسًا بالنسبة للقول بتجريم الفعل، والعقوبة عليه ما دام الشرع قد كفل له الحماية1.
وثانيهما: الجهل بالوقائع الجوهرية، وسيأتي الحديث عنه في الجهل الذي لا يقبل القول به في إسقاط العقوبة الحدية.
ثانيًا: الجهل الذي يقبل به، ويعتبره الفقهاء شبهة تدرء الحد
من حكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمته بعباده، وعنايته بهم أنه رفع عنهم المؤاخذة، وحجب عنهم العقاب إذا جهلوا حكم ما وقع منهم جهلًا يعذرون فيه، ويقبل قولهم به، وهذا مستمد من قول الله سبحانه وتعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 2، ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"3.
فالمؤاخذة مقيدة بإرسال الرسول الذي يبلغ عن الله تعالى:
فمن لم تبلغه الدعوة، أو لم يبلغه جزء خاص منها يحرم عملًا ما من الأعمال لا يعاقب إتيان هذا العمل.
1 يراجع: الإباحة عند الأصوليين ص510-521، وأصول قانون العقوبات للدكتور أحمد فتحي سرور ص546، "ط دار النهضة سنة 1971م"، والأسس العامة لقانون العقوبات للدكتور سمير الجنزوري ص434، وشرح قانون العقوبات للدكتور أحمد الألفي ص451 "ط سنة 1978م".
2 الآية 15 من سورة الإسراء.
3 رواه الحاكم وابن ماجه، والطبراني، والدارقطني، فيض القدير للمناوي ج2 ص267 "ط المكتبة التجارية عام 1938م".
كما أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين أن من من أخطأ في إتيان عمل ما من الأعمال المحرمة مع علمه بالتحريم، فلا يعاقب عليه، وهذا أحسن حالًا ممن لم يعلم الحكم أساسًا، فالثاني أولى بالعفو لعدم تبليغ الحكم إليه؛ لأن التبليغ أساس التكليف، وهذا ما نُقل عن الصحابة رضوان الله عليهم، إذ يقول ابن قدامة: "ولا حد على من لم يعلم تحريم الزنا، قال عمر وعثمان وعلي: لا حد إلا على من علمه، وبهذا قال عامة أهل العلم، فإن ادعى الزاني الجهل بالتحريم، وكان يحتمل أن يجهله كحديث عهد بالإسلام، والناشيء ببادية، قبل منه؛ لأنه يجوز أن يكون صادقًا
…
"إلى أن يقول"، وإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله؛ لأن عمر قبل قول المدعى الجهل بتحريم النكاح في العدة؛ ولأن مثل هذا يجهل كثيرًا، ويخفى على غير أهل العلم"1.
وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه، لما كتب إليه في شأن الرجل الذي قيل له: متى عهدك بالنساء؟ فقال: البارحة، قيل: بمن؟ قال: بفلانة، فقيل له: هلكت، قال: ما علمت أن الله حرم الزنا -أجاب عمر بأن يستحلف ما علم أن الله حرم الزنا، ثم يخلي سبيله2.
وقد توسع ابن حزم في القول بإسقاط العقوبة بسبب جهل الجاني بحكم ما وقع منه من أفعال، سواء أكانت أفعالًا يعاقب عليها بالعقوبة الحدية، أو بالعقوبة التعزيرية، متى أمكن تصديق الجاني في ادعائه جهل الحكم.
يقول ابن حزم: "من أصاب شيئًا محرمًا -فيه حد أو لا حد
1 المغني ج8 ص185.
2 السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص239 "ط دار المعارف حيدر آباد سنة 1353هـ"، والمهذب للشيرازي ج2 ص267.
فيه- وهو جاهل بتحريم الله تعالى له، فلا شيء عليه فيه- لا إثم ولا حد، ولا ملامة- لكن يعلم، فإن عاد أقيم عليه حد الله تعالى، فإن ادعى جهالة نظر، فإن كان ذلك ممكنًا، فلا حد عليه أصلا، وقد قال قومه بتحليفه، ولا نرى عليه حدًا، ولا تحليفًا- وإن كان متيقنًا أنه كاذب لم يلتفت إلى دعواه".
واستدل ابن حزم على ما ذهب إليه بأدلة كثيرة، منها ما روي عن السلف من أن امرأة أتت علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، فقالت: إن زوجي زنى بجاريتي، فقال: صدقت، هي ومالها لي حل، فقال له علي: اذهب ولا تعد، كأنه درء عنه الحد بالجهالة1.
من هنا كان القول: بأن من يجهل الحكم جهلًا يعد معذورا فيه كان جهله هذا مسقطا العقوبة الحدية عنه، سواء أكان جهله نتيجة عدم وصول الحكم الشرعي إليه دون تقصير منه، أم كان الحكم من الدقة بحيث لا يصل إلى معرفته إلا المتخصصون، وكان من جهله في مكان لا يستطيع فيه لقاء المتخصصين، أو سؤالهم.
ويعد الحل بالحكم دارئًا للعقوبة الحدية في الحالات الآتية:
أولًا: إذا كانت سبل العلم بالحكم بعيدة المنال، ووسائله غير ميسرة، وذلك كجهل من يقين بعيدًا عن الديار الإسلامية بأحكام الإسلام، فالجهل هنا بكل أحكام الإسلام لعدم وصول التبليغ، فلا عقوبة إذا ولا إثم.
ثانيًا: جهل من أسلم حديثًا بالأحكام الشرعية التي لم يتيسر له معرفتها لكونه قد نشأ بعيدًا عن الديار الإسلامية، ولم تكن هذه الأحكام معروفة له، ولم يكن النظام الذي كان يدين به قبل أن يسلم
1 المحلى لابن حزم ج13 ص118، 119.
يحرم ما حرمه الإسلام، فالجهل هنا ينفي وصف الجريمة عما وقع من أفعال، وإن كانت مجرمة طبقًا للنظام الإسلامي.
ثالثًا: جهل الذمي الذي يقيم ببلاد المسلمين بحكم من أحكام الإسلام التي تختلف باختلاف الديانات، بمعنى أن الفعل الذي حرمه الإسلام مباح، فيما يدين به هذا الذمي، فجهل الذمي إذا جهل يعذر به، ويقبل منه في دفع العقوبة الحدية عنه، فلو شرب هذا الذمي خمرًا لم تبلغ به حد الإسكار، فلا حد عليه، وإن كان الإسلام يحرم ذلك؛ لأن جهله بتحريم الإسلام ذلك، مع إباحته فيما يدين به الذمي يدرأ الحد عنه1.
رابعًا: الجهل الناتج عن انتفاء العلم بالعلاقة المحرمة، مع معرفة الحكم واشتهاره، وذلك كمن يعقد على امرأة، ثم يدخل بها وبعد فترة يظهر له أنها محرمة عليه بسبب نسب، أو رضاع لم يكن يعلمه قط، ولم يخبره أحد ممن علمه بذلك، فهنا والحالة كذلك لا عقوبة عليهما لانتفاء علمهما بالتحريم لجهلهما ما بينهما من علاقة، أو رضاع وإن كانا يعلمان أحكام الشرع بالنسبة لزواج المحرمات، ومن هن.
ومثل هذا ما إذا حكم بموت إنسان نظرًا لفقده في حرب من الحروب، ومضت مدة بعد تبادل الأسرى، ولا دليل على وجوده حيًا، فإن زوجة هذا الذي قد حكم بموته إذا تزوجت شخصًا آخر، ودخل بها ثم ظهر زوجها الأول، فإن دخول الزوج الثاني بها، وهو لا يعلم أن زوجها الأول موجود لا يعد زنا، ولا يوجب عقوبة.
خامسًا: جهل المسلم بحكم من الأحكام التي هي موضع اجتهاد الفقهاء، أو حكم من الأحكام التي لم يجمع الفقهاء على رأي واحد
1 المغني ج8 ص185.
فيها، ولم يكن في وسعه الوصول إلى الحكم، فالجهل هنا يقبل القول به، نظرًا؛ لأن الوصول إلى الحكم في مثل ذلك أمر يحتاج إلى إعمال الفكر والبحث، وذلك غير ميسر إلا للعلماء، كما أن اختلاف الفقهاء في حد ذاته شبهة تدرأ الحد كما قال بذلك فقهاء الشافعية، والحنابلة، ومن وافقهم1.
والجهل في كل ما ذكر جهل بحكم الفعل الذي وقع من الفاعل، وجهل حكم الفعل فيما ذكر ينفي القصد الجنائي لدى الفاعل، ومن ثم يسقط العقوبة عنه.
الجهل بالوقائع الجوهرية:
بالإضافة إلى ما سبق ذكره من جهل الأحكام، فإن هناك نوعًا آخر من الجهل يسمى الجهل بالوقائع الجوهرية، وهو جهل يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي لدى الفاعل، نظرًا؛ لأن الوقائع التي جهلها وقائع جوهرية، وقد عد الفقهاء -الذين يرون أن هذا النوع من الجهل ينفى القصد الجنائي لدى الفاعل، هذا النوع من الجهل مسقطًا للعقوبة الحدية.
ويطلق الفقهاء على هذا الجهل المتعلق بمحل الجريمة، جهل العين، أو جهل الفاعل، وما ينشأ عنه من شبهة يطلقون عليها شبهة جهل العين، أو شبهة جهل الفاعل، وهي تنشأ عندما يأتي الفاعل الفعل معتقدًا إباحته.
ومثلوا لما توجد فيه هذه الشبهة من الوقائع بما يأتي:
1-
رجل زفت إليه امرأة على أساس أنها زوجته بأن قيل له: إنها
1 مغني المحتاج ج4 ص145، حاشية الباجوري على بن قاسم ج2 ص230 المغني ج8 ص184.
زوجتك، ودخل بها ثم ظهر بعد ذلك أنها ليست زوجته، فلا حد عليه لانتفاء قصده الجنائي نظرًا لجهله المتعلق بمحل الجريمة، أو بالوقائع الجوهرية المتصلة بها، يقول ابن قدامة:"فإن زفت إليه غير زوجته، وقيل: هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته، فلا حد عليه، لا نعلم فيه خلافًا، وإن لم يقل له هذه زوجتك، أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته، أو جاريته فوطئها، أو دعا زوجته أو جاريته، فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها، أو اشتبه عليه ذلك لعماه فلا حد عليه، وبه قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أن عليه الحد؛ لأنه وطء في محل لا ملك له فيه، ولنا أنه وطء اعتقد إباحته بما يعذر مثله فيه، فأشبه ما لو قيل له: هذه زوجتك؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهذه أعظمها"1.
وذكر ابن حزم: أن المرأة إذا هيأت جاريتها بهيأتها، وخلعتها في حجلتها، وجاء زوجها فوطئها، فإن المرأة تنكل ولا جلد على الرجل، وعلى الجارية حد الزنى إن كانت تدري أن ذلك لا يحل.
ولو أن المرأة نفسها لأجنبي، فوطئها يظن أنها امرأته فهي زانية، ثم يقول: ولا يختلف اثنان من الأمة في أنه من دست إليه غير امرأته، فوطئها وهو لا يدري من هي يظن أنها زوجته، فلا حد عليه"2.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
1 المغني ج8 ص184، مغني المحتاج ج4 ص145، الخرشي ج8 ص77 قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ج2 ص137 ط الاستقامة.
2 المحلى ج13 ص216، 217، 429، 430 الحجلة جمع حجال وحجل: وهو وتر يضرب للعروس في جوف البيت، أو بيت يزين للعروس "المنجد" مادة حجل، ويراجع فيما ذكر من أحكام الجهل مباني تكملة المنهاج ج1 ص168، 169.
أما فقهاء الأحناف، فإنهم يوجبون الحد فيما مضى من وقائع إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا نادى الأعمي زوجته، فأجابته وقالت: أنا زوجتك فواقعها؛ لأن الأخبار دليل، وهو أعمى لا يستطيع رؤية من أجابته، ولجواز تشابه النغمة خصوصًا لو لم تطل الصحبة بينهما.
وقيد فقهاء الأحناف ذلك بأن تجيبه بقولها: أنا زوجتك؛ لأنها لو لم تجبه بذلك واقتصرت على الإجابة بنعم ونحوه فوطئها، فإنه يحد نظرًا؛ لأنهم يرون أنه يمكنه أن يميزها بأكثر من ذلك بحيث يكون الحال متوسطًا في اطمئنان النفس إلى أنها هي زوجته.
فقد ذكر ابن الهمام1: عند شرحه لقول المصنف، ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد "خلافًا للأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأحمد فهؤلاء الأئمة قاسوها على المزفوف بجامع ظن الحل، أما فقهاء الأحناف، فإنهم يرون أن المسقط شبهة الحل: ولا شبهة هنا أصلًا سوى أن وجدها على فراشه، ومجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند الظن إليه، وهذا؛ لأنه قد ينام على الفراش غير الزوجة من حبائبها الزائرات لها وقراباتها، فلم يستند الظن إلى ما يصلح دليل حل
…
وكذا إذا كان أعمى؛ لأن الوجود على الفراش ليس صالحًا لاستناد الظن إليه، وغيره -مثله- مما يحصل بالنعمة، والحركات المألوفة فيحد أيضًا2.
1 ابن الهمام: هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، كمال الدين الشهير بابن الهمام، كان أصوليًا فروعيًا، مفسرًا محدثًا، له تصانيف كثيرة منها فتح القدير توفي سنة 861هـ.
2 شرح فتح القدير ج5 ص258، 259، بدائع الصنائع ج7 ص37 المبسوط ج9 ص57.
وذهب زفر إلى أن الحد يدرأ عن الأعمى؛ لأنه عدم آلة التمييز، وقول الأحناف هذا قد جاء على غير ما هو متوقع منهم، إذ أن الإمام يدرأ بشهبة العقد على من لا يحل نكاحها حتى ولو كان الذي عقد عليها، ودخل بها يعلم أنه لا يحل له نكاحها، والشبهة في مثل هذا أضعف من شبهة جهل الأعمى الذي يدخل بيته، فيجد امرأة في فراشه، فتتصنع له مثل حركات زوجته، ونغمة صوتها، فيظنها الأعمى أنها زوجته ويطؤها.
مما لا يخفى أن شبهة جهل الأعمى، فيما ذكرت أولى بأن يعتد بها في درء الحد عنه، عما ذكره الإمام من شبهة العقد على من لا تحل له، ودرئهم الحد بها.
2-
رجل يصيد حيوانًا في غابة من الغابات، فرأى شيئًا اعتقد أنه حيوان فأطلق عليه النار، فإذا به إنسان، فإن هذا الذي أطلق النار لا يعد مرتكبًا جريمة قتل
عمدية موجبة للعقوبة المقدرة، نظرًا لجهله المتعلق بالوقائع الجوهرية، إذ هو لم
يقصد إنسانًا، وإنما قصد صيد الحيوان، فالقصد الجنائي إذا غير موجود، وانتفاء
القصد الجنائي يحول بين الجاني، وبين عقوبة القتل العمد.
3-
رجل أخذ مالًا معتقدًا أنه ماله، فظهر أن هذا المال مملوك للغير، وأن أمره اشتبه عليه، ففي مثل هذا يكون القصد الجنائي منتفيًا لدى الآخذ، ولذا تسقط عنه العقوبة الحدية.
4-
ومن الخطأ في الوقائع الجوهرية أيضًا من يشرب من الإناء الذي اعتاد أن يشرب منه الماء، فإذا به يجد أن ما شربه ليس بماء، وإنما هو خمر، فلا حد عليه بذلك لانتفاء قصده الجنائي1، وفي
1 المحلى لابن حزم ج13 ص430.
كل ما سبق لا بد من قيام ما يدل على انتقاء القصد الجنائي لدى الفاعل من قرائن وأدلة.
ولقد أخذ فقهاء القانون بما ذهب إليه الفقهاء هنا، وبحثوه عندهم، وأطلقوا عليه الجهل بالوقائع الجوهرية1.
وجهة نظر فقهاء القانون الوضعي في الجهل بالأحكام:
القاعدة العامة عند فقهاء القانون هي:
افتراض العلم بالقانون، وعليه فلا يعذر المرء بجهله القانون.
ولا يجوز له أن يحتج بذلك، ولا يعفيه جهله في الحقيقة من المسئولية الجنائية. ويعتبر العلم بالقانون قرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس.
كما أن المقصود بالعلم هو مكان العلم به على وجهه الصحيح، ويستهدف القانونيون من تقرير هذا المبدأ حماية مصالح المجتمع، واستقراره هو لو أجيز إسقاط العقوبة عن المتهم لجهله بالقانون لأصبح من العسير تطبيق الأحكام على الجناة؛ لأن في وسع كل منهم إدعاء الجهل بالقانون، أو بمعناه الصحيح، وإثبات عكس هذا الادعاء أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا.
ونظرًا؛ لأن هذا المبدأ في رأي بعضهم يعد قاسيًا، وغير منطقي خاصة في العصر الذي تلجأ فيه الدولة إلى الجزاء الجنائي لتدعيم أحكام قوانينها المختلفة، وفي ظل هذا السبيل العرم من القوانين الجنائية التي يثقل على القانونيين ملاحقتها، فقد وجد اتجاه عند الوضعيين يميل إلى التخفيف من مبدأ افتراض العلم بالقانون.
1 الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د. سمير الجنزوري ص432.
وأوردوا عليه استثناء من وقع تحت ظروف قوية حالت بينه، وبين العلم بالقانون، كما إذا حوصر بعض الناس في سجن من السجون التي لا يسمح فيها بوصول أداة للمعرفة، أو وقوف السجناء على أية أخبار، فالسجناء والحالة هذه إذا خرجوا من سجنهم، وارتكب بعضهم أفعالًا جنائية مخالفة لما تنص عليه القوانين الجنائية التي صدرت في المدة التي كانوا فيها سجناء، فإنهم يعفون من العقوبة الجنائية التي يعاقب بها من ارتكب فعلًا من هذه الأفعال عمدًا: نظرا لانتفاء القصد الجنائي لديهم، وقيد ها بمدة محدودة لا يجوز الاحتجاج بعد فواتها بالجهل بالقانون1.
كما اتجه القانونيون أيضًا إلى قصر قاعدة افتراض العلم بالقانون على القوانين الجنائية فقط، وعليه فإن المتهم يستطيع أن يدفع بجهله أحد القوانين غير الجنائية كالقانون الإداري، أو التجاري، أو المدني، أو قانون الأحوال الشخصية، ورتب القانونيون على الاعتذار بالجهل بهذه القوانين إعفاء من ادعى ذلك من المسئولية.
وطبقًا لهذا قضت محكمة النقض ببراءة متهم في قضية تزوير في محرر رسمي: هو وثيقة زواج، أقر فيها بعدم وجود مانع من الموانع الشرعية، رغم تزوجه بابنة أخت الزوجة قبل ذلك أيضًا، وبقائها في عصمته؛ لأن مثله لا يدرك مثل هذه الأحكام، كما أن هذه الأحكام هي
1 نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص517-520، الأسس العامة لقانون العقوبات العام أ. د. سمير الجنزوري ص456-428، شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. نجيب حسنى ص456-628، شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. محمود مصطفى ص425-427، شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. أحمد الألفي ص456، أصول قانون العقوبات أ. د. أحمد فتحى سرور ص551 "ط سنة 1971م".
أحكام لقانون غير قانون العقوبات، وقالت المحكمة في تسيب الحكم "وحيث أنه متى كانت الواقعة الثابتة بالحكم، هي أن المتهمين أملوا بسلامة نية على المأذون عند مباشرة عقد نكاحهم بعدم وجود موانع شرعية: وكانوا في الواقع يجهلون وجود ذلك المانع، فإن جهلهم هذا لم يكن عدم علم بقانون العقوبات، بل جهلًا بواقعة حال هي ركن من أركان جريمة التزوير المرفوعة بها الدعوى عليهم، أساسه عدم علمهم بحكم من أحكام قانون آخر هو قانون الأحوال الشخصية
…
فهو خليط مركب من جهل مركب بالواقع، ومن عدم علم بحكم ليس من أحكام قانون العقوبات، ما يجب قانونًا في حدود المسائل الجنائية اعتباره في جملته جهلًا بالواقع، ومعاملة المتهمين على هذا الاعتبار1.
وفقهاء القانون، وإن قالوا بذلك إلا أنهم قيدوا اعتبار هذا الجهل عذرًا بقيام المتهم بتقديم الدليل القاطع على أنه تحري، وسأل واستفسر، وأنه اعتقد بأنه كان يباشر عملًا مشروعًا، وأنه كان لاعتقاده هذا أسباب معقولة، وإلا فإن جهله هذا يعد جهلًا مشوبًا بالتقصير من جانب المتهم2.
ويلاحظ أيضًا أن تفرقة القانونيين بين القوانين الجنائية، وغيرها من القوانين الأخرى من حيث افتراض العلم بها تفرقة غير مقبولة، ولا تستند إلى منطق قانوني، وإنما هي وسيلة تخفيف، أو تهرب مما يفرضه مبدأ افتراض العلم بالقانون.
1 تراجع نظرية الإباحة عند الأصوليين للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص520، 521 الأسس العامة لقانون العقوبات للأستاذ الدكتور سمير الجنزوري ص529.
2 المرجع السابق ص430.