المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: الركن الشرعي للجريمة - الشبهات وأثرها في العقوبة الجنائية في الفقه الإسلامي مقارنا بالقانون

[منصور الحفناوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌التمهيد

- ‌الفصل الأول: كلمة عامة عن الجريمة في الفقه الإسلامي المقارن

- ‌المبحث الأول: الجريمة والجناية

- ‌أولا: تعريف الجريمة

- ‌ثانيًا: تعريف الجناية

- ‌المبحث الثاني: أقسام الجريمة

- ‌المطلب الأول: أقسام الجريمة باعتبار ما تفع عليه

- ‌المطلب الثاني: أقسام الجريمة باعتبار العقوبة المستحقة

- ‌المطلب الثالث: أقسام الجريمة باعتبار الحق المعتدى عليه

- ‌المطلب الرابع: أقسام الجريمة من حيث القصد وعدمه

- ‌المبحث الثالث: أركان الجريمة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الركن الشرعي للجريمة

- ‌المطلب الثاني: الركن المادي للجريمة

- ‌المطلب الثالث: الركن الأدبي للجريمة

- ‌الفصل الثاني: العقوبة وبعض الجوانب المتعلقة بها

- ‌المبحث الأول: العقوبة وأقسامها

- ‌المطلب الأول: معنى العقوبة

- ‌المطلب الثاني: أقسام العقوبة

- ‌المبحث الثاني: بعض سمات التشريع العقابي في كل من الشريعة والقانون

- ‌المطلب الأول: أهداف التشريع العقابي ورعايته ظروف الجاني

- ‌المطلب الثاني: موقف التشريعيين على الجريمة منذ نشأة فكرتها

- ‌المطلب الثالث: بين التشريعين في مجال التنظيم العقابي

- ‌الباب الأول: الشبهات

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: تعريف الشبهة وأُثرها في الحدود

- ‌المبحث الأول: المراد بالشبهات

- ‌أولا: عند علماء اللغة

- ‌ثانيًا: عند فقهاء الشريعة

- ‌المبحث الثاني: أثر الشبهة في الحد

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أدلة من يدرأ الحد بالشبهة

- ‌ثانيًا: أدلة من لم يقل بدرء الحد بالشبهة

- ‌الفصل الثاني: الشبهات التي تعتري أركان الجريمة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: شبهة الدليل

- ‌المطلب الثاني: شبهة الحق

- ‌المطلب الثالث: شبهة الملك

- ‌المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: الجهل

- ‌المطلب الثاني: الإرادة

- ‌الفصل الثالث: الإثبات

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الإقرار

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: شروط في المقر

- ‌المطلب الثاني: شروط في الإقرار

- ‌المبحث الثاني: الشهادة

- ‌مدخل

- ‌المطلب الأول: شروط في الشاهد

- ‌المطلب الثاني: شروط في الشهادة

- ‌المبحث الثالث: القرائن: معناها، وأعمالها في إثبات الحدود

- ‌معنى القرائن:

- ‌أعمالها في الإثبات:

- ‌الباب الثاني: الجرائم الحدية الشبهات التي تعتريها ومالها من أثر في عقوبتها

- ‌الفصل الأول: جريمة الزنا

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة في الركن الشرعي

- ‌مدخل

- ‌الوطء بعد النكاح الباطل

- ‌ الوطء بعد النكاح الفاسد:

- ‌ وطء الميتة:

- ‌ وطء المرأة المستأجرة:

- ‌ إذا كان أحد طرفي جريمة الزنا غير مكلف:

- ‌ وطء الرجل معتدته البائن:

- ‌ وطء البهائم:

- ‌المبحث الثاني: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة ترتب عليها انتقاء القصد الجنائي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرًا لجهل الفاعل بالحكم الشرعي لما وقع منه من أفعال، جهلًا يعتد به

- ‌ثانيًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة جهل الفاعل، بمن وقع عليه الفعل وشاركه فيه

- ‌ثالثا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرا لانتقاء القصد الجنائي نتيجة اكراه الفاعل

- ‌المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة في إثباته

- ‌أولا: إذا كان إثباتها عن طريق الإقرار

- ‌ثانيًا: إذا كان إثبات جريمة الزنا عن طريق شهادة الشهود

- ‌الفصل الثاني: جريمة السرقة

- ‌المبحث الأول: جريمة السرقة الصغرى

- ‌المطلب الأول: تعريف السرقة

- ‌المطلب الثاني: سرقات اختلف في وجوب الحد بها؛ لقيام شبهة في الركن الشرعي

- ‌المبحث الثاني: جريمة السرقة الكبرى "الحرابة

- ‌المطلب الأول: الحرابة

- ‌المطلب الثاني: "سرقات اختلف في وجوب حد الحرابة بها

- ‌الفصل الثالث: جريمة شرب الخمر

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي

- ‌مدخل

- ‌ شرب قليل الأنبذة:

- ‌ وصول الخمر إلى الجوف عن غير طريق الفم:

- ‌المبجث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد، لقيام شبهة في القصد الجنائي

- ‌المبحث الثالث: الشبهات التي تعتري إثبات شرب الخمر

- ‌أولا: إثباتها بالإقرار وما يعتريه من شبهات

- ‌ثانيًا: إثبات جريمة الشرب بالبينة، وما يعتريه من شبهات

- ‌ثالثًا: إثبات جريمة الشرب بالقرائن

- ‌الفصل الرابع: جريمة القذف وما يتعلق بها من شبهات

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي

- ‌أولا: القذف بطريق الكتابة أو التعريض

- ‌ثانيًا: الشهادة بالزنا إذا جرح الشهود، أو أحدهم

- ‌المبحث الثاني: شروط في المقذوف

- ‌أولا: البلوغ والعقل

- ‌ثانيًا: إسلام المقذوف

- ‌ثالثًا: عفة المقذوف

- ‌الفصل الخامس: جريمة الردة وما يتعلق بها من شبهات

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي

- ‌ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأن الكافر إذا قال

- ‌ إسلام السكران:

- ‌ إسلام المكره:

- ‌ السحر تعليمه وتعلمه:

- ‌المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي

- ‌الخاتمة:

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌المطلب الأول: الركن الشرعي للجريمة

‌المطلب الأول: الركن الشرعي للجريمة

يراد بالركن الشرعي: النص الذي يجرم السلوك -إيجابا أو سلبا- ويضع عقابًا يلزم به كل من وقع منه هذا السلوك المجرم، سواء عن طريق الإيجاب أو السلب.

وعلى هذا فإنه إذا لم يرد نص يجرم السلوك، فهو سلوك مباح طالما لم يترتب عليه مضارة؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة1.

أمكا إذا ترتب عليه مضارة، فهو إذا عمل مجرم طبقًا لما ورد به النهي عن المضارة، في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار"2.

وقد ناقش الأستاذ الدكتور: سلام مدكور هذه القضية مناقشة مستفيضة يعنينا منها هنا، ما جاء من أن الأصل فيما سكت عنه الشارع، الإباحة هذه هي خلاصة لما ورد في هذه القضية على ألسنة الفقهاء

1 هذا ما اختاره. أ. د: سلام مدكور في قوله: ما دمنا قد اخترنا القول -بالإباحة، فإننا نشير إلى القائلين به من الأصوليين والفقهاء، ونبسط وجه الاستدلال به، جاء في التحرير ج2 ص172 "المختاران الأصل الإباحة عن جمخور الحنفية والشافعية، ومثله في مسلم الثبوت" ط49.

ويقول ابن عابدين ط ص78. وهذا ما جرى عليه صاحب الهداية. الفتح على الهدية ج3 ص295-296، وصاحب الخانية في أوائل الحظر والإباحة، ونقل عن شرح التحرير أنه قول معتزلة البصرة، وكثير من الشافعية، وأكثر الحنفية لا سيما العراقيين. الإباحة أ. د: سلام مدكور ص504.

2 رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس، الجامع الصغير ج3 ص427 الإباحة أ. د: سلام مدكور ص498.

ص: 95

والأصوليين، من أنه لا حكم لأفعال العقلاء ورود النص، ومن أن الحق أصالة الإباحة فيما ليس فيه نص من الأفعال النافعة، وهو ما يطلق عليه إباحة أصلية.

ومن أنه لا يكلف شرعًا إلا من كان قادرًا على فهم دليل التكليف، أهلًا لما كلف به، ولا يكلف شرعًا إلا بفعل ممكن مقدور للمكلف معلوم له علمًا يحمله على امتثاله1.

وعلى هذا، فإنه يتحتم أن يكون الفعل المكلف به معلومًا للمكلف علما يحمله على الامتثال لما علم، فإن لم يخضع لما كلف به وعلمه، لزمته العقوبة لمخالفته، وعدم امتثاله لما نص عليه الشرع.

ومن هنا فقهاء الشريعة قد اعتادوا عند حديثهم عن كل جريمة، أن يذكروا النصوص التي تجرم الفعل، وتلزم العقاب عليه، مبينين وقت نزول النص وسببه إن اقتضى الأمر.

والحديث عن الركن الشرعي يتطلب بيان ما يجب أن يتوفر للنص التشريعي من سمات تتمثل فيما يأتي من كونه:

1-

نافذا وقت وقوع الجريمة.

2-

ساريا على مكان وقوعها.

3-

ملزمًا للشخص الذي وقعت منه.

وقبل الحديث عن هذه السمات الواجب توافرها في النص التشريعي أحب أن أشير في كلمة موجزة إلى موقف الشريعة الإسلامية بالنسبة لتجريم الأفعال والعقاب عليها، والتزامها في ذلك بما شرعته هي من أنه لا تجريم، ولا عقاب بشرع مبلغ.

1 الإباحة أ. د: سلام مدكور ص505 أصول الفقه لفضيلة الشيخ عبد الوهاب خلاف ص173 ط الثانية.

ص: 96

لا تجريم ولا عقاب إلا بشرع مبلغ:

منذ بدء الخليقة وضع الله سبحانه وتعالى قواعد تشريعية عادلة، وقاطعة فلا جريمة ولا عقوبة إلا بشرع مبلغ، ويحدد ويوضح.

وليس ذلك في الأمور القضائية التي تحكم علاقات الناس فحسب، وإنما أيضًا في الأمور الدينية، التي تنظم علاقات الناس بخالقهم.

ولا أدل على ذلك مما جاء به القرآن الكريم مما كان من أمر آدم عليه السلام حين أسكنه الله الجنة، وأباحها له، عدا شجرة نهاه عن الأكل منها:{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} 1.

فهذا النهي تشريع بلغ لآدم أولًا، ثم لما لم يلتزم به ألزم بما ترتب على المخالفة:{فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} 2 {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} 3.

كما جاء القرآن الكريم بنصوص واضحة، وصريحة خاصة بتقرير هذا المبدأ السماوي العدل مثل قوله تعالى:{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 4.

وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} 5.

1 الآية 35 من سورة البقرة.

2 الآية 121 من سورة طه.

3 الآية 36 من سورة البقرة.

4 الآية 15 من سورة الإسراء، تفسير القرطبي ج5 ص3847 ص4295.

5 الآية 59 من صورة القصص.

ص: 97

هذا هو المبدأ التشريعي السماوي عرفه آدم أبو البشر، قبل أن تخطو قدم إنسان فوق هذه الأرض.

كما ضمن إليه سبحانه وتعالى ما أنزله على خاتم الرسل والأنبياء، هذا المبدأ التشريعي، وطبقه فقهاء المسلمين والتزموا به1.

1 ذكر الأستاذ الدكتور محمود مصطفى أن قاعدة لا جريمة، ولا عقوبة إلا بنص لم تكن معروفة في مصر قبل قوانين سنة 1883م، وقد تكفل بالرد عليه الأستاذ الدكتور سلام مدكور، فقال: نحن نوافقه على أنها لم تكن معروفة لدينا في قانون موضوع، لكنا نقول: أنها كانت معروفة في الفقه الإسلامي، بقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} ، ومن القواعد الأساسية في الأشياء والأفعال الإباحة وهاتان القاعدتان، تفيد كل منها أن الركن الشرعي للجريمة هو وجود نص محرم، فإذا لم يوجه نص يحرم الفعل أو الترك، كان ذلك الفعل مباحًا لا إثم فيه.

كما أن ما جاء النص بتحريمه إنما يعتبر جريمة بتقرير عقوبة عليها، حدًا كانت العقوبة أو تعزيرًا، وفي ذلك يقول الماوردي في الأحكام السلطانية ص211: الجرائم محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير".

وعلى هذا فإن كانت القوانين الوضعية جميعها في مختلف الأوطان لم تعرف هذه القاعدة إلا في القرن الثامن عشر، أو حتى الثالث عشر في إنجلترا، فإنها جاءت في التشريع الإسلامي من نحو أربعة عشر قرنا هجريا، وقد كان المطبق في مصر قبل سنة 1883 هي أحكام الشريعة، ومعنى هذا أن القاعدة المذكورة كانت معروفة في مصر معمولًا بها قبل أن تعرف مصر التقنين، والقوانين بصفة عامة، الإباحة عند الأصوليين أ. د: سلام مدكور ص50-51 ط سنة 1965 دار النهضة العربية.

ص: 98

القوانين الوضعية، وقاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص:

ذكر فقهاء القانون أن هذه القاعدة عرفها القانون الروماني، ونص عليها العهد الأعظم الذي منحه أحد ملوك إنجلترا لرعاياه سنة 1915م في المادة 39 من هذه العهد1، ولكنه لم يكن مبدأ ملزمًا.

فقد كان قضاة القوانين الوضعية يجرمون ما يشاءون من الأفعال، ويعاقبون بأي عقوبة يرونها دون قيد أو شرط2.

كما تدخلت عوامل عدة بالنسبة للأشخاص والأفعال، والعقوبات التي أن كان القرن الثامن عشر، الذي تعالت فيه صيحات الفلاسفة والمصلحين، مطالبة بوضع ضوابط للقضاء، والتنديد بهذه الفوضى في التجريم والعقاب، ولكنهم لم يقترحوا حلا إيجابيًا لتحقيق العدالة، وبناء الإصلاح القضائي، حتى قام المحامي الإيطالي "بيكاريا" بنشر مقترحاته البناءة لإصلاح القضاء في كتابه المشهور عن الجرائم والعقوبات، والذي أخرجه سنة 1764م، والذي اعتبر بسببه الأب الروحي لعلماء القانون الجنائي3، ثم ظهر هذا المبدأ -لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص- في إعلان حقوق الإنسان سنة 1774م، ولم تتم صياغته الواضحة المحددوة إلا في المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان4، الذي أصدره رجال الثورة الفرنسية سنة 1789م -هذه لمحة موجزة عن قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في كل من الشريعة والقانون، ومنها يظهر:

1 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص93.

2 شرح قانون العقوبات أ. د: مصطفى السعيد ص101 التشريع الجنائي عبد القادر عوده ط ص157.

3 شرح قانون العقوبات أ. د: محمود مصطفى ص64.

4 شرح قانون العقوبات أ. د: أحمد الألفي ص93.

الجريمة والمجرم والجزاء أ. د: رمسيس بهنام ص90-91.

ص: 99

أن الشريعة الإسلامية التي سبقت قواعد التقنين الوضعي قد جاءت بنظام متكامل للتجريم والعقاب.

فهي قد جاءت بتحديد واضح للجرائم وعقوباتها، وشددت في تحديد بعض الجرائم وتعيين عقوباتها، نظرًا لما لهذه الجرائم من طبيعة خاصة ونظرا؛ لأنها تمس أمن المجتمع وسلامته، وعرفت هذه الجرائم بجرائم الحدود والقصاص.

كما وضعت القواعد العامة التي تشمل كل ما يمكن أن يقع من جرائم مختلفة، وأعطت ولي الأمر الحق في أن يختار ما يناسب هذه الجرائم من عقوبات، كما أنه تجدر الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية قد أفسحت مجال الاجتهاد أمام الفقهاء قضاء كانوا أو غير قضاة، وحثتهم على تقصي النصوص، واستنباط الأحكام منها، وقياس القضايا بعضها على بعض، وتطبيق أحكام ما ورد فيه نص على غيره مما لم يرد فيه نص مما يماثله طبقًا لقواعد الفقه وأصوله.

ولذا فإن الفقيه يمكنه الحكم بإباحة بعض ما لم ينص الشرع صراحة على أنه مباح، وطبقًا لمفهوم المخالفة يمكن أيضًا أن يحكم الفقيه بحظر أشياء لم يرد نص من الشارع بحظرها.

وهذا مما امتازت به الشريعة على القانون في مجال التجريم والعقاب، إذ أنه لا يسمح لقضاة القانون الوضعي أن يجرموا أفعالًا، أو أن يحكموا بعقوبات، طبقًا لقياس أو غيره مما أعطت الشريعة فيه الحق للقاضي في الاجتهاد، وأعمال القواعد القياسية1 بشرط أن يستهدف في

1 الإباحة عند الأصوليين والفقهاء أ. د: سلام مدكور ص507. دار النهضة.

ص: 100

ذلك مصلحة الناس جميعًا، دون تفرقة أو تمييز، لحسب أو جاه أو سلطان.

هذه إشارة موجزة وضح فيها ما للشريعة الإسلامية من أصالة في مجال تقعيد القواعد والأصول التشريعية، أعاود بعدها الحديث عما يجب أن يتوافر للنص التشريعي من سمات، وشروط، حتى يمكن أن يلتزم به، ويطبق على كل ما يقع من أحداث.

أولًا: سريان النص من حيث الزمان

اتفق رجال القانون على عدم سريان القوانين الجنائية إلا على ما يقع اعتبارا من تاريخ العمل بها، ولا يرتب القانونيين لها أثرًا فيما وقع قبل صدورها، والعمل بها إلا في حالة ما إذا كان في ذلك نفع للمتهم الذي لم يتم الحكم عليه بصورة نهائية1.

ورجال القانون قد أخذوا في ذلك بما جاءت به الشريعة الإسلامية منذ بدء تشريعها، فيما حكاه القرآن الكريم من قضايا، وأحكام منها على سبيل المثال، وما جاء من قوله تعالى:{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} ، حتى قوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2.

فالآية الأولى حرمت نكاح زوجات الآباء، وذلك منذ نزلت هذه

1 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: محمود مصطفى ص95 وما بعدها.

شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص109 وما بعدها.

الجريمة والمجرم والجزاء أ. د: مسيس بهنام ص92 وما بعدها.

2 من الآيتين 22، 23 من سورة النساء.

ص: 101

الآية وبينت أنه فاحشة، وأن كان منه في الماضي لا عقاب عليه1.

أما الآية الثانية، فإنها قد بينت أنواعًا من المحرمات آخرها تحريم الجمع بين الأختين، ثم وضحت أن ما وقع من هذه المحرمات قبل نزول هذه الآية، فإنه لا عقاب عليه2.

فهذه النصوص وما يماثلها ببين منهما ما وضحته الشريعة الإسلامية من قواعد وأصول تشريعية، تحكم العمل في تطبيق النص الجنائي، وتقضي بأنه لا يجرم سلوك إلا بعد ورود النص الذي يجرمه، وأخذ بهذا وتطبيقا له على ما يلتزم به من نصوص تشريعية، وضع الأصوليون قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية، والتزموا بها، وإن كانوا قد استثنوا منها أمرين.

الأول: ويخص ما وقع قبل ورود النص من جرائم خطيرة تمس النظام، والأمن ففي مثل ذلك أجازوا أن يكون للأحكام المتعلقة بمثل هذه الجرائم أثر رجعي.

الثاني: ويختص بما إذا كان في تطبيق النصوص التشريعية الجديدة نفع للجاني، فإنهم والحالة هذه أجازوه رجعية النص، وتطبيقه حتى لو كان صدور هذا النص بعد الحكم في الواقعة3.

فهاتان هما الحالتان اللتان استثنيتا من عدم رجعية النص، وإن كان المشرع الوضعي قد استنثى من هاتين الحالتين بعض الوقائع، ورأى عدم الأخذ فيها بتطبيق مبدأ الأخذ بالقانون الأصلح للمتهم4.

1 تفسير القرطبي ج2 ص1673 ط دار الشعب.

2 المرجع السابق ج2 ص1689.

3 المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص725-726 ط الرابعة دار النهضة العربية.

4 وذلك خاص بالحالات التي تحكمها القوانين المحددة الفترة شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص131 ط 1977م.

ص: 102

وقد أثيرت بعض أقول حاولت التشكيك في الالتزام بهذه القاعدة، فزعموا أن من النصوص التشريعية ما طبق على وقائع سابقة على نزوله، وضربوا لذلك مثالًا بما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 1.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} 2.

ذكر القرطبي أن آية اللعان نزلت بعد قول هلال بن أمية للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله من أمري ما يبرئ ظهري من الحد3.

ولا يخفى أن في تطبيق ما نزلت به الآيات من أحكام -في شأن من قذف زوجته ومن ظاهر- تخفيفًا لما كان موجودًا قبل نزول الآيات من عقاب، وفي ذلك نفع للجاني ومصلحة له4.

1 الآيتان 6-7 من سورة النور.

2 الآيات 1-3 من سورة المجادلة.

3 فقد ذكر القرطبي أن آية اللعان نزلت بعد ما كان من مناقشة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين هلال بن أمية الذي رمى زوجته بشريك بن سمحاء، أحكام القرآن ج5 ص 4575.

4 نقد كان حكم ذلك قبل نزول الآية الكريمة "إثبات ما قذفها به، وإلا لزمته عقوبة القذف"، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من هلال بن أمية البينة على ما قال، وإلا أقام عليه عقوبة القذف.

أما بالنسبة لإقامة البينة، فلم يستطع ذلك هلال، بدليل أنه قال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلًا على امرأته يلتمس البينة، وبذا أصبح ابن أمية ملزمًا بالعقوبة، وتطبيق النص عليه يعفيه من غير شك، فهو إذا أنفع له تفسير القرطبي ج5 ص4575. أما آية الظهار فقد كان فيها تخفيف التحريم المؤيد الذي كان مطبقًا قبل نزولها بالنسبة لكل من ظاهر من زوجته، وآية المجادلة جاءت بما فيه المصلحة تفسير القرطبي ج7 ص6439 وما بعدها ج8 ص6443.

ص: 103

أما آية الحرابة، فقد اختلف في سبب نزولها.

والذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين1.

وقال الإمام مالك والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد2.

وقال ابن جرير الطبري: أن الآية قد نزلت بعد عقاب العرنيين، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد عاقبهم طبقًا لقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 3.

1 هم قوم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عريبة، وآلمهم الجو في المدينة، فأمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بلقاح يشربون ألبانها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا النعم، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم من أحضرهم، وعاقبهم بجريمة حرابتهم.

القرطبي ج3 ص2145 ط دار الشعب، الطبري ج18 ص53 الألوسي ج18 ص79.

2 تفسير القرطبي ج3 ص2146 ط دار الشعب.

3 الآية 40 من سورة الشورى.

ص: 104

وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 1 وعلى هذا تكون الآية قد نزلت بحكم جديد، يطبق على كل من يأتي مثل ذلك السلوك، وطبقًا لهذا الرأي، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطبق حكم الآية بأثر رجعي على من وقعت منه جريمة الحرابة، قبل ورود النص المحدد لعقوبتها2.

أما على قول الجمهور، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بتطبيق ما جاء بها من عقاب على من وقع منه فعل سابق على ورود النص، يكون قد وضع قاعدة رجعية النص الجنائي بالنسبة للجرائم الخطيرة، التي تعرض أمن الدولة وسلامتها للخطر.

هذا هو سريان النص الجنائي، وضحته الشريعة الإسلامية، والتزم به قضاتها ولم تعرفه القوانين الوضيعة إلا بعد مجيء الثورة الفرنسية فقط3.

ثانيًا: سريان النص من حيث المكان

الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للناس كافة في كل زمان ومكان، واقتضت حكمته تعالى أن يبقى أناس حتى اليوم لا تطبق شريعة الله وأحكامه، التي ضمنها ما أنزله على رسوله -صلى

1 الآية 194 من سورة البقرة.

2 تفسير الطبري ج6 ص119.

3 القانون الجنائي أ. د: علي بدوي ص116-117 الموسوعة الجنائية ج5 ص568 التشريع الجنائي الإسلامي أ. د: عبد القادر عوده ط ص226-273 ط دار التراث.

ص: 105

الله عليه وسلم-، ومن بين العوامل التي يرجع إليها ذلك، عدم وصول سلطان الدولة الإسلامية إلى حيث يقيمون.

من هنا قسم الفقهاء العالم من حيث بسط سلطان الإسلام عليه إلى دارين دار الإسلام، ودار الحرب، ومنهم من زاد دار العهد.

أما دار الإسلام:

فهي الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام، ويأمن من فيها بأمان المسلمين سواء أكانوا مسلمين أم ذميين1.

وبلاد المسلمين كلها تعتبر دار واحدة، ولو اختلفت حكامها، وصارت دولًا شتى، لنفوذ حكم الإسلام فيها؛ لأن هذه الفرقة لا تقضي على نفوذ حكم الإسلام فيها جميعها2.

والأصل في أهل دار الإسلام الأصليين أن يكونوا مسلمين، ولكن قد يكون من سكانها غير المسلمين، وهم الذميون.

ولأهل دار الإسلام -سواء المسلمين منهم والذميون- العصمة في أنفسهم وأموالهم3.

1 شرح السرخسي ج 3/ 18 السياسة الشرعية، أو نظام الدولة الإسلامية للمرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف ص69 بدائع الصنائع ج7 ص130، أسنى المطالب ج4 ص240.

2 الوصايا في الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص54.

3 بدائع الصنائع ج7 ص106 أسنى المطالب ج4 ص210 أحكام الزميين والمسلمين في دار الإسلام، رسالة دكتوراه إعداد د/ عبد الكريم زيدان، بإشراف أ. د. محمد سلام مدكور، المغني ج10 ص578 ط المنار.

ص: 106

أما دار الحرب، فهي الدار التي لا سلطان للمسلمين عليها، وهي الدار التي شوكتها لأهل الكفر، ولا سلطان عليهم.

وأهل دار الحرب هم الحربيون، والحربى لا عصمة له في نفسه، ولا في ماله بالنسبة لنا؛ لأن العصمة لا تكون إلا بالإيمان، أو الأيمان وليس لحربي واحد منهما1، ومن كان مسلمًا ومقيمًا بدار الحرب، فإنه لا يمنع من دخول دار الإسلام، بل إن الإمام أبا حنيفة يرى أنه لا بد من دخوله دار الإسلام حتى يصبح معصوم الدم والمال؛ لأن العصمة عنده أساسها منعة الإسلام القائمة على أساس قوته وسلطانه2.

أما دار العهد: أو دار الصلح، فهي البلاد التي لم يستول عليها المسلمون استيلاء يمكنهم من تطبيق شرائعهم، وسننهم فيها، ولكن أهلها دخلوا في عقد مع المسلمين، وعهدهم على شرائط معينة3.

هذا ويرى بعض فقهاء القانون الدولي أن اصطلاح "دار الإسلام"

1 شرح الأزهار ج4 ص552 شرح النيل ج10 ص395.

2 بدائع الصنائع ج7 ص252 البحر الرائق ج3 ص102.

3 نظم الحكم في الإسلام أ. د: سلام مدكور محاضرات ألقيت على طلبة معهد الدوريات العربية في العام الدراسي 1977-1978م تحت الطبع التاج المذهب لأحكام المذهب شرح فن الأزهار، لأحمد بن القاسم الصنعاني ج4 ص458 ط أولى تفسير المنار ج10 ص279 العلاقات الدولية في الإسلام للشيخ أبو زهرة

ص54، الشرع الدولى في الإسلام د/ نجيب الأرمنازي ص50.

ص: 107

اصطلاح مقبول في وقت ظهور الإسلام، وذلك؛ لأن اصطلاح "الدولة" بمفهومها الحديث لم يكن معروفًا وقتذاك.

كما أن اصطلاح دار الحرب، اصطلاح عادي يتميز بالعمومية واليسر إذ يجمع بين كل المجتمعات الإنسانية، التي لم يكن يربط بينها، وبين الدولة الإسلامية أي رباط، والتي كانت ترفض التعاون السلمي مع الدولة الإسلامية1.

هذا هو تقسيم الفقهاء للعالم من حيث بسط سلطان الإسلام عليه، أما إمكان أحكام الشريعة الإسلامية، وسريان نصوصها على المقيمين فيه، فهو ما سأتناوله في الصفحات التالية:

1 أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية د: حامد سلطان ص116.

ص: 108

الشريعة الإسلامية، والمبادئ التي تحكم سريان النص على المكان:

الأصل كما سبق أن تطبق أحكام الإسلام على الناس عامة، ولكن ما عليه المسلمين من حال أدى إلى قصر تطبيق هذه الأحكام على من يدين بدين الإسلام بصفة خاصة، وبالولاة للدولة الإسلامية بصفة عامة، وعلى ضوء هذا اتجه فقهاء الإسلامي إتجاهين أساسيين، يحكمان سريان تطبيق أحكام الشريعة على المكان، خصوصًا من حيث الإلزام الجنائي.

الاتجاه الأول: ويمكن أن يطلق عليه اتجاه الإقليمية.

يقوم هذا الاتجاه على الأسس الآتية:

الأساس الأول: الولاية على المكان الذي وقعت فيه الجريمة.

الأساس الثاني: من وقعت منه الجريمة.

الأساس الثالث: نوع الجريمة التي وقعت.

أما بالنسبة للاتجاه الأول الذي يقرن العقوبة على الجريمة بالولاية على المكان الذي وقعت فيه الجريمة وقت وقوعها، فإن أقوال الفقهاء بالنسبة لذلك تنحصر فيما يأتي:

1-

تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على كل من يقيم في إطار حدود الدولة الإسلامية "أي على إقليمها"، سواء أكان مسلمًا أم ذميًا أم مستأمنا.

2-

تطبق أحكام الشريعة الإسلامية على كل من يقيم على إقليم الدولة الإسلامية، عدا المستأمن إذا ارتكب جريمة تمس حقا لله "هو الذي يعرف الآن بحقوق الجماعة".

ص: 109

وليس معنى هذا أن يترك المستأمن يفلت من الالتزام بضمان ما أتلفه، وإنما عليه ضمانه لا على سبيل العقوبة، وإنما على سبيل التعويض1.

ويتفق هذه الاتجاه، وما يطبقه فقهاء القانون من مبدأ الإقليمية، والذي يعني أن يطبق القانون الجنائي للدولة على كل ما يقع على إقليمها من جنايات، وغيرها، وعدم تطبيق هذا القانون خارج إقليم الدولة2.

غير أن هذا الإتجاه الأول لفقهاء الشريعة يرى بعض القائلين به عدم معاقبة من لا يقيم إقامة دائمة بالدولة الإسلامية، على ما يأتيه من جرائم يقع الاعتداء فيها على حق خالص، أو غالب لله سبحانه وتعالى.

تقييم الاتجاه الأول لفقهاء الشريعة:

راعى الإمام الأعظم أبو حنيفة، ومن وافقه في أخذهم بهذا الاتجاه الحرية الشخصية للأفراد إلى حد كبير، وقد راقت هذه المراعاة كثيرين من فقهاء القانون الوضعي، فنسجوا على منوالها.

غير أن الاتجاه قد فتح الباب على مصراعيه أمام الدولة الإسلامية، إذا ذهبوا إلى دولة أخرى، فإن كثيرين منهم يعبون الجرائم في نهم، وينتهكون الحرمات، لأمنهم حينئذ وبعدهم عن تطبيق عقوبات ما تردوا فيه من جرائم عليهم. وذلك وآثاره ليس يخاف على أحد.

1 فتح القدير ج6 ص21-26، البحر الرائق ج5 ص186 بدائع الصنائع ج7 ص131-134 ط الجمالية، الأم للإمام الشافعي ج7- ص325 ط دار الشعب المدخل للفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص723 ط الرابعة سنة 1969 دار النهضة العربية.

2 شرح قانون العقوبات لكل من أ. د: محمود مصطفى ص119، أ. د: محمود نجيب حسني ص131، أ. د: أحمد الألفي ص139.

ص: 110

كما أن القول بالتفريق بين المستأمن وغيره، ممن يقيم بالدولة الإسلامية في محاولة إنجاء المستأمن، وغيره من العقاب على بعض ما يرتكبه من جرائم، قد فتح باب مفارقة الجرائم أمام هؤلاء المستأمنين، وقد يكون منهم من لا رادع له من خلق أو دين، وإنجاؤه من العقاب تضييع لحرمات الله، وحث له ولغيره على الإثم والخطيئة، ولكم عانت الأمة من التفريق في المعاملة القانونية، وألوان الحماية المختلفة1.

وإنه لمن الأنفع للدولة وللأفراد جميعًا، أن يدفع الفساد بالعقوبة العنيفة الرادعة. وفي ذلك الخير وحماية الأخلاق، والفضيلة بدلًا من أن تراعى حرية بعض فاسدي النفوس والطبائع، الذين يعيثون في الأرض فسادًا، وهم آمنون من العقاب.

مما لا شك فيه أن الضرب على أيدي هؤلاء، وإلزامهم عقوبة ما ارتكبوه من جرائم حتى ولو لم تكن الأفعال محرمة في قانون وطنهم أنفع من كل الوجوه، مما ذهب إليه، ورعاه الإمام أبو حنيفة، أيا كان هدفه، أو قاعدته التي اعتمد عليها في القول بذلك.

الاتجاه الثاني: ويمكن أن يطلق عليه اتجاه الإلزام الشخصي.

والولاية فيه أعم من سابقه، إذ أنه مبني على أساب ولاية الدولة الإسلامية على كل من يقيم، أو يوجد فيها وقت ارتكابه الجريمة بصرف النظر عن ديانته، أو بلده التابع له، سواء أكان مسلمًا أم ذميًا، أم مستأمنًا.

ثم يلزم القائلون بهذا الاتجاه أيضًا كل مسلم عقوبة جنايته التي

1 التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عوده ط ص290 ط بيروت.

ص: 111

ارتكبها في أي مكان حتى ولو كانت قد وقعت في دار الحرب، وكذا الحال بالنسبة للذي يعد في رعايا الدولة الإسلامية، فمعيار الأفعال، وإلزام العقوبة عليها يلزم به كل رعايا الدولة الإسلامية، سواء ارتكبوا جرائمهم دار الإسلام أم في دار الحرب، ما دامت الشريعة الإسلامية قد جرمت الفعل، وألزمت من قام به العقوبة.

فالإلزام عند أصحاب هذا الاتجاه إلزام شخصي، لا علاقة له بالإقليم الذي وقعت الجريمة على أرضه، من حيث إعفاء من وقعت منه هذه الجريمة، لكون أهل هذا الإقليم لا يعتبرون ما وقع جريمة يعاقب عليها.

إذ المقياس هو نظرة الشريعة الإسلامية لما وقع، من حيث تجريمه أو إباحته، إلى الشخص الذي وقع منه الفعل، أهو أحد رعايا الدولة الإسلامية، أم من غيرهم1.

الاتجاه الثاني: ومبدأ العينية والشخصي

لاحظ فقهاء القانون الوضعي أن مبدأ الإقليمية ترد عليه بعض استثناءات يحتاج علاجها وجود مبادئ أخرى لتدراك إفلات المجرم، ومحاولة لتتبعه وإنزال العقاب به.

لذا فقد وضعوا مبادئ أخرى بجانب مبدأ الإقليمية، وذلك كمبدأ

1 المدونة الكبرى ج16 ص91 ط أولى مطبعة السعادة، مواهب الجليل ج3 ص358 ط الحلبي المهذب للشبرازي ج1 ص383 ط المنار.

المغني ج10 ص 439، 537 ط المنار الجريمة للشيخ أبو زهرة ص347.

اتشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عوده ج1 ص287-289.

ص: 112

العينية، ومبدأ الشخصية بنوعيها الإيجابي والسلبي، ويعني مبدأ العينية ملاحقة الجاني بصرف النظر عن جنسيته، إذا ارتكب جنايات معينة، وهي عادة تتمثل في الجنايات التي تمس أمن الدولة وسلامتها، سواء ارتكبت داخل الدولة، أو خارجها بصرف النظر عن كون هذه الأفعال معاقبا عليها في مكان ارتكابها أو لا.

وهذا المبدأ لا يعني إلا بأمن الدولة فقط، وإن كان غالبًا ما يوجه إلى العناية بأمن الحاكم وسلامته، والحفاظ على حكمه وسلطانه، يصرف النظر عن أي شيء آخر.

ومبدأ العينية هذا ما هو إلا بداية سير فقهاء القانون الوضعي نحو الاتجاه الثاني لفقهاء الشريعة الإسلامية، الذي لم يعن بأمن الدولة فقط، أو بالحفاظ على طائفة دون أخرى، أو إقليم دون إقليم، وإنما عني بالحفاظ على الأمة كلها وسلوكياتها وأخلاقياتها؛ لأن ذلك أساس البناء الشامخ للأمم وحضاراتها.

أما مبدأ الشخصية، فإنه يعني في أحد مفهوميه تتبع المواطن إذا ارتكب جريمة في الخارج؛ لأن على الدولة أن تضمن حسن سلوك رعاياها خارج حدودها أيضًا، كما أن ذلك يعمل على مكافحة الجريمة، وتهدئة الشعور العام1.

غير أن هذا المبدأ يشترط للعقاب على السلوك، أن يكون سلوكًا مجرمًا في المكان الذي وقع فيه، وأن يكون سلوكه هذا مكونًا جريمة في قانون بلده "جناية أو جنحة في القانون المصري".

وبذا يظهر شمول الإتجاه الثاني لفقهاء الشريعة الإسلامية، لمبدأ

1 شرح قانون العقوبات. أ. د: محمود مصطفى ص130-136، والتشريع الجنائي ج1 ص295.

ص: 113

العينية والشخصية والزيادة عليهما؛ لأنه يعني بالأمن العام للفرد والأمة، ولا يعنيه أن يكون الفعل معاقبًا عليه في المكان الذي وقع فيه أم لا، وإنما المعيار هو ما تقرره الشريعة؛ لأن ما يقرره الأفراد يخضع للأهواء، والرغبات، وهو سهل التغير والتبديل.

أما ما تقرره الشريعة الإسلامية، فهو بجانب كونه قانونًا واجب الاتباع -هو أيضًا جزء من عقيدة ثابتة، لا تخضع لشهوة أو هوى.

كما أن البلاد الإسلامية كلها من وجهة نظر الشريعة، بلد واحد، فالجاني أينما ذهب فشريعة الإسلام تحكمه، وهذا أقدر على استئصال الإجرام والمجرمين، وإحكام القبضة القانونية، وهو حلم مشرعي القانون.

ثالثًا: حدود سريان النصوص الجنائية على الأشخاص

1-

القانون الوضعي، وحدود سريان النص الجنائي على الأشخاص:

حتى قيام الثورة الفرنسية لم تكن تعرف القوانين الوضعية طريق المساواة في تطبيق النصوص الجنائية على الأشخاص، فقد كان التمييز واضحًا في وضع المحكمة وسيرها، وفيما يحكم به، بل وفي كيفية تنفيذ العقوبة.

وبعد قيام الثورة الفرنسية، بدأ وضع قاعدة تحكم سريان النص الجنائي على جميع من يقيم على إقليم الدولة.

غير أن هذه القاعدة لم تسلم من الاستثناءات، فخص بعض الأفراد بإعفاءات معينة، وأكثر من ذلك نص عليها في دساتير بعض الدول، ومن هذه الفئات المستثناة على سبيل المثال:

ص: 114

"أ" رئيس الدولة: إذ هو لا يخضع للقانون كما يخضع له باقي الأفراد. بحجة أنه مصدر السلطة العليا والقانون، وإن كانت بعض الدساتير قد نصت على إخضاعه للقانون عند ارتكابه جناية الخيانة العظمى.

"ب" رؤساء الدولة الأجنبية: فهؤلاء لا يخضعون لأي قانون جنائي في أي بلد يذهبون إليه، سواء أكانوا في زيارة رسمية أو غيرها، هم ومن معهم من أفراد أسرهم، ومرافقيهم من حاشية، وأتباع.

"ج" رجال السلك السياسي، وأعضاء الهيئات التشريعية:

وإعفاء هؤلاء ليس مثار جدل -معلن على الأقل-، وإنما الجدل الذي يدور هو حول طبيعة هذه الإعفاءات من تطبيق القانون عليهم، أم إعفاء من المثول أمام القضاء، إلى آخر ما زال يدور همسًا في غالبه1.

هذا هو موقف القوانين الوضعية في مسألة حدود سريان النصوص الجنائية على الأشخاص، في نهاية القرن العشرين.

وهو يماثل ما كان عليه القوم منذ أربعة عشر قرنًا، يوم جاء يلتمسون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إعفاء إحدى شريفاتهم، وكانت قد سرقت، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منهم، وأنزل بها العقوبة2.

1 شرح قانون العقوبات أ. د: محمود نجيب ص113، الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د: سمير الجنزوري ص251-258.

2 الخراج لأبي يوسف ص50، نيل الأوطار للشوكاني ج7.

ص: 115

2-

الشريعة الإسلامية، وحدود سريان النص الجنائي على الأشخاص:

سوى الله سبحانه وتعالى بين الناس في أصل الخلقة، فالناس جميعًا أبناء لآدم عليه السلام، وجعل الله سبحانه وتعالى أساس المفاضلة بينهم واحدًا، وهو التقوى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .

وهذا ما التزم به الرسول صلى الله عليه وسلم وأكده بقوله: "لا فضل لعربي على أعجمي إلى بالتقوى".

وهذه المفاضلة هي مقياس الناس عند ربهم سبحانه وتعالى، أما عند الاحتكام للقانون الشرعي، فالناس سواسية كأسنان المشط، والتسوية بينهم واجبة1.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد أبى هذا الأساس الثابت يوم خرج، وهو مريض يتحامل على كتفي بعض أصحابه، حتى وصل إلى المنبر، ولم يستطع الوقوف، فجلس ثم قال:"أيها الناس من كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهري فليستقد منه، ومن أخذت له مالًا فهذا مالي، فليأخذ منه ولا يخشى الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له، أو حللني فلقيت ربي، وأنا طيب النفس"2.

ولقد علم الصحابة الأجلاء ذلك جيدًا، وطبقو وجعلوا منه قانونًا نافذًا، وأمرًا ساريًا على جميع الناس.

فهذا عمر بن الخطاب خليفة المسلمين، يعلن للناس جميعا في موسم الحج، وقد جمع ولاة أمصاره على مشهد من الحجاج، وقال للجميع: أيها الناس إني لم أرسل إليكم عمالًا ليضربوا أبشاركم، ولا يأخذوا أموالكم

1 الإقناع ج5 ص145 صبيح الطبعة الثالثة.

2 تاريخ ابن الأثير ج2 ص154 ط بولاق.

ص: 116

وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به شيئًا سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقص منه: وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه1.

وهكذا يسوي الإسلام بين الحاكم والمحكوم، ويشترط في الحاكم شروطًا لا بد من أن تتوفر في سلوكه حتى يكون أهلًا لتولي سلطة حكم الدولة الإسلامية.

وقد رأى بعض فقهاء الشريعة عزل رئيس الدولة إذا ارتكب منكرًا، أو أقدم على فعل محظور، وتحكمت فيه شهوته، وتسلط عليه هواه؛ لأن من كان هذا حخاله عد من الفساق، ولا تنعقد له إمامة المسلمين، ويعزل منها إن كان قد وليها2.

أما موقف فقهاء الشريعة الإسلامية في سريان النص الجنائي على الأشخاص، فيمكن إجماله في اتجاهين متقاربين.

الاتجاه الأول: يرى الإمام الشافعي، والإمام مالك تطبيق النص الجنائي على الجميع، الحاكم والمحكوم، لا يعفي أحد من انطباق النص الجنائي عليه مهما كان وضعه وسلطانه، وعند أصحاب هذا الاتجاه رئيس الدولة، "الإمام" مسئول عن كل ما يأتيه من جرائم، سواء وقع الاعتداء فيها على حق الله، أم على حق العبد، ويقوم بتنفيذ العقوبة على الإمام من ينوب عنه في القضاء، أو في تنفيذ العقوبات3.

1 المرجع السابق ج3 ص208، الخراج لأبي يوسف ص66.

2 الأحكام السلطانية للماوردي ص14. أسنى المطالب لأبي بحر زكريا الأنصاري ج4 ص111.

3 الأم ج6 ص36 المهذب ج3 ص189، المدونة ج16 ص57 فقه القرآن والسنة للشيخ شلتوت ص97.

ص: 117

الاتجاه الثاني: ويخالف الإمام أبو حنيفة أصحاب الاتجاه الأول بالنسبة لرئيس الدولة، إذا لم تكن هناك سلطة تعلوه، أو تستطيع تنفيذ العقوبة عليه، فإنه والحالة هذه إذا ارتكب جناية، وقع الاعتداء فيها على ما فيه حق الله، فإن القائلين بهذا الاتجاه يعفو رئيس الدولة "الإمام" من إقامة الحد عليه.

لأن إقامة الحد عند أصحاب هذا الاتجاه حق لله تعالى، ورئيس الدولة هو المكلف بذلك، ولا ولاية لأحد عليه، فمن يحاكمه؟

ولا يعقل أن ينكل الإمام، ويعرضها للخزي والهوان، كما أن الإمام إذا وجب عليه حد لارتكابه إحدى الجرائم الموجبة للحد، والتي يلزم بارتكابها الرجم مثلًا، كان مهدر الدم، فإذا قتله أي فرد من الأمة لا يعاقب على قتله بالقصاص نظرًا؛ لأنه قتل شخصًا مباح الدم، وبذا يصبح الحاكم عرضه لتسلط العامة عليه، وهذا ما لم يرتضه القائلون بهذا الاتجاه1.

وليس معنى هذا أن يصبح الفعل الذي يقوم به رئيس الدولة غير مجرم، بل هو فعل مجرم، ولكن العقاب عليه غير ممكن، إلا في حالة ما إذا فصل رئيس الدولة بين السلطات، وجعل القضاء سلطة مستقلة، وعين من يقوم بالقضاء في الدولة، وأناط بمن يقوم بالقضاء سلطة تنفيذ ما يقضى به، إذا حدث ذلك فإن ما يقوم به رئيس الدولة من أفعال مجرمة تلزمه عقوبتها، ويقوم القاضي بتنفيذ العقوبة الحدية على رئيس الدولة إذا ارتكب من الأفعال ما يوجبها عليه2.

1 حاشية الطهاوي على الدر المختار ج4 ص260 ط الثالثة.

2 فتح القدير ج4 ص161 الأميرية.

ص: 118

المسلمون والذمييون: وقاعدة المساواة في سريان النص على الأشخاص

الشريعة الإسلامية شريعة المساواة والعدل، وأساسها القوي الذي تعتمد عليه في تشريعها الأحكام، والإلزام بها هو القيدة الدينية.

ومن هذا المنطلق كانت معاملتها للمسلم حسبما تقتضي عقيدة الإسلام، ولغير المسلم تقضي عقيدته الدينية.

ومن هنا اختلف تطبيق بعض النصوص، ولم يكن إلزام المسلم، والذمي بها على حد سواء.

وليس هذا من باب الاستثناء الذي يرد دائمًا في القوانين الوضعية، وإنما هو من باب تأكيد مبدأ العدالة، إذ كيف أن تسوي بين اثنين بالحكم عليهما في قضية واحدة لارتكابهما فعلًا واحدًا بحكم متماثل، بينما عقيدة أحدهما تبيح بالفعل، وعقيدة الآخرة تجرمه.

وعلى سبيل المثال لا يمكن أن تحكم بحكم متماثل، ومتساو على كل من مسلم وذمي شربا خمرا، إذ إن عقيدة المسلم تجرم ذلك تجريمًا حديًا أما غير المسلم، فقد يعتقد طبقًا لما تعلم إباحة شرب الخمر، وعدم تجريمه1.

من هنا كانت الجرائم في الشريعة الإسلامية قسمين:

القسم الأول: جرائم يعاقب مرتكبها، مسلمًا كان أم غير مسلم.

القسم الثاني: جرائم يعاقب مرتكبها إذا كان مسلمًا فقط.

وهذا وإن وافق في الظاهر ما في القوانين الوضعية من جعل بعض الجرائم عامًا، يوقع العقاب عليه بالنسبة لكل من يرتكبه من رعايا الدولة، وبعض الجرائم خاصا يعاقب على ارتكابها البعض دون البعض

1 الإقناع ج5 ص20 ط صبيح ط "الثالثة".

ص: 119

الآخر، إلا أن ذلك يخلف في حقيقته، وأساسه وجوهره ما في القوانين الوضعية -إذ أن أساس التفرقة في التشريع الإسلامي، هو ما يعتقد من العقائد الدينية بالنسبة لكل شخص، وليست التفرقة ناتجة عن وضع طبقي أو جاه، أو سلطان.

ومع كل ما سبق بيانه، فقد تبقى بعض الشبه يمكن لمن ولعوا بها أن يثيروها، ويتمثل فيما جاء من خلاف بين أقوال بعض الفقهاء بالنسبة لبعض القضايا الآتية:

1-

يرى الإمام أبو حنيفة أن من شروط الإحسان في جريمة الزنا، الإسلام وعلى هذا فلا يعد الذمي محصنًا عنده، ولا تلزمه عقوبة الرجم إذا زنى، وإنما عقوبة الذمي على ارتكابه جريمة الزنا هي دائمًا الجلد.

بينما ذهب جمهور فقهاء المسلمين إلى أن الإسلام ليس شرطًا من شروط الإحصان، وعلى هذا فمن الذمي يلزمه ما يلزم المسلم من عقوبة على جريمة الزنا، سواء أكانت العقوبة جلدا أم رجما1.

2-

يرى الإمام أبو حنيفة القصاص من المسلم إذا قتل ذميًا، تمسكًا منه بعموم النص.

بينما يرى غيره عدم جواز القصاص من المسلم إذا قتل ذميًا، وأن يكون سلوكه هذا مكونا جريمة في قانون بلده "جناية، أو جنحه في تمسكا من هؤلاء بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لا يقتل مسلم بكافر2، إذ أنهم قد فسروا الكافر بأنه غير المسلم.

بينما فسر الإمام أبو حنيفة الكافر بأنه من لا عهد له.

وأخلاف في ذلك، وما ماثله خلاف في تفسير النص وفهمه.

وتفسير النص وفهمه أمر من أمور الإجتهاد المشروع الذي لم يختلف أحد على إباحته من فقهاء أهل السنة؛ لأنه يفتح باب شحذ الذهن، وتحري الدقة في استنباط الحكم، وذلك كل مبعث رحمة وهداية3.

1 بدائع الصنائع للكاساني ج7 ص38.

البحر الرائق لابن نجيم ج5 ص11 ط دار المعرفة بيروت.

الإقناع ج5 ص8 الثالثة.

2 صحيح البخاري كتاب الديات باب لا يقتل مسلم بالكافر ج9 ط دار الشعب.

3 أستاذي الدكتور سلام مدكور تاريخ التشريع الإسلامي ص48.

ص: 120