الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: أركان الجريمة
مدخل
…
المبحث الثالث: أركان الجريمة
عرف اللغويون الركن بأنه الجانب الأقوى، وأركان كل شيء جوانبه التي يستند إليها ويقوم بها، والتي هي جزء من ماهيته، كالركوع بالنسبة للصلاة1. وعرفه جمهور الفقهاء بأنه ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان جزءًا من ماهيته أو شرطًا له.
أما فقهاء الأحناف، فإنهم قد عرفوه بأنه ما لا يتم الشيء إلا به، وكان جزءًا منه2. ويبين من هذا اتقاف اللغويين، وفقهاء الأحناف على أن ركن الشيء ما كان جزءًا من ماهيته.
وطبقًا لهذا فإن ما يصدق عليه مفهوم ركن الجريمة هو ما يأتي:
أولًا: ما يقوم به الجاني من تفكير وتدبير، وإعداد نفسي بإرادة، وإدراك معتبرين شرعًا، مع علمه بما سيترتب على سلوكه من نتائج ومسببات، وهذا هو ما يطلبق عليه الركن المعنوي للجريمة.
ثانيًا: قيام الجاني بالسلوك المادي المكون للجريمة، سواء أكان هذا السلوك إيجابيًا أم سلبيًا -فعلًا أم امتناعًا- قام به الجاني بمفرده أم شاركه غيره.
وهذا هو ما يطلق عليه الركن المادي للجريمة.
هذان وحدهما هما اللذان يصدق عليهما تعريف اللغويين، وفقهاء الأحناف للركن؛ لأنهما جزء من ماهية الجريمة.
1 لسان العرب مادة ركن.
2 المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص513 ط سنة 1389 هـ النهضة العربية.
وذهب إلى ذلك أيضًا بعض فقهاء القانون، إذ قالوا: إن اعتبار نص القانون الذي يبين الفعل المكون للجريمة، والعقوبة التي تفرض على مرتكبه ركنًا من أركان الجريمة، أمر غير منطقي؛ لأن القانون هو خالق الجريمة، ومن غير المتصور اعتبار الخالق عنصرا فيما يخلقه1.
هذا ما ذهب إليه كثيرون من فقهاء القانون.
غير أن فيما ذهب إليه فقهاء الشريعة حين عرف جمهورهم الركن بأنه ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان منه أو شرطًا له، في ذلك رد لما قد أثير من اعتراضات فقهاء القانون الوضعي؛ لأن النص على الفعل المكون للجريمة، والعقوبة التي تفرض على مرتكبها، إن لم يكن داخلًا ضمن الفعل المادي الذي يكونت الجريمة، فهو من غير نزاع شرط لتجريم هذا الفعل المادي والعقاب عليه، إذ بدون وجود هذا الشرط لا يعد الفعل جريمة معاقبًا عليها عقابًا قضائيا.
وما دام النص على تجريم الفعل شرطًا للعقاب عليه، فهو إذن ركن بمفهوم الجمهور للركن.
وعد الشرط ركنا لا يترتب عليه عد الخالق عنصرًا فيما يخلقه، كما قال فقهاء القانون؛ لأن هذا العنصر غير خالق لنفسه، وإنما هو من وضع المشرع، الذي رأى أن يرتب على وجود هذا العنصر وجود شيء آخر، وهذا هو ما يساير المنطق.
وقد حاول بعض فقهاء القانون الوضعي أن يتفادى الطعن الموجه
1 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: محمود مصطفى ص37-38 ط سنة 1974م.
شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص88 ط سنة 1977م.
لعد النص المنشئ للجريمة ركنا من أركانها، فقام بتعريف هذا الركن بأنه الصفة غير المشروعة للسلوك.
وقال: فهذه الصفة متميزة عن نص التجريم، وإن كانت مستخلصة منه1، وهذا لا يحل القضية كما عالجها تعريف جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية إذ أن ما يعد ركنًا شرعيًا عند فقهاء القانون الوضعي، ليس هو المنطوق المادي للنص المنشئ للجريمة، وإنما هو ما فهم منه، وما أضفاه على السلوك من صفة غير مشروعة.
وعلى هذا فمحاولة تفادي الطعن الموجه بتعريف الركن بأنه الصفة غير المشروعة للسلوك، محاولة لم تقدم جديدًا لحل القضية، وإنما قامت بتفسير المقصود من النص المنشىء للجريمة فقط، وبقى معها لطعن الموجه كما هو.
وإما الذي حسم القضية ورد الطعن الموجه ردًا مقنعًا، فهو تعريف فقهاء الشريعة الإسلامية.
ونخلص من هذا إلى أنه لا بد لقيام جريمة من وجود ثلاثة عناصر أساسية هي العنصر الشرعي، والعنصر المادي، والعنصر المعنوي.
فالعنصر الشرعي هو عبارة عن النص الذي يحرم السلوك، ويعاقب عليه، والعنصر المادي هو عبارة عن السلوك المكون للجريمة.
والعنصر المعنوي هو عبارة عن الصلة النفسية بين السلوك، وبين من قام به، وهو مكلف مسئول عن سلوكه2.
1 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص88.
2 المدخل للفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص 725-728ط سنة 1389 هـ دار النهضة العربية.
هذه هي العناصر أو الأركان العامة التي لا بد من وجودها لقيام جريمة ما من الجرائم.
وهذا لا يمنع من وجود أركان خاصة لا بد من توافرها لقيام جرائم معينة؛ لأنه لا يمكن الحكم لقيام هذه الجرائم المعينة، إلا إذا توافرت في السلوك وغيره أركان خاصة بالإضافة إلى الأركان العامة للجريمة.
إذ لا يمكن أن تقوم مثلًا جريمة زنا إلا إذا توافر ركن الوطء، وهو ركن خاص بهذه الجريمة وحدها.
وكذا لا يمكن أن تقوم جريمة السرقة إلا إذا توافر ركن الأخذ خفية.
فهذان الركنان، وما يماثلهما أركان خاصة، لا بد من توافرها في جرائم معينة؛ لأن هذه الجرائم لا تقوم إلا بتوافر بعض هذه الأركان الخاصة، إذ لا يكفي وجود الأركان العامة لقيام مثل هذه الجرائم.
هذه فكرة موجزة عن الأركان العامة والخاصة للجريمة.
ولا يخفى منهج فقهاء الشريعة الإسلامية في دراستهم لهذه الأركان، إذ أنهم قد تحدثوا عن أركان كل جريمة على حدة عند حديثهم عن الجريمة التي تخصها هذه الأركان.
كما أنهم لم يفردوا دراسة مستقلة لأركان الجريمة بصفة عامة، كما هو منهج رجال القانون.
وهذا ما أحاول تناوله مبينًا الأركان العامة للجريمة، تاركًا بيان الأركان الخاصة إلى حين الحديث عن كل جريمة على حدة1.
1 سيأتي ذلك في الباب الثاني من هذا البحث.