الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مال بيت المال أن فرز لطائفة كذوي القربى، والمساكين، وكان منهم أو أصله أو فروعه فلا قطع، أو فرز لطائفة ليس هو منهم قطع، إذ لا شبهة له في ذلك، وإلا بأن لم يفرز لطائفة فلا، والأصح أنه إذا كان له حق في المسروق كمال مصالح بالنسبة لمسلم فقير جزمًا، أو غنى على الأصح، وكصدقة وهو فقير أو غارم لذات البين، أو غاز فلا يقطع في المسألتين، أما في الأولى؛ فلأن له حقًا وإن كان غنيًا؛ لأن ذلك قد يصرف في عمار المساجد، والرباطات، والقناطر فينتفع بها الغني والفقير من المسلمين
…
إلى أن يقول، وإلا بأن لم يكن فيه حق قطع لانتفاء الشبهة1.
ب- ذهب الإمام مالك إلى أن من سرق من بيت المال المقدار الذي يجب به الحد، فإنه يقطع بسرقته، ولا يحوز درء الحد عنه لكونه له حق في بيت المال؛ لأن ذلك وإن أورث شبهة، إلا أنها شبهة ضعيفة لا يعتد بها في درء الحد عنه.
وكذا من سرق من الغنيمة بعد حوزها، أما سرقته منها قبل حوزها، فإنه لا يقطع بها؛ لأنها مال غير محرز حينئذ2.
وذهب الإمام الشافعي في أحد آرائه إلى وجوب القطع على من سرق من بيت المال ملطقًا، كوجوب القطع عليه بسرقة مال غيره المحرز عنه3.
1 مغني المحتاج ج4 ص163، المهذب ج2 ص281، المغني ج8 ص277، فتح القدير ج5 ص376، 377، البحر الرائق ج5 ص60 شرح الأزهار ج4 ص376.
2 الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ج4 ص337.
3 مغني المحتاج ج4 ص163.
ج- ذهب ابن حزم إلى أن من سرق من شيء له فيه نصيب، كبيت المال أو الخمس أو الغنم، أو غير ذلك، فإنه ينظر فيما سرقه إن كان نصيبه محددًا معروف المقدار كالغنيمة، أو ما اشترك فيه ببيع أو ميراث أو غير ذلك.
فإن أخذ ما يزيد عن نصيبه مما يجب في مثله القطع قطع، ولا بد أما أن أخذ أقل من حقه، فلا قطع عليه.
ويستثنى من سرقته ما يزيد على حقه، فلا يجب القطع فيها ما إذا منعه حقه، أو احتاج إليه، ولم يستطع الوصول إلى حقه إلا بسرقته، وما يزيد عليه لعدم قدرته على تخليص حقه فقط مما زاد عليه؛ لأنه والحالة هذه مضطر إلى أخذ الزائد. وأن وجب عليه رد المقدار الزائد على حقه الذي أخذه تبعًا له1.
والذي أميل إليه:؛ أن من سرق مالًا له فيه حق، وكان باستطاعته الوصولم إلى حقه بغير طريق السرقة، يجب تعزيره على مسلكه هذا إن أخذ حقه فقط.
أما إن زاد على حقه، فإنه يعامل في الزائد معاملة السارق، فيلزم الحد بشروط أما إذا لم يمكنه الوصول إلى حقه إلا عن هذا الطريق، فهذه ضرورة تقدر بقدرها، وسيأتي هذا بشيء من التفصيل عند الحديث عن السرقة بالباب الثاني.
1 المحلى ج13 ص355، وتراجع أيضًا نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص435.
المطلب الثالث: شبهة الملك
وتتأتى شبهة الملك عندما يكون للفاعل نوع ما من الملك في المحل الذي نيط الفعل به.
ويترتب على وجود هذه الشبهة درء العقوبة الحدية عن هذا الفاعل الذي ثبت له نوع من الملك في المحل الذي نيط به الفعل الجنائي.
وقد عد فقهاء الأحناف هذه الشبهة ضمن ما أطلقوا عليه شبهة المحل، ووافقهم في ذلك أيضًا فقهاء الشافعية، فشبهة المحل عندهم تشمل كلا من شبهة الدليل، وشبهة الحق وشبهة الملك، كما سبق بيانه عند الحديث عن شبهة الحق، والملك الذي تنشأ عنه هذه الشبهة، إما أن يكون ملكًا خالصًا للمحل الذي قام بالفعل به، ووقع الاعتداء عليه سواء أكان ملكًا حقيقًا، أم ملكًا حكميًا.
وإما أن يكون مشتركًا، وإما أن يكون لشخص آخر غير الفاعل، إلا أن مالكه قد أباحه لهذا الذي قد وقع منه الفعل الجنائي، إلى غير ذلك من أنواع الملك التي ستضح فيما يأتي من أمثلة، قامت في كل منها شبهة الملك، وترتب على وجودها دراء العقوبة عن الفاعل.
1-
شبهة سببها الملك الخالص:
أ- وتقوم هذه الشبهة في حق من يطأط أمته التي بينها، وبينه حرمة نسب لكنها
لا تعتق بملكه لها، كعمته أو ابنة أخيه مثلًا فمثل هذا لا تلزمه العقوبة الحدية
نظرًا لقيام شبهة الملك في حقه، وهي التي ترتب عليها عدم إلزامه الحد.
والذين أسقطوا العقوبة الحدية هنا ألزموا الجاني عقوبة تعزيرية رادعة، يقول الخرشي عند حديثه عن شبهة الملك المسقطه للعقوبة الحدية: "وكذلك يؤدب من اشترى أمة لا تعتق عليه بنفس الملك كعمته، وابنة أخيه، وما أشبه ذلك ثم وطئها وهو عالم بتحريمها، وإنما لم يحد لعدم انطباق حد الزنا عليه، ويلحق به الولد، وتباع عليه خشية أن يعود لوطئها ثانية1.
ويقول ابن قدامة: وإن اشترى أمه أو أخته من الرضاعة ونحوهما، ووطئها فذكر القاضي عن أصحابنا أن عليه الحد؛ لأنه فرج لا يستباح بحال، فوجب الحد بالوطء كفرج الغلام2، وقال بعض أصحابنا: لا حد فيه وهو قول أصحاب الرأي والشافعي؛ لأنه وطء في فرج مملوك به يملك المعاوضة عنه، وأخذ صداقه فلم يجب به الحد كوطء الجارية المشتركة.
فأما إن اشترى ذات حرمة من النسب ممن يعتق عليه، ووطئها3 فعليه الحد لا نعلم فيه خلافًا؛ لأن الملك لا يثبت فيها فلم توجد الشبهة، وقد ذكر الشيرازي أن للشافعي رأين في هذا: إحدهما أنه يجب عليه الحد؛ لأنه ملكه لا يبيح وطأها بحال من الأحوال، فلم يسقط الحد.
والثاني: أنه لا يجب عليه الحد، وهو الصحيح؛ لأنه وطء في ملك فلم يجب به الحد4.
1 الخرشي ج8 ص78، حاشية الدسوقي ج4 ص316، ويراجع ما جاء في فتح القدير ج5 ص252-2537 البحر الرائق ج5 ص12-17.
2 أي يحرم وطؤها كما يحرم على مالك الغلام وطؤه.
3 المغني ج8 ص184.
4 المهذب ج2 ص268 مغني المحتاج ج4 ص144.
ب- شبهة تقوم بسبب الملك الحكمي، وذلك كما في حق الأب الذي يسرق مال ابنه كما مر، أو يطأ الجارية التي يمكلها ابنه، فإن هذا الأب تقوم في حقه شبهة الملك الحكمي؛ لأنه مالك حكمًا لكل ما يمتلكه ابنه، وعليه فإن هذا الملك الحكمي تنشأ عنه شبهة تسقط العقوبة الحدية.
يقول ابن قدامة: الأب إذ وطئ جارية ولده، فإنه لا حد عليه في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك وأهل المدينة، والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور وابن المنذر: عليه الحد إلا أن يمنع منه إجماع؛ لأنه وطء في غير ملك، أشبه وطء جارية أبيه.
ولنا أنه وطء تمكنت الشبهة منه فلا يجب به الحد، كوطء الجارية المشتركة والدليل على تمكن الشبهة قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنت ومالك لأبيك"، فأضاف مال ولده إليه وجعله له، فإذا لم يثبت حقيقة الملك، فلا أقل من جعله شبهة دارئه للحد الذي يندرئ بالشبهات؛ ولأن القائلين بانتفاء الحد في عصر مالك والأوزاعي، ومن وافقهما قد اشتهر قولهم، ولم يعرف لهم مخالف، فكان ذلك إجماعًا، ولا حد على الجارية؛ لأن الحد انتفى عن الواطئ لشبهة الملك، فينتفي عن الموطوءة كوطء الجارية المشتركة؛ ولأن الملك من قبيل المتضايفات إذا ثبت في أحد المتضايفين ثبت في الآخر فكذلك شبهته، ولا يصح القياس على وطء جارية الأب؛ لأنه لا ملك للولد فيها، ولا شبهة ملك بخلاف مسألتنا1.
2-
شبهة الملك المشترك:
وتقوم هذه الشبهة في حق المحارب المستحق جزءًا من الغنيمة إذا
1 المغني لابن قدامة ج8 ص185، ويراجع فتح القدير ج5 ص252، الخرشي ج8 ص78، مغني المحتاج ج4 ص145.
قام بسرقة بعض هذه الغنيمة قبل أن تقسم على مستحقيها، فالسرقة هنا قد تحققت صورتها بأخذ المحارب المال خفية، لكنه لما كان مالكا لجزء من المال الذي أخذ منه خفية ملكية صحيحة، غير أنها لم تتأكد بالقسمة أنتجت هذه الملكية غير المستقرة شبهة تدرء الحد عنه1.
وتقوم شبهة الملك المشترك أيضًا في حق كل من يقع منه فعل جنائي على محل له فيه شركة.
كمن يطأ أمة مشتركة بينه وبين غيره، والعقوبة الحدية وإن سقطت على الجاني بسبب قيام شبهة الملك المشترك، إلا أنه يلزم بعقوبة تعزيرية موجعة ورادعة.
يقول الخرشي: يؤدب من وطئ أمة مشتركة من أحد الشريكين، أو الشركاء؛ لأن الشريك له في الأمة المشتركة ملك قوي، والشبهة إذا قويت تدرء الحد أي تسقطه2.
وقد ذكر ابن قدامة أن أب ثور قد خلف جمهور الفقهاء، وقال بوجوب الحد على من وطئ جارية مشتركة بينه، وبين غيره.
غير أن ابن قدامة قد رجح رأي الجمهور على أساس أن وجود الملك المشترك يدفع الحد عن الجاني في هذه المسألة3.
1 جاء في حاشية الدسوقي ج4 ص315- أن الجندي في الحربة السيرة إذا وطئ أمة من الغنيمة قبل قسمتها، فلا حد عليه؛ لأن له سهمًا في الغنيمة، وإن كان قد حدد بعده بخلاف من الأسهم له في الغنيمة فإنه يحد.
2 الخرشي ج8 ص78، شرح القدير ج5 ص252، مغني المحتاج ج4 ص145، المهذب ج2 ص45، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ج2 ص137.
3 المغني ج8 ص184.
3-
شبهة إباحة الملك:
يأتي القول بهذه الشبهة في حالة ما إذا مالك الأمة لغيره وطأها، وقد ذهب الفقهاء في حكم هذا، وما يجب به إلى ما يأتى:-
أ- ذكر الشربيني الخطيب إنه حكي عن عطاء جواز إباحة مالك الأمة لغيره وطأها1.
كما ذكر الخرشي عند حديثه عن هذا: أن القول بعدم الحد بوطء الأمة المحللة ما هو إلا مراعاة المذهب عطاء القائل بجواز التحليل ابتداء2، كما جاء في الروضة البهية: وتباح الأمة لغير مالكها بالتحليل، وحل الأمة بذلك هو المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعًا، ولا بد من صيغة دالة عليه مثل أحللت لك وطأها، أو جعلتك في حل من وطئها، وفي صحته بلفظ الإباحة قولان، والأشبه أنه ملك يمين لا عقد نكاح؛ لأن عقد لازم ولا شيء من التحليل بلازم3، وجاء في الاستبصار تحت عنوان "أبواب تحليل الرجل جاريته لأخيه"، يجوز أن يحل الرجل جاريته لأخيه المؤمن، وروي في ذلك عدة أخبار عن فقهاء الشيعة4.
1 مغني المحتاج ج4 ص145، عطاء بن أبي رباح المكي القرشي، مولى أمي خيثم، من كبار التابعين ولد في خلافة عثمان، سمع العبادلة الأربعة، أحد شيوخ الشافعية.
2 الخرشي ج8 ص79.
3 الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج2 ص113، نقلًا عن أ. د/ سلام مدكور من كتاب نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء.
4 الاستبصار فيما اختلف من الأخبار لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى في سنة 460هـ جـ3، القسم الأول ص135-141 مطبعة النجف سنة 1956 نقلًا عن أ. د/ سلام مدكور.
ب- وجاء في المغني أنه حكي عن النخعي أنه يعزر، ولا حد عليه أي أن من وطئ جارية زوجته لا يلزمه بذلك الحد؛ لأنه يملك امرأته، فكانت له شبهة في مملوكتها، حتى وإن لم تحلها له1.
جـ- ذكر الخرشي عند شرحه لعبارة المصنف "وكأمة محللة وقومت، وإن أبيا" المشهور أنه لا حد على من وطئ أمة قد حللها له مالكها للشبهة، وإنما عليه الأدب فقط، وسواء أكان عالمًا بالتحليل أم جاهلًا، والولد لاحق به؛ لأنه وطء الشبهة، وتقوم تلك الأمة على واطئها لتتم الشبهة، وسواء أرضيا بذلك أي صاحبها والواطئ لها أم لا، وعدم الحد مراعاة لمذهب عطاء القائل بجواز التحليل ابتداء2.
د- جاء في المغني أن من وطئ جارية امرأته بإذنها، فإنه يجلد مائة، ولا يرجم أن كان ثيبًا، ولا يغرب إن كان بكرًا، وإن لم تكن أحلتها له، فهو زان حكمه حكم الزاني بجارية الأجنبي.
وقد اختار هذا الرأي ابن قدامة، بقوله: ولنا: ما روى أبو داود بإسناده عن حبيب بن سالم أن رجلًا يقال له عبد الرحمن بن حنين، وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير، وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدناك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمناك بالحجارة، فوجدوها أحلتها له فجلد مائة3.
1 المغني ج8 ص186- النخغي أبو عمران إبراهيم بن زيد بن الأسود بن النخع الفقيه الكوفي النخعي تابعي مات سنة 95، وقيل: سنة 96، ونسبته إلى النخع، وهي قبيلة، كبيرة مذجح باليمن.
2 الخرشي وبهامشه حاشية العدوي ج8 ص79 ط دار الفكر بيروت.
3 المغني ج8 ص186.
هذه هي جملة أقوال من رأوا الإباحة، وأسقطوا العقوبة بها، ومن رأى إلزام الواطئ العقوبة التعزيرية سواء أعلم تحليل مالكها له ذلك أم لم يعلم.
ورأى من قصر ذلك على تحليل المرأة جاريتها لزوجها، وإلزامه الجلد مائة إن فعل ثيبًا أو بكرًا.
هـ- روي عن عمر وعلي ومالك، والشافعي وقتادة1، وغيرهم أن وطء الأمة التي أحلتها له زوجه كوطء الأجنبية سواء بسواء؛ لأنه لا شبهة له فيها، فأشبه وطء جارية أخيه أو أخته؛ ولأنه إباحة لوطء محرمة عليه، فلم يكن شبهة كإباحة الملاك2.
كما جاء في فقه الشيعة الإسماعيلية، "عن جعفر بن محمد أنه نهى عن عارية الفرج كالرجل يبيح للرجل وطء أمته، أو المرأة تبيح لزوجها، أو لغيره وطء أمتها من غير نكاح ولا ملك يمين، وقال جعفر بن محمد: عارية الفرج هي الزنا وأنا بريء إلى الله ممن يفعله، والقرآن ينطق بهذا قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3.
فلم يبح الله تعالى وطء الفروج إلا بوجهين: بنكاح، أو بملك
1 قتادة، هو أبو دعامة العروسي الأعمى، كان أحفظ أهل زمانه توفي سنة 117هـ. المعارف لابن قتيبة ص203 نقلًا عن نظرية الإباحة للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص148.
2 المغني ج8 ص186.
3 الآيات 5، 6، 7 من سورة المؤمنين.
يمين1، ويعلق الدكتور سلام مدكور على ما ذهب إليه القائلون بجواز إباحة مالك الأمة لغيره أن يطأها بقوله: وهذا مسلك من مسالك الشيعة الجعفرية التي نرى شذوذها، وأنها لا تتفق مع مذهب من مذاهب غيرهم من المسلمين، ولا تتمشى مع ما عرف من أحكام الدين، وأصوله العامة مهما كان لهم تأويل، أو تبرير.
فإن هذه الأبضاع "الفروج" محرمة في أصلها، ولم تستبح في الإسلام إلا بالعقد، أو ملك اليمين عند وجود الرق، لا بما يسمونه ملك المنفعة، والظاهر أن هذا تطرف إليهم من قياس فاسد لا يعتمد على مصدر من مصادر الشرع المعقول منها والمنقول.
وهو أشبه شيء بمذهبهم في المتعة التي هي في حقيقتها احتيال على الزنا، وإباحة صوره باسم الدين، افتراء على الله، بل إباحتهم أبضاع الإماء لغير مالكها أكثر شذوذًا من إباحتهم للمتعة، فقد يكون في تلك بعض الشهبة من ظواهر بعض النصوص2.
وما ورد من أقوال تجيز إباحة مالك الأمة لغيره أن يطأها، فهي أقوال مردودة حتى وإن أسندت لأي إمام من الأئمة3.
لأنه لا يعقل أن يجيز إمام ما هو مخالف لما علم من الدين بالضرورة، كما أن ما رواه الخرشي من أنه بلغه ذلك عن بعض البربر وغيرهم، فهي رواية ضعيفة لا سند لها، ومثل هذه لا يجوز الاعتماد عليها
1 دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد ج2 ص245، نقلًا، عن الإباحة للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص225.
2 نظرية الإباحة ط دار النهضة والفقهاء للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص226- ط دار النهضة العربية سنة 1965م.
3 يراجع الخرشي، وبهامشه حاشية العدوي ج8 ص79.
كما أنها رواية عن قوم لا قوم لهم في المسائل الفقهية بل هم قوم جاهلون، ولو كانوا غير ذلك لكانوا مرتدين، وفي كلا الحالين لا قول لمثلهم في المسائل الفقهية.
وعليه فلا شبهة في مثل ذلك، وما ذهب إليه النخعي من القول بالشبهة على أساس أن الزوج يملك امرأته هو قول مردود.
لأن عقد الزواج لا يفيد ملك الرجل لزوجته، وإنما يفيد إباحة معاشرتها، والاستمتاع بها ولا يحق له امتلاك ما لها من أموال وغير ذلك، وحتى وإن أمكن القول بوجود شبهة له في مالها بحكم المخالطة، وإباحة الانتفاع به بأمرها، وعليه فالقول بوجود مثل ذلك بالنسبة للجارية التي تملكها الزوجة مردود؛ لأن إباحة الوطء حق لله سبحانه وتعالى بين الطريق إليه، وليس لغيره ترخيص فيه أو إباحة.
لأنه كما يقول أستاذي الدكتور سلام مدكور: إن كل ملك في الإسلام لا يأخذ صفة الإباحة الشرعية بمجرد إذن صاحبه، إلا إذا كان على وفق إذن الشارع1.
ولم يبق بعد هذا القول حجة لمخالف، أو رأي يعتد به.
4-
ذكر فقهاء الأحناف أن الإمام أبا حنيفة -رضي الله تعالى عنه- يرى أن من استأجر امرأة ليزني بها، فلا حد عليه، وإنما يعاقب تعزيريًا لقيام شبهة الملك باستجاره إياهال ليزني بها.
لأن المستوفي منها هو المتعة، وهي المعقود علهي في الإجارة أما لو
1 نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص227.
استأجرها لعمل آخر من الأعمال، ثم وطئها فإنه يعاقب بالعقوبة الحدية؛ لأن المعقود عليه غير الوطء.
فقد جاء في البحر الرائق: لا يجب الحد بوطء من استأجرها ليزني بها عند أبي حنيفة، وقالا -الصاحبان- يجب الحد لعدم الشبهة، ولهذا لا يثبت النسب وتجب العدة، وله -أي لأبي حنيفة- أن الله تعالى سمى المهر أجرة بقوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فصار شبهة؛ لأن الشبهة ما يشبه الحقيقة لا الحيقية، فصار كما لو قال: أمهرتك كذا لأزني بك، قيدنا بأن يكون استأجرها ليزني بها؛ لأنه لو استأجرها للخدمة، فزنى بها يجب الحد اتفاقًا؛ لأن العقد لم يضف إلى المستوفي بالوطء، والعقد المضاف إلى محل يورث الشبهة في ذلك المحل لا في محل آخر.
واستدل الإمام أبو حنيفة لذلك بما روي من أن امرأة جاءت أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه، فقالت له: إنها استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرء أمير المؤمنين الحد عن هذه المرأة.
وبما روي أيضًا من أنه جاءته امرأة أخرى، فقالت له: إنها سألت رجلًا مالًا، فأبى الرجل أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرء أمير المؤمنين الحد عنها أيضًا، وقال هذا مهر.
هذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه1.
1 ذكر صاحب المبسوط أن الإمام أبا حنيفة يرى أن من استأجر امرأة ليزني بها، فزنى بها فلا حد عليهما، وذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى إلى وجوب الحد في هذه الحالة لتحقق فعل الزنا منهما. =
أما الأئمة الثلاثة، فقد قالوا بوجوب الحد في مثل هذا لعموم الآيات القرآنية الموجبة للحد، ولعموم النصوص المأخوذة من السنة أيضًا، وعدم تخصيصها بغير المستأجرة للزنا، أو استثنائها من عموم الآيات.
وكذا لوجود المقتضي لوجوب الحد، وادعاء وجود الشبهة هنا نتيجة عقد استئجاره إياها ادعاء لا طائل تحته1، وما ذهب إليه الأئمة الثلاثة هو ما يقبله العقل، ويتفق مع تعاليم الشريعة الغراء؛ ولأنه لو أخذ بما ذهب إليه أبو حنفية لكان ذلك سبيلًا للفساق، والفجار تحت سمع وبصر الفقه الإسلامي، وبحماية منه، وهذا مما لا يقبل، أما ما استدل به أبو حنيفة حتى وإن صحت روايته، فقد يكون هناك ما قد ظهر للخليفة العادل عمر الغيور على حرمات الإسلام، وحدوده من أمور قد أغفلها الرواة ولم يذكروها، وسهو الرواة أمر ليس ببعيد، وفوق ذلك كله لا يجوز تخصيص عموم النص بمثل هذه الروايات المتعارضة وأهداف التشريع، هذه هي الشبهات التي تتعلق بالركن الشرعي، للجريمة وهي في جملتها تنضوي تحت شبهة الدليل بمفهومها العام،
= واحتج الإمام أبو حنيفة بما روي أن امرأة استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ عمر رضي الله عنه الحد عنهما، وبما روي أيضًا عن عمر من أن امرأة سألت رجلًا مالًا، فأبى أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ الحد، وقال:
هذا مهر: ولا يجوز أن يقال: إنما دراء الحد عنهما؛ لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش؛ لأن هذا المعنى لا يوجب سقوط الحد عنه، وهو غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالًا، كما ذكر في المبسوط ج9 ص58 البحر الرائق لابن نجيم ج5 ص19-20، فتح القدير ج5 ص262، تبيين الحقائق ج3 ص184.
1 المغني ج8 ص211-212، تحفة المحتاج ج3 ص134، منح الجليل ج7 ص488.
نظرًا؛ لأنها في جملتها شبهات ننتجت لدى القائلين بها من وجود دليل من الأدلة المتعمدة عندهم، أو نتيجة ترجيح رأي على آخر لدى فقيه من الفقهاء.
ومن هنا فهي كلها لا تخرج عن شبهة الدليل، ولا يخفى أن شبهة الجهة التي يقول بها فقهاء الشافعة والحنابلة، ما هي إلا محصلة لاختلاف الفقهاء على إيجاب الحد نتيجة اتيان فعل ما من الأفعال، أو عدم إيجاب الحد بذلك.
بمعنى أن بعض الفقهاء يرى الحد جزاء ما وقع من فعل، والبعض الآخر لا يرى على اتيان ذلك الفعل، وعليه فإن شبهة الجهة يتسع مفهومًا ليشمل كل خلاف في إيجاب الحد.
والمسائل الخلافية مسائل ورد فيها أكثر من رأي نتيجة تعارض الأدلة، أو ثبوت دليل إيجاب الحد بفعل من الأفعال عند بعض الفقهاء، وعدم ثبوت ذلك الدليل عند الآخرين.
وعليه فمرجع الاختلاف ناشيء عن الدليل ومتعلق به، ولا يخفى أن بعض هذه الشبهات، وإن دخلت تحت المفهوم العام لشبهة الدليل، إلا أن بعضها يتميز عن غيره بنوعية تعليل، أو جوانب أو إضافات لا تتوافر في باقي الشبهات التي تنضوي تحت المفهوم العام لشبهة الدليل.
ومن هنا تسمياتها بمسميات متغايرة حسب ما توافر فيها من جوانب خاصة، أو تعليل متميز.
المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي
مدخل
…
المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: الجهل.
المطلب الثاني: الإرادة.
تمهيد:
بين القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وأن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت.
كما بين الله تعالى مشروعية أن يدعوه عباده، وأن يطلبوا منه رفع المؤاخذة عنهم، وإعفاءهم من العقاب عندما ينسون أو يخطئون:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1.
ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أن العصيان والمخالفة لأوامر الشرع، ونواهيه يترتب عليهما العقاب، والمؤاخذة ومن هنا بنى الفقهاء قيام مسئولية المكلف على أساس عصيانه أوامر الشرع ونواهيه، فمن خالف أمرًا ونهيًا، فإنه بمخالفته هذه يعتبر عاصيًا لذلك الأمر أو النهي.
وقيام المسئولية على هذا الأساس يجعلها تختلف باختلاف درجة العصيان من المكلف، إذا كان العصيان مقصودًا شددت العقوبة على الجاني، أما إذا كان العصيان غير مقصود نظرًا لجهل الجاني، أو خطئه فإن العقوبة تختلف عن الحالة السابقة؛ لأن الجهل أو الخطأ أمران مخففان لما يترتب على الإثم من عقوبة إن لم ينتج عنهما إسقاط العقوبة
1 من الآية 286 من سورة البقرة.
عن العاصي، إن كان مكلفًا، وذلك؛ لأن الجهل أو الخطأ يترتب عليهما انتفاء القصد الجنائي، وينتج عن هذا تخفيف العقوبة، أو الإعفاء منها؛ لأن الجهل أحيانًا يكون سببًا من أسباب عدم المؤاخذة، ومثله الخطأ والنسيان؛ لأن أساس المسئولية في الشريعة الإسلامية هو الإدراك، والاختيار لدى الشخص المكلف1، وبانتفائها تنتفي المسئولية الجنائية عن المكلف؛ لأنهما سبباها، وانتفاء السبب يترتب عليه انتفاء المسبب2.
ويراد بالقصد الجنائي: تعمد اتيان الفعل المجرم، أو ترك فعل ما أمر الشارع به من العلم بأن الشارع قد نهى عن الفعل الأول، وأوجب الثاني.
أو هو: اتجاه الإرادة إلى ارتكاب جريمة مع العلم بعناصرها القانونية، ومن هنا كانت الجريمة العمدية هي الجريمة التي يقترفها الفاعل، وهو عالم بحقيقتها الواقعية، وبعناصرها القانونية3.
1 يقول الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور: الأصل في محل المسئولية في الشريعة الإسلامية، هو الإنسان المكلف المدرك المختار إذ لا قيام للمسئولية الجنائية، إلا بتحقيق أهلية التكليف، والإدراك والاختيار.
المسئولية الجنائية في الفقه الإسلامي ص4-5 الإباحة عند الأصوليين ص439، أصول الفقه الإسلامي ص44 ط دار النهضة العربية.
2 السبب: ما يلزم من وجوده ومن عدمه العدم، أو هو وصف ظاهر منضبط جعله الشارع أماره للحكم، أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص52 ط 76 أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف ص91 ط الثانية.
3 التشريع الجنائي عبد القادر عوده ط ص409. الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د. سمير الجنزوري ص426. شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. محمود مصطفى ص424.
من هذه التعريفات يتضح أن للقصد الجنائي عنصرين هما: العلم والإرادة. والتحقيق من وجود هذين العنصرين عند قيام الجريمة شرط لإلزام الجاني عقوبتها الجنائية.
أذ بدونهما أن بدون أحدهما لا تتحقق الجريمة العمدية، إذ هما شرطان لقيامها1.
ويراد بالعلم معرفة ما جاءت به النصوص التشريعية من تجريم أفعال معينة، وتحديد عقوبات لكل من قام بفعل من هذه الأفعال؛ لأن مثل هذه العقوبات أوردتها النصوص التشريعية ونصت عليها، ولم تدعها لاجتهاد مجتهد.
ومثل هذا من الأحكام بين الإمام الشافعي حكم الجهل به بقوله أن هناك من الأحكام، ما لا يتسع بالغا غير مغلوب على عقله في دار الإسلام جهله مثل الصلوات، وصوم رمضان والزكاة، والحج وتحريم القتل، والزنا والخمر والسرقة وغيره مما لا يجوز التنازع فيه، وهناك من الأحكام ما يحتمل التأويل، ويستدرك قياسًا، وهذا درجة من العلم ليس تبلغها العامة2.
1 الشرط ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم وجوده وجود ولا عدم، أو هو الوصف الظاهر المنضبط الذي يتوقف عليه وجود الشيء من غير إفضاء إليه. أصول الفقه أ. د. سلام مدكور ص55، الأستاذ عبد الوهاب خلاف ص93.
2 إحياء علوم الدين للغزالي ج1 ص14-16 الرسالة للإمام الشافعي ص155 ط الحلبي سنة 1388هـ، تيسير التحرير ج4 ص211-227، التقرير والتحبير ج3 ص312-330، الفروق للقرافي ج2 ص149 فضلًا عن الإباحة للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص510-515.
ولهذا، فإنه لما كانت جرائم الحدود، وعقوباتها مما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ لأنه مكلف بمعرفتها، فإن فرط فلا عذر له بجهله بها بل هو بهذا الجهل قد عرض نفسه للوقوع في الحرمات.
يقول الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه، فيمن جهل من المسلمين المقيمين بدار الإسلام حكمًا من الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وعلى الأخص أحكام الحدود: قد ظهر الإسلام ونشأ، فلا يعذر جاهل بشيء من الحدود1.
كما يقول الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور مفصلًا ذلك مبينا أن إمكام العلم يقوم مقام العلم، وعليه فلا عذر لمقصر: ويكفي أن نقول أخيرًا: إن أمكان العلم بحكم الشرع يقوم مقام العلم الحقيقي، فمتى بلغ الإنسان عاقلًا وكان ميسرًا له أن يعلم ما حرم عليه، إما بالرجوع إلى النصوص، وإما بالرجوع إلى أهل الذكر ما دام قادرًا على الرجوع إليهم، ما كان له أن يعتذر بالجهل بالحكم سواء عن طريق ادعائه بالجهل بذات النص، أو بمعناه الحقيقي2.
أما إذا كان قد حال بين المسلم، وبين معرفة حكم الشرع سبب قوي لم يستطع مغالبته، والنفاذ منه كأنه يكون قد نشأ بعيدًا عن كل من يعرف الحكم الشرعي، ولم يستطع الوصول إلى معرفة ما يوجبه عليه دينه.
أو يكون قد أسلم حديثًا، ولم يتمكن من معرفة أحكام الإسلام لقرب عهده به، فإنه في هاتين الحالتين يصبح ذا عذر مقبول، ويقوم في حقه ما يدرء العقوبة الحدية عنه.
وهذا هو الجهل الذي يمكن القول به لدفع العقوبة الجنائية عن هذا الفاعل الذي جهل بالحكم، وتردى في فعلته.
وفيما يأتي بيان للمراد بالجهل، وأقسامه وأنواعه، وما يقبل القول به منه، وما لا يقبل.
ثم بيان للإرادة وما تنثلم به، فلا يبقى للقصد الجنائي وجود.
1 منح الجليل ج4 ص550 ط الأميرية سنة 1294هـ.
2 نظرية الإباحة عند الأصوليين للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص517 سنة 1965.
المطلب الأول: الجهل
وردت كلمة الجهل كثيرًا فيما كتبه الفقهاء، وعلماء الأصول، وعلماء الكلام لارتباطها بكثير من الأحكام والقضايا.
والذي يعنينا هنا من الجهل هو الجهل بالحكم الشرعي لمسألة ما من المسائل؛ لأن هذا الجهل هو محل نظر الفقهاء، وبحوثهم من حيث الاعتداد به، أو عدم النظر إليه، واعتباره غير قائم.
قسم الفقهاء والأصوليين الجهل أقسامًا عدة يتصل بموضوع هذا البحث منها ما يأتي:
أولًا: الجهل الذي لا يعتد به، ولا يعتبر عذرًا ولا شبهة، ومن هذه جهل الباغي الخارج على الإمام الحق -كالخلفاء الراشدين مثلًا بتأويل فاسد، وجهل من عارض اجتهاده الكتاب الكريم، وجهل المسلم المقيم بدار الإسلام بتحريم الخمر وغيرها مما يوجب الحد.
ثانيًا: الجهل الذي يعتد به، ويصلح عذرًا وتنتج عنه شبهة يترتب عليها درء الحدود، والكفارات ونحوها، ومن هذا الجهل في موضوع اجتهاد صحيح لا يخالف الكتاب ولا السنة المشهورة ولا الإجماع، وذلك كقتل أحد الوليين لقاتل موليهما بعد عفو الآخر، فإن القاتل هنا
لا يقضي منه لاختلاف الفقهاء في القول بسقوط دم المولى بعفو أحد الأولياء.
وهذا الأختلاف قد أنتج شبهة تدرء الحد عن الولي القاتل1، ومثل هذا جهل الحربى الذي دخل دار الإسلام، فأسلم ثم شرب الخمر لجهله بحرمة شربها، نظرًا؛ لأن تحريم ذلك لم تنص عليه جميع المعتقدات المخالفة للإسلام، كما أنه حديث عهد بالدين، هذا بخلاف ما لو أسلم ثم شرب الخمر، وادعى جهله بتحريمها، فإنه يلزم بالعقوبة؛ لأن جهلة هذا لا يعد عذرًا دارئًا للعقوبة الحدية، نظرًا لشيوع تحريم الخمر في دار الإسلام، وهو ممن يقيمون بها.
وبخلاف ما لو دخل الحربي -الكتابي- دار الإسلام، فأسلم ثم زنى جاهلًا التحريم، فإن جهله هذا لا يعد عذرًا، لحرمة الزنا في جميع الأديان2، من هذا يبين أن الجهل بالأحكام لا يعتبر دائمًا عذرًا رافعًا للإثم والحرج في ترك امتثال أوامر الشارع، وإنما يكون عذرًا يعتد به درء العقوبة الحدية في بعض الحالات، سواء أنتج رفع الإثم عن الفاعل، وإسقاط جنس العقوبة عنه أم درء الحد فقط مع بقاء الإثم، وإلزام الفاعل العقوبة التعزيرية.
كما أن القول بأن لا عذر بالجهل في دار الإسلام قول لا يؤخذ على عمومه وإطلاقه، فهناك من الأمور ما يعد بالجهل بأحكامها من بعض المقيمين في دار الإسلام عذرًا، نظرًا لعدم تيسير ذلك لهم.
وقد أشار إلى ذلك الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور بقوله: وقد لمست روح الشريعة في هذا المقامن فيما أورده الكمال وغيره من
1 مغني المحتاج ج4 ص145 ط مصطفى الحلبي.
2 تيسير التحرير للكمال باد شاه أمير ج4 ص211-227.
الأصوليين والفقهاء من أن الأمة كانت في دار الإسلام تعذر بجهل أحكام الشريعة لتشاغلها بخدمة سيدها، وقد يكون مسلمًا بل من علماء المسلمين، فماذا عسى أن يقولوا على مقتضى هذا الاتجاه الفقهي السليم في شأن أولئك الذين شغلهم فوق ما شغل تلك الأمة من العدو، وراء مطالب الحياة اندفاعًا في فلك الدهر، وسيرًا مع عجلة الحياة التي لا ينقطع بها السير في لحظة من اللحظات مع بعدهم عن موجهات الدين، واللوافت إليه من العلماء، وأمراء وعدم التفكير في شيء من ذلك، ولا محاولته مع تمام الجهل بلغته التي كان يجب أن نفكر في إيصالها إليهم، كما فكرنا في إيصال لغاتهم إلينا1، هذا وإن كان الجهل بسبب الانشغال بمطالب الحياة أمرًا يعذر به المسلم، ومن يقيم بدار الإسلام، فإن العذر بهذا يقبل القول به في غير ما يوجب العقوبة الحدية، أما ما يوجبها، فالجهل بحكمة لا يقبل الاعتذار به؛ لأن أحكام ما يوجب العقوبة الحدية من الأحكام التي تعلم من الدين بالضرورة، والاعتذار بالجهل بها لا يقبل؛ ولأن العلم بها لا يقصد به العلم بالفعل فقط، وإنما يشمل أيضًا مجرد إمكان العلم بالحكم الشرعي، فالعلم بالقوة ينزل منزلة العام بالفعل ويقوم مقامه، لذا لا يعذر بالغ عاقل بجهله بما فرض عليه، وطلب منه الالتزام به على وجه القطع طالما يسر له علم ما فرض، ومعرفة ما حرم عليه، بالرجوع إلى نصوص القرآن والسنة، وبسؤال أهل العلم ما دام قادرًا على ذلك، وفيما يأتي بيان لقصص الجهل المذكورين:
1 الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص516 ط دار النهضة
العربية سنة 1965م.
أولًا: الجهل الذي لا يعتد به، ولا يعتبره الفقهاء شبهة
اتضح مما سبق ومن الحديث عن الجريمة، وأركانها أن الصفة غير المشروعة للسلوك ركن أساسي من أركان الجريمة، فلكي يحكم على العمل بأنه عمل إجرامي لا بد من أن يكون هذا العمل قد نهى عنه الشرع، وحرمه نهيًا جازمًا غير قابل للإباحة إلا بمسوغ شرعي، وعلى هذا كان من اللازم معرفة الجاني تجريم الشرع للأفعال، حتى يمكن إلزامه العقوبة الحدية.
وعلى هذا فما المراد إذن بعلم الجاني بتجريم الشرع للأفعال معينة؟ أهو علم الجاني في الحقيقة والواقع؟ أم إمكان علمه لو أراد لكنه قصر في التحصيل، والمعرفة مع قدرته على ذلك؟.
لو أن المقصود بعلم الجاني علمه في الحقيقة، والواقع لنتج عن ذلك إلزام من سيحكم بالعقوبة على متهم إثبات أن هذا المتهم الذي ارتكب الفعل الجنائي كان يعلم تجريم الشرع لما أتاه من أفعال قبل أن يقوم بهما، وإثبات علم الجاني بذلك أمر صعب إمكانه والتحقق منه، الأمر الذي يترتب عليه إفلات الجناة من العقاب المستحقق على ما قاموا به من جرائم، أو تغاير هذا العقاب، وتخفيفه لدرجة لا تتفق وهدف المشرع من الردع بالعقوبة المقررة للفعل.
ويصبح ادعاء الجهل بتجريم الأفعال ثغرة ينفذ منها الجناة، ويحول دون سريان النصوص، وعليه فليس المقصود بالعلم هنا قيام العلم في الحقيقة والواقع بالنسبة للجاني، وإنما يقصد به العلم المفترض وجوده افتراضًا حتى ولو كان الجاني جاهلًا في الحقيقة والواقع؛ لأن جهله إذن غير معتبر الوجود عند الفقهاء، فوجوده كعدمه
من حيث الاعتداد به في دفع العقوبة الحية، إذ المعتبر هنا إمكان العلم لا تحققه1.
هذه هي القاعدة وورد الاستثناء عليها لا يخرجها عن كونها الأصل، وعليه فلا يعتد بجهل المسلم الذي يقيم في بلاد الإسلام2، ولا بجهل الذي يقيم في البلاد الإسلامية بالنسبة للأفعال التي لا تختلف أحكامها من ديانة إلى أخرى، كما أن إقامة الذمي بالبلاد الإسلامي توجب عليه معرفة الأحكام المطبقة في هذه البلاد، فإن قصر فلا يعذر بتقصيره، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بإقامة الحد على يهوديين زنيا، وأقيم الدليل على جريمتهما عنده3، ولو كان لهما ما يدرء الحد عنهما لادعياه.
1 يؤيد هذا ما ذكره الأستاذ الدكتور سلام مدكور من أن ما دل الدليل الشرعي على حكمه، وجب أن يعرفه كل مكلف، فإذا جهل حكم الشرع مكلف من المكلفين، ولم يتمثل فعلًا أو كفا، فهو آثم بجهله ومطالب بما كسب. وذلك؛ لأنه يرى أن عدم الامتثال للأمر لا يستلزم العلم لكونه مطلبًا، فكل مكلف مطالب بأمور ينبغي أن يعلمها، فإن لم يعلمها، فإن الطلب قائم لا يسقط عنه، راجع الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص508، 509.
2 الرسالة للإمام الشافعي ص154 "ط مصطفى الحلبي سنة 1388هـ".
3 جامع الأصول لابن الأثير ج4 ص299 "د السنة المحمدية سنة 1269هـ، وقد ذكر ابن قدامة "أنه إذا رفع إلى الحاكم من أهل الذمة من فعل محرمًا يوجب عقوبة مما هو محرم عليه في دينه كالزنا، والسرقة والقذف، والقتل فعليه إقامة حده عليه، فإن كان زنا جلد أن كان بكرًا.
وغرب عام، وإن كان محصنًا رجم، لما روى ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بيهوديين، فجرا بعد إحصانهما، فأمر بهما فرجما".
روى أنس: "أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين متفق عليه، وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يحد؛ "لأنه لا يعتقد تحريمًا، فلم يلزم عقوبته كالفر، وإن تظاهر به عذر؛ لأنه أظهر منكرًا في دار الإسلام -فعذر عليه كالمسلم المغني ج8 ص214-215.
ما ذكر خاص بالجهل بذات النص المحرم للفعل، ويلحق به الجهل بالمعنى الحقيقي للنص في عدم الاعتداد بكل منهما في درء العقوبة الحدية، فلا عبرة بمن يخرج عن المعنى الحقيقي للنص الذي فهمه العلماء منه، سواء أكان خروجه هذا ناشئًا عن جهله بالمعنى الحقيقي، أم مرادًا به التحريف والتزييف، وهذا ما قرره أمير المؤمنين عمر الفاروق حين جاءه رجل من المهاجرين، وقد شرب الخمر فأمر به أن يجلد، فقال للرجل: لم تجلدني وبيني وبينك كتاب الله؟
فقال عمر: وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟
فقال له الرجل: إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 1، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا، ثم اتقوا وأحسنوا....
فقال عمر: ألا تردون عليه ما يقول؟
فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلت لمن عذر، وحجة على الناس.
فقال عمر لابن عباس: صدقت ماذا ترون؟. فقال علي -رضي الله تعالى عنه: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى،
1 من الآية 93 من سورة المائدة.
وعلى المفتري ثمانون جلده: فأمر عمر -رضي الله تعالى عنه، فجلد ثمانين جلده1.
وفي رواية أخرى قال عمر -رضي الله تعالى عنه- لمن احتج بالآية، وفسرها على غير وجهها، وأخطأ التفسير -أخطأت التأويل، إذا اتقيت الله، اجتنبت ما حرم الله، وأمر به فجلد2.
مما سبق يتضح حكم من جهل ذات النص المحرم، أو معناه الحقيقي، وهذا النوع من الجهل الذي لا يعتد به، ولا يعد شبهة دارئة للعقوبة الحدية هو أحد شطري الجهل بالقانون.
وهناك نوع آخر من الجهل يسمى الجهل بالوقائع، وهو شطران:
أحدهما: جهل بالوقائع غير الجوهرية، وقد يطلق عليه لفظ الغلط، وهو من الجهل الذي لا يعتد به أيضًا في دفع العقوبة، أو إسقاط الحد؛ لأنه لا يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي، فمن ذهب لسرقة مال شخص معين يقيم في مكان ما، فيسرق مالًا فيتضح أنه جهل مكان الشخص الذي يريد سرقته، ودخل مكانا آخر، وسرق مال شخص آخر لا حق للسارق في ماله، فإن هذا الجهل جهل غير جوهري لا ينفي القصد الجنائي لدى الجاني، وبالتالي لا أثر له في إسقاط العقوبة الحدية.
ومثله من ذهب لقتل غريم له، ودخل مكان نومه، وأجهز على من وجده نائمًا في الفراش على أساس أنه هو الشخص الذي يريد قتله، فاتضح أن المقتول غير الشخص الذي أراد الجاني قتله، فإن جهل الجاني هنا بشخص المقتول لا يعد شبهة، ولا يترتب عليه إسقاط العقوبة المقررة لجنايته، إذ الجهل هنا لا يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي،
1 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج3 ص2294.
2 المرجع السابق: ص2295.
كما أنه في الحالتين جهل وقع في أمر جوهري خارج عن عناصر الجريمة التي يعد الجهل نافيًا للقصد الجنائي، إذ الجهل هنا يتعلق بموضوع النتيجة، وليس منصبًا على ذات النتيجة، وموضوع النتيجة لا يلتفت إليه، ولا يعد أساسًا بالنسبة للقول بتجريم الفعل، والعقوبة عليه ما دام الشرع قد كفل له الحماية1.
وثانيهما: الجهل بالوقائع الجوهرية، وسيأتي الحديث عنه في الجهل الذي لا يقبل القول به في إسقاط العقوبة الحدية.
ثانيًا: الجهل الذي يقبل به، ويعتبره الفقهاء شبهة تدرء الحد
من حكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمته بعباده، وعنايته بهم أنه رفع عنهم المؤاخذة، وحجب عنهم العقاب إذا جهلوا حكم ما وقع منهم جهلًا يعذرون فيه، ويقبل قولهم به، وهذا مستمد من قول الله سبحانه وتعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 2، ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"3.
فالمؤاخذة مقيدة بإرسال الرسول الذي يبلغ عن الله تعالى:
فمن لم تبلغه الدعوة، أو لم يبلغه جزء خاص منها يحرم عملًا ما من الأعمال لا يعاقب إتيان هذا العمل.
1 يراجع: الإباحة عند الأصوليين ص510-521، وأصول قانون العقوبات للدكتور أحمد فتحي سرور ص546، "ط دار النهضة سنة 1971م"، والأسس العامة لقانون العقوبات للدكتور سمير الجنزوري ص434، وشرح قانون العقوبات للدكتور أحمد الألفي ص451 "ط سنة 1978م".
2 الآية 15 من سورة الإسراء.
3 رواه الحاكم وابن ماجه، والطبراني، والدارقطني، فيض القدير للمناوي ج2 ص267 "ط المكتبة التجارية عام 1938م".
كما أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين أن من من أخطأ في إتيان عمل ما من الأعمال المحرمة مع علمه بالتحريم، فلا يعاقب عليه، وهذا أحسن حالًا ممن لم يعلم الحكم أساسًا، فالثاني أولى بالعفو لعدم تبليغ الحكم إليه؛ لأن التبليغ أساس التكليف، وهذا ما نُقل عن الصحابة رضوان الله عليهم، إذ يقول ابن قدامة: "ولا حد على من لم يعلم تحريم الزنا، قال عمر وعثمان وعلي: لا حد إلا على من علمه، وبهذا قال عامة أهل العلم، فإن ادعى الزاني الجهل بالتحريم، وكان يحتمل أن يجهله كحديث عهد بالإسلام، والناشيء ببادية، قبل منه؛ لأنه يجوز أن يكون صادقًا
…
"إلى أن يقول"، وإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله؛ لأن عمر قبل قول المدعى الجهل بتحريم النكاح في العدة؛ ولأن مثل هذا يجهل كثيرًا، ويخفى على غير أهل العلم"1.
وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه، لما كتب إليه في شأن الرجل الذي قيل له: متى عهدك بالنساء؟ فقال: البارحة، قيل: بمن؟ قال: بفلانة، فقيل له: هلكت، قال: ما علمت أن الله حرم الزنا -أجاب عمر بأن يستحلف ما علم أن الله حرم الزنا، ثم يخلي سبيله2.
وقد توسع ابن حزم في القول بإسقاط العقوبة بسبب جهل الجاني بحكم ما وقع منه من أفعال، سواء أكانت أفعالًا يعاقب عليها بالعقوبة الحدية، أو بالعقوبة التعزيرية، متى أمكن تصديق الجاني في ادعائه جهل الحكم.
يقول ابن حزم: "من أصاب شيئًا محرمًا -فيه حد أو لا حد
1 المغني ج8 ص185.
2 السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص239 "ط دار المعارف حيدر آباد سنة 1353هـ"، والمهذب للشيرازي ج2 ص267.
فيه- وهو جاهل بتحريم الله تعالى له، فلا شيء عليه فيه- لا إثم ولا حد، ولا ملامة- لكن يعلم، فإن عاد أقيم عليه حد الله تعالى، فإن ادعى جهالة نظر، فإن كان ذلك ممكنًا، فلا حد عليه أصلا، وقد قال قومه بتحليفه، ولا نرى عليه حدًا، ولا تحليفًا- وإن كان متيقنًا أنه كاذب لم يلتفت إلى دعواه".
واستدل ابن حزم على ما ذهب إليه بأدلة كثيرة، منها ما روي عن السلف من أن امرأة أتت علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، فقالت: إن زوجي زنى بجاريتي، فقال: صدقت، هي ومالها لي حل، فقال له علي: اذهب ولا تعد، كأنه درء عنه الحد بالجهالة1.
من هنا كان القول: بأن من يجهل الحكم جهلًا يعد معذورا فيه كان جهله هذا مسقطا العقوبة الحدية عنه، سواء أكان جهله نتيجة عدم وصول الحكم الشرعي إليه دون تقصير منه، أم كان الحكم من الدقة بحيث لا يصل إلى معرفته إلا المتخصصون، وكان من جهله في مكان لا يستطيع فيه لقاء المتخصصين، أو سؤالهم.
ويعد الحل بالحكم دارئًا للعقوبة الحدية في الحالات الآتية:
أولًا: إذا كانت سبل العلم بالحكم بعيدة المنال، ووسائله غير ميسرة، وذلك كجهل من يقين بعيدًا عن الديار الإسلامية بأحكام الإسلام، فالجهل هنا بكل أحكام الإسلام لعدم وصول التبليغ، فلا عقوبة إذا ولا إثم.
ثانيًا: جهل من أسلم حديثًا بالأحكام الشرعية التي لم يتيسر له معرفتها لكونه قد نشأ بعيدًا عن الديار الإسلامية، ولم تكن هذه الأحكام معروفة له، ولم يكن النظام الذي كان يدين به قبل أن يسلم
1 المحلى لابن حزم ج13 ص118، 119.
يحرم ما حرمه الإسلام، فالجهل هنا ينفي وصف الجريمة عما وقع من أفعال، وإن كانت مجرمة طبقًا للنظام الإسلامي.
ثالثًا: جهل الذمي الذي يقيم ببلاد المسلمين بحكم من أحكام الإسلام التي تختلف باختلاف الديانات، بمعنى أن الفعل الذي حرمه الإسلام مباح، فيما يدين به هذا الذمي، فجهل الذمي إذا جهل يعذر به، ويقبل منه في دفع العقوبة الحدية عنه، فلو شرب هذا الذمي خمرًا لم تبلغ به حد الإسكار، فلا حد عليه، وإن كان الإسلام يحرم ذلك؛ لأن جهله بتحريم الإسلام ذلك، مع إباحته فيما يدين به الذمي يدرأ الحد عنه1.
رابعًا: الجهل الناتج عن انتفاء العلم بالعلاقة المحرمة، مع معرفة الحكم واشتهاره، وذلك كمن يعقد على امرأة، ثم يدخل بها وبعد فترة يظهر له أنها محرمة عليه بسبب نسب، أو رضاع لم يكن يعلمه قط، ولم يخبره أحد ممن علمه بذلك، فهنا والحالة كذلك لا عقوبة عليهما لانتفاء علمهما بالتحريم لجهلهما ما بينهما من علاقة، أو رضاع وإن كانا يعلمان أحكام الشرع بالنسبة لزواج المحرمات، ومن هن.
ومثل هذا ما إذا حكم بموت إنسان نظرًا لفقده في حرب من الحروب، ومضت مدة بعد تبادل الأسرى، ولا دليل على وجوده حيًا، فإن زوجة هذا الذي قد حكم بموته إذا تزوجت شخصًا آخر، ودخل بها ثم ظهر زوجها الأول، فإن دخول الزوج الثاني بها، وهو لا يعلم أن زوجها الأول موجود لا يعد زنا، ولا يوجب عقوبة.
خامسًا: جهل المسلم بحكم من الأحكام التي هي موضع اجتهاد الفقهاء، أو حكم من الأحكام التي لم يجمع الفقهاء على رأي واحد
1 المغني ج8 ص185.
فيها، ولم يكن في وسعه الوصول إلى الحكم، فالجهل هنا يقبل القول به، نظرًا؛ لأن الوصول إلى الحكم في مثل ذلك أمر يحتاج إلى إعمال الفكر والبحث، وذلك غير ميسر إلا للعلماء، كما أن اختلاف الفقهاء في حد ذاته شبهة تدرأ الحد كما قال بذلك فقهاء الشافعية، والحنابلة، ومن وافقهم1.
والجهل في كل ما ذكر جهل بحكم الفعل الذي وقع من الفاعل، وجهل حكم الفعل فيما ذكر ينفي القصد الجنائي لدى الفاعل، ومن ثم يسقط العقوبة عنه.
الجهل بالوقائع الجوهرية:
بالإضافة إلى ما سبق ذكره من جهل الأحكام، فإن هناك نوعًا آخر من الجهل يسمى الجهل بالوقائع الجوهرية، وهو جهل يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي لدى الفاعل، نظرًا؛ لأن الوقائع التي جهلها وقائع جوهرية، وقد عد الفقهاء -الذين يرون أن هذا النوع من الجهل ينفى القصد الجنائي لدى الفاعل، هذا النوع من الجهل مسقطًا للعقوبة الحدية.
ويطلق الفقهاء على هذا الجهل المتعلق بمحل الجريمة، جهل العين، أو جهل الفاعل، وما ينشأ عنه من شبهة يطلقون عليها شبهة جهل العين، أو شبهة جهل الفاعل، وهي تنشأ عندما يأتي الفاعل الفعل معتقدًا إباحته.
ومثلوا لما توجد فيه هذه الشبهة من الوقائع بما يأتي:
1-
رجل زفت إليه امرأة على أساس أنها زوجته بأن قيل له: إنها
1 مغني المحتاج ج4 ص145، حاشية الباجوري على بن قاسم ج2 ص230 المغني ج8 ص184.
زوجتك، ودخل بها ثم ظهر بعد ذلك أنها ليست زوجته، فلا حد عليه لانتفاء قصده الجنائي نظرًا لجهله المتعلق بمحل الجريمة، أو بالوقائع الجوهرية المتصلة بها، يقول ابن قدامة:"فإن زفت إليه غير زوجته، وقيل: هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته، فلا حد عليه، لا نعلم فيه خلافًا، وإن لم يقل له هذه زوجتك، أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته، أو جاريته فوطئها، أو دعا زوجته أو جاريته، فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها، أو اشتبه عليه ذلك لعماه فلا حد عليه، وبه قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أن عليه الحد؛ لأنه وطء في محل لا ملك له فيه، ولنا أنه وطء اعتقد إباحته بما يعذر مثله فيه، فأشبه ما لو قيل له: هذه زوجتك؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهذه أعظمها"1.
وذكر ابن حزم: أن المرأة إذا هيأت جاريتها بهيأتها، وخلعتها في حجلتها، وجاء زوجها فوطئها، فإن المرأة تنكل ولا جلد على الرجل، وعلى الجارية حد الزنى إن كانت تدري أن ذلك لا يحل.
ولو أن المرأة نفسها لأجنبي، فوطئها يظن أنها امرأته فهي زانية، ثم يقول: ولا يختلف اثنان من الأمة في أنه من دست إليه غير امرأته، فوطئها وهو لا يدري من هي يظن أنها زوجته، فلا حد عليه"2.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
1 المغني ج8 ص184، مغني المحتاج ج4 ص145، الخرشي ج8 ص77 قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ج2 ص137 ط الاستقامة.
2 المحلى ج13 ص216، 217، 429، 430 الحجلة جمع حجال وحجل: وهو وتر يضرب للعروس في جوف البيت، أو بيت يزين للعروس "المنجد" مادة حجل، ويراجع فيما ذكر من أحكام الجهل مباني تكملة المنهاج ج1 ص168، 169.
أما فقهاء الأحناف، فإنهم يوجبون الحد فيما مضى من وقائع إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا نادى الأعمي زوجته، فأجابته وقالت: أنا زوجتك فواقعها؛ لأن الأخبار دليل، وهو أعمى لا يستطيع رؤية من أجابته، ولجواز تشابه النغمة خصوصًا لو لم تطل الصحبة بينهما.
وقيد فقهاء الأحناف ذلك بأن تجيبه بقولها: أنا زوجتك؛ لأنها لو لم تجبه بذلك واقتصرت على الإجابة بنعم ونحوه فوطئها، فإنه يحد نظرًا؛ لأنهم يرون أنه يمكنه أن يميزها بأكثر من ذلك بحيث يكون الحال متوسطًا في اطمئنان النفس إلى أنها هي زوجته.
فقد ذكر ابن الهمام1: عند شرحه لقول المصنف، ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد "خلافًا للأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأحمد فهؤلاء الأئمة قاسوها على المزفوف بجامع ظن الحل، أما فقهاء الأحناف، فإنهم يرون أن المسقط شبهة الحل: ولا شبهة هنا أصلًا سوى أن وجدها على فراشه، ومجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند الظن إليه، وهذا؛ لأنه قد ينام على الفراش غير الزوجة من حبائبها الزائرات لها وقراباتها، فلم يستند الظن إلى ما يصلح دليل حل
…
وكذا إذا كان أعمى؛ لأن الوجود على الفراش ليس صالحًا لاستناد الظن إليه، وغيره -مثله- مما يحصل بالنعمة، والحركات المألوفة فيحد أيضًا2.
1 ابن الهمام: هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، كمال الدين الشهير بابن الهمام، كان أصوليًا فروعيًا، مفسرًا محدثًا، له تصانيف كثيرة منها فتح القدير توفي سنة 861هـ.
2 شرح فتح القدير ج5 ص258، 259، بدائع الصنائع ج7 ص37 المبسوط ج9 ص57.
وذهب زفر إلى أن الحد يدرأ عن الأعمى؛ لأنه عدم آلة التمييز، وقول الأحناف هذا قد جاء على غير ما هو متوقع منهم، إذ أن الإمام يدرأ بشهبة العقد على من لا يحل نكاحها حتى ولو كان الذي عقد عليها، ودخل بها يعلم أنه لا يحل له نكاحها، والشبهة في مثل هذا أضعف من شبهة جهل الأعمى الذي يدخل بيته، فيجد امرأة في فراشه، فتتصنع له مثل حركات زوجته، ونغمة صوتها، فيظنها الأعمى أنها زوجته ويطؤها.
مما لا يخفى أن شبهة جهل الأعمى، فيما ذكرت أولى بأن يعتد بها في درء الحد عنه، عما ذكره الإمام من شبهة العقد على من لا تحل له، ودرئهم الحد بها.
2-
رجل يصيد حيوانًا في غابة من الغابات، فرأى شيئًا اعتقد أنه حيوان فأطلق عليه النار، فإذا به إنسان، فإن هذا الذي أطلق النار لا يعد مرتكبًا جريمة قتل
عمدية موجبة للعقوبة المقدرة، نظرًا لجهله المتعلق بالوقائع الجوهرية، إذ هو لم
يقصد إنسانًا، وإنما قصد صيد الحيوان، فالقصد الجنائي إذا غير موجود، وانتفاء
القصد الجنائي يحول بين الجاني، وبين عقوبة القتل العمد.
3-
رجل أخذ مالًا معتقدًا أنه ماله، فظهر أن هذا المال مملوك للغير، وأن أمره اشتبه عليه، ففي مثل هذا يكون القصد الجنائي منتفيًا لدى الآخذ، ولذا تسقط عنه العقوبة الحدية.
4-
ومن الخطأ في الوقائع الجوهرية أيضًا من يشرب من الإناء الذي اعتاد أن يشرب منه الماء، فإذا به يجد أن ما شربه ليس بماء، وإنما هو خمر، فلا حد عليه بذلك لانتفاء قصده الجنائي1، وفي
1 المحلى لابن حزم ج13 ص430.
كل ما سبق لا بد من قيام ما يدل على انتقاء القصد الجنائي لدى الفاعل من قرائن وأدلة.
ولقد أخذ فقهاء القانون بما ذهب إليه الفقهاء هنا، وبحثوه عندهم، وأطلقوا عليه الجهل بالوقائع الجوهرية1.
وجهة نظر فقهاء القانون الوضعي في الجهل بالأحكام:
القاعدة العامة عند فقهاء القانون هي:
افتراض العلم بالقانون، وعليه فلا يعذر المرء بجهله القانون.
ولا يجوز له أن يحتج بذلك، ولا يعفيه جهله في الحقيقة من المسئولية الجنائية. ويعتبر العلم بالقانون قرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس.
كما أن المقصود بالعلم هو مكان العلم به على وجهه الصحيح، ويستهدف القانونيون من تقرير هذا المبدأ حماية مصالح المجتمع، واستقراره هو لو أجيز إسقاط العقوبة عن المتهم لجهله بالقانون لأصبح من العسير تطبيق الأحكام على الجناة؛ لأن في وسع كل منهم إدعاء الجهل بالقانون، أو بمعناه الصحيح، وإثبات عكس هذا الادعاء أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا.
ونظرًا؛ لأن هذا المبدأ في رأي بعضهم يعد قاسيًا، وغير منطقي خاصة في العصر الذي تلجأ فيه الدولة إلى الجزاء الجنائي لتدعيم أحكام قوانينها المختلفة، وفي ظل هذا السبيل العرم من القوانين الجنائية التي يثقل على القانونيين ملاحقتها، فقد وجد اتجاه عند الوضعيين يميل إلى التخفيف من مبدأ افتراض العلم بالقانون.
1 الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د. سمير الجنزوري ص432.
وأوردوا عليه استثناء من وقع تحت ظروف قوية حالت بينه، وبين العلم بالقانون، كما إذا حوصر بعض الناس في سجن من السجون التي لا يسمح فيها بوصول أداة للمعرفة، أو وقوف السجناء على أية أخبار، فالسجناء والحالة هذه إذا خرجوا من سجنهم، وارتكب بعضهم أفعالًا جنائية مخالفة لما تنص عليه القوانين الجنائية التي صدرت في المدة التي كانوا فيها سجناء، فإنهم يعفون من العقوبة الجنائية التي يعاقب بها من ارتكب فعلًا من هذه الأفعال عمدًا: نظرا لانتفاء القصد الجنائي لديهم، وقيد ها بمدة محدودة لا يجوز الاحتجاج بعد فواتها بالجهل بالقانون1.
كما اتجه القانونيون أيضًا إلى قصر قاعدة افتراض العلم بالقانون على القوانين الجنائية فقط، وعليه فإن المتهم يستطيع أن يدفع بجهله أحد القوانين غير الجنائية كالقانون الإداري، أو التجاري، أو المدني، أو قانون الأحوال الشخصية، ورتب القانونيون على الاعتذار بالجهل بهذه القوانين إعفاء من ادعى ذلك من المسئولية.
وطبقًا لهذا قضت محكمة النقض ببراءة متهم في قضية تزوير في محرر رسمي: هو وثيقة زواج، أقر فيها بعدم وجود مانع من الموانع الشرعية، رغم تزوجه بابنة أخت الزوجة قبل ذلك أيضًا، وبقائها في عصمته؛ لأن مثله لا يدرك مثل هذه الأحكام، كما أن هذه الأحكام هي
1 نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص517-520، الأسس العامة لقانون العقوبات العام أ. د. سمير الجنزوري ص456-428، شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. نجيب حسنى ص456-628، شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. محمود مصطفى ص425-427، شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. أحمد الألفي ص456، أصول قانون العقوبات أ. د. أحمد فتحى سرور ص551 "ط سنة 1971م".
أحكام لقانون غير قانون العقوبات، وقالت المحكمة في تسيب الحكم "وحيث أنه متى كانت الواقعة الثابتة بالحكم، هي أن المتهمين أملوا بسلامة نية على المأذون عند مباشرة عقد نكاحهم بعدم وجود موانع شرعية: وكانوا في الواقع يجهلون وجود ذلك المانع، فإن جهلهم هذا لم يكن عدم علم بقانون العقوبات، بل جهلًا بواقعة حال هي ركن من أركان جريمة التزوير المرفوعة بها الدعوى عليهم، أساسه عدم علمهم بحكم من أحكام قانون آخر هو قانون الأحوال الشخصية
…
فهو خليط مركب من جهل مركب بالواقع، ومن عدم علم بحكم ليس من أحكام قانون العقوبات، ما يجب قانونًا في حدود المسائل الجنائية اعتباره في جملته جهلًا بالواقع، ومعاملة المتهمين على هذا الاعتبار1.
وفقهاء القانون، وإن قالوا بذلك إلا أنهم قيدوا اعتبار هذا الجهل عذرًا بقيام المتهم بتقديم الدليل القاطع على أنه تحري، وسأل واستفسر، وأنه اعتقد بأنه كان يباشر عملًا مشروعًا، وأنه كان لاعتقاده هذا أسباب معقولة، وإلا فإن جهله هذا يعد جهلًا مشوبًا بالتقصير من جانب المتهم2.
ويلاحظ أيضًا أن تفرقة القانونيين بين القوانين الجنائية، وغيرها من القوانين الأخرى من حيث افتراض العلم بها تفرقة غير مقبولة، ولا تستند إلى منطق قانوني، وإنما هي وسيلة تخفيف، أو تهرب مما يفرضه مبدأ افتراض العلم بالقانون.
1 تراجع نظرية الإباحة عند الأصوليين للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص520، 521 الأسس العامة لقانون العقوبات للأستاذ الدكتور سمير الجنزوري ص529.
2 المرجع السابق ص430.
المطلب الثاني: الإرادة
ويقصد بها هنا النشاط النفسي الذي يهدف إلى تحقيق غرض معين، ويقتصر دورها عند البعض على الحركة الإجرامية المتمثلة في النشاط الإجرامي؛ لأن هؤلاء يرون أن حدوث النتيجة ما هو إلا ثمرة لقوانين طبيعية لا تستطيع الإرادة السيطرة عليها، والعمد عندهم يتحقق بمباشرة النشاط الإجرامي مع الرغبة في حدوث النتيجة1.
فالجاني حينما يقبل على فعلته المجرمة، ويقدم عليها باختياره عن قصد مستهدفًا أحداث نتيجة معينة، يسمى في هذه الحالة فاعلًا مختارًا مريدًا بفعله أحداث نتيحة معينة.
فالإرادة إذا عنصر لا بد من وجوده لقيام القصد الجنائي، الذي هو أساس قيام المسئولية الجنائية، إذ لا يسأل شخص عن نشاطه، وما نتج عنه إلا إذا كان هذا النشاط تعبيرًا عن إرادته، يستوي في ذلك أن تكون الجريمة عمدية، أو غير عمدية، إيجابية أو سلبية2.
فالإرادة الواعية أمر لا بد من التحقق من وجوده للحكم بتحقق القصد الجنائي؛ لأن العلم بالتجريم أمر مفترض كما سبق.
أما لو أكره الفاعل على ارتكاب العمل الإجرامي بأن وقع تحت ضغط زال بسببه رضاه، وانعدمت إرادته، فإنه والحالة هذه يفقد
1 أصول قانون العقوبات أ. د. أحمد فتحى سرور ص533-535.
2 تتجه الإرادة في الجريمة العمدية إلى تحقيق الفعل، وإحداث النتيجة، إما في الجريمة غير العمدية، فالإرادة تتجه نحو الفعل دون النتيجة الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د. سمير الجنزوري ص435. شرح قانون العقوبات أ. د. محمود مصطفى ص417.
اختياره وينعدم قصده الجنائي، وعليه فإن عقوبته تتناسب تناسبًا عكسيًا مع درجة إكرهه؛ لأن الإكراه منه ما هو إكراه تام ينعدم معه الرضا، ويفسد الاختيار.
ومنه ما هو إكراه ناقص ينعدم معه الرضا، ولا يفسد الاختيار1، ولكل منهما أثره في دفع العقوبة، أو التخفيف منها، حسب درجته والجريمة التي ترتبت على قيام المكره -بفتح الراء- بالفعل الذي أكره عليه.
ويقتضى بين ذلك حديثًا موجزًا عن الإكراه بقدر ما يتطلبه المقام.
الإكراه:
ويراد به: ما يفعل بالإنسان مما يضره، أو يؤلمه لحمله على القيام بفعل، أو قول لا يريده2.
أو هو فعل يفعله الإنسان بغيره، فيزول رضاه أو يفسد اختياره، أو هو أن يهدد المكره قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه، وغلب على ظنه أنه يفعل به ما هدد به إذا امتنع عما أكرهه عليه3.
1 يرجع المدخل للفقه الإسلامي ص336، الإباحة عند الأصوليين ص390.
2 مواهب الجليل ج4 ص45 ط أولى السعادة3.
3 أسنى المطالب لأبي يحيى زكريا الأنصاري ج3 ص282، ط أولى المطبعة الميمنية، عرف ابن حزم الإكراه بما عرفه به اللغويون، وقال: هو كل ما سمي في اللغة إكراهًا، وعرف الحبس أنه إكراه كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك، أو الوعيد بالسجن كذلك، والوعيد بإفساد المال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه" المحلى ج9 ص259 يراجع المدخل لفقه الإسلامي ص336.
والإكراه نوعان:
1-
إكراه تام: ويسمى الإكراه الملجئ، وهو ما خيف فيه تلف النفس، وهذا النوع من الإكراه يفسد الاختيار، ويعدم الرضا.
2-
إكراه ناقص، أو إكراه غير ملجئ، وهو ما لا يخاف فيه التلف عادة كالحبس لمدة قصيرة، والضرب الذي لا يخشى منه التلف، وهذا النوع لا يفسد الاختيار لكنه يعدم الرضا1.
والإكراه التام، أو الملجئ منه ما هو مادي، وهو ما كان التهديد والوعيد فيه قائمًا، ومنه ما هو معنوي، وهو ما كان التهديد والوعيد فيه منتظرا، والإكراه التام بنوعيه يتفاوت من جريمة إلى أخرى، ذلك؛ لأن من الجرائم ما لا يؤثر الإكراه في حكمها وتجريم الإقدام عليها، وإلزام عقوبتها لمن ارتكبها حتى ولو كان مكرها -بفتح الراء، ومنها ما يؤثر الإكراه في حكمها، وتجريم الإقدام عليها، وإلزام عقوبتها لمن ارتكبها مع إكراهه، ودرجة تأثيره تتفاوت من جريمة إلى أخرى بمعنى أنه يترتب عليه رفع المسئولية الجنائية عمن ارتكب في ظله جرائم معينة، ويرفع العقوبة بصفة عامة بالنسبة لجرائم أخرى لعده سببا من أسباب إباحة الفعل، كما أنه يتفاوت من شخص لآخر؛ لأن ما يعتبر إكراها لذوي المروءات قد لا يعد إكراها بالنسبة لغيرهم.
والإكراه التام، أو الملجئ بنوعيه يؤثر على الإرادة، بمعنى أنها
1 البحر الرائق ج3 ص80 "ط أولى".
تنعدم معه، ويذهب الرضا، ولا يوجد اختيار مع وجود هذا الإكراه، إذا فإن القصد الجنائي ينعدم بوجوده، وتندرئ به العقوبة الحدية فيما عدا ما يجب بارتكاب جريمة القتل، أو قطع الطرف أو الضرب المهلك، فالإكراه على ارتكاب مثل هذه الجرائم لا ينتج عنه إعفاء المكره -بفتح الراء- من العقوبة الجنائية1؛ لأن الفقهاء أجمعوا على أن من أكره على قتل غيره لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمة بجلد أو غيره، فلا بد للمكره أن يصبر على البلاء الذي ينزل به، ولا يحل له أن يفتدي نفسه بغيره2.
أما ما عدا القتل، فأقوال الفقهاء متغايرة في درء الحد أو إقامته، ففي جريمة الزنا اتفق الفقهاء على أن المرأة التي تستكره على الزنا لأحد عليها، وهذا ما قضى به عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في الوليدة التي استكرهت على الزنا، فقد ذكر ابن قدامة أنه:"لا حد على مكرهة في قول عامة أهل العلم، وروي ذلك عن عمر والزهدي، وقتادة والثوري، والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وعن جابر بن وائل عن أبيه: "أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدرأ عنها الحد"
…
"إلى أن يقول ابن قدامة"، أتي عمر بامرأة قد زنت، فقالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها؛ ولأن هذا شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات
1 الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390-391.
2 المغني: ج7 ص645، والمهذب: ج2 ص189، وبدائع الصنائع ج7 ص179، والبحر الرائق: ج8 ص74، ومواهب الجليل: ج6 ص242، والخرشي ج8 ص80، والجامع لأحكام القرآن: ج5 ص 3799، والإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390.
ولا فرق بين الإكراه بالإلجاء، وهو أن يغلبها على نفسها، وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه1.
أما بالنسبة للرجل الذي أكره على الزنا، فإن الإمام أبا حنيفة يرى أنه إذا كان الذي أكرهه هو السلطان، فلا حد عليه، وإن أكرهه غير السلطان حد عند أبي حنيفة؛ لأنه يرى أن الإكراه من غيره لا يدوم إلا نادرًا، ولتمكن المكره -فتح الراء- من الاستعانة بالسلطان، أو بجماعة المسلمين، أو يدفع الإكراه عن نفسه بالسلاح، وقال الصاحبان: لا يحد؛ لأن الإكراه كما يتحقق من السلطان يتحقق
من غيره، ووافقهما الشافعي، وابن المنذر.
وقد علل أبو حنيفة رأيه بأن الزنا لا يتصور من الرجل إلا بعد انتشاره، وذلك دليل الطواعية، ورد على ذلك بأن الانتشار دليل متردد؛ لأنه قد يكون عن غير قصد؛ لأن الانتشار قد يكون طبعًا لا طوعًا كما في النائم، فأورث شبهة2.
وهذا الرأي الأخير هو ما أميل إليه، وأرجحه إعمالًا لما ذكر من حديث الرسول
صلى الله عليه وسلم برفع جرم الفعل الذي استكره عليه مرتكبه، طالما ليس هذا الفعل قتلًا، أو قطع أحد الأعضاء، أو ضرب مهلك.
1 المغني: ج8 ص186-187، وذكر أستاذي الدكتور مدكور أن الإكراه بالتهديد بالقتل، أو يتر أحد الأعضاء، أو بالضرب الذي يخاف فيه تلك النفس أو
العضو، إكراه تام ويسمى بالإكراه الملجئ، وهو معدم للرضا أيضًا غير أن الاختيار لا يفسد به؛ لأن المكره يستطيع تحمل الأذى المهدد به، المدخل للفقه الإسلامي ص336.
2 فتح القدير: ج5 ص273، والخرشي/ ج8 ص80، والمغني: ج8 ص187، والجامع لأحكام القرآن الكريم: ج5 ص3799.
وبالنسبة لشرب الخمر، فالفقهاء قد اجتمعوا على أن من أكره على ذلك إكراهًا ملجئًا لا عقوبة عليه، وإن كانوا قد اختلفوا على كون الفعل مباحًا للمكره، أو غير مباح1.
والقوانين الوضعية، وإن نصت على أنه لا عقاب على من ارتكبه جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة، وقاية نفسه، أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به، أو بغيره ولم يكن بإرادته دخل في حلوله، ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى.
فهي وإن نصت على هذا إلا أنها لم تعتبر الإكراه سببًا من أسباب الإباحة، كما ترى الشريعة الإسلامية، وإنما عدته فقط سببًا من أسباب موانع المسئولية2.
1 بدائع الصنائع ج7 ص176: والمغني ج8 ص307-308: والخرشي ج8 ص109، والمحلى: ج13 ص429، ومواهب الجليل: ج5 ص318، والإباحة عند الأصوليين ص390.
2 الأسس العامة لقانون العقوبات: ص573، قانون العقوبات الأستاذ الدكتور نجيب حسني ص578-582، والأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور: ص524-525، الإباحة عند الأصوليين والفقهاء لأستاذي الدكتور سلام مدكور ص391.
الفصل الثالث: الإثبات
مدخل
…
الفصل الثالث: الإثبات
تمهيد:
مرت البشرية عبر تاريخها بمراحل متعددة، اختلفت نظم الإثبات فيها تبعًا لاختلاف البيئة الاجتماعية، التي تحكم سير حياة الفرد والمجتمع.
ثم أنزل الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم الشريعة الإسلامية، فحددت طرق الإثبات وبينت نظمه، وألزمت القاضي بذلك، أو حثته على العدل، وقعد الفقهاء ذلك كله في قواعد فقهية، أكدوا فيها على براءة المتهم حتى يثبت إدانته بالدليل القاطع اليقيني، وعلى الأخص في جرائم الحدود.
وبين فقهاء الشريعة طرق الإثبات بصورة بدأ العالم المعاصر يعرف لها حقها، ويستحث خطى مقننية بغية الوصول إليها، والأخذ بها:
ابتغاء إحقاق الحق، وطلبا لإقرار العدل، ويراد بالإثبات عند اللغويين:
إقامة الحجة الواضحة والبينة القوية، والبرهان الساطع ووضوح الحق، واستجلاء الدليل1، ويراد بالإثبات إقامة الدليل الشرعي أمام القاضي في مجلس قضائه على حق، أو واقعة من الوقائع، ويطلق الإثبات على الوسائل التي تؤدي إلى الكشف عن الحقيقة، والتي يؤسس
1 جاء في لسان العرب ج8 ص323-324 "ط الدار المصرية للتأليف والترجمة مادة "ثبت" أن أثبت مصدره إثبات، وأثبت حجته: أقامها وأوضحها. وقول ثابت أي صحيح، والثبت بالتحريك: الحجة والبينة وثابتة وأثبته: عرفه حق المعرفة.
ويراجع المنجد مادة "ثبت".
القاضي حكمه عليها، ومن هذه الوسائل الإقرار، والشهادة وغيرهما من كتابه وقرائن ومعانيه، وخبره وما إلى ذلك.
ويطلق الإثبات أيضًا على النتيجة التي تم التوصل إليها عن طريق الوسائل المذكورة، سواء أكانت مجتمعة، أو عن طريق بعضها فقط.
والنتيجة التي يتم التوصل إليها عن طريق وسائل الإثبات، هي ركيزة القاضي فيما يحكم به من وقوع الجريمة، أو عدم وقوعها، ومن أن من أقيمت عليه الدعوى هو الجاني أم أنه بريء، وإن كان هو الجاني فما مدى قصده الجنائي؟. وهل اكتملت أركان الجريمة أم لا؟ وهل له عذرًا أو شبهة يعتد بها في دفع العقوبة عنه، وما مدى حظه من أسباب الإباحة، أو موانع المسئولية إلى آخر ذلك مما يقف عليه القاضي، ويعرفه معرفة دقيقة حتى يكون حكمه للواقعة عادلًا لا جور فيه، ولا تقصير1.
ومما هو معروف أن الشريعة الإسلامية قد حددت طرق الإثبات في الجرائم الحدية، وألزمت القاضي هذه الطرق.
كما أنها قد أباحت للقاضي حرية الاقتناع في حكمه للجرائم التعزيرية، ولا تكاد تخرج نظم الإثبات عند القانونيين عن ذلك2.
1 الإثبات في المواد الجنائية للأستاذ الدكتور محمود مصطفى ج1 ص3 "ط أولى سنة 1978".
2 نظم الإثبات التي يعرفها القانون هي: نظام الإثبات القانوني، أو المقيد بمعنى أن القانون قد حدد الأدلة التي يمكن الإستناد إليها في الحكم ثانيًا: نظام الإثبات المعنوي أو المطلق، بمعنى أن القانون يبيح للقاضي في أن يقتنع بأي دليل يمكنه أن يبني عليه عقيدته، ولا سلطان عليه في ذلك إلا ضميره.
ثالثًا: النظام المختلط: هو وسط بين النظامين، أو يجمع بينهما. المرجع السابق ص7-11، ويراجع الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص3 وما بعدها، ص282 وما بعدها، المدخل للفقه الإسلامي ص736 وما بعدها.
ونظرًا؛ لأن هذا البحث يتناول الجرائم الحدية، والشبهات التي تعتري أحد أركان جريمة من هذه الجرائم أو دليل إثباتها، كان لزامًا أن يقتصر الحديث هنا على طرق الإثبات التي يمكن على أساسها الحكم بالعقوبة الحدية، وبيان ما يعتري كل طريق منها من شبهات يترتب عليها درء العقوبة الحدية، سواء أنتج ذلك تبرئة المتهم، أو إلزامه بعقوبة تعزيرية تختلف، وعقوبة الجريمة التي لم يكتمل إثباتها عليه نظرًا لقصور في هذه الإثبات، أو لما لحقت به من شبهات.
وطرق الإثبات التي سيعرض البحث لها البيان هي:
أولًا: الإقرار وما يعتريه من شبهات تدفع الأخذ به في إثبات الجناية الحدية على المقر.
ثانيًا: الشهادة، وما يعتريها من شبهات تدفع الأخذ بها، وتنتج إسقاط العقوبة الحدية عن المدعى عليه، بل ويترتب على ذلك أحيانًا إلزام الشهود العقوبة الحدية، أو غيرها من العقوبات التعزيرية.
ثالثًا: القرائن، من حيث الاعتداد بها كدليل مستقل يمكن على أساسه إلزام المدعى عليه العقوبة الحدية، أم عدها من الأدلة المصاحبة، التي لا يتم عن طريقها وحدها الإلزام بالعقوبة الحدية.
وسيكون الحديث عن كل طريق من طرق الإثبات حديثا عامًا يتناول ما يشترط فيه كدليل إثبات، ثم أذكر ما يجب أن يتوافر فيه من الشروط الخاصة، بإثبات بعض الجرائم الحدية عند الحديث عن كل جريمة من هذه الجرائم.
المبحث الأول: الإقرار
مدخل
…
المبحث الأول: الإقرار
تعريف الإقرار:
الإقرار في اللغة: الإذعان للحق والاعتراف به، ويطلق أيضًا على الإثبات، فيقال: قر الشيء يقر إقرارًا إذا ثبت1.
وفي اصطلاح الفقهاء: أخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه، أو الاعتراف به2.
حجية الإقرار:
الإقرار من أقوى البيانات، والحجج بشرط إلا تكذبه قرائن أخرى، إذ قد تدفع المقر بعض العوامل والضغوط، ثم مع ذلك قرينة إثبات لا تتعدى المقر، فلا يجوز إلزام شخص عقوبة نيتجة إقرار آخر بأنه شاركه جريمته، وهذا ما جرى عليه القضاء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد روي "أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
1 لسان العرب، القاموس المحيط.
2 البحر الرائق ج7 ص272، فتح القدير ج6 ص276، شرح الجلال المحلى على منهاج الطالبين ج3 ص2 "ط عيسى الحلبي". الجامع لأحكام القرآن الكريم ج3 ص2750، ج4 ص3080.
أنه قد زنى بامرأة سماها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة، فدعاها فسألها عما قال، فأنكرت، فحده وتركها"1.
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى أن الحد في مثل هذا لا يجب على المقر نظرًا؛ لأنه قد كذب من جانب من ادعى مشاركتها له جريمته، ومثل هذا التكذيب يعد شبهة تسقط بها العقوبة الحدية عن المقر.
من هذا يبين أن أثر الإقرار لا يتعدى المقر، ولا يلزم غيره بالعقوبة، وإن كان هناك من يرى إمكان أثر الإقرار إلى الشركاء باعتبار أن الإقرار قرينة، وهؤلاء يرون إمكان الإثبات بالقرائن2، وسيأتي ذلك عند الحديث عن القرائن كوسيلة من وسائل الإثبات.
1 نيل الأوطار ج7 ص79، 119، سبل السلام للصنعاني ج4 ص6 "ط الثانية سنة 1950م".
ج4 ص158، المغني ج8 ص193، الشرح الكبير للمقدسي المتوفى سنة 682هـ ج10 ص192 "مطبوع مع المغني".
2 صحيح البخاري ج7 ص59 ط دار الشعب.
المطلب الأول: شروط في المقر
يشترط في المقر لاعتبار ما أقر به دليل إثبات يعتد به في إلزام المقر ما يترتب على ذلك ما يأتي:
1 البلوغ: فلا عبرة بما أقر الصبي به على نفسه.
2 العقل: فلا يعتد بقول المجنون، أو من في حكمه.
3 اليقظة عند الإقرار: لأن النائم لا أثر لما يردده من حديث.
هذه الشروط الثلاثة لا بد من توافرها في المقر حتى يعتد بإقراره؛ لأن من لم تتوافر فيه هذه الشروط، أو انتقص منه واحد منها لا يصلح ما يصدر عنه دليل إثبات جناية من الجنايات عليه، إذ أن من المعروف عند فقهاء التشريع الإسلامي ما ورد من "أن القلم رفع عن ثلاثة، عن المجنون، حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ"1.
ومما هو معروف أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز مقرًا بجنايته، سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أبك جنون"؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم قد ثبت لديه بلوغ ماعز، وأنه ليس بنائم، لذا سأله عن عقله.
كما روى أنو داود بإسناده قال: "أتى عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسًا، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة آل فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: ارجعوا بها. ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة؟ وذكر له الحديث السابق.
1 القضاء في الإسلام أ. د: سلام مدكور ص80، فتح القدير ج4 ص158، المغني ج8 ص193، الشرح الكبير للمقدسي المتوفى سنة 682هـ ج10 ص192 "مطبوع مع المغني".
قال: بلى قال: فما بال هذه؟ قال: لا شيء قال: فأرسلها. فجعل عمر يكبر"1.
من هذا يبين أن الصبي والمجنون، ومن في حكمهما لا يعتد بقولهم في إثبات الجنايات عليهم، ولا يلزمون بالعقوبة الجنائية نظيرًا ما وقع منهم، وهذا واضح في شأن المجنون مما ذكر من أن عمر أسقط العقوبة بسبب جنون الفاعل وقت ارتكابه فعلته، ومن هذا يبين أيضًا أن من أقر بشيء، وهو واقع تحت تأثير ما يعيبه كأن يكون تحت عملية جراحية، ومن أثر ما أعطي من "البنج" اعترف بارتكابه جريمة ما من الجرائم، فإنه لا يعد اعترافه هذا دليل إثبات جنائي.
إقرار السكران:
السكران هو من ذهب عقله بسبب تعاطيه شيئًا مسكرًا، سواء أكان خمرًا، أو غير ذلك.
وقد جاء في تفسير القرطبي: أن السكران هو من لا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة.
وجاء أيضًا أن حد السكر اختلال العقل، فإذا استقرئ خلط في قراءته، وتكلم بما لا يعرف، استدلالًا بقول الله تعالى:{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 2.
فالسكران إذا: هو من استتر عقله، فغلب على كلامه الهذيان
1 المغني ج8 ص194، المهذب ج2 ص343.
2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2 ص1772-1774.
والسكران يخالف المجنون في أن الأول استتر عقله، ولكنه لم يذهب كالمجنون.
وللفقهاء آراء في الاعتداد بإقرار السكران، ولبيان ذلك يجب التفريق بين حالتي سكره؛ لأنه إما أن يكون معتديًا بسكره، أو يكون غير متعد به.
أولًا: المتعدى بسكره: "وهو من شرب مسكرًا عالمًا لغير ضرورة" يرى فقهاء الأحناف أن إقرار السكران المتعدي بكسرها إقرار صحيح يؤخذ به، إلا في الحدود الخالصة حقا لله تعالى، فمن أقر بقتل، أو بجناية على ما دون النفس من الجنايات التي تستوجب عقوبة القصاص، أو الدية أخذ بإقراره هذا؛ لأن هذه حقوق الآدميين، أما من أقر وهو سكران بجناية من الجنايات المتعلقة بحق من الحقوبق الخاصة لله سبحانه وتعالى كالزنا مثلًا، فإنه لا يؤاخذ بإقراره هذا؛ لأنه سكران؛ ولأن حقوق الله مبنية على المسامحة1.
من هذا يبين أن السكران المتعدي بسكره، إذا أقر بحد خالص لله سبحانه وتعالى، فإنه لا تلزمه العقوبة الحدية بإقراره هذا، أما إذا أقر بحق خالص للآدمي، فإنه يلزم بما أقر به.
ويلزم أيضًا بإقراره إذا أقر بما فيه حق لله سبحانه وتعالى، وحق
1 حاشية ابن عابدين ج4 ص621، كما جاء في الهداية مع فتح القدير ج4 ص771 ط، مصطفى محمد "ولا يحد السكران بإقراره على نفسه لزيادة احتمال الكذب في إقراره، فيحتال لدرئه؛ لأنه خالص حق الله تعالى، بخلاف حد القذف؛ لأن فيه حق العبد، والسكران فيه كالصاحي عقوبته عليه، كما في سائر تصرفاته، البحر الرائق ج5 ص7.
لآدمي، فإذ أقر بأنه قذف فلانا ممن يلزمه بقذفه الحد لزم بعقوبة ما أقر به هذا ما ذهب إليه فقهاء الأحناف، ومن ذهب مذهبهم1.
أما جمهور فقهاء الشافعية، فإنهم يرون أن المتعدي بسكره إقراره صحيح يؤاخذ به في كل ما أقر به من جنايات، سواء وقع الاعتداء فيها على حق الله سبحانه وتعالى أو حق العبد؛ لأن المتعدي بسكره يجب أن يتحمل نتيجة عمله تغليظًا عليه، وجزاء لما أقدم عليه، وهو يعلم أنه سيذهب عقله، فعقوبته بإقراره زجر له، وردع لأمثاله كي يقلعوا عما يذهب نور عقولهم، واختار المازني، وأبو ثور عدم مؤاخذة السكران بإقراره؛ لأنه زائل العقل فأشبه النائم، أو مفقود الإرادة -المكره، وهذا ما ذهب إليه ابن حزم2، وما ذهب إليه جمهور فقهاء الشافعية ومن وافقهم، وإن كان أميل إلى الردع والزجر إلا أن السكران ردعه، وزجره بعقوبته على جريمة الشرب، أما إلزامه بما يقر به، وهو سكران تغليظًا عليه كي يقلع، فهو إلزام له بعقوبة حدية دليل إثبات جريمتها عليه دليل غير مقطوع بصحته لاحتماله البطلان بالقدر الذي يحتمل به الصحة، ودليل إثبات كهذا لا يقام به حد، حتى ولو كان الإقرار من السكران بارتكابه جريمة قذف.
ولا يجوز القول بحده نظرًا؛ لأنه وقع منه قذف وقت إقراره سواء أكان الإقرار صحيحًا أم لا، وذلك؛ لأن العقاب على جريمة الشرب قد روعي فيه جواز وقوع مثل ذلك منه، فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في شارب الخمر: "أنه إذا شرب
1 المراجع السابقة: المغني ج8 ص195.
2 أسنى المطالب مع حاشية الرملي ج3 ص283، 284 "ط أولى المطبعة الميمنية" المهذب ج2 ص77، 343، المغني ج8 ص195 المحلى ج13 ص296.
سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة"1.
إذا، فإن جعل حد الشرب بهذا القدر من الجلد مبني على احتمال الافتراء من السكران، والقذف دخل فيما يصدق عليه لفظ الافتراء، سواء أكان القذف الذي وقع من السكران هو ما جاء في إقراره، أو أنه أقر بقذف وقع منه قبل سكره، وقد جاء يعترف به.
ثانيًا: غير المتعدي بسكره -أو من تغيب عقله بسبب غير مجرم، وهو من تغيب عقله بسب شربه خمرًا دست عليه، فسكر بسب ذلك، أو تغيب عقله بسبب ما تعاطاه علاجًا حدده له طبيب عادل، كما يعطى هو البنج مثلًا أثناء العمليات الجراحية، وما إلى ذلك.
فمن تغيب عقله بسبب يعذر فيه، ولا يعاقب عليه لا يلزمه الحد بإقراره في حالته هذه، سواء أقر بما يجب فيه الحد حقًا لله سبحانه وتعالى خالصًا، أو ما فيه
حق العبد أيضًا، وذلك؛ لأن الإقرار المذكور لا يصلح دليل إثبات في الحدود
لعدم إفادته الدلالة القطعية، وأدلة إثبات الحدود لا بد، وأن تكون أدلة قطعية لا تحتمل شبهة من الشبهات.
4 أن يكون المقر مختارا حرا في إقراره وغير مجبر عليه، أو واقع تحت تأثير، أو تحديد من يقدر على تحقيق ما وعد به من تحديد، فلا يعتد إلا بإقرار من كان مختارًا حرًا؛ لأنه إذا أقر باختياره، وحريته انتفت عنه التهمة، إذا الاختيار مدعاة الصدق، أما لو أكره على إقراره، فأقر دفعا للضرر وخوفًا من التهديد والوعيد،
فإن إقراره في هذه الحالة لا يعتد به، ولا تلزمه به عقوبة حدية، ولا يلحقه به إثم.
1 نيل الأوطار ج7 ص163-165.
وقد ذكر القرطبي إجماع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه أن كفر، وقلبه مطمئن بالإيمان.
وذكر القرطبي ما روي عن ابن مسعود من أنه قال: "ما من كلام يدرء عني سوطين من ذي سلطان، إلا كنت متكلمًا به"1.
كما ورد من عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوعته، أو ضربته، أو وثقته2.
5 انتفاء التهمة عن المقر فيما أقر به على نفسه؛ لأن الإقرار شهادة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 3.
فالقوامة بالقسط والشهادة على النفس تقتضي الأمانة، وعدم الطعن في الذمة -فما دامت الشهادة ترد بالتهمة، فالإقرار أيضًا يرد بها4، فقد يحدث الكذب في الإقرار، بأن يقر الشخص على نفسه
1هذا بالنسبة للإكراه على القول، أما الإكراه على الفعل، فقد ذكر القرطبي أن كلمة الفقهاء لم تتفق على إباحة الفعل بإلاكراه، وأيد الرأي القائل بإباحة الفعل، ثم يبين أن العلماء قد أجمعوا على أن من أكره على قتل غير لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمته بجلد، أو غيره الجامع لأحكام القرآن ج5 3798، 3799.
2 المغني ج8 ص343.
3 يقول القرطبي عند تفسيره للآية 135 من سورة النساء: "قوامين" بناء مبالغة، أي لتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحق عليها -الجامع لأحكام القرآن ج3 ص1980.
4 المحلى ج13ـ س101-103.
بجرائم لم يتركبها لينفي التهمة عن الفاعل الأصلي، وكثيرًا ما يحدث هذا إذا كان الجاني الحقيقي ذا جاه، أو سلطان ومعاقبته على جنايته سيترتب عليها إلحاق الضرر به، أو إضعاف جاهه أو سلطانه، وهو يستنكف هذا، لذا فإنه يسعى جاهدًا بكل الطرق والوسائل، فيغري غيره من ضعاف الناس والنفوس، أو الذين تخضعهم ظروفهم إلى قبول الإقرار على أنفسهم بجرائم ارتكبها الآخرون طمعًا في الجاه، أو المال أو ما إلى ذلك رغبًا أو رهبًا، فيقر هؤلاء بجرائم لم يقترفوها، وجنايات لم يرتكبوها1.
وكم كشفت الأحداث كثيرًا من هذا، ولذا فإن على الذي يحكم الواقعة أن يتحرى الدقة، ويحقق الوقائع، ويعمل جاهدًا لاستظهار الحق.
ومعرفة ما يمكن أن يخرج الحق عن نصابه الحقيقي، فيتجنبه، ويعيد الحق إلى نصابه حتى لا تزر وازرة وزر أخرى.
1 ذكر ابن قيم الجوزية أمثلة لقضايا كثيرة أقر فيها غير الجناية الأصليين بارتكابها لها، ثم وضح الحق، وظهر ما يعارض إقرارهم، الطرق الحكمية ص82، 85.
المطلب الثاني: شروط في الإقرار
يشترط في الإقرار الذي يعتبره الفقهاء دليل إثبات جنائي ما يأتي:
1 أن يكون الإقرار مبينا مفصلًا ظاهرًا لا يحتمل اللبس، أو التأويل دالا دلالة يقينية تفيد القطع بأن من يقر قد ارتكب الجناية التي جاء مقرا بها.
يدل على هذا مراجعة الرسول صلى الله عليه وسلم ماعزًا، فقد سأله الرسول صلى الله عليه وسلم، واستوضح منه حقيقة الفعل الذي وقع منه إلى حد أنه صلى الله عليه وسلم نطق بلفظه ما كان يجب النطق بها، لولا تحريه لدقة، وبيان صحة ما أقر به ماعز1.
مستهدفًا صلى الله عليه وسلم من ذلك أن يكون الإقرار صحيحًا واضحًا لا لبس فيه، ولا احتمال لأمر خفي يمكن أن يكون شبهة تدرء الحد عن المقر.
فلو احتمل الإقرار اللبس، أو التأويل، أو شابه شيء من الغموض أو الخفاء، اعتبر ذلك شبهة قد تدرء الحد عن المقر لوقوفها حائلًا بينه، وبين إلزامه العقوبة الحدية.
وقد بين الفقهاء اشتراط وضوح الإقرار، والاستفسار من المقر عما كان منه، وكيفيته، وزمانه، ومكانه.
فيقول المرغيناني: "فإذا تم إقراره سأله عن الزنا ما هو؟ وكيف هو؟ وأين زنى؟ وبمن زنى؟ "2.
ويقول الشربيني الخطيب عند حديثه عن شروط الإقرار المثبت جريمة السرقة: "إأن يفضل الإقرار كالشهادة، فيبين السرقة والمسروق منه، وقدر المسروق والحرز بتعيين أو وصف، بخلاف ما إذا لم يبين ذلك؛ لأنه قد يظن غير السرقة الموجبة للقطع سرقة موجبة له"3، واشتراط ذلك في الإقرار بالسرقة الموجبة للحد ليس خاصًا بها وحدها
1 سبل السلام للصنعاني ج4 ص7، 8 نيل الأوطار ج7 ص111، 113.
2 الهداية مع فتح القدير ج5 ص215-222، ويراجع المغني ج8 ص193.
3 مغني المحتاج ج4 ص175.
وإنما ينسحب اشتراط ذلك على كل إقرار تثبت به جريمة حدية، ويلزم المقر على أثر إقراره بالعقوبة المحددة من لدن الشارع الحكيم.
من هنا كان قول جمهور الفقهاء بعدم الاعتداد بإقرار الأخرس بإشارته، حتى ولو كانت الإشارة مفهمة؛ لأنها تحتمل الشبهة، ولا يفيد القطع واليقين، إذ هي تحتمل ما فهم منها وغيره، واحتمالها لذلك يجعلها إشارة غير مفيدة اليقين، وإقرار كهذا لا يعد دليل إثبات جناية حدية لاحتماله الشبهة التي يندرئ بها الحد.
يقول ابن قدامة: "وأما الأخرس، فإن لم تفهم إشارته، فلا يتصور منه إقرار، وإن فهمت إشارته، فقال القاضي: عليه الحد وهو قول الشافعي، وابن القاسم صاحب مالك، وأبي ثور وابن المنذر؛ لأن من صح إقراره بغير الزنا صح إقراره به كالنطق، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحد بإقرار ولا بينة؛ لأن الإشارة تحتمل ما فهم منها وغيره، فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات، ولا يجب بالبينة لاحتماله أن يكون له شبهة لا يمكنه التعبير عنها، ولا يعرف كونها شبهة، ويحتمل كلام الخرقي أن لا يجب الحد بإقراره؛ لأنه غير صحيح؛ ولأن الحد لا يجب مع الشبهة، والإشارة لا تنتفي معها الشبهات"1.
هذا ما قال به جمهور الفقهاء الذين يرون عدم الاعتداد بإقرار الأخرس في إثبات الجرائم الحدية.
أما من قالوا بالاعتداد به أن أفهم قياسًا منهم على أنه ثبت به غير الزنا، فكلمة غير هنا عامة، ويجوز أن يقصد بها أنه يثبت به بعض الجنايات غير الحدية، وحتى لو جاز أنهم يقصرون بغير لازنا بعض الجنايات الحدية الأخرى، فإنها لو ثبت بإشارة الأخرس لما لزم بهذا
1 المغني ج8 ص196، المبسوط ج9 ص98.
الجنايات الحدية الأخرى، فإنها لو ثبت بإشارة الأخرس لما لزم بهذا الإثبات الحد لاحتمال الشهبة، وهؤلاء الفقهاء الذين ذكر ابن قدامة أنهم يعتدون بإشارة الأخرس المفهم، قد ورد عنهم القوم بدرء الحدود بالشبهات، وإشارة الأخرس لا تخلو عن شبهة.
هذا وإن كنت أميل إلى أن الأخرس لو كان يحسن الكتابة، والقراءة فكتب إقراره، ثم راجعه القاضي عن طريق الكتابة، واستفسر منه عن كل ما يمكن الاستفسار عنه، فأجاب الأخرس كتابة عن كل ذلك، وكانت إجاباته واضحة مفيدة ارتكابه الجناية الحدية إفادة واضحة، وصلت بالقاضي إلى حد اليقين، فإنه والحالة هذه تلزمه العقوبة الحدية بإقراره بهذه الصورة.
أما إذا لم يكن الأخرس يعرف الكتابة، فإنه لا يمكن أن تفيد إشارته الإقرار القاطع الذي يثبت به الحد؛ لأنها إشارة لا تفيد اليقين، وتبقى الشبهة عالقة بها، وعليه فإن الحد يندرئ عنه، ولا يلزمه.
2 ألا يوجد ما يعارض صحة الإقرار أو يثبت نفيه؛ لأن وجود ما يعارض صحة الإقرار ينفي عن الإقرار صفة القطعية، ويلحق به شبهة، ومثل هذا لا يصلح دليل إثبات جنايته من الجنايات الحدية، فمن يقر بأنه سرق ذهبًا مثلًا من خزينة فلان الموجودة بمكان كذا، فأرسل القاضي يطلب صاحب الخزينة الذي حدده السارق في إقراره، فجاء الرجل وذكر بأنه ليست له خزينة في المكان الذي ذكر المقر، وظهر أن المكان لا يوجد فيه ما يسرق منه، أو ثبت أن الخزينة التي حددها المقر لم تفتح، ولم يسرق منها شيء، فإن مثل هذا الإقرار لا يعتد به، ولا يلزم المقر بمقتضاه العقوبة الحدية.
ومثل هذا أيضًا من يقر بأنه قتل فلانًا، فإذا بالذي زعم المقر أنه قتله حي يرزق، أو كان هذا الذي زعم المقر بأنه قتله موجودًا بمكان
لا يمكن أن يصل إليه فيه المقر، أو كان الشخص الذي زعم المقر بأنه قتله بالأمس قد مات منذ فترة بعيدة، أو أقر بأنه قد ذبحه بسكين، فإذ به قد مات موتًا طبيعيًا، وكان أهله بجواره، وهو يعالج سكرات الموت.
وكما لو أقر بأنه زنى بفلانة، وظهرت رتقاء، أو ظهر أنه مجبوب، فالإقرار في كل هذا وقد وجد ما يعارضه، وينفي عنه صفة القطعية التي هي شرط للاعتداد به، والحكم بمقتضاه.
وقد بين هذا ما ذكره ابن نجيم عند الحديث عن شروط الإقرار الذي يعتد به في إثبات الجنايات الحدية، فقال:"أن لا يظهر كذبه في إقراره، فلو أقر فظهر مجبوبًا، أو أقرت فظهرت رتقاء، وذلك بأنه تخبر النساء بأنها رتقاء قبل الحد اندرء الحد، وذلك؛ لأن إخبارهن بالرتق يوجد شبهة"1.
فوجود الشبهة في الإقرار أو وجود ما يعارضه أولى بالاعتداد به من الإقرار نفسه؛ لأن الأصل براءة الذمة، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل ثابت يقيني لا يوجد ما يعارضه، أو يوهن منه2.
3 يجب أن ييستمر الإقرار قائمًا من المقر بالصورة التي تفيد اليقين، وتبقى ثبوت الإقرار حتى يتم تنفيذ العقوبة الحدية.
1 البحر الرائق ج5 ص7، كما جاء في المبسوط ج9 ص98 "ط بيروت"، وإن أقر المجبوب بالزنا لا يحد؛ لأنا نتيقن بكذبه، فالمجبوب ليس معه آلة الزنا، والمتيقن بكذبه أكثر تأثيرًا من رجوعه عن الإقرار.
2 الأشباه والنظائر للسيوطي ص59، الطرق الحكمية لابن قيم ص82-83.
فإذا رجع المقر عن إقراره، أو نتفت عن الإقرار صفة القطعية قبل تنفيذ العقوبة الحدية، أو أثناء تنفيذها، فإن جمهور الفقهاء يرى إسقاط العقوبة الحدية، أو ما بقي منها، إذا لم يكن هناك دليل إثبات لهذه الواقعة غير إقرار المقر، وكان الاعتداء قد وقع على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى.
سواء أكان رجوع المقر عن إقراره رجوعا صريحا، أم كان رجوعا ضمنيا، وإن كان الرجوع الضمني يحتاج إلى استيضاح واستفسار.
هذا إجمال لوجهة نظر الفقهاء في رجوع المقر تحتاج إلى شيء من التفصيل والبيان أورده فيما يأتي:
الرجوع عن الإقرار:
الرجوع عن الإقرار إما أن يكون صريحا أو غير صريح، فالرجوع الصريح يتحقق بقول المقر: كذبت في إقراري، أو رجعت عنه، أو لم أفعل ما أقررت به.
والمقر الذي رجع في إقراره إما أن يكون قد أقر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي تدرء بالشبهات، وأما أن يكون قد أقر بحق من حقوق العباد، أو بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي لا تسقط بالشبهات، كالزكاة والكفارات، فإن كان قد أقر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي تدرء بالشبهات، فإن جمهور الفقهاء يرون إسقاط الحد عنه برجوعه عن إقراره بما يوجبه.
واستدلوا لذلك بما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقن المقر بالسرقة الرجوع عن إقراره، وذلك حين أتى -صلى الله عليه
وسلم- بلص، فاعتراف اعترافًا ولم يوجد معه المتاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أخالك سرقت"؟.
فلو لم يكن لرجوع المقر عن إقراره أثر في إسقاط الحد عنه لما لقنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك1.
كما استدل الجمهور: لما ذهبوا إليه أيضًا بما روي عن أن ماعزا لما وجد مس الحجارة صرخ، وقال: يا قوم ردوني إلى رسول الله -صل الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني، وغروني من نفسي، وفي رواية أخرى أنه فر، فتبعه المسلمون ولم يتركوه حتى قتل، فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه قال:"فهلا تركتموه، وجئتموني به".
يقول الشوكاني: "استدل به على أنه يقبل من المقر الرجوع عن الإقرار، ويسقط عنه الحد، وإلى ذلك ذهب أحمد والشافعية، والحنفية والعترة، وهو مروي عن مالك في قول له2.
1 يقول الشوكاني عن هذا الحديث: قال الحافظ في بلوغ المرام: رجاله ثقات ثم يقول: وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة، منها عن أبي الدرداء: أنه أتي بجارية سرقت، فقال لها: أسرقت؟ قولي: لا، فخلى سبيلها، وعن عطاء عن عبد الرازق أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قل: لا وسمى أبا بكر وعمر، وأخرج أيضًا عن عمر بن الخطاب أتي برجل، فسأله: قل: لا، فقال: لا، فتركه.
وعن أبي هريرة عند أبي شيبة أن أبا هريرة أتي بسارق، فقال: أسرقت؟ قل: لا مرتين أو ثلاثًا، وعن أبي مسعود الأنصاري في جامع سفيان أن امرأة سرقت جملًا فقال: أسرقت؟ قولي: لا.. وفي ذلك دليل على أنه يستحب تلقين ما يسقط الحد، نيل الأوطار ج7 ص150-151.
2 المراجع السابق ص114-116.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، بالنسبة لمن أقر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، ثم رجع عن إقراره في حالة ما إذا كان الحق يسقط بالشبهة، أما من أقر بحق من حقوق العباد، أو بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي لا تسقط، بالشبهة ثم رجع في إقراره، فإنه لا أثر لرجوعه هذا، ويلزم بما أقر به، نظرًا؛ لأنه قد ألزم نفسه بحق للغير الذي يمكن أن يكذبه في رجوعه، ويطالب بحقه؛ ولأن حقوق العباد مبنية على المشاحة، وما دام قد ثبت له فلا يمكن إسقاطه بغير رضاه، هذا ما ذهب إليه الجمهور، وإن كان هناك من الفقهاء من لا يعتد بالرجوع مطلقًا، سواء أقر بحق الله تعالى أم بحق للعبد، وهؤلاء قد قاسوا عدم إسقاط حق الله بالرجوع عن الإقرار بحق العبد في ذلك، وقد أورد ابن نجيم رأي الجمهور في قوله:"فإن رجع عن إقراره قبل الحد، أو في وسطه خلى سبيله؛ لأن الرجوع خبر محتمل للصدق كالإقرار، وليس أحد يكذبه فيه فتحقق الشبهة بالإقرار، بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص، وحد القذف لوجود من يكذبه، ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع"1، كما ذكر الشيرازي: أن من أقر بحق لآدمي، أو بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة، ثم رجع في إقراره لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره، فلم يملك إسقاطه بغير رضاه، وإن أقره بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظرت، فإن كان حد الزنا، أو حد الشرب قبل رجوعه2، والإمام مالك -رضي الله تعالى عنه، وإن قال بسقوط الحد الذي وجب حقا لله سبحانه وتعالى بإقرار المقر على نفسه إذا رجع عن اقراره، إلا أنه قد ورد عنه في إحدى الروايات اشتراط أن يرجع المقر عن إقراره لوجود شبهة، أما لو رجع عن إقراره لغيره شبهة، فلا يعتد برجوعه هذا، ويلزم الحد الواجب حقًا لله تعالى3.
1 البحر الرائق ج5 ص8 فتح القدير ج5 ص223.
2 المهذب ج2 ص352 مغني المحتاج ج4 ص150.
3 يقول ابن رشد القرطبي مبينا ذلك: وفصل مالك، فقال: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه: وأما إن رجع إلى غير شبهة، فعنه في ذلك روايتان إحداهما يقبل، وهي الرواية المشهور والثانية لا يقبل رجوعه بداية المجتهد ج2 ص474، والموطأ ص245، وقد ذكر الدردير أن المقر بالسرقة أو الزاني، أو الشارب، أو المحارب إذا رجع عن إقراره قبل رجوعه سواء أكان رجوعه لشبهة أم لا، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ج4 ص355.
وقد ذكر الشوكاني أن ابن أبي ليلى، والبتي وأبو ثور، ورواية عن مالك، وقول الشافعي أنه لا يقبل الرجوع عن الإقرار بعد كماله، سواء أكان الحد الذي وجب بالإقرار حقا لله تعالى، أم كان حقًا للآدمي قياسًا لحق الله سبحانه وتعالى بحقوق الآدميين التي لا يسقط برجوع المقر عن إقراره بها، وثبوتها عليه1.
وذهب فقهاء الشيعة الجعفرية إلى أن رجوع المقر عن إقراره، لا يترتب عليه إسقاط حد من الحدود التي وجبت عليه بإقراره، إلا في حالة ما إذا كان الحد الواجب بالإقرار هو الرجم، فإن المقر إذا رجع عن إقراره هذا سقط عنه الرجم، وألزم عقوبة الجلد الحدية بدل الرجم.
فالرجوع عن الإقرار لا أثر له عندهم، إلا في هذا فقط بالنسبة للعقوبات الحدية.
فقد ذكر أبو القاسم الموسوي أنه: لو أقر شخص بما يوجب
1 نيل الأوطار ج7 ص116، ويراجع المهذب ج2 ص352، مغني المحتاج ج4 ص150.
رجمه، ثم جحد سقط عنه الرجم دون الحد، ولو أقر بها يوجب الحد غير الرجم، ثم أنكر لم يسقط1.
وقول أبي القاسم الموسوي محل نظر؛ لأنه قد ذكر عند حديثه، عن ثبوت الحد بشهادة الشهود: أن الحد إذا ثبت بشهادة الشهود، ثم رجعوا قبل الحكم، أو قبل استيفاء الحد لم يقم الحد؛ لأن رجوع الشاهد يحقق الشبهة، والحدود تدرء بالشبهات.
فإذا كان رجوع الشاهد تنتج عنه شبهة تدرء الحد، فكيف برجوع المقر؟ لا شك أن رجوع المقر أولى بإنتاج الشبهة من رجوع الشاهد؛ لأن الشاهد يرجع نتيجة مساومته على ذلك، ورجوع المقر قد يكون ناتجًا عن اكتشافه حقيقة فعله الذي ارتكبه، ومعرفته أن هذا الفعل لا تقوم به الجريمة التي أقر بها، وليس هناك مبرر لاعبتار الشبهة برجوع الشهود، ونفي قيامها برجوع المقر.
هذه مقالة الفقهاء في رجوع المقر عن إقراره رجوعًا صريحًا.
أما لو كان الرجوع عن الإقرار غير صريح كهروب الذي يقام عليه الحد مثلًا، فإن جمهور الفقهاء يرى أن هذا الهروب يعتبر رجوعًا عن الإقرار، ويترتب عليه إسقاط العقوبة الحدية -هذا ما ذهب إليه فقهاء الأحناف، والمالكية والحنابلة.
1 واستدل لذلك بما روي عن صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله -رضي الله تعالى عنه- في رجل أقر على نفسه عند الإمام أنه سرق في جحد قطعت يده. وإن رغم أنفه، وإن أقر على نفسه أنه شرب خمرًا، أو بقرية فاجلدوه ثمانين جلدة، قلت: فإن أقر على نفسه بحد يجب فيه الرجم، أكنت راجمًا؟ فقال: لا ولكن كنت ضاربه الحد، مباني تكملة المنهاج ج1 ص176.
مستدلين بما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن تتبع ماعزًا عند هروبه: "هلا تركتموه".
فالأئمة الثلاثة يعتبرون أن مجرد الهروب عند التنفيذ دليل رجوع المقر عن إقراره، وبذا يسقط عنه الحد دون حاجة إلى التصريح بالرجوع1.
أما جمهور فقهاء الشافعية، فإنهم يرون أن هروب المقر أثناء إقامة الحد عليه لا تعتبر رجوعًا إذا صرح بذلك.
وعليه فإن الهروب يقتضي أن يوقف تنفيذ الحد، أو إتمامه حتى يسأل الهارب، ويستفسر منه عن سبب هروبه، فإن صرح بالرجوع عن الإقرار قبل رجوعه، وسقط عنه الحد، أو ما بقي منه، وإن لم يصرح بالرجوع ألزم الحد أو ما بقي منه، واستدل فقهاء الشافعية لما ذهبوا إليه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلزم من تتبع ماعزا حتى قتله الدية.
إذ لو كان الهروب وحده كافيًا في إسقاط الحد من غير تصريح بالرجوع لكان هؤلاء قد قتلوا، وعليه يلزمون دية من قتلوه.
وقيام شبهة وجوب الحد عليه، وهي التي درءت عنهم القصاص، ولكنها لا تدرء
الدية2.
1 تبين الحقائق ج3 ص167، بدائع الصنائع ج7 ص61، 232، شرح الزرقاني ج8 ص81، 107، بداية المجتهد ج2 ص474 المغني ج8 ص197.
2 أسنى المطالب ج4 ص132، وذكر الشيرازي، أن من وجد ألم الحد فهرب فالأولى أن يخلى؛ لأنه ومما رجع عن الإقرار، فيسقط عنه الحد المهذب ج2 ص345، نيل الأوطار ج7 ص116.
وما ذهب إليه جمهور فقهاء الشافعية، من أن هروب المقر عند تنفيذ الحد من غير تصريح بالرجوع عن الإقرار، لا يعد شبهة مسقطة للعقوبة الحدية هو الرأي الذي يناسب مقام إنزال العقوبة الحدية بالجاني، نظرًا؛ لأن هذه العقوبة من أشق العقوبات، وأشدها إيلامًا بالبدن، والنفس، وقد يحاول الجاني الذي يقام عليه الحد التخلص من آلامه الجسدية بصورة، أو بأخرى دون ما شعور، ومن غير قصد الرجوع عن الإقرار.
ومن هنا كان لا بد من أن يستفسر ممن هرب عند تنفيذ العقوبة الحدية عليه، ويسأل عن قصده وسبب هروبه، فإن صرح بالرجوع عن إقراره قبل منه، واعتبر ذلك شبهة تنتج إسقاط العقوبة الحدية عنه، وإن لم يصرح بالرجوع ألزم الحد طالمال لم يوجد ما يعول عليه في إسقاطه.
هذه هي مقالة الفقهاء في الاعتداد برجوع المقر عن إقراره، واعتباره شبهة تسقط العقوبة الحدية، وهو ما ذهب إليه جمهورهم، أو عدم اعتباره شبهة، وإعمال الإقرار الذي كان منه، وإلزامه العقوبة الحدية، وعدم الالتفات إلى ما كان من رجوعه عن إقراره، سواء أكان قد أقر بحق الله سبحانه وتعالى، أو بحق العبد.
والرأي ما ذهب إليه الجمهور، أما ما ذهب إليه غير الجمهور من عدم الاعتداد برجوع المقر، فهو مجانب لما تقتضيه طبيعة التقنينات الحدية، وما سبق عرضه، والاستدلال عليه من درء الحد بالشبهة.
ولقد ساق هؤلاء أدلة على ما ذهبوا إليه، وهي أدلة لا يقوم بها دليل على قضيتهم، لما يأتي:
أولًا: استدل المانعون اعتبار الرجوع شبهة تدرء الحد، بما كان من شأن من تتبعوا ماعزا حتى قتلوه، ولم يلزمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته، أو عقوبة ما من العقوبات.
وليس في هذا دليل لهم على قضيتهم؛ لأنه ما كان من ماعز ما هو إلا رجوع ضمني، وليس رجوعًا صريحًا.
فمن تتبع ماعزا لم يتتبعه لعدم قبول رجوعه عن إقراره، وإنما تتبعه؛ لأنه لم يصرح برجوعه، إذ لم يرجع ماعزا رجوعًا صريحًا، كل ما هنالك أنه لما وجد مس الحجارة هرب، وقد فهم من تتبعواه أنه فر من الحد، لا أنه رجع عن إقراره، ولو سلمنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلزم أصحاب ماعز بديته، فذلكح مبني على أساس ما كان لهؤلاء من شبهة عدم الرجوع الصريح لجواز أنهم فهموا أن الهروب ناتج عن الآلام، ومس الحجارة، وبناء عليه تتبعوه، ومما لا يخفى أن مثل هذا يترتب عليه شبهة، وشك في القصد الجنائي، والشك فسر لصالح المتهم كما أنه يجوز أنه ورثة ماعز -أن كان له ورثة- قد استنكفوا أخذ ديته، سواء من الذين تتبعوه، أو من بيت مال المسلمين.
أو أن ماعزا لم يكن له ورثة، وفي مثل هذه الحالة تجب ديته لبيت المال، فإذا كان من تتبعوه هم الذين سيتحملون الدية، فإنه من حق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم منها، فيجوز أنه عليه الصلاة والسلام قد عفاهم منها.
وإن كان بيت المال هو الذي سيتحملها، فما الفائدة أن يدفع بيت المال لبيت المال.
وفوق هذا كله يمكن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قضى بشيء من شأن دية ماعز، ونظر؛ لأن المقام لم يتطلب الحديث عن الدية، فإن الرواة لم يتعرضوا لذكر شيء عنها لانشغالهم بما هو أهم من جوانب قضية ماعز.
ثانيًا: قاس مانعوا اعتبار الرجوع عن الإقرار شبهة يسقط بها الحد الواجب حقا لله سبحانه وتعالى، ما يجب حقًا لله تعالى بما يجب حقا للأفراد مما لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به، وقالوا:
أن حق الله سبحانه وتعالى كسائر الحقوق التي نجب بالإقرار، فلا يقبل الرجوع عن الإقرار به، كما لا يقبل الرجوع عن الإقرار بها، وعليه فلا تعتبر الرجوع شبهة يندرئ بها الحد الواجب حقا لله سبحانه وتعالى، وقياسهم حقوق الله سبحانه وتعالى بحقوق العباد في ذلك قياس غير منضبط لعدم اتحاد العلة في كل: إذ أن حقوق الله سبحانه مبنية على المسامحة، أما حقوق العباد
فالأصل فيها المشاحة والمنع، كما أن القياس ما هو إلا استنباط حكم بإعمال العقل بشروط معينة، وإعمال العقل حتى مع هذه الشروط المعينة يحتمل الخطأ، فالقياس يفيد غلبة الظن، ولا يفيد اليقين1، ومثل هذا لا يجوز إعماله في استنباط حكم من أحكام الحدود، من هذا يبين رجحان القول باعتبار الرجوع عن الإقرار شبهة تندرئ بها الحد الواجب حقًا لله سبحانه وتعالى.
وهو يتفق ومبادئ الشريعة التي تحض على ستر المؤمن إذا وجدت له مندوحة، وتؤكد على براءة المدعى عليه طالما أم دليل إدانته، وخصوصًا في الإدانة بالجرائم الحدية دليل غير قطعي تعتريه الشبهات.
4 ذهب القاضي ابن أبي ليلى2 إلى اشتراط أن يكون الإقرار الذي تثبت به الجريمة الحية، عقب وقوع الجريمة، بحيث لا يفصل بينه وبينها مدة تعد تقادمًا، فإن وقع الإقرار من الجاني بعد
1 أصول الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص146، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج4 ص54.
2 القاضي ابن أبي ليلى، هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى من الفقهاء الذين يميلون إلى إعمال الرأي، ولي القضاء بالكوفة للأمويين، ثم للعباسيين طوال فترة 23 سنة، ولد عام 74هـ، وتوفي عام 148هـ.
وفيات الأعيان ج1 ص453 "ط المطبعة الميمنية بمصر سنة 1310 هـ".
ارتكابه الجريمة بمدة يعتبرها تقادمًا، فلا يعد هذا الإقرار مثبتًا لجريمة من الجرائم الحدية، التي وقع الاعتداء على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى.
ومبنى ذلك عنده أن الهدف الأساسي للعقوبة الحدية هو الردع، والزجر لكل من المجتمع والجاني، ولا يتحقق هذا الهدف في رأيه إلا إذا وقعت العقوبة بعد الجناية مباشرة، كما أنه يرى أن الجاني الذي جاء مقرا بجنايته بعد مضي فترة تعد تقادمًا على ارتكابه لها، لا شك أنه قد جاء بدافع من ضميره، ووازع من دينه بعد أن تاب وأناب.
وذهب الإمام أبو حنيفة، ووافقه أبو يوسف إلى أن تأخير الإقرار بجريمة الشرب يدفع الأخذ به، لا يعد عندهما دليل إثبات جريمة شرب، فلا يقيمان به حدها.
أما الإمام مالك، والإمام الشافعي والإمام أحمد، ومحمد بن الحسن، فإنهم يرون أن الإقرار بالجرائم الحدية المتقادمة يلزم به الحد، ولا يطعن في صحة كون الجاني قد تأخر في الإدلاء به.
وقد حكى ابن الهمام آراء الفقهاء هذه في قوله: "والحاصل أن في الشهادة بالحدود القديمة، والإقرار بها أربعة مذاهب:
الأول: رد الشهادة بها، وقبول الإقرار بما سوى الشرب، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف.
والثاني: ردها وقبول الإقرار بالشرب القديم كالزنا والسرقة، وهو قول ابن الحسن.
الثالث: قبولهما، وهو قول الشافعي، ومالك، وأحمد.
والرابع: ردهما، نقل عن ابن أبي ليلى1.
1 فتح القدير ج5 ص279، البحر الرائق ج5 ص22.
وما استدل به ابن أبي ليلى لا تقوم به حجة على رد الإقرار المتأخر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، التي يلزم الحد بالاعتداء عليه؛ لأن الردع والزجر لا ينقص منهما أن يكونا بعد حدوث الجريمة بمدة تعد تقادمًا؛ لأن زجر الجاني يتحقق بإقامة الحد عليه سواء أكان عقب وقوع الجريمة، أم بعدها بمدة طويلة، كما أن المجتمع يتحقق ردعه بأن يرى العقوبة الحدية تقام، ولا ينفي هذا الردع كون الجريمة المعاقب عليها جريمة قديمة؛ لأن المقول بانتفاء الردع هنا، وإسقاط العقوبة بمقتضاه يفتح الباب أمام المجرمين، فيرتكبون جرائمهم، ثم يهربون فإذا انتقضت مدة تعد تقادمًا عادوا، وهم آمنون من العقوبة الحدية طبقًا لقول ابن أبي ليلى؛ لأن الردع والزجر لا يتحققان كما يرى لكونهما عقوبة على جريمة قديمة.
ولا يخفى ما ذكر من خلاف بين الفقهاء في مسألة الردع، والزجر هذه، إذ أن الظاهرية لا يولون حدوث هذا اعتبار ما في الحد، وإيجابه إذ هم لا يبحثون عن تعليل، أو أهداف للعقوبة الحدية1.
كما أن ما ذكره ابن أبي ليلى من حديث عن توبة من جاء مقرًا بجريمة قديمة، وأثر هذه التوبة، وصحوة الضمير إذ أنهما لا يعدان من ضمن أسباب إسقاط العقوبة الحدية، أو شبهة من الشبهات التي يندرئ بها الحد إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزم الغامدية الحد، وهي التي تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، كما أخبر بهذا
المغني ج8 ص207، ويراجع التقادم، وأثره في الدعوى، والعقوبة لأستاذي الدكتور سلام مدكور، منشور بمجلة العدل بالإمارت عدد يناير سنة 1980.
1 المحلى ج13 ص89.
الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى أن إقامة الحد على الغامدية قد جاء بعد فوات مدة طويلة هي مدة حملها، وإرضاعها1.
وهي مدة تعد تقادمًا طبقا لما ذكره فقهاء الأحناف الذي ذهبوا مذهب ثلاثة في هنا.
الأول: ويقول به الإمام أبو حنيفة، ونقله عنه أو يوسف في قوله: عهدنا بأبي حنيفة أن يقدر لنا فلم يفعل، وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر، فما يراه بعد مجانبة الهوى تفريطًا تقادما، وما لا يعد تفريط، وأحوال الناس والعرف تختلف في ذلك.
الثاني: ويقول به محمد بن الحسن أن المدة التي تعد تأخيرًا هي شهر؛ لأن ما دون الشهر يعتبر عاجلًا، وما بعده لا يعتبر كذلك.
وقد ذكر ابن الهمام حين قال: وعن محمد أنه قدره بشهر؛ لأن ما دونه عاجل
…
قال أبو حنيفة: لو سأل القاضي الشهود متى زنى بها، فقالوا: منذ أقل من شهر أقيم الحد، وإن قالوا: شهر أو أكثر، درئ عنه.
الثالث: يعتبر أن مدة التقادم ستة أشهر؛ لأنه لا تسمع شهادة الشهود بعد حين، وفسر الحين بأنه ستة أشهر2.
وتقدير التقادم طبقًا لما يراه القاضي رأي منطقي إذ أن الأحوال تختلف من جناية لأخرى، ومن بلد لآخر
…
فما يراه قوم تقادما قد لا يراه آخرون، بالإضافة إلى أن الجرائم قد تتفشى في وقت ما، أو مكان ما، الأمر الذي يتقضي أن يوضع من النظم، والتقديرات ما يكفل
1 نيل الأوطار ج7 ص123.
2 فتح القدير ج5 ص282، 303، البحر الرائق ج5 ص22.
القضاء على كل ما يؤذي المجتمع ويوقع الضرر به، ويشعر معه الجاني أنه معاقب على جريمته مهما بلغ من التحايل.
ولا يعقل ما يرى تقادمًا في جناية الخمر عند البعض من زوال رائحتها من فم الشرب، حتى ولو ثبتت بالشهادة، لا شك أن القول بهذا يفتح باب الغواية إذ أن هذه الجريمة تفتح أبواب ارتكاب الجرائم الأخرى، وإسقاط عقوبتها بزوال رائحة الخمر من فم الشارب قبل إقراره، أو إقامة البينة عليه يوقع في خطر، ويلحق بالمجتمع أضرار لا تحد عواقبها، ولا يخفى ما ذكره أبو حنيفة عند تفويضه لرأي القاضي في ذلك، بأن جعل ذلك مشروطًا بمجانبة الهوى، وهو شرط جوهري للفصل في ما يعد تقادمًا، هذه شروط الإقرار إجمالًا وبصفة عامة عند فقهاء الشريعة الإسلامية، أتبعها بمقال رجال القانون في الإقرار وحجيته تتميما للفائدة.
الإقرار عند فقهاء القانون:
يراد بالإقرار عند فقهاء القانون: اعتراف المتهم على نفسه أمام القضاء بالتهمة المسندة إليه.
فلو لم تكن هناك تهمة مسندة لمن أقر على نفسه بإتيان فعل من الأفعال المجرمة، فإنه لا يلتفت إلى إقراره هذا، كما أنه لو أقر بقيامة بفعل ما من الأفعال الجنائية، وكان ما أقر به غير موضوع الدعوى المقامة عليه، فإنه لا يلتفت إلى إقراره هذا بهذه الوقائع نظرًا؛ لأنها ليست هي موضوع الدعوى المقامة عليه1.
1 نصت المادة 103 من قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية "القانون رقم 25 لسنة 1968م على أن "الإقرار هو اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه -الواقعة "ويقول الأستاذ الدكتور محمود مصطفى في تعليقه على هذا: فلا يعد اعترافا إقرار المتهم بواقعة، أو أكثر لها تعلقها بالدعوى.
الإثبات في المواد الجنائية أ. د: محمود مصطفى ج1 ص51-52 "ط الأولى سنة 1977م".
كما أن الإقرار المعول عليه هو ما يكون أمام المحكمة التي تنظر الدعوى المقامة ضد المقر، كما ذهب الشراح وبينوا، فإن أقر أمام سلطة التحقيق، أو في مرحلة جمع الاستدلالات، فإن هذا الإقرار لا تأخذ به المحكمة، ولا تعتد به كدليل إثبات، إلا إذا أصر عليه المقر ولم يرجع عنه، وإن كان قضاء النقض على خلاف ذلك1.
وعلى هذا، فإذا أقر المدعى عليه أمام المحكمة التي تنظر موضوع الدعوى، فأخذت المحكمة بإقراره، وحكمت بمقتضاه لم يعد لهذا المقر الحق في الرجوع عن إقراره هذا، وتلزمه العقوبة المحكوم بها عليه.
ولقد ذهب الفقه القانوني حديثًا إلى أن الإقرار لا يعد دليلًا يسند إليه وحده في الإدانة، بل لا بد من أن يرافقه ما يؤكده، ويثبت صحته2.
وإن كان قانون الإجراءات الجنائية المصري قد أجاز للمحكمة الاكتفاء باعتراف المتهم، والحكم عليه بمقتضاه دون الحاجة إلى سماع الشهود3.
1 المرجع السابق ص52.
2 هذا ما جرى عليه القضاء الفرنسي، وقرره المؤتمر الدولي للعلوم الجنائية سنة 1902، سنة 1953م.
3 نصت المادة 271 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه "يسأل =
والإقرار عند فقهاء الشريعة الإسلامية دليل إثبات قوي، وأكيد بشرط أن يكون مطابقًا للواقع، بحيث لا توجد وقائع تنفيه أو تطعن في صحته، بل إن بعض الجنايات قد اشترط جمهور فقهاء الشريعة لإثباتها عن طريق الإقرار أن يتعدد الإقرار بعدد الشهود الذين تثبت الجريمة بشهادتهم، وزاد البعض أن يكون كل إقرار في مكان غير المكان الذي أقر فيه الجاني إقراره السابق.
= المتهم عما إذا كان معترفًا بارتكاب الفعل المستند إليه، فإذا اعترف جاز للمحكمة الاكتفاء باعترافه، والحكم عليه بغير سماع الشهود.
وقد عقب الأستاذ الدكتور محمود مصطفى على هذه المادة بقوله: ولعل اقتراب الإثبات الجنائي من الإثبات المدني في التشريع الإنجليزي، وما نقل عنه هو الذي دعا إلى الأخذ بأن اعتراف المتهم دليل إدانته يجوز الحكم بناء عليه وحده. المرجع السابق ص51 مبادئ الإجراءات الجنائية د. رءوف عبيد ص638-643 ط 76، ولهذا الاتجاه الوضعي أصل فيما روي عن فقهاء -الشيعة الجعفرية، فقد ذكر أبو القاسم الموسوي:
أن الجاني لو أقر بما يوجب الحد من رجم أو جلد، كان للإمام العفو وعدم إقامة الحد عليه، واستدل على هذا بما روي من أن شابا أتى أمير المؤمنين، فأقر عنده بالسرقة، فقال له على: إني أراك شابا لا بأس بهبتك، فهل شيئًا من القرآن؟ قال: نعم سورة البقرة، فقال له علي: قد ذهبت يدك لسورة البقرة. ويعلق على هذا من رواه بقوله: وإنما منعه أن يقطعه؛ لأنه لم يقم عليه بينة، وفي رواية أخرى فقال الأشعث: أتعطل حدا من حدود الله؟ فقال: وما يدريك ما هذا؟ إذا قامت البينة، فليس للإمام أن يعفو، وإذا أقر الرجل على نفسه، فذاك إلى الإمام إن شاء عفى، وإن شاء قطع.
مباني تكملة المنهاج ج1 ص177.
من هذا يبين رجحان ما ذهب إليه فقهاء الشريعة، إذ هم لم يعلموا الإقرار بصفة عامة أيا كان هذا الإقرار، كما أنهم لم يتركوا أعماله، والأخذ به إذا لم يرافقه ما يؤكده، ويثبت صحته من أدلة ووقائع، وإنما وضعوا ضوابط، ومقاييس ونظم أصابوا بها قصب السبق، وحسموا بها القضية إذ كيف يمكن أن يقال أن الجاني الذي ارتكب جنايته ولم يره أحد، إذا راجعه ضميره وأراد تطهير نفسه، فذهب وأقر بما ارتكب، فإنه لا يعول على هذا الإقرار، ولا يعتد به في إثبات ما جاء من وقائع نظرًا؛ لأن هذه الوقائع لم تقم بها دعوى على المقر.
وأكثر من ذلك إذا أقيمت الدعوى، وأقر الجاني بما ارتكب من الوقائع التي هي موضوع الدعوى، ولم يكن هناك دليل غير إقراره، فإنه لا يعتد أيضًا بهذا الإقرار وحده في إثبات ارتكاب الجاني هذه الوقائع، والتي أقر بها على نفسه1.
إن هذا القول يفتح باب الإفلات من العقوبة على مصراعيه، وتصبح معه رقابة الضمير التي هي من أهم ضمانات استقرار الحياة
1 ذكر الأستاذ الدكتور محمود مصطفى أن الراجح الآن أن الاعتراف لا يعد دليلًا يستند عليه وحده في الإدانة، وهو ما جرى عليه القضاء الفرنسي، وقرره المؤتمر الدولي للعلوم الجنائية في سان بتسيرج سنة 1902.
وجاء في قرارات المؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات الذي انعقد في روما من 27 سبتمبر إلى 3 أكتوبر سنة 1953م، أن الاعتراف لا يعد من الأدلة القانونية، ولهذا ما يبرره في أن الاعتراف دليل غير محسوس، فلا يقطع بالإدانة. وهو يدعوا لأول وهلة إلى الشك والريبة في صحته إذ يتطوع به المتهم لتقديم دليل إدانته.
الإثبات في المواد الجنائية ج1 ص52.
واحترام نظم الأمة، تصبح تلك الرقابة لا قيمة لها، وتضيع بهذا كثير من حقوق الآخرين وحرياتهم، ويفتح أيضًا باب الظلم والجور لجواز أن يتهم بريء بقتل إنسان ويؤتى بشهود الزور، ويلصقوا التهمة بهذا البري، ويحيكوا له من الأدلة ما يكفي للذهاب له إلى حبل المشنقة، فإذا استيقظ ضمير الجاني الحقيقي وذهب، وأقر على نفسه بما ارتكب، فكيف يتأتى القول إذا بعدم الاعتداد بهذا الإقرار كدليل قانوني.
إن رأى الفقه الإسلامي في مثل هذا بين ومعروف يؤكده ما روي من أن أمير المؤمنين علي -رضي الله تعالى عنه- أتى برجل، وجد في خربة وبيده سكين ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله فأقر الرجل بأنه القاتل، وأكد هذا الإقرار قول العسس، والقرائن المصاحبة، فحكم علي بقتله قصاصًا. وإذا برجل يقر بأنه هو القاتل الحقيقي.
وتدل الوقائع على براءة الأول، وثبت أن القاتل هو الثاني.
الذي جاء مقرا بوازع من ضميره، فيأخذ علي بهذا الإقرار، ويعتد به مع أنه لم تكن هناك دعوى مقامة على من جاء مقرا بعد أن ألزم الرجل الذي أمسك به العسس بعقوبة القتل.
ولم يطالب على من جاء مقرًا، ببينة تشهد بصحة ما أقر به1، والفقه الوضعي لم يكتف بعدم الالتفات إلى الإقرار، وعده إقرارًا تشوبه الريبة يخالطه الشك. وإنما ذهب إلى أكثر من ذلك، فيما قررته المادة 174/ 2 من قانون التحقيق الجنائي في السوادن، والتي تنص على أنه إذا كانت الجريمة المسندة إلى المتهم معاقبًا عليها بالإعدام
1 الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ص82، 83.
فيجب على رئيس المحكمة أن يدون في المحضر نيابة عن المتهم ردا بأنه غير مذنب1.
وهذ النص قد ألزم القاضي بأن يدون في المحضر قولًا منسوبًا للمتهم، حتى ولم يقله المتهم، بل وحتى لو طالب بعكسه، وأصر على أنه هو المذنب الذي ارتكب وقائع هذه الدعوى، وأقر بها.
من هذا كله يبين أن الفقه الوضعي يعتبر إقرارا المتهم، حتى وإن كانت الدعوى قد أقيمت عليه، وأقر بوقائعها -من قبيل الاستدلالات، الأمر الذي يترتب عليه إلزام المحكمة أن تبحث عن أدلة أخرى تثبت بها صحة ما أقر به المتهم من وقائع، حتى يمكنها أن تحكم بادانته.
أما الشريعة الإسلامية، فهي تعتد بالإقرار بشروطه التي تملأ قلب القاضي طمأنينة، وتأخذ به وتحكم بمقتضاه حتى بالعقوبات الحدية؛ لأنها قد وضعت من الشروط ما يكفل صحة أقوال المقر.
ولا يخفى أن هذا النفع للعدالة، وأجدى في تحقيق أمن المجتمع، كما أن جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية، قد أجازوا للمقر الرجوع عن إقراره، وأسقطوا عنه ما لزمه من عقوبات حدية نتيجة رجوعه عن إقراره، إذا كانت هذه العقوبات متعلقة بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم اشترطوا بقاء الإقرار قائمًا صحيحًا، حتى يتم تنفيذ العقوبة، الأمر الذي أغفله الفقه الوضعي.
1 الإثبات في المواد الجنائية أ. د: محمود مصطفى ص52-53.
المبحث الثاني: الشهادة
مدخل
…
المبحث الثاني: الشهادة
ويشتمل لي تقديم ومطلبين.
المطلب الأول: شروط في الشاهد.
المطلب الثاني: شروط في الشهادة.
تقديم:
تعريف الشهادة:
الشهادة في اللغة: البيان؛ لأن الشاهد يبين الحق من الباطل عند الحاكم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 1، أي بين.
والشهادة مشتقة من المشاهدة؛ لأن الشاهد يخقبر عما شاهده أو؛ لأن الشاهد بإخباره الحاكم بما شاهد ورأى، يجعل الحاكم كالمشاهد الذي يرى المشهود عليه2.
والشهادة عند الفقهاء: إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه، أو إخبار صادق في مجلس الحكم بلفظ الشهادة، وزاد البعض شروط كون الإخبار ناتجًا عن مشاهدة، وعيان لا عن تخمين وحسبان3.
1 من الآية 18 من سورة آل عمران.
2 المصباح المنير والقاموس المحيط، ولسان العرب.
3 فتح القدير ج7 ص364، البحر الرائق ج7 ص55-56 حاشية الدسوقي ج4 ص164، الخرشي ج7 ص175، المغني ج9 ص49.
وهذه التعريفات، وإن تعددت إلا أنها متفقة في مؤداها ومدلولها، كما أن شروط المعاينة بالنسبة لمن يتحمل الشهادة يشمل المشاهدة بصورها من سماع في المسموعات، أو إبصار في المبصرات، وهو شرط جوهري، إذا لا يمكن أن تتحمل الشهادة التي يحكم بمقتضاها، إلا عن علم ناتج عن حضور ومعاينة؛ لأن الله تعالى قد نهى عن القول بدون علم:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1.
{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2، فإن لم تكن الشهادة ناتجة عن علم، ويقين فهي باطلة، ومحاسب عليها.
ولقد جسد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، حين قال لرجل:"أترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها، فاشهد أودع"3.
حجية الشهادة:
أولًا: بين القرآن الكريم ما تثبت به الحقوق من بينات، وجعل منها الشهادة، فيقول الله سبحانه وتعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 4 {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} 5.
ثانيًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن جاءه يشكو رجلًا
1 من الآية 36 من سورة الإسراء.
2 من الآية 86 من سورة الزخرف.
3 رواه ابن عباس، سبل السلام للصنعاني ج4 ص130. نصب الراية للزيلعي ج4 ص12، القرطبي ج7 ص5943.
4 من الآية 282 من سورة البقرة.
5 من الآية 2 من سورة الطلاق.
غلبه على أرض كانت له: "ألك بينة"؟ 1 كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن جاءوا من الأنصار يطالبون بدم من قتل منهم بخيبر: "ألكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم"؟ 2.
ثالثًا: الإجماع معقود على حجية الشهادة في الإثبات.
1 رواه مسلم، والترمذي، وصححه، نيل الأوطار ج8 ص341، المغني ج9 ص146.
2 رواه أبو داود، نيل الأوطار ج7 ص37.
المطلب الأول: شروط في الشاهد
1-
البلوغ، فالصبي، لا تقبل شهادته؛ لأن الشهادة نوع من الولاية، ولا ولاية للصبي على نفسه، فأولى به ألا تكون له ولاية على غيره، لقوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} ، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" 1، فرفع التكليف يقتضي رد الشهادة.
وإن كانت الضرورة قد أجازت الأخذ بشهادة الصبي على أقرانه في الجراح، إذا لم يوجد غير الصبي يشهد بذلك مع اشتراط أن يكون الصبي الذي يشهد عاقلًا مميزًا، وأن يدلي بشهادته قبل أن يفارق الحالة التي وقعت، وهذه ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها2.
1 سنن أبي داود، ج2 ص452، نيل الأوطار ج6 ص160.
2 البحر الرائق ج7 ص77، مواهب الجليل ج6 ص177.
المغني ج9 ص164، الأم ج7 ص81، بداية المجتهد ج2 ص499 مباني تكملة المنهاج ج2 ص77، شرح الأزهار ج4 ص193.
إما إذا حضر الصبي الواقعة، ثم بلغ قبل أن يدلي بشهادته، ثم أداها بعد البلوغ، فإن شهادته هذه يعتد بها، وتقوم بها بينة الإثبات1.
2-
العقل: فغير العاقل لا تقبل شهادته، لاختلاط الأمور عليه، وعدم استطاعته تمييز حقوق الآخرين، إذ هو أعجز من أن يحافظ على حقوقه أو يعيها، وغير قادر على ضبط الوقائع، والأحداث ضبطًا يطمأن إليه، ولذا فإن الحديث السابق قد حكم برفع القلم عنه.
أما إذا كان يجن أحيانًا، وحدثت الواقعة وهو عاقل، ثم أدى الشهادة عليها وهو عاقل ضابط لأمور نفسه، ووقائع الحادثة وملابساتها وظروفها، اعتد بشهادته حينئذ، واعتبرت دليل إثبات يحكم بمقتضاه2.
1 البحر الرائق ج7 ص56، المغني ج9 ص164، حاشية الدسوقي ج4 ص165، أجاز رجال القانون سماع شهادة الصبي الذي لم يبلغ أربع عشرة سنة. بدون أن يحلف اليمين على سبيل الاستدلال، أما إذا بلغ الصبي أربع عشرة سنة، فإنه تسمع شهادته بعد حلفه اليمين، وتعد شهادة معتبرة قانونًا، وإن كان قد حكم بأنه يجب للأخذ بأقوال الشاهد أن يكون مميزًا.
يراجع الأستاذ الدكتور محمود مصطفى، شرح قانون الإجراءات الجنائية ص446 ط سنة 1976م، الأستاذ الدكتور رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص595 ط 1979.
2 الأم ج7 ص80، البحر الرائق ج7 ص56، مباني تكملة المنهاج ج2 ص80، يرى فقهاء القانون أنه لا يؤثر في صحة الاستدلال بأقوال شاهدة ما أثبته المحقق في المحضر، من أنها كانت تذكر أقوالًا خارجة عن الموضوع، وأنه يرى أن بها ضعفًا في قواها العقلية، ما دامت المحكمة اطمأنت إلى صحة أقوالها، وذكرت من البيان والقرائن، ما يؤيد هذه الأقوال. أ. د: رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.
3-
الإسلام: فغير المسلم لا يحكم بمقتضى شهادته على المسلم في الحدود؛ لأن الشبهة شهادته لانتقاص عدالته، والحدود تدرأ بالشبهات1، أما شهادة غير المسلمين على بعضهم، فقد أورد ابن قيم الجوزية الخلاف في قبولها، فأورد عن الشعبي، ووكيع وسفيان عدم جوازها ألبتة.
وذكر أن حنبلًا، وابن حزم وحماد بن أبي سليمان قد رأوا جواز شهادة النصراني على اليهودي، وعلى النصراني، فكلهم أهل شرك.
ورى عن علي بن أبي طالب، وعطاء والنخعي جواز شهادة كل ملة على ملتها اليهودي على اليهودي، والنصراني على النصراني، ولا تجوز شهادة ملة على غير ملتها إلا المسلمين.
والذي أرجحه من ذلك هو جواز قبول شهادة غير المسلمين، بعضهم على بعض دون تفريق، فالكفر ملة واحدة، والله سبحانه وتعالى قد بين ما بين الكافرين من ولاء، وولاية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا
1 أما في غير الحدود، فقد أجاز الحنابلة وشريح والنخعي، والأوزاعي وابن مسعود وأبو موسى، والظاهرية، والإمامية قبول شهادة غير المسلم على المسلم في حالات الضرورة التي لا يوجد فيها غيره، كحال من يوصي بوصية، ولا يوجد من يشهد عليها من المسلمين، والأمور التي تؤخذ فيها بشهادة الطبيب، ولا يوجد طبيب مسلم يرجع إليه وقتئذ، وقد روي هذا عن الإمام مالك، كما نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية.
يراجع في ذلك، فتح القدير ج7 ص416، البحر الرائق ج7 ص79، الأم ج7 ص81، المغني ج9 ص182-184، المحلى ج10 ص587-598، نيل الأوطار ج8 ص330-334، شرح الأزهار ج4 ص193، الطرق الحكمية ص266-280 المدخل للفقه الإسلامي لأستاذي الدكتور سلام مدكور ص355.
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} 1، فأثبت لهم الولاية على بعضهم، وهي أعلى رتبة من الشهادة، وغاية الشهادة أن تشبهه بها، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، يوم جاءه اليهود برجل منهم، وامرأة قد زنيا: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بأربعة منكم يشهدون"، فلما شهدوا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بالحد بمقتضى شهادتهم2.
4-
العدالة: وقد بينها الفقهاء بأنها الاستقامة، واجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، ولا تكون العدالة إلا بالاسلام، واعتدال العقل ومعارضة الهوى، وليس لها حد3.
فالعلة في الشاهد شرط أساس لقبول شهادته، والاعتداد بها في إثبات الجنايات الحدية، لقول الله سبحانه وتعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 4، فإذا كانت العدالة شرط للشهادة على أمور الزواج والطلاق، وأمثالهما فهي من باب أولى شرط في الشاهد الذي يشهد على جناية من الجنايات الحدية.
ولأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتثبت من نبأ الفاسق، فيجب أن
1 الآية 73 من سورة الأنفال.
2 سنن أبي داود ج2 ص463-466، نيل الأوطار ج7 ص104-106 الطرق الحكمية ص258-266، المدخل للفقه الإسلامي ص356-357.
3 البحر الرائق ج7 ص85-96، فتح القدير ج7 ص378 بداية المجتهد ج2 ص499، الخرشي ج2 ص324 المهذب ج2 ص324، مغني المحتاج ج4 ص427، المغني ج9 ص167-172، المحلى-10 ص564، مباني تكملة المنهاج ج1 ص86.
4 من الآية 2 من سورة الطلاق.
نحتاط في إقامة العقوبة بشهادته؛ لأن شهادته اعترتها الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات1.
وقد روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رد شهادة القانع2 لأهل البيت، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تجوز شهادة زان، ولا زانية"، فهؤلاء لما انتقضت عدالتهم رد الرسول شهادتهم.
كما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: لا يؤثر رجل بغير العدول؛ ولأن دين الفاسق لم يزعه عن ارتكاب محظورات الدين، فلا يؤمن أن يزعه عن الكذب.
فلا تحصل الثقة بخبره3، وهذا يقتضي عدم قبول شهادته مطلقًا، فيما نحن بصدده.
واشتراط الفقهاء في الشاهد أن يكون ذا مروءة، فإن اختلت مروءته، فلا عدالة له، ولا تقبل شهادته4.
1 تفسير القرطبي ج7 ص6231.
2 القانع: الأجير، سنن أبي داود ج2 ص275.
3 المغني ج9 ص165.
4 المروءة: يراد بها الإنسانية، وقيل: أن لا يأتي الإنسان بما يعتذر منه مما يبخسه من مرتبة أهل الفضل، وقيل: السمت الحسن وحفظ اللسان، وتجنب السخف والمجون، والارتفاع عن كل خلق دنيء.
فتح القدير ج7 ص415، المهذب ج2 ص324- الخرشي ج7 ص175 المغني ج9 ص167-172، الطرق الحكمية ص253، المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص357. قيد رجال القانون عدم جواز سماع الشهادة من شخص حكم عليه في جناية ارتكباها، بقيد أن تكون العقوبة التي حكم عليه بها عقوبة جناية، وعليه يحرم من الشهادة أمام المحاكم مدة العقوبة إلا على الاستدلال، فإذا حكم على المتهم بجناية بعقوبة الحبس، جاز سماع شهادته أثناء تنفيذ العقوبة عليه بعد حلف اليمين. أ. د: محمود مصطفى شرح قانون الإجراءات الجنائية ص446، أ. د: رءوف مبادئ الإجراءات الجنائية ص595.
من هذا كله يبين أنه يجب على القاضي أن يتأكد من عدالة الشهود، وعلى الأخص في مسائل الحدود، حتى يصل القاضي حد اليقين بعدالة من جاءه يشهد بواقعة حدية، فإن لم يصل حد اليقين من عدالة الشهود، وأسقط الحد عن المدعى عليه لقيام الشبهة، فيمن نسب إليه الفعل الحدي، والحدود تدرأ بالشبهات.
5-
الرؤية: والحديث عن رؤية الشاهد لما يشهد به يتفرع إلى فرعين:
الفرع الأول:
وهو كون الشاهد مبصرًا، إذ أن للفقهاء آراء في قبول شهادة الأعمى والحكم بمقتضاها، وعلى الأخص في مسائل الحدود.
فقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى رد شهادة الأعمى في الحدود، والقصاص سواء أكان يشهد على أقوال أو أفعال، وسواء تحمل الشهادة بعد العمى أو قبله، وأكثر هذا ما لو عمي الشاهد بعد أداء الشهادة، وقبل القضاء بمقتضاها، امتنع القضاء.
ومبنى هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات، والصوت والنغمة اللذان
قد تنحصل معرفة الأعمى عن طريقها للواقعة، هما اللذان يقومان مقام المعاينة والحدود، ولا تثبت بما يقوم مقام الغير1.
وذهب الإمام الشافعي إلى أن شهادة الأعمى على الأفعال، أو الأقوال التي رآها أو سمعها، وهو مبصر ضابط لما يرى، أو يسمع تجوز شهادته بها إذا عمي قبل أن يؤدي الشهادة.
إما إذا كانت الأفعال، أو الأقوال التي يشهد عليها قد حدثت وهو أعمى، فإن شهادته عليها لا تجوز، أما عدم جوازها بالنسبة للأفعال، فهو مبني أن الأعمى لا يستطيع ضبط ما يقع من أفعال ضبطًا يترتب عليه شهادته بها في الحدود.
أما بالنسبة للأقوال، فإن الأعمى لا يستطيع القطع بأن من صدر منه القول هو فلان، لإمكان تقليد الأصولات، وقد جاء هذا في قول الشافعي: لا تجوز شهادة الأعمى، إلا أن يكون أثبت شيئًا معاينة، أو معاينة وسمعًا ثم عمي. فتجوز شهادته؛ لأن شهادته إنما تكون يوم يكون الفعل الذي يراه الشاهد، أو القول الذي أثبته مسمعًا، وهو يعرف وجه صاحبه، فإذا كان ذلك قبل العمى، ثم شهد عليه حافظًا له بعد العمى جاز، وإذا كان القول والفعل، وهو أعمى لم يجز من قبل أن الصوت يشبه الصوت"2.
وقد أورد الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه- في باب الخلاف في شهادة الأعمى قوله:
"خالفنا بعض الناس في شهادة الأعمى، فقال: لا تجوز حتى
1 المبسوط ج9 ص50، وفتج القدير ج7 ص398.
2 الأم ج7 ص82-83، مغني المحتاج ج4 ص445-446.
يكون بصيرًا يوم شهد، ويوم رأى وسمع أو رأى، وإن لم يسمع إذا شهد على رؤية، فسألناهم: فهل من حجة كتاب أو سنة، أو أثر يلزم.
فلم يذكروا من ذلك شيئًا لنا، وكانت حجتهم فيه أن قالوا: إنا احتجنا إلى أن يكون يرى يوم شهد، كما احتجنا إلى أن يكون يوم عاين الفعل، أو سمع القول من المشهود عليه، ولم تكن واحدة من الحالين أولى به من الأخرى.
فقلت له: أرأيت الشهادة أليست بيوم يكون القول، أو الفعل وإن لم يقم بها بعد ذلك بدهر؟، قال: بلى: قلت: فإذا كان القول والفعل، وهو بصير سميع مثبت، ثم شهد به بعد عاقلًا أعمى لم تجز شهادته؟ قال: فأقول بغير الأول، لا يجوز إلا بأمرين قلت: أفيجوز أن يشهد على فعل رجل حي، ثم يموت الرجل فيقوم بالشهادة، وهو لا يرى الرجل، ويقوم بالشهاد على آخر وهو غائب لا يراه، قال: نعم: قلت: فما علتك تثبت لنفسك حجة إلا خالفتها، ولو كنت لا تجيزها، إذا أثبتها بصيرا وشهد بها أعمى؛ لأنه لا يعاين -المشهود عليه؛ لأن ذلك حق عندك، لزمك أن لا تجيزها، وهو لا يراه، قال: فإن رجعت في الغائب، فقلت: لا أجيزها عليه، فقلت: أفترجع في الميت، وهو أشد عليك من الغائب، قال: لا، قال: فإن من أصحابك من يجيز شهادة الأعمى بكل حال إذا أثبت كما يثبت أهله، فقلت: إن كان هذا صوابًا، فهو أبعد لك من الصواب، قال: فلم لم تقل به؟. قلت: ليس فيه أثر يلزم فأتبعه، ومعنا القرآن والمعقول بما وصفت من الشهادة فيما لا يكون إلا بعيان، أو عيان وإثبات سمع، ولا يجوز أن تجوز شهادة من لا يثبت بعيان؛ لأن الصوت يشبه الصوت1.
والأرجح ما ذهب إليه الإمام الشافعي من قبول شهادة الأعمى إذا تحملها وهو بصير، وما دامت الشهادة تجوز على غائب لا يراه
1 الأم ج7 ص83.
الشاهد، فالأولى أن تجوز من الأعمى على الحاضر، بل إن الحاضر يمكن أن يراجع الشاهد، أو يبدي شبهة إن كانت له شبهة تسقط الحد.
والمعمول عليه هو التحمل بصورة منضبطة، لا يتحصل معها لبس من الشاهد الذي سمع الواقعة، وشاهدها مشاهد تنتفي معها الشبهات في شهادته، ولو أداها وهو أعمى مع قيام معرفته المشهود عليه معرفة تنتفي معها الجهالة به.
وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والحنابلة، وبعض فقهاء الأحناف إلى الاعتداد بشهادة الأعمى على ما سمع من أقوال، سواء تحملها قبل العمى، أو بعده ضابطًا لما سمعه من أقوال عارفًا من صدرت منه معرفة يقينية.
أما شهادته على الأفعال، فتجوز أن تسمع منه، وهو أعمى إذا كان تحملها قبل العمى، وقد بين هذا فقهاء المالكية، فيما ذكروه من أن الأعمى، العدل تجوز شهادته في الأقوال خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، وأما في الأفعال، فلا تجوز شهادته فيها ما لم يكن علم الفعل قبل العمى.
وقولهم: وتقبل شهادة الأعمى في الأقوال مطلقًا سواء تحملها قبل العمى، أم لا لضبطه الأقوال بسمعه"1.
كما يقول ابن قدامة: وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت
…
لأنه رجل عدل مقبول الرواية، فقلبت شهادته كالبصير
…
إلى أن يقول: فإن تحمل الشهادة على فعل، ثم عمي جاز أن يشهد به إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه.. ولأن العمى فقد حاسة لا تختل بالتكليف، فلا يمنع قبول الشهادة"2.
1 الخرشي ج7 ص179، حاشية الدسوقي ج4 ص167.
2 المغني ج9 ص189-190.
وذكر ابن الهمام أن شهادة الأعمى، فيما يجوز فيها التسامع تجوز عند زفر؛ لأن الحاجة في تحمل هذه الشهادة للسمع، ولا خلل في سمع الأعمى.
كما ذكر أن أبا يوسف يرى أن شهادة الأعمى، تجوز فيها طريقة السماع.
وما لا يكفي فيه السماع إذا كان بصيرًا وقت التحمل، ثم عمي عند الأداء إذا كان يعرفه باسمه ونسبه1.
وذهب ابن حزم إلى قبول شهادة الأعمى مطلقًا على الأقوال، والأفعال في الحدود وغيرها، مثل شهادة المبصر سواء بسواء، سواء تحملها قبل العمى أم بعده، فيقول في معرض حديثه عن هذا: إن من أجازها في الشيء اليسير دون الكثير، فقول في غاية الفساد؛ لأنه لا برهان في صحته، وما حرم الله تعالى من الكثير إلا ما حرم من القليل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ومن اقتطع بيمينه مال مسك، ولو قضيبا من أراك أوجب الله له النار"، أما من قبله في الأنساب، إلا من حيث يعرف المخبرين بغير ذلك، والمشهدين له.. أما من لم يقبله لا فيما عرف قبل العمى ولا بعده، فقول فاسد لا برهان على صحته، وبين ما عرفه الصحيح، وتمادت صحته وبصره.. إلى أن يقول: إن كانت الأصوات تشبه، فالصور أيضًا قد تشبه وما يجوز لمبصر، ولا أعمى أن يشهد إلا بما يوقن، ولا يشك فيه، ومن أشهد خلف حائط، أو في ظلمة، فأيقن بلا شك بمن أشهده فشهادته مقبولة في ذلك2، وما أثاره ابن حزم هنا، وإن وافقناه على بعضه مردود؛ لأن
1 شرح فتح القدير ج7 ص397.
2 المحلى ج10 ص638-639.
إطلاق قبول شهادة الأعمى على القول أو الفعل الذي شهده، أو سمعه بعد فقد بصره إطلاق، قيده ابن حزم نفسه باشتراط حدوث اليقين للشاهد، ومن أين يأتي يقين الأعمى بأن فلانا قد قال كذا أو فعل كذا، وقياس ابن حزم اشتباه الصوت على الأعمى باشتباه الصورة على البصير، قياس مردود بما هو مشاهد في الواقع؛ لأنه لا يوجد من تتطابق صورتهما من حيث الشكل والطول، والقصر واللون والنطق، وما إلى ذلك إلا حالات نادرة يعرفها المخالطون لها، ويستطيع كل منهم تمييز من تطابقت صورتهما بشيء من اختلاف الصوت، أو الهيئة، وما إلى ذلك من الملابسات، والمصاحبات والقرائن، فإن تعذر الأمر في هذه الحالات المعدودة، ولم يستطع الشاهد المبصر تميز من اتفقا في كل شيء أصبحت شهادة المبصر هنا غير يقينية، واعترتها الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، وإن كان ابن حزم لا يرى هذا، كما أنه من أين لمن يشهد بأشياء وقعت في ظلمة بأنها وقعت من فلان، إن وقوع الأشياء في ظلمة لا يمكن القطع بأنها وقعت من فلان عن طريق الإبصار فقط، وإنما لا بد من أن ينضم إليه ما يؤكده، فإن لم ينضم إليه ما يؤكده، فالشهادة به تكون شهادة بأشياء لم يصل الشاهد بها حد اليقين، كأنها وقعت ممن يشهد بها عليه، وشهادة مثل هذه لا يقام بها حد؛ لأن الشبهة قد اعترتها.
إن شهادة الأعمى حينئذ شهادة عن غير يقين، يصل حد يقين من يرى الشمس واضحة في كبد السماء حتى يشهد عليها.
وابن حزم، وإن ذكر أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه:"ألا ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع"، حديث قد جاء من طريق ضعيف، إلا أن ابن حزم قد صوب معناه وأكد عليه؛ لأنه قد اشترط تيقين الشاهد مما يشهد به حتى يعتد بشهادته1، وما أرجحه
1 المرجع السابق.
من هذه الأقوال أن الأعمى إذا تحمل الشهادة، وهو مبصر ضابط لما يتحمل، ثم أداها أن كف بصره، وكان لا يزال ضابطًا لما يشهد به عارفًا له معرفة يقينية اعتد بشهادته، وثبت بها الحدج، أما لو تحملها وهو مبصر، وبعد أن عمي لم يعد ضابطًا لما تحمله من أقوال أو أفعال، فإن شهادته حينئذ قد اعترتها الشبهة لاختلال تعيين الشاهد بما يشهد به، ومثلها إذا شهد بشهادة حملها، وهو أعمى سواء أكانت على فعل أو قول؛ لأن شهادته التي تحملها، وهو أعمى شهادة لا تخلو عن شبهة، وشهادة مثل هذه لا يثبت بها حد من الحدود.
أما ما ذكره الشربيني الخطيب من صورة أوردها البلقيني، وأجاز فيها شهادة الأعمى على الفعل، وذلك كما إذا وضع الأعمى يده على ذكر داخل في فرج امرأة مثلًا، فأمسكهما حتى يشهد عند الحاكم بما عرفه بمقتضى وضع اليد، فهذه وما ضبطها بعيدة الحدوث، بل هي في حيز المعدوم وقوعه وتصوره1. هذا ما أرجحه بالنسبة لشهادة الأعمى في الحدود، أما في غيرها فأمره متروك للقاضي يجتهد فيه قدر طاقته، فإن صح لديه حكم به وإلا فلا.
الفرع الثاني:
رؤية الشاهد ما يشهد به، بمعنى أنه هو الذي رأى الواقعة التي يشهد بها، والحديث عن هذا الفرع يتناول ما يأتي:
أولًا: جواز الإدلاء بشهادة على واقعة لم يرها الشاهد بعينه أن كانت مما يرى، أو لم يسمعها من الجاني بنفسه إن كانت مما يسمع.
ثانيًا: المواضع التي يجوز أن تسمع فيها شهادة على واقعة لم
1 مغني المحتاج ج4 ص445.
يرها الشاهد ولم يحضرها بنفسه، وإنما سمع من شهدها، وما مدى الاعتداد بهذه الشهادة والشروط، التي يجب أن تتوافر حينذاك؟
ثالثًا: المواضع التي لا يجوز أن تسمع فيها شهادة على واقعة لم يرها الشاهد، ولم يحضرها.
بين الله سبحانه وتعالى لبني البشر أن لا يشهدوا بشيء لا علم لهم به، فقال:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1، وقال سبحانه:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2.
فالعلم الذي يتحصل لدى من يجوز له أن يشهد بواقعة، والذي تعنيه الآيتان حتى يعتد بالشهادة كدليل إثبات شرعي يحكم بمقتضاه له طريقان:
الطريق الأول: مشاهدة الواقعة التي يشهد عليها وحضورها.
الطريق الثاني: سماع الواقعة ممن حضرها وشاهدها، والعلم بالواقعة من حيث جواز الشهادة به والحكم بمقتضاها، والشروط الواجب توافرها بقبول الشهادة من الشاهد الفرعي، والاعتداد بها كدليل إثبات، ولبيان ذلك يقتضي المقام تقسيم الوقائع التي ستكون محلًا للشهادة من حيث ما سيحكم به في هذه الوقائع إلى قسمين:
القسم الأول:
وقائع يترتب على اقترافها، وثبوتها على من اقترفها إلزامه بعقوبات تعزيرية، أو تعويضات مالية أوهما معًا، ولا خلاف في الاعتداد بشهادة الشهود الفرعيين فيها3.
1 من الآية 36 من سورة الإسراء.
2 من الآية 86 من سورة الزخرف.
3 المغني ج9 ص206، مغني المحتاج ج4 ص453، المهذب ج2 ص337، فتح القدير ج7 ص462، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2 ص506.
القسم الثاني:
وقائع يترتب على اقترانها، وثبوتها على من اقترفها إلزامه بعقوبة من العقوبات الحدية المقدرة من لدن الشارع الحكيم، بما في ذلك القصاص.
وآراء الفقهاء قد اختلفت في الاعتداد بشهادة الشهود الفرعيين، أو كتاب القاضي إلى القاضي في إثبات هذه الوقائع، وإلزام من ارتكبها عقوبة من العقوبات الحدية بمقتضى شهادة الشهود الفرعيين.
فيرى فقهاء المالكية، وهو رأي لفقهاء الشافعية، ورأي ابن حزم، جواز قبول شهادة الشهود الفرعيين بها، والحكم بمقتضاها بالعقوبات الحدية سواء أكان الحق المعتدى عليه حقًا لله سبحانه وتعالى، أم لآدمي، فقد جاء في المدونة:"قلت لابن القاسم: أتجوز شهادة الشهود على شهادة الشهود في السرقة؟ قال: قال لي مالك: تجوز شهادة الرجلين على الرجل في الفدية والحدود كلها، والسرقة من الحدود، قلت: أرأيت أربعة شهودا على أربعة في الزنا أتقبل شهادتهم في قول مالك؟ قال: نعم".
وجاء في المدونة أيضًا: "أرأيت القاضي إذا كتب إلى القاضي آخر بشهادة شهود شهدوا عنده وعدلوا، فشهدوا على فلان ابن فلان بحق أو بحد، أو قصاص أو غير ذلك؟ أيقبل هذا القاضي الذي جاءه الكتاب بالبينة الذين في الكتاب على هذا الرجل المشهود عليه، ويقيموا عليه ويقيموا عليه تلك الأشياء، ويقضي بها عليه في قول مالك؟ قال: قال مالك في القاضي يكتب بالكتاب إلى قاضي آخر فيه الشهود على ما يقضي به، وكتب بعدالة الشهود -أن القاضي الذي جاءه الكتاب يقضي به وينفذه.
ولم يفسر لنا مالك حدا ولا قصاصًا، ولا حقًا غير ذلك، وما شككنا أن ذلك كله سواء"1.
وقد ذكر ابن حزم أيضًا: "وتقبل الشهادة على الشهادة في كل شيء"، ورد المخالفين لذلك في مسائل الحدود بقوله:"تخصيص حدا وغيره لا يجوز إلا بنص، ولا نص في ذلك"2.
ويرى فقهاء الأحناف والحنابلة عدم جواز قبول شهادة الشهود الفرعيين، فلا يعتد بها ولا يحكم بمقتضاها بعقوبة من العقوبات الحدية نظرًا؛ لأنها دليل إثبات لا يقوم به يقين، فتلحقه الشبهة لاحتماله الخطأ أو النسيان، ودليل مثل هذا لا تثبت به الجرائم الحدية.
كما أنه لا يخفى أن الستر عندهم على من ارتكب جناية من الجنايات الحدية أولى، وألزم من الإدلاء بالشهادة بالنسبة للشاهد الأصلي، فما بال الشاهد الفرعي، ولا شك أنه أشد إلزامًا بالستر على الجاني، فلا حاجة أصلًا لشهادته عندهم؛ لأنها لا تجب عليه، وليست بحق للمشهود له حتى يمكن مخاصمة الشاهد الفرعي فيها، وإلزامه بأدائها.
فقد أورد ابن الهمام أن الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق يثبت مع الشبهة، فخرج ما لا يثبت معًا، وهو الحدود والقصاص.
كما استدل ابن الهمام على عدم جواز شهادة الفروع في هذا
1 المدونة: ج16 ص45، 59، 60، 85، "ط السعادة"، ويراجع الخرشي: ج7 ص217-218، وحاشية الدسوقي: ج4 ص205، ويراجع في رأي الشافعية: المهذب: ج2 ص337. ومغني المحتاج ج4 ص453.
2 المحلى: ج10 ص649.
بقوله: والقياس أن لا تجوز؛ لأنها عبادة بدنية وجبت على الأصل، وليست بحق للمشهود له حتى تجوز الخصومة فيها، والإجبار عليها.
كما أن الشارع قد طلب الزيادة في عدد الشهود الأصول، لاحتمال سهو أو كذب أحدهم، لعدم العصمة من الكذب أو السهو، واحتمال ذلك يزيد بالنسبة للشهود الفرعيين1.
وإذا كان هذا هو رأي فقهاء الأحناف في شهادة الشهود الفرعيين، فإنهم أيضًا ذهبوا إلى رد الأخذ بكتاب القاضي إلى القاضي في إثبات الجنايات الحدية والقصاص نظرًا؛ لأن فيه شبهة البدلية، ولهذا فإنهم لا يعتدون به في إثبات حد أو قصاص2.
وأرود ابن قدامة أقوال الفقهاء في الشهادة على الشهادة، ثم بين ما يرجحه ويرتضيه بقوله: ولنا أن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات، والإسقاط بالرجوع عن الإقرار، والشهادة على الشهادة فيها شبهة، فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط، والسهو والكذب في شهود الفروع مع احتمال ذلك في شهود الأصل، وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأل، وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل، فوجب أن لا تقبل فيما يدرء بالشبهات؛ ولأنها تقبل للحاجة، ولا حاجة إليها في الحد؛ لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه؛ ولأنه لا نص فيها، ولا يصح قياسًا على الأموال لما بينهما من الفروق في الحاجة، والتساهل فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا من الفروق، فبطل الإثبات.
ثم بين ابن قدامة أن شهادة الفروع لا يثبت بها قصاص أيضًا
1 فتح القدير ج7 ص462-463.
2 المرجع السابق ج7 ص296.
نظرًا؛ لأن القصاص عقوبة بدنية، ومبني على الإسقاط بالشبهات، فأشبه الحدود في عدم الإلزام به بشهادة الفروع1.
وذهب جمهور فقهاء الشيعة إلى أن الشهادة على الشهادة لا تقبل في الحدود، سواء أكانت العقوبة الحدية نتيجة اعتداء على حق الله سبحانه وتعالى، أم حق مشترك كحد القذف، والسرقة، ونحوهما.
وذهب جماعة منهم إلى قبول الشهادة على الشهادة، فيما كان من الحدود مشتركًا بين الله سبحانه وتعالى وبين غيره، أما قبولها في القصاص، فلم يخالف أحد منهم2، وقد ورد عن الشافعية رد قبول الشهادة على الشهادة في ما كان حدًا خالصًا لله سبحانه وتعالى، أما ما كان لآدمي كالقصاص، وحد القذف فقد أجازوا قبول الشهادة على الشهادة في إثباته.
وقد أورد الشربيني الخطيب أن الشهادة على الشهادة، إنما تقبل في غير عقوبة الله تعالى وغير إحصان، وفي إثبات عقوبة لآدمي على
1 المغني ج9 ص206، 207.
2 ذكر أبو القاسم الموسوي أن الشهادة على الشهادة تقبل في حقوق الناس كالقصاص، والطلاق والنسب والعتق، والمعاملة والمال، وما شابه ذلك ولا تقبل في الحدود سواء أكانت لله وحده، أم كانت مشتركة كحد القذف والسرقة ونحوها، ثم أورد الخلاف فيما كان مشتركًا بين الله تعالى، وبين غيره وبين أن المشهود بين الأصحاب هو قبول الشهادة على الشهادة فيها خلافًا لجماعة منهم الشهيد الأول في النكت، والثاني في المسالك، ثم بين أن ما ذكر من المشهور هو الصحيح لإطلاق الروايتين، والمناقشة في سندهما، وفيهما بالضعف في غير محله.
مباني تكملة المنهاج ج1 ص142-143، المختصر النافع ص289 "ط الأوقاف الثانية".
المذهب كالقصاص، وحد القذف أما العقوبة لله تعالى كالزنا، وشرب الخمر فلا تقبل فيها الشهادة على الأظهر، وخرج منها قول في عقوبة الآدمي، ودفع التخريج بأن حق الله تعالى مبني على التحفيف بخلاف حق الآدمي1.
والذي أرجحه من أقوال الفقهاء هذه، هو قول من ذهب إلى عدم الاعتداد بالشهادة على الشهادة في إثبات جناية من الجنايات الحدية، أو جناية قصاص نظرًا؛ لأن شهادة الأصل لا تقبل إلا إذا تم اليقين بصحتها، وانضم آلية غيره فيها، وفي بعض الجنايات الحدية لا بد أن يكون هؤلاء الشهود أربعة رجال بمواصفات معينة إلى آخر ذلك، مما يستهدف منه المشرع اليقين في إثبات هذه الجرائم، ودفع عقوبتها بقيام شبهة من الشبهات.
ولا يخفى أن الشهادة على الشهادة حجة لا تخلو من شبهة؛ لأن الشاهد الفرعي لا علم له بالواقعة، أو كيفيتها مما قد يستفسر عنه القاضي، إلا بما سمعه من الشاهد الأصلي، والشاهد الأصلي لمن يقص على الفرعي كل ما يمكن أن يسأل عنه القاضي ليتأكد من الواقعة، وما خالطها.
كما أن اختلاف صيغة الشهادة الأصلية نفسها قد يؤثر؛ لأن الشاهد الفرعي أن يحفظ الشهادة الأصلية حفظًا يجعله ينقلها نقلًا حرفيًا.
وفوق ذلك كله، فإن أداء الشهادة على الشهادة غير واجب، والستر على المسلمين أمر دعي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغب فيه خيف إضاعة حق الآدمي، فلا يخفى أن القاضي يمكنه إلزام الجاني بعقوبة من العقوبات التعزيرية المناسبة.
1 مغني المحتاج ج4 ص453.
ومن ذهب إلى الاعتداء بشهادة الشهود الفرعيين في الحدود، والقصاص وضع لهذا ضوابط، وشروطًا بالإضافة إلى ما يشترط في الشاهد، والشهادة بصفة عامة، هذه الضوابط والشروط هي ما يأتي:
أولًا: أن يعتذر حضور الشاهد الأصلي لمجلس القضاء ليدلي بشهادته أمام القاضي الذي ينظر بالواقعة.
وتعذر الحضور يتفاوت من شخص لآخر، ومن مكان لآخر ومن زمان إلى زمان، وتقدير هذا متروك لاجتهاد القاضي وتقديره1.
ثانيًا: أن يكون الشهود الذين يشهدون بشهادة غيرهم ذكورًا، فلا تقبل شهادة النساء عند فقهاء الشافعية.
وقد رجح فقهاء المالكية الرأي في هذا إلى جواز شهادة النساء ابتداء، فأجازوها مع الرجال في الأموال وما يؤل إليها، أما ما لا تجوز شهادتهن به ابتداء، فلا يجوز أن يكون شهودًا فرعيين فيه2.
ثالثًا: أن يشهد فرعان بشهادة أصل واحد، أي أن يشهد اثنان من الشهود الفرعيين بما شهد به شاهد أصلي واحد، وهذا للتثبت والتأكد، ولجواز أن ينسى أحدهما، فيذكره الآخر.
رابعًا: أن يظل الشاهد الأصلي متصفًا بالعدالة، ولا توجد بينه وبين المشهود عليه عداوة، فإذا فسق الشاهد الأصلي أو حدثت بينه، وبين المشهود عليه عداوة قبل أن يدلي الشاهد الفرعي بشهادته، ردت شهادة الشاهد الفرعي للطعن على الشاهد الأصلي الذي نقل عنه.
1 الخرشي ج7 ص218 المهذب ج2 ص337، ويراجع أيضًا فتح القدير ج7 ص468، مباني المنهاج ج1 ص145، والمختصر النافع ص289.
2 الخرشي ج7 ص220، المهذب ج2 ص337.
خامسًا: أن لا يكذب الشاهد الأصلي الشاهد الفرعي فيما نقله عنه، وإن كان فقهاء المالكية قد اشترطوا أن لا يكون ذلك قبل الحكم.
فإن كان بعد الحكم، فلا يلتفت إلى هذا التكذيب عندهم1.
واحتراز المالكية هنا في غير محله؛ لأن الشاهد الأصلي إذا كان غائبًا، ثم حضر في غيبته بعد الحكم على الجاني بشهادة الشهود الفرعيين، فرأى الشاهد الأصلي أن الشهود الفرعيين، قد قصروا في ذكر بعض ما يتصل بالواقعة من أمور قد يترتب عليها درء العقوبة الحدية عن الجاني، فما الذي يمنع من الأخذ بما يقوله الشاهد الأصلي إذا، وهو الذي حضر الواقعة وعاينها، وعايش كل ملابساتها لا شك أن سماعه، والاعتداد بقوله في درء العقوبة عن الجاني أمر لازم خصوصًا عند من يقول بدرء الحد بالشبهة، ولا يخفى أن من هؤلاء فقهاء المالكية2.
هذا بالنسبة لما قيل من قبول الشهادة على الشهادة، والاعتداد بها أما بالنسبة لكتاب القاضي للقاضي، فإن كان ما في الكتاب حكمًا بعقوبة من العقوبات، ولم يبد المحكوم عليه على ما جاء في هذا الكتاب اعتراضًا موضوعيًا ينبني عليه اختلاف الحكم، وتغاير العقوبة أو إسقاطها، نفذ القاضي الذي جاءه الكتاب ما اشتمل عليه من أحكام.
أما إن أبدى عليه اعتراضًا موضوعيًا على ما جاء بكتاب
1 الخرشي ج7 ص219.
2 ذكر رجال القانون أن للمحكمة أن تأخذ بشهادة منقولة عن شاهد أنكر صحتها وصدورها، إذ أن المرجع في تقدير الشهادة، ولو كانت منقولة هو إلى محكمة الموضوع وحدها.
د. رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.
القاضي، فإن على القاضي المرسل إليه تحقيق الواقعة، ونظر اعتراض المحكوم عليه، والقضاء بما يراه.
هذا إذا كان ما في كتاب القاضي للقاضي حكم من الأحكام، أما إن كان الذي في الكتاب شهادة الشهود للذين حضروا الواقعة، نظر القاضي المرسل إليه الكتاب، وحقق الواقعة بناء على ذلك، وحكم فيها بما يحقق العدل، ويضمن حقوق الآدميين بوجه خاص بعد أن يسمع من المدعى عليه كل ما يريد أن يقول أو قدم من دفع، ثم يبحثها ويحقق وقائعها وقرائنها، ويجتهد في ذلك الاجتهاد الواجب على القاضي قبل أن يحكم فيها عرض عليه.
والذي أرجحه أنه لا يجوز أن يحكم بعقوبة من العقوبات الحدية اعتمادًا على دليل إثبات هو عبارة عن شهادة، أو كتاب قاض إلى آخر، حتى ولو كان الاعتداء الذي وقع من الجاني قد وقع على حق لآدمي، وذلك؛ لأن الحكم بالعقوبة الحدية لا بد، وأن يكون ناشئًا عن ثبوت جريمتها على الجاني ثبوتًا يقينيًا محتمل، فإذا احتمل دليل إثبات الجريمة الحدية الشك والشبهة، فإن هذا الشك يفسر لصالح المتهم، وتدرأ الشبهة العقوبة الحدية عنه.
ويبقى القاضي مخيرًا في معالجة القضية حسبما يرى في حدود ما أباح له الشرع، فله أن يحكم فيها بعقوبة من العقوبات التعزيرية التي تحقق الردع والزجر، أو أن يسقط العقوبة عن المتهم إذا عن له ذلك، ونقص قيام ركن من أركان الجريمة.
هذا ما آراه فيما ذكر الفقهاء من اشتراط الرؤية في الشاهد.
6 الذكورة: اشترط جمهور الفقهاء في الشهادة بالحدود أن يكون الشاهد ذكرًا، وعليه فلا تقبل شهادة النساء في الحدود نظرًا لما
يلحق شهادة من شبهة النسيان، أو التظليل طبقًا لما جاء في قول الله سبحانه وتعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 1، واستدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه بما جاء في قول الله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 2.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 3.
فإلحاق التاء بالعدد يفيد أن المعدود مذكر طبقًا لما جرت به قواعد العربية، كما أورد ابن الهمام: "أن السنة مضت من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده، أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء؛ ولأن النص أوجب أربعة رجال بقوله تعالى:{أَرْبَعَةً مِنْكُم} ، فقبول امرأتين مع ثلاثة مخالف لما نص عليه من العدد والمعدود، وغاية الأمر المعارضة بين عموم -فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان- وبين هذه فتقدم هذه؛ لأنها مانعة وتلك مبيحة، وأيضًا هذه تفيد زيادة قيد وزيادة القيد من طرق الدرء، فإنه كلما كثرت قيود الشيء قل وجوده بالنسبة إلى ما ليس فيه زيادة تقييد؛ ولأن فيها شبهة البدلية
…
والشبهة كالحقيقة فيما يندرئ بالشبهات، وسائر ما سوى حد الزنا من الحدود يقبل فيها شهادة رجلين، ولا تقبل
1 من الآية 282 من سورة البقرة، ويراجع في ذلك القرطبي ج2 ص1205.
2 من الآية 15 من سورة النساء، ويراجع في ذلك القرطبي.
3 من الآية 4 من سورة النور.
النساء، لما ذكرنا، وكذا القصاص"1.
كما بين السرخسي سبب عدم قبول شهادة النساء في الحدود، والقصاص بقوله:"لأن في شهادة النساء ضربًا من الشبهة، فإن الضلال والنسيان يغلب عليهن، معها معنى الضبط والفهم بالأنوثة، وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين، والحدود تدرأ بالشبهات، وما يندرئ بالشبهات لا يثبت بحجة فيها شبهة تيسيرًا للتحرز عنها"2.
وبين الشربيني الخطيب رأي فقهاء الشافعية في هذا، وإن شهادة النساء لا يثبت بها، إلا المال فقط أما غير المال، وكذا العقوبات الواجبة حقًا لله تعالى، أو لآدمي، فإنها لا تجب ولا تثبت جناياتها بشهادة النساء، فقال عند حديثه عن إثبات جريمة السرقة الحدية:"وما يجب به الحد فيها"، وتثبت السرقة الموجبة للقطع بشهادة رجلين كسائر العقوبات غير الزنا، فإنه خص بمزيد العدد، فلو شهد رجل وامرأتان بسرقة.. ثبت المال ولا قطع على السارق"3.
كما بين أن شهادة النساء لا تقبل فيما بمال ولا يقصد منه المال، من موجب عقوبة لله تعالى، كالردة وقطع الطريق والشرب، أو من عقوبة لآدمي، كقتل نفس وقطع طرف وقذف، ثم بين سبب ذلك قوله:"لأن الله تعالى نص على شهادة الرجلين في الطلاق، والرجعة والوصاية، وتقدم خبر": "لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل"
1 فتح القدير ج7 ص369-370.
2 المبسوط ج16 ص114.
3 مغني المحتاج ج4 ص176.
وروى مالك عن الزهري: "مضت السنة بأن لا تجوز شهادة النساء في الحدود"1.
وقد جاء مثل هذا أيضًا عن فقهاء المالكية2، والحنابلة3، والشيعة4، وما ورد من روايات عن بعض فقهاء الشيعة تجيز شهادة النساء في الحدود، فقد ردوا عليها وبينوا شذوذها، وما ورد من روايات أخرى عن بعضهم تجيز شهادتين في القتل مستدلين بقول علي بين أبي طالب، كرم الله وجهه:"لا يبطل دم امرئ مسلم"، فقد ردوا عليها وبينوا أن المراد بثبوت القتل بشهادتين ثبوته بالنسبة إلى الدية، وأما بالنسبة إلى الفرد، فلا يثبت بشهادة النساء"5.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
أما ابن حزم فقد أجاز شهادة النساء في الحدود، والقصاص سواء أشهد النساء منفردات أم مع الرجال، كل ما هنالك أنه جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجال، بمعنى أن ما يثبت من جرائم الحدود، والقصاص بشهادة رجلين يثبت عنده بشهادة أربع نسوة وهكذا.
وقد أورد ابن حزم هذا في قوله: "ولا تجوز أن تقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين، أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان، فيكون ذلك ثلاثة رجال، وامرأتين أو رجلين، وأربع نسوة أو رجلًا واحدًا وست نسوة وثمان نسوة فقط، ولا يقبل في
1 مغني المحتاج ج4 ص442.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص189.
3 المغني ج9 ص196.
4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص118-126.
5 مباني تكملة المنهاج ج1 ص118-126.
سائر الحقوق كلها من الحدود والدماء، وما فيه القصاص والنكاح، والطلاق والرجعة، والأموال إلا رجلان مسلمان عدلان، أو رجل وامرأتان كذلك، أو أربع نسوة كذلك"1.
واستدل ابن حزم على قبول شهادة النساء، في إثبات الجرائم الحدية، والحكم بعقوباتها المقدرة، وكذا في القصاص بما روي من أن امرأة أوطأت صبيًا، فقتلته فشهد عليها أربع نسوة، فأجاز علي بن أبي طالب شهادتين، وقضى على المرأة بالدية2.
وذكر ابن حزم أن من منع شهادة النساء في إثبات الحدود لا سند له من رواية قوية، وإنما سنده منقطع، وفي روايته من هو ضعيف وهالك، وأن العقل لا يفرق بين الرجل والمرأة من حيث الغفلة، أو تعمد الكذب والتواطؤ عليه3.
وما هب إليه ابن حزم هو أرجحه نظرًا؛ لأن الحال داعية إليه، بل إنه قد أصبح من الضروري الأخذ به تحقيقًا لما يهدف إليه المشرع، من تقرير عقوبة محدودة لمرتكبي الجرائم الحدية والقصاص.
وماذا يرى من منع إثبات الجرائم الحدية، وإلزام الجاني عقوبتها المقدرة بشهادة النساء، فيما إذا دأبت امرأة، أو رجل على إرتكاب جريمة من الجرائم الحدية في بعض الأماكن التي لا يوجد فيها إلا النساء، كالأقسام الخاصة بهن في المستشفيات مثلًا، أو مدارس الفتيات، أو الأقسام الداخلية التي تقيم فيها الطالبات، وغير ذلك من أماكن التجمعات النسائية.
1 المحلى ج10 ص569، 579.
2 المحلى ج10 ص573، 581.
3 المرجع السابق ص583.
إن الجاني الذي ارتكب جناية من الجنايات الحدية إذا جيء به، وشهد عليه بعهض من يقمن في هذه الأماكن التي لا يتواجد فيها الرجال، وبلغ عدد الشاهدات بالجريمة الحدية التي ارتكباها ضعف ما يلزم لإثباتها من الرجال، لو درئت عنه العقوبة الحدية، وألزم بعقوبة تعزيرية أخرى لكان في ذلك استهانة بالحرمات؛ لأن من الجناة من لا يعالجون، إلا بما حدد الله من علاج، وحالات العودة بالنسبة لمن يعاقبون تعزيريًا تشهد بها الإحصائيات، وتقرير كثرتها الكثيرة.
لذا كان الاعتداد بشهادة النساء بما ذكر من شروط أولى بالاعتبار في إثبات جرائم الحدود، والقصاص، والحكم بعقوباتها الحدية.
7-
الحرية: ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط حرية من يشهد بحد من حدود الله سبحانه وتعالى، حتى يمكن الاعتداد بشهادته، وعدها دليل إثبات الجرائم الحدية، وإلزام الجاني بمقتضى ذلك عقوبة ما اقترفه من هذه الجنايات.
هذا ما ذهب إليه الأئمة أبو حنيفة، ومالك والشافعي، ورأي للإمام أحمد ورأي عند فقهاء الشيعة1.
أما ابن حزم، فإنه يرى الاعتداد بشهادة العبد في كل ما يعتد فيه بشهادة الحر، أخذا بعموم آيات الشهادة، إذ هو من رجالنا كما أنه عدل تقبل فتواه، وروايته وأخباره الدينية، كما أن أكثر العلماء من
1 فتح القدير ج7 ص399، الخرشي ج7 ص176، مغني المحتاج ج4 ص427، المهذب ج2 ص331، المغني ج9 ص195، مبادئ تكملة المنهاج ج1 ص102-106.
الموالي كانوا عبيدًا أو أبناء عبيد، ولا يحدث الاعتاق في العبد إلا الحرية، وهي لا تغير طبعًا، ولا تحدث علمًا ولا مروءة1.
كما أن العبد قد قبل منه الإقرار بالحدود والقصاص، واعتد به في إثبات الجناية الحدية، فكيف تقبل شهادته على نفسه، وترد على غيره، إن كان ردها راجعًا إلى كونه رقيقا، فأولى أن ترد شهادته على نفسه أيضًا، وإن كان ردها راجعًا؛ لأن الغير هو الذي سيلزم بآثارها، فيجب إذا أن ترد كل شهادة له على نفسه أو غلى غيره؛ لأنه بإقراره على نفسه قد يترتب على هذا غرم لسيده، وذلك في حالة ما إذا كانت الجناية التي أقر بها معاقبًا عليها بعقوبة من العقوبات، التي تؤدي إلى إتلاف أحد أعضائه، أو إتلافه كله، ومما لا شك في أن الإتلاف في الحالتين سيلحق بسيده ضررًا، وسيلزم بآثاره.
لذا فما دام العبد عدلًا معروفًا بصدقة مشهورًا بقول الحق، والحفاظ على أوامر الدين، فليس هناك ما يمنع قبول شهادته، والاعتداد بها في إثبات الحدود والقصاص.
كما أنه لا يخفى أن نظام الرق قد انقضى عهده، وإذا وجد ففي حالات قليلة ونادرة.
8-
النطق: أي أن يكون الشاهد ناطقًا بالفعل، فيؤدي شهادته عن طريق ما يسمع منه من كلامه، فإن كان الشاهد غير متكلم بالفعل، كأن كان أخرس فإن للفقهاء في الاعتداد بشهادته آراء.
فقهاء الأحناف يرون أن النطق شرط من شروط الأهلية بالنسبة للشهادة، وعليه فلا تقبل شهادة الأخرس، وكذا ترد الشهادة أن أصيب
1 المحلى ج10 ص598-602، حاشية العدوي على الخرشي ج7 ص176، الطرق الحكمية ص244-249.
الشاهد بالخرس بعد أن أداها، ولم يحكم بعد بمقتضاها؛ لأن قيام الأهلية شرط وقت القضاء لصيرورة الشهادة حجة ضده، أي عند القضاء؛ لأنها إنما ترد للقضاء، فما يمنع الأداء يمنع القضاء، والعمى والخرس والجنون، والفسق يمنع الأداء، فيمنع القضاء1.
كما ذكر ابن قدامة أن شهادة الأخرس لا تجوز بحال، نص عليه أحمد -رضي الله تعالى عنه، فقال:"لا تجوز شهادة الأخرس، قيل: وإن كتبها؟ قال: لا أدري"، وهذا قول أصحاب الرأي.
وعلل ابن قدامة ذلك بأن الشهادة لا يعتبر فيها إلا اليقين، ولا يحصل اليقين بالإشارة2.
أما فقهاء الشافعية، فإن عندهم رأيين أحدهما يرى قبول شهادة الأخرس مطلقًا.
والثاني قيد قبول شهادة الأخرس بحالة الضرورة، وعليه فلا يعتد بها في الحدود، إذ لا ضرورة في الشهادة بها3، وذهب فقهاء المالكية إلى قبول شهادة الأخرس، والاعتداد بها سواء أداها كتابة، أو إشارة بشرط أن تكون مفهمة معبرة، واضحًا
يوفي بالمقصود.
_________
1 شرح فتح القدير ج7 ص399، المبسوط ج9 ص70.
2 المغني ج9 ص190-191.
3 أورد الشيرازي أنه قد ورد عن بعض فقهاء الشافعية القول نكاح الأخرس بإشارته، على أساس أنها كعبارة الناطق، في نكاح الأخرس وطلاقه، وقال بعضهم: لا تقبل ولا يعتد بها إلا عند الضرورة كنكاحه، وطلاقه ولا ضرورة في الشهادة، المهذب ج2 ص324، وذكر الخطيب أن شهادة الأخرس لا تقبل، وإن أفهمت إشارته مغني المحتاج ج4 ص427.
كما أجاز فقهاء المالكية شهادة الأصم على الأفعال، أما شهادته على الأقوال، فلا تقبل إلا فيما سمعه قبل الصم1.
واستأنس المجيزون لقبول شهادة الأخرس بما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار، وهو جالس في الصلاة إلى الناس، وهم قيام أن اجلسوا فجلسوا2.
والاستئناس بهذا فيما نحن بصدده استئناس بعيد لعدم وجود شبهة بين الحالين، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار في صلاته، وهو قادر على الكلام، والذي منعه من الكلام الحفاظ على الصلاة؛ لأن الكلام يبطلها، كما أن أصحابه عليه الصلاة والسلام، وإن تبعوا إشارته إلا أنهم بعد أن فرغوا من صلاتهم سألوه، واستفسروا منه فعلمهم، فإشارته صلى الله عليه وسلم لم تكن شهادة والناطق لو شهد بالإيماء بالإشارة لا تصح شهادته، كما أن محاولة قياس الاعتداد بالإشارة المفهمة، بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في صلاته أمر بعيد؛ لأن إثبات الحدود يقتضي علم وجود الشبهة.
وعليه فإن شهادة الأخرس بإشارته المفهمة لا يعتد بها في إثبات
1 يقول الخرشي: وأما العدل الأصم غير الأعمى، فتجوز شهادته في الأفعال، ولم يتعرضوا لشهادة الأخرس، وهي مقبولة كما قاله ابن شعبان، ويؤديها بالإشارة المفهمة، والكتابة وأما الأصم في الأقوال فلا يقبل، ما لم يكن سمعة قبل الصم، كذا ينبغي على قياس ما في شرح الإرشاد. الخرشي ج7 ص179 حاشية الدسوقي ج4 ص168.
2 قال ابن قدامة: أن النبي كان قادرًا على الكلام، وعمل بإشارته في الصلاة، ولو شهد الناطق بالإبهاء، والإشارة لم يصح إجماعًا، المغني ج9 ص190-191.
الجرائم الحدية؛ لأنها وإن أفهمت إلا أنها لا تخلو عن الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات1.
أما إذا أدى أخرس الشهادة عن طريق الكتابة الواضحة المفهمة، وأجاب عن طريق الكتابة عن كل ما يوجه إليه من استفسار، وما يطلب منه بيانه، إجابة أدت إلى اليقين، فلا مانع من الاعتداد بهذا في إثبات الجرائم الحدية، والحكم بعقوباتها؛ لأن شهادته بهذه الطريقة قد بعدت من احتمال الشبهة، وأفادت القطع واليقين.
9-
اليقظة: أي أن يكون يقظًا، وقت حدوث الجناية التي يشهد على الجاني بأنه ارتكبها.
وأن يكون فطنًا فاهمًا غير غافل، ولا مشغول عما يحدث وقت حدوثه -بشيء آخر لجواز أن ينتج عن إنشغاله هذا خلط بين ما وقع من جناية، وغيرها، أو بين الجاني وغيره، أو بينهما معًا.
فمن يكثر نسيانه أو خلطه، أو اشتباه الأمور عليه، فإنه ترد شهادته في الحدود والقصاص؛ لأن من شأن هذا أن تعتري شهادته الشبهة، وشهادة مثل هذه لا يقام بها حد.
فإن كان ينسى أحيانًا، أو يغلط أحيانًا ولكن الحادثة التي يشهد عليها منضبطة في ذهنه واعيًا لها، ذاكرًا دقائقها قبلت شهادته، وأقيمت الحدود بها.
1 ذهب رجال القانون إلى أن لمحكمة الموضوع أن تعول على شهادة الشاهد، ولو كان أصم أبكم كان باستطاعتها أن تفهم إشارته، وبغير ما حاجة إلى تعيين خبير ينقل إليها هذه المعاني.
أ. د: رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.
هذا بالنسبة لشهادته ممن يقع منه الخطأ، أو النسيان أو الغفلة، أما الأبله والبليد فلا تصح شهادتهم، ولا يعتمد عليها في الإثبات، أما ذو الغفلة فإنه تقبل شهادته في الحالات التي وضحت الجناية بالنسبة له، ولم يلتبس عليه شيء من أمرها1، ومبنى هذا كله أن الشهادة التي يقام بها حد من الحدود لا بد، وأن تكون صادرة عمن له قدرة ضبط عقلية يستطيع بها التمييز، والتدقيق، والفهم الواعي الضابط للأمور، والمفرق بين الحق والباطل.
فإن لم يكن الشاهد كذلك اعترت شهادته الشبهة، وشهادة مثل هذه مردودة، ولا يثبت بها حد.
1 ذكر الخرشي أن المغفل هو الذي له قوة التنبيه ولم يستعمل قوته، والمعنى أن الشاهد يشترط فيه أن يكون غير مغفل، قال ابن عبد الحكم: قد يكون الرجل الخير الفاضل ضعيفًا لا يؤمن عليه لغفلته أن يلبس عليه، فلا تقبل شهادته، إلا أن يكون الأمر المشهود فيه جليا واضحًا بينا لا يلبس على أحد، كقوله: رأيت هذا يقطع يد هذا أو نحو ذلك، فإن شهادة المغفل تقبل في مثل ذلك، وأما البليد فلا تصح شهادته مطلقًا، والفرق بين المغفل والبليد، أن المغفل له ملكة أي قوة منبهة، لكن لا يستعملها والبليد ليس له ملكة أصلًا، الخرشي ج7 ص179، حاشية الدسوقي ج4 ص168، فتح القدير ج7 ص415، المهذب ج2 ص324، مغني المحتاج ج4 ص427 المغني ج9 ص167-188. وقد سبق أن ذكرت أن رجال القانون قد حكموا بأنه لا يؤثر في صحة الاستدلال بأقوال الشاهد أن يكون به ضعفًا عقليًا، ما دامت المحكمة اطمأنت إلى صحة أقواله.
يراجع أ. د: رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.
المطلب الثاني: شروط في الشهادة
يشترط في الشهادة التي تؤدى وتثبت بمقتضاها الجرائم الحدية، ويلزم الجاني بعقوبة ما اقترفه من الحدود ما يأتي:
1-
أن تكون واضحة مفصلة، دالة قاطعة، لا لبس فيها ولا خفاء: مفيدة على سبيل القطع، واليقين أن الجاني قد ارتكب جنايته بفعل يستحق معه العقاب المقرر حدًا، من لدن الشارع الحكيم.
وكون الشاهدة بهذه الصورة من الوضوح، أمر ضروري لما يترتب عليها من إثبات جنايات عقوباتها بالغة الشدة تصل حد القتل قصاصًا، أو الإهلاك رجمًا.
ولهذا فإن الفقهاء اشترطوا تحري الدقة، والوضوح في الشهادة، وألزموا القاضي الاستفسار من الشهود عن مكان الجريمة وزمانها، وعن الجاني وكيفية جنايته. وعمن وقعت عليه إلى آخر ذلك، مما ينتفي معه أي لبس أو شبهة1.
وقد ورد عن فقهاء الأحناف في ذلك كثير من النصوص، منها ما جاء عن البلبرقي2 شارحًا ما في الهداية: "وإذا شهدوا سألهم الإمام عن الزنا ما هو، احترازا عن الغلط في الماهية، وكيف هو، احترازًا عن الغلط في الكيفية، وأين زنى احترازًا عنه في المكان، ومتى
1 كما أنه على القاضي أيضًا أن يسأل المدعى عليه، عما يمكن له من عذر، أو شبهة قد يترتب على وجودهما، أو وجود أحدهما درء العقوبة عنه، أو تغايرها.
2 أكمل الدين محمد بن محمود البابرقي من علماء الفقه الحنفي، توفي سنة 786هـ.
زنى، احترازًا عنه في الزمان، وعن الزنية احترازًا عنه في المفعول به"، ويدل عن وجوب السؤال عن هذه الأشياء النقل، والعقل أما الأول فما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ماعزا إلى أن ذكر النون والكاف
…
لكونه صريحًا في الباب، والباقي كناية.
أما العقل؛ فلأن الاحتياط في ذلك واجب؛ لأنه إن كان الفعل في غير الفرج عناه، فلا يكون ماهية الزنا، ولا كيفيته موجودة، أو زنى في دار الحرب، وهو لا يوجب الحد، أو في المتقادم من الزمان، وذلك يسقط الحد، أو كان له في المزنية شبهة لم يطلع عليها الشهود كوطء جارية الابن، فيستقص في ذلك احتيالا للدرء1، كما ذكر السرخسي في الشهادة بالقذف: أن المقذوف إذا جاء بشاهدين، فشهدوا أنه قذفه سئلا عن ماهيته، وكيفيته؛ لأنهما شهدا بلفظ مبهم، فالقذف قد يكون بغير الزنا، فإن لم يزيدا على ذلك لم تقبل شهادتهما؛ لأن المشهود به غير معلوم"2.
كما يقول في الشهادة بالسرقة: "وإن شهد شاهدان على رجل بالسرقة سئلًا عنم ماهيتها وكيفيتها؛ لأن مبهم الاسم محتمل، فإن من يستمع كلام الغير سدا يسمى سارقًا.. ولأن المسروق قد يكون غير مال، وقد يكون محرزًا، أو غير محرزًا وقد يكون نصابًا وما دونه، فلا بد أن يسألهما عن الماهية والكيفية، وينبغي أن يسألهما متى سرق، وأين سرق كما بيناه في الزنا؛ لأن حد السرقة لا يقام بعد تقادم العهد، ولا يقام على من باشر السب في دار الحرب، فيسألهما عن ذلك"3.
1 شرح العناية على الهداية مع فتح القدير ج5 ص215-216 المبسوط ج9 ص61.
2 المبسوط ص106.
3 المبسوط ج9 ص142 شرح العناية مع فتح القدير ج5 ص362.
وقد أورد فقهاء الشافعية اشتراط ما سبق في الشهادة، فيقول الشيرازي: "ومن شهد بالجناية ذكر صفتها، فإن قال: ضربه بالسيف فمات، أو قال: ضربه بالسيف فوجدته ميتًا لم يثبت القتل بشهادته لجواز أن يكون مات من غير ضربه.. ومن شهد بالزنا ذكر الزاني، ومن زنى به؛ لأنه قد يراه على بهيمة
…
أو يراه على زوجته أو جارية ابنه، فيظن أنه زنى، ويذكر صفة الزنا، فإن لم يذكر أنه أولج، أو رأى ذكره في فرجها لم يحكم به
…
وإن شهد أربعة بالزنا، وفسر ثلاثة منهم الزنا، ومات واحد منهم قبل أن يفسر لم يجب الحد في المشهود عليه
…
ومن شهد بالسرقة ذكر السارق والمسررق منه، والحرز والنصاب وصفة السرقة؛ لأن الحكم يختلف باختلافها، فوجب ذكرها، ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس، فيما يصير به مرتدًا، فلم يجز الحكم قبل البيان، كما لا يحكم بالشهادة على جرح الشهود قبل بيان الجرح1.
وجاء مثل هذا أيضًا عن فقهاء والمالكية، إذ يقول الخرشي في شروط صحة الشهادة بالزنا: أنهم لا بد أن يشهدوا بزنا واحد في وقت واحد في موضع واحد برؤية واحدة، وأنه أدخل فرجه في فرج المرأة كالمرود في المكحلة2.
كما جاء في المدونة: قلت: أرأيت إن شهد أربعة على رجل بالزنا، فقال لهم القاضي: صفوا الزنا، فقالوا: لا نزيد على هذا القول.
أيقبل شهادتهم؟ قال: أخبرتك بقول مالك أنه قال: يكشفهم الإمام
1 المهذب ج2 ص336-339، مغني المحتاج ج4 ص138-177.
2 الخرشي ج7 ص199، حاشية الدسوقي ج4 ص186.
فإن وجد في شهادتهم من يدرأ به الحد درأه، قلت: فإن أبوا أن يكشفوا شهادتهم؟ قال: لا يقام الحد إلا بعد كشف الشهادة، وذلك رأيي1.
وقد جاء اشتراط وضوح الشهادة، وتفصيلها، واستفسار القاضي الشهود عن كل ما يمكن أن يكون شبهة تدرأ الحد، أو تسقط العقوبة، عن كل من فقهاء الحنابلة2، والشيعة3 أيضًا.
من هذا كله يتضح أن جمهور الفقهاء، يرون اشتراط تحري الدقة في الشهادة التي يثبت بها الحد، ووضوحها وبيانها للجناية المشهود عليها بيانا لا يبقى معه أدنى لبس، حتى يمكن أن يحكم القاضي بناء على هذه الشهادة بالعقوبة المقررة لما ارتكبه الجاني من الجرائم الحدية.
أما ابن حزم، فإنه يرى أن ما يجب أن يستفسر القاضي الشهود عنه هو ما لا تتم الشهادة إلا به، والذي إذا نقص لم تكن الأقوال التي قبلت شهادة، وإذا اختلف الشهود فيه بطلت شهادتهم، ولم تتم.
أما ما لا معنى لذكره في الشهادة ولا يحتاج إليه فيها، وتتم الشهادة مع السكوت عنه، فلا ينبغي أن يلتفت إليه، وسواء اختلفت الشهود فيه، أو لم يختلفوا، وسواء ذكروه، أو لم يذكروه -واختلافهم في قصة أخرى ليست من الشهادة في شيء، ولا فرق، فلما وجب هذا كان ذكر اللون في الشهادة لا معنى له، وكان أيضًا ذكر الوقت في الشهادة في الزنى وفي السرقة، وفي القذف وفي الخمر لا معنى
1 المدونة ج16 ص140.
2 المغني ج8 ص199.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص180.
له -وكان إيضًا ذكر المكان في كل ذلك لا معنى له، فكان اختلافهم في كل ذلك كاتفاقهم، كسكوتهم، ولا فرق؛ لأن الشهادة في كل ذلك تامة دون ذكر شيء من ذلك.
وحسب الشهود أن يقولوا: إنه زنى بامرأة أجنبية نعرفها أولج ذكره في قبلها رأينا ذلك فقط، ما أبالي قالوا: إنها سوداء أو بيضاء أو زرقاء، أو كحلاء مكرهة، أو طائعة، أمس، أو اليوم، أو منذ سنة، بمصر أو ببغداد.
وكذا لو اختلفوا في لون ثوبه حينئذ، أو لون عمامته، ويستدل لذلك ابن حزم، فيقول:"لم يقل الله تعالى قط، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم: لا تقبلوا الشهادة حتى يشهدوا على زنى واحد، في وقت واحد، في مكان واحد، وعلى سرقة واحدة بشيء واحد في وقت واحد، في مكان واحد، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} "19: 64"، وتالله لو أراد الله تعالى ذلك لما أهمله، ولا أغفله حتى بينه فلان وفلان، وحاش لله من هذا"1.
وقبل مناقشة ابن حزم، فيما ذهب إليه أحب أن أذكر هنا بأن ابن حزم قال بأن الحدود لا تدرأ بالشبهات، هذا مذهبه وقد سبقت مناقشته.
وأول ما يناقش فيه ابن حزم هو كونه لا يشترط في الشهادة أن تكون مبينة لحالة المزني بها، أهي طائعة أم مكرهة، وهذا ولا شك أمر ضروري الاستعلام عنه؛ لأنه وإن لم يؤثر بالنسبة للفاعل المختار، إلا أنه يترتب عليه بالغ الأثر بالنسبة له، وللمزني بها إن كان منهما
1 المحلى ج13 ص377-379.
مكرهًا: وكذا إن كانت هي وحدها المكرهة؛ لأن المكره قد رفع عنه القلم فيما عدا القتل1.
فما دامت أكرهت، فلا عقوبة عليها، فكيف تستوي الشهادة عليها إذا ذكر فيها كونها مكرهة، أو لم يذكر؟. إن إثبات إكراها أو طواعيتها إثبات لأمر جوهري يترتب عليه الإدانة، أو البراءة بالنسبة لها، ولا يخفى ما قد يكون في الإدانة من رجمها وإلحاق العار بأهلها، أما براءتها مما نسب إليها، فإنها مانعة من ذلك كله، فكيف يتسنى إذا أن يعد ابن حزم ذلك من الأمور التي لا يلتزم بيانها في الشهادة؟
أما تعلق ابن حزم بأن الله سبحانه وتعالى لم يقل ذلك قط، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو تعلق واه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد راجع ما جاء شاهدًا على نفسه، واستوضحه واستبان منه ما قد يكون خافيًا على الشاهد نفسه، وسأله عن أشياء، وأشياء حتى وصل به الأمر صلى الله عليه وسلم إلى النطق بكلمة لم يكن ليحب أن ينطق بها.
ما فائدة هذا كله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أن لم يترتب عليه درء العقوبة، أو تغايرها وهما من الأمور المقصودة من مراجعة الشهود، واستبانتهم، واستيضاحهم.
وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم لينطق بذلك كله عبثًا، أو مضيعة للوقت حاش لله.
وابن حزم لم يأبه بقول بعض الشهود -إنهم رأوا الجاني يزني بامرأة أجنبية- في بلد كذا، أو قول الباقي منهم -المكمل للعدد المطلوب في الشهادة- لا بل رأيناه يزني بها في بلد آخر.
1 القرطبي ج5 ص3801.
مع أن قول بعض الشهود في بلد كذا، وقول الباقين لا بل في بلد آخر شهادة بواقعتين مختلفتين لا بواقعة واحدة، ولا بد للشهادة بكل واحد من الواقعتين من أربعة شهود حتى يقام الحد، كما هو متفق عليه، ولا يجوز أن يقام حد بشهادة أربعة شهود كل منهم قد رأى واقعة، غير التي رآها غيره من باقي الشهود، كما لا يخفى أن من جاء يشهد بواقعة زنا قد وقعت منذ سنة، ولم يمنعه مانع من الشهادة بها وقتها، يجب أن يستوضح، ويسأل عن سبب تأخره في الإدلاء بما رأى خصوصًا، وأن الشهادة بهذا تقام حسبة، وتأخيرها بلا سبب جوهري يورث شكًا في من جاء يشهد، وفي الوقائع التي يشهد بها، وعلى ذلك فما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع.
2-
أن تكون الشهادة مفيدة لليقين بحيث لا يظهر ما يعارضها، ولو ظاهرًا: فإن ظهر ما يعارضها، ولو في الظاهر فإن الفقهاء قد رأوا في إثباتها للحد ما يأتي:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الشهادة إذا وجد ما يعارضها، ولو في الظاهر تصبح محلًا للشبهة، ولا تفيد اليقين والقطع، ولهذا فإنه لا يعول عليها في إثبات جناية من الجنايات الحدية، وقد أورد ابن الهمام في هذا قوله:"وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا، وهي بكر بأن نظر النساء إليها، فقلن: هي بكر درئ عنهما أن عن المشهود عليهما بالزنا، وعنهم أي، ويدرأ حد القذف عن المشهود"1.
وقد وضح السرخسي هذ بقوله: "إن نظر إليها النساء قبل إقامة الحد، وقلن: هي عذراء أو رتقاء يدرأ عنها الحد؛ لأن الشبهة
1 فتح القدير ج5 ص288.
تتمكن بقول النساء، ولا شبهة أبلغ من هذا، فمع الرتق لا يتصور الزنا الموجب للحد، وبعد الزنا الموجب للحد لا يتصور بقاء العذرة"1.
كما يقول: "وإن شهد أربعة على رجل أنه زنى بهذه المرأة في موضع كذا في وقت كذا، وشهد أربعة أنه زنى بهذه المرأة الأخرى في ذلك الوقت بعينه في مكان آخر، والبينتان بينهما بعد لم يحد واحد منهم؛ لأن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين، والشخصان في وقت واحد لا يتصور أن يكونا في مكانين مختلفين، ولا يعرف الصادق من الكاذب".
"وإن شهد أربعة أنه زنى يوم النحر بمكة بفلانة، وشهد أربعة أنه قتل يوم النحر بالكوفة فلانا لم تقبل واحدة من الشهادتين، لتيقن القاضي بكذب أحد الفريقين، ولا حد على شهود الزنا لتكامل عددهم، وعلى هذا سائر الأحكام2.
وما ذهب إليه فقهاء الأحناف هو ما قال به فقهاء الشافعية، والحنابلة والشيعة، وبعض فقهاء المالكية.
فيقول الشربيني الخطيب: ولو شهد أربعة من الرجال بزناها، وأربع نسوة أو رجلان، كما قال البلقيني، أو رجل وامرأتان كما قاله غيره، أنها عذراء، لم تحد هي لشبهة بقاء العذرة، والحد يدرأ بالشبهات؛ لأن الظاهر من حالها أنها لم توطأ، ولا قاذفيها لقيام البينة بزناها، واحتمال عودة بكارتها لترك المبالغة في الافتضاض.
قال البلقيني: هذا إذا لم تكن غوراء يمكن تغيب الحشفة مع بقاء البكارة، فإن كان كذلك حدث لثبوت الزنا، وعدم التنافي، "هذا
1 المبسوط ج9 ص50.
2 المرجع السابق ص68، 69.
ما ذهب إليه فقهاء الشافعية، وأن كان منهم من قيد عدم حد قاذفيها بما إذا كان بين الشهادتين زمن بعيد يمكن العذرة فيه.
فإن شهدوا أنها زنت الساعة، وشهدن بأنها عذراء، وجب حد الشهود؛ لأنهم قذفوها لقيام ما يخالف ما شهدوا به1، وإن كنت أرى عدم حدهم حد القذف؛ لأن الطب الشرعي قد ذهب إلى إمكان حدوث الإيلاج مع بقاء غشاء البكارة إذا كان من النوع الذي يطلقون عليه الغشاء الهلالي2، ولا حد عليها نظرًا لقيام ما يعارض ما شهد به الشهود، ولو في الظاهر، إذ الحدود تدرأ بالشبهات.
ووافق فقهاء الحنابلة ما ذهب إليه الجمهور، إذ رأوا أنه لا حد على من شهد النساء ببكارتها، وكذا لا حد على من قامت البينة أنه مجبوب؛ لأن وجود مثل ذلك يعارض إمكان وقوع الجريمة الحدية.
واكتفى فقهاء الحنابلة بوجود امرأة واحدة تشهد ببقاء العذرة، يقول ابن قدامة بعد عرضه آراء الفقهاء في ذلك:
"ولنا أن البكارة تثبت بشهادة النساء، ووجودها يمنع من الزنا ظاهرًا.. وإذا انتفى الزنا لم يجب الحد، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه بالزنا مجبوب، وإنما لم يجب الحد على الشهود لكمال عددهم مع احتمال صدقهم.. ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة؛ لأن شهادتها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال3.
وجاء عن فقهاء الشيعة: إذا شهد أربعة رجال على امرأة بكر بالزنا
1 مغني المحتاج ج4 ص151.
2 ذكر أستاذي الدكتور سلام مدكور، أنه قد درس ذلك في كتاب الطب الشرعي للدكتور محمد سليمان.
3 المغني ج8 ص208، 209، 62.
قبلا وأنكرت المرأة، وادعت أنها بكر، فشهدت أربع نسوة بأنها بكر، سقط عنها الحد.
واستدلوا لذلك بما روي من أنه أتى أمير المؤمنين بامرأة بكر زعموا أنها زنت، فأمر النساء فنظرن إليها فقلن، هي عذراء، فقال: ما كنت لأخرب من عليها خاتم من الله، وفقهاء الشيعة لم يكتفوا بشهادة امرأة واحدة كما ذهب إليه فقهاء الحنابلة، وإنما اشترطوا لاعتبار ذلك شبهة، أن يشهد أربع نسوة ببكارتها.
ولا حد أيضًا عندهم على من شهدوا على هذه المرأة بالزنا، لاكتمال عدد الشهود1.
أما ابن حزم الذي لا يدرأ الحد بالشبهة، فإنه قد فصل القول فيمن شهد عليها أربعة بالزنا، ثم شهد أربع نسوة أنها عذراء، فقال: قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} 2. فواجب إذا كانت الشهادة عندنا -في ظاهرها حقًا، ولم يأت شيء يبطلها أن يحكم بها، وإذا صح عندنا أنها ليست حقا، ففرض علينا أن لا نحكم بها، إذ لا يحل الحكم بالباطل، هذا هو الحق الذي لا شك فيه.
ثم نظرنا في الشهود لها أنها عذراء، فوجب أن يقرر النساء على صفة عذرتها، فإن قلن: إنها عذرة، يبطلها إيلاج الحشفة ولا بد، وأنه صفاق3 عند باب الفرج، فقد أيقنا بكذب الشهود، وأنهم وهموا فلا يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم.
1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص182-183.
2 من الآية 135 من سورة النساء.
3 الصفاق ج صفق: الجلد الأسفل دون الجلد الذي يسلخ، وثوب صفيق كثيف نسجه، والمراد أن غشاء البكارة لم يسلخ، المنجد مادة "صفيق".
وإن قلن: أنها عذرة واغلة في داخل الفرج، لا يبطلها إيلاج الحشفة، فقد أمكن صدق الشهود، إذ بإيلاج الحشفة يجب الحد، فيقام الحد عليها حينئذ؛ لأنه لم نتيقن كذب الشهود، ولا وهمهم.
أما جمهور فقهاء المالكية، فإنهم قد ذهبوا إلى أن من شهد أربعة رجال بأنها زنت، فإنها تحد ولا تسقط عنها الحد إلا إذا شهد أربعة رجال أنها عذراء.
أما لو قالت: هي أنها عذراء أو رتقاء، وشهد بهذا أربع نسوة، فإن الحد لا يسقط
عنها.
فقد جاء في المدونة، "قلت: أرأيت المرأة إذا شهد عليها بالزنا أربعة عدول، فقالت: أنها عذراء أو رتقاء، تريها للنساء في قول مالك أم لا؟ ".
وكيف إذا نظر النساء، فقلن: هي عذراء أو رتقاء؟ قال: يقام عليها الحد ولا يلتفت إلى قولهن؛ لأن الحد قد وجب2، وقال الخرشي:"ولو ادعت المرأة بقاء بكارتها، أو أنها رتقاء، أو نظر إليها أربع نسوة وصدقناها على ذلك، فلا يسقط الحد المترتب عليها بشهادة البينة، ولم يقام على العذرة أربعة رجال لسقط الحد"3.
وذهب اللخمي4 إلى القول بأن من شهد أربعة نسوة ببكارتها يسقط عنها الحد، كما لو شهد الرجال بذلك، وقال المانعون لإسقاط
1 المحلى ج3 ص244-246.
2 المدونة ج16 ص50.
3 الخرشي ج8 ص81.
4 أو الحسن علي بن محمد الربعي، فقيه مالكي، قيرواني الأصل من أحسن مصنفاته، تعليق كبير على المدونة في فقه مالك سماه النصرة ت سنة 478هـ.
الحد، إن شهادة النساء أو الرجال على بقاء بكارتها صحيحة، ولكنها لا تسقط الحد؛ لأنها بكارة قد عادت، وهذا لا يتعارض مع إثبات زناها بشهادة الرجال ابتداء1.
كما ذهب فقهاء المالكية إلى إلزام من ثبت عليه حد السرقة بعقوبة القطع، حتى ولو قال: إن صاحب المال هو الذي أرسله، وجاء صاحب المال، وصدقه في مقالته هذه ورد شهادة الشهود، وكذبهم.
ما لم تكن مع السارق بينة على صدق مقالته، حتى ولو كانت هذه البينة هي القرينة المصاحبة لفعله بأن دخل من مداخل الناس، وخرج من مخاربهم، في وقت يشبه أن صاحب المال أرسل فيه، ذكر ذلك الخرشي في حديثه عن السرقة التي يلزم بها القطع، فقال:"وكذا يقطع السارق إذا أخذ في الليل المتاع المسروق، وقال: رب المتاع أرسلني لأخذه، فلا يصدق، ولو صدقه رب المتاع أنه أرسله".
وهذا مشروط بعدم وجود دليل غير كلام صاحب المال، أما إذا وجد دليل يقوي مقالته سقط الحد عن السارق2، وما ذكره فقهاء المالكية هنا، وفي عدم إسقاط حد الزنا بشهادة النساء بالبكارة يحتاج إلى مناقشة.
أما بالنسبة لعدم إسقاطهم الحد بوجود البكارة، واعتمادهم في ذلك على جواز أنها عادت بعد واقعة الزنا، فهو مردود؛ لأنه وإن أمكن عودة البكارة، فليس هناك دليل على ذهابها أصلًا سوى شهادة شهود الزنا، وهي شهادة احتملت الشبهة بوجود البكارة فعلًا.
وليس عندنا ما يؤكد أن البكارة الموجودة هي بكارة، قد عادت بعد أن فضت.
1 حاشية الدسوقي ج2 ص319.
2 الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ص336.
واحتمال الشهادة للشبهة يجعلها غير صالحة لإثبات الحدود علمًا بأن فقهاء المالكية، قد أقروا وأثبتوا درء الحدود بالشبهات، كما أن محاولة قياس إيغال العذرة، أو عدم إيغالها أمر فيه عنت، وتكلف ثمرته افتضاح عرض وهتك ستر، وذها ولا شك يتنافى، ومقاصد الشريعة الإسلامية، التي تدعو إلى الستر، فمن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كم أعرض بوجهه عمن جاء مقرًا على نفسه بجريمة حدية.
وعلى هذا، فبقاء العذرة شبهة تدرأ الحد.
أما لو أقر الرجل، والمرأة بواقعة الزنا، وكانا من أهل الإقرار الصحيح الذي يعتد به في إثبات الحدود، وأصروا على إقرارهما بالزنا لزمهما الحد حتى ولو قرر العدول أنة غشاء البكارة موجود؛ لأن اقرار العدول، وشهادتهم لا مبرر لوجودها أصلًا، فلا يلتفت إليها ما دام من أقرا بالواقعة مصرين على إقرارهما.
أما عدم إسقاط المالكية عقوبة القطع بقول صاحب المال: أنه هو الذي أرسل من أخذ المال، وعدم اعتبارهم لهذا القول -نظرًا؛ لأن السارق في رأيهم- قد دخل البيت من طريق غير معهود، أو في وقت غير مناسب- فهو قول ليس له من سند يقويه، أو دليل يدل عليه.
إن إقرار صاحب المال بذلك بينة يقينية يجب ألا تترك لمجرد افتراض واه.
كما أن قول صاحب المال، وإن لم يكن بينة يقينية -على سبيل الفرض، فهو يورث شبهة في حق آخذ المال، وهي شبهة يسقط عنه الحد بسببها.
أما آخذ المال، وإن أخطأ ودخل الدار من مدخل غير مناسب، أو في وقت غير مناسب، فهذ الخطأ -جدلًا- لا يترتب عليه إلزام حد
من الحدود، التي لا تقام إلا باليقين، وحتى من لم يثبتوا درء الحد بالشبهة من فقهاء الظاهرة، قد رأوا أن الحدود لا تثبت بالشبهة.
فما بال من أثبت درء الحد بالشبهة يقيم الحد بالشبهة، ولا يدرأه مع وجودهما؟.
3 يشترط فقهاء الأحناف أن تكون الشهادة بالجناية الحدية عقب وقوع الجناية من الجاني، ولا يمر وقت فاصل بين وقوع الجناية، وآداء الشهادة بها يعد تقادمًا1.
وقد تقدم بيان هذا عند الحديث عن الإقرار.
أما جمهور الفقهاء، فإنهم لا يرون هذا الشرط، ويقبلون الشهادة بالحدود القديمة، ويحكمون بمقتضاها الحدية المقررة للجناية التي ارتكبها الجاني.
فقد جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن تقادمت السرقة، فشهدوا عليها بعد حين من الزمان، أيقطع في قول مالك أم لا؟ قال: نعم يقطع عند مالك، وأن تقادمت، قلت: وكذلك الحدود كلها، شرب الخمر والزنا؟ قال: نعم لا يبطل الحد في شيء مما ذكرت لك، وإن تقادم ذلك تطاول الزمان2.
كما جاء عن فقهاء الشافعية أنه لا يشترط جباة الشهود، ولا حضورهم حالة الحكم، ولا قرب عهد الزنا، فتقبل الشهادة به، وأن تطاول الزمان3.
1 تبين الحقائق ج3 ص187، الإفصاح عن معاني الصحاح ج2 ص419 فتح القدير ج5 ص279، البحر الرائق ج5 ص22.
2 المدونة ج16 ص67، 68.
3 مغني المحتاج ج4 ص151.
وقال ابن قدامة مبينًا رأي جمهور فقهاء الحنابلة: "وأن شهدوا بزنا قديم، أو أقر به وجب الحد".
واستدل لذلك بعموم الآيات، وأنه حق يقبت على الفور، فيثبت بالبينة بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق، وبأن التأخير يجوز أن يكون لعذر، أو غيبة والحد لا يسقط بمطلق الاحتمال، فإنه لو سقط بكل احتمال لم يجب الحد أصلًا1.
من هذا يبين أن جمهور الفقهاء لم يوافقوا على ما اشترطه فقهاء الأحناف.
ورأي فقهاء الجمهور أن الحدود تثبت بالشهادة، وإن تقادمت هذه الحدود.
واستدل فقهاء الجمهور لذلك بأدلة منها: أن الفقهاء عدا ابن أبي ليلى يرون قبل الإقرار بالجنايات الحدية القديمة، والحكم بمقتضاه بعقوبة هذه الجنايات، والإقرار والشهادة كلاهما وسيلة إثبات في الحدود، فلم يقبل الإقرار فيما تقادم من حدود وترد الشهادة، علمًا بأنه اشترط في الشهود العدالة، فما دام لم تحقق هذا الشرط قبلت الشهادة واعتد بها، وإن انتفت عدالة الشهود، فهذا أمر آخر غير التأخير.
كما أنه لا يخفى أن فقهاء الأحناف يرون قبول الشهادة بما وقع على حقوق العباد من جنايات حدية قديمة، فلم إذا ردوها في ما وقع الاعتداء فيه على حق الله؟.
إن كون حق الله سبحانه وتعالى مبني على المسامحة، لا تنهض به حجة لهم على رد الشهادة، فيما تقادم منه.
1 المغني ج8 ص207.
"شروط لا بد من توافره، فيمن يشهد عليه بحد من الحدود":
ما سبق من شروط كان موضوعها الشاهد والشهادة، أما هذا الشرط، فإنه خاص بالمشهود عليه.
وقد ذهب فقهاء الأحناف إلى أنه لا بد لإثبات الحد بشهادة الشهود أن يكون المشهود عليه قادرًا على الدفاع عنه نفسه، مستطيعًا ذكر ما قد يكون له من الأدلة التي تنفي عنه، أو تسقط عقوبتها، أو تغايرها من عقوبة حدية إلى غيرها.
فإن كان عاجزًا عن الدفاع عن نفسه بسبب علة من العلل، كأن أصيب بجنون مثلًا، أو كان أخرس فإنه حينئذ يصبح عاجزًا عن ذكر ما يدرأ عنه العقوبة، وعليه فإنه إن كان مجنونا، وجب الانتظار حتى يفيق، ويسأل عما شهد به الشهود عليه.
فإن استمر جنونه حتى مات، سقط عنه الحد بموته، أما الأخرس فإنه لا يلزمه حد بشهادة الشهود عليه لجواز أن له ما لو ذكره لدرئ عنه الحد، ولكنه -بسبب علته هذه لا يستطيع ذكر ذلك.
أما الإمام الشافعي، فإنه لا يرى ذلك بالنسبة للأخرس، وقاسه بالأعمى، أو بقاطع اليدين، أو الرجلين، فجعل علته كعلتهما، وألزمه الحد بشهادة الشهود مع علته مثلهم، واحتمل كلام الخرقي1، ما ذكره الشافعي من إلزام الأخرس بشهادة الشهود عليه به، لكنه علل هذا بأن قول المشهود عليه معتبر مع قيام البينة عليه بجناية من الجنايات.
1 الخرقي: هو أبو القاسم عمر بن حسين بن عبد الله، أحمد الخرقي فقيه حنبلي، من أهل بغداد له تصانيف منها المختصر في الفقه، توفيى بدمشق سنة 334هـ.
ذكر هذا ابن قدامة عند حديثه عن وجوب الحد على الأخرس بإقراره، أو بالبينة فقال: ولا يجب بالبينة لاحتمال أن يكون له شبهة، ويحتمل كلام الخرقي أن لا يجب الحد بإقراره؛ لأنه غير صحيح؛ ولأن الحد لا يجب مع الشبهة، والإشارة لا تنتفي معها الشبهات، فأما البينة فيجب عليه بها الحد؛ لأن قوله معها غير معتبر1، وجملة القول أن الإمام الشافعي يرى إلزام الأخرس بما قامت البينة به من الجنايات الحدية قياسًا للأخرس بالأعمى، والأقطع.
أما الخرقي فإنه يرى أن البينة التي تقوم بحد من الحدود لا عبرة بما يقال من المشهود في دفع الحد عن نفسه، فقيام البينة يدفع قول المتهم، ويلزمه الحد.
وما ذهب إليه الإمام الشافعي من قياس الأخرس بالأعمى، والأقطع قياس غير منضبط إذ أن الأعمى، والأقطع بإمكان كل منهما أن يرد الحد عن نفسه، إذا كانت له حجة، أو شبهة لوجود آلة الكلام صحيحة لديهما، وإمكان سؤالهما ومراجعتهما، وذلك هو طريق الدفع عن النفس، وذكر الشبهة أن وجدت. والأخرس فاقد لذلك، وعاجز عن بيان حقيقة فعله وملابسته.
ثم إن قول الخرقي: أن قول المشهود عليه لا عبرة له مع البينة قول بحاجة إلى بيان؛ لأن المشهود عليه يجوز أن يكون له ما يدفع عنه العقوبة، وقد خفي هذا عن المشهود، فهلا إذا ذكره وبينه لا يلتفت إليه؟
إن فيما سبق من كلام فقهاء الحنابلة في الشبهة ما يرد قول الخرقي، وينفيه ويؤكد أن للمشهود عليه أن يقول ما شاء مما يدفع عنه العقوبة، وأن على القاضي أن يسمع له، وينظر في مقالته، أما فقهاء
1 المغني ج8 ص196.
الأحناف، فقد استدلوا لما ذهبوا إليه من إسقاط الحد عن الأخرس، والمجنون بأن كلا منهما ربما تكون له شبهة تدرء عنه الحد، وليس في إمكانهما ذكرها لعلة كل منهما، فيقول السرخسي: ولا يؤخذ الأخرس بحد الزنا، ولا بشيء من الحدود.
وإن أقر بإشارة أو كتابة، أو شهدت به عليه الشهود، وعند الشافعي رحمة الله عليه تعالى يؤخذ بذلك؛ لأنه نفس مخاطبة فهو كالأعمى، أو أقطع اليدين أو الرجلين.. إلى أن يقول: وكذلك أن شهدت الشهود عليه بذلك؛ لأنه لو كان ناطقًا ربما يدعى شبهة تدرء الحد، وليس كل ما يكون في نفسه على إظهاره بالإشارة، فلو أقمنا عليه كان إقامة الحد مع تمكن الشبهة، ولا يوجد مثله في الأعمى، والأقطع لتمكنه من إظهاره دعوى الشبهة.
والذي يجن ويفيق في حال إقامته كغيره من الأصحاء، يلزمه الحد بالزنا في هذه الحالة سواء أقر به، أو شهد عليه الشهود1.
كما يقول ابن الهمام في حديثه عن إقرار الأخرس: لو أقر الأخرس بالزنا بكتابة، أو بإشارة لا يحد للشبهة بعد الصراحة، وكذا الشهادة عليه لا تقبل لاحتمال أن يدعي شبهة، كما لو شهدوا على مجنون أنه زنى في حال إفاقته، بخلاف الأعمى صح إقراره، والشهادة عليه2.
هذا ما ذكره فقهاء الأحناف في إيجاب الحد على الأخرس بشهادة الشهود، وقد تقدم في الحديث عن إقرار الأخرس إن اختررت قبول إقراره في الحدود، والحكم بعقوباتها إن كان قادرًا على الكتابة، وسأله الإمام عن كل ما يمكن أن يكون من شبهة مسقطة للحد عنه بأن كتب
1 المبسوط ج9 ص98.
2 فتح القدير ج5 ص218.
له الإمام ذلك، فقرأه الأخرس، وأجاب عليه كتابة بما يفيد اليقين بأنه ارتكب الجناية الحدية.
ومثل ذلك هنا أيضًا في إيجاب على الأخرس بشهادة الشهود في حالة ما إذا كان قارئًا، وكاتبًا واستفسر منه الإمام عن كل ما يدفع الحد عنه، فلم يجب بشيء يدفع هذا الحد.
أما لو كتب للقاضي بشبهة من الشبه، فإن على القاضي تحقيق الأمر، واعتبار ما ذكره الأخرس كتابة، فإن كان يسقط الحد عنه أسقطه القاضي، وإن كان يدرء الحد فقط، ويرى القاضي عقابه تعزيريًا عاقبه بعقوبة تعزيرية؛ لأن الأخرس والحالة هذه قد أصبح لديه ما يمكنه من توضيح موقفه، والدفاع عن نفسه.
المبحث الثالث: القرائن: معناها، وأعمالها في إثبات الحدود
معنى القرائن:
القرائن مفردها قرينة، مأخوذة من المقارنة بمعنى المصاحبة، ويراد بها ما يدل على الشيء ويوصل إليه، من قرن الشيء بالشيء يقرنه قرنًا شده به، ووصله إليه1.
والقرينة في اصطلاح الفقهاء هي: الأمر الذي يشير إلى المطلوب2.
وعند القانونيين هي: الصلة الضرورية التي ينشئها القانون بين وقائع معينة.
أو هي نتيجة يتحتم على القاضي أن يستخلصها من وقائع معينة ليأخذ بها3.
1 لسان العرب، القاموس المحيط.
2 التعريفات للجرجاني، علي ين محمد الحسيني الجرجاني سة 816هـ.
3 طرق الإثبات في الشريعة أ. د: أحمد إبراهيم ص424 "ط المطبعة السلفية سنة 1347هـ".
أعمالها في الإثبات:
أمعمل فقهاء الشريعة القرائن في الإثبات، وألزموا من قامت القرائن تدلل على جنايته، بالعقوبات التعزيرية، والتعويضات المالية.
ووافقهم في هذا فقهاء القانون الذين يرون أن دلالة القرائن دلالة غير مباشرة كدلالة الشهادة والإقرار، إلا أنهم لم يرفعوها من حيث الدلالة إلى مرتبة الشهادة والإقرار، ولا من حيث الأخذ بها، والحكم بمقتضاها، إذ لا يحكم بمقضتاها بعقوبة مساوية لعقوبة الجرائم، ذاتها إذا ثبتت بالشهادة والإقرار.
فالأحداث كثيرًا ما تظهر كذب ظواهر الأمور، وتدل على خطأ الإنسان في كثير من استنتاجاته التي اعتمد فيها على الأمور الظاهرية1، أما أعمال القرائن في إثبات الجرائم الحدية، فإن لفقهاء الشريعة في ذلك رأيين:
الأول: وبه يقول جمهور الفقهاء
عدن إعمالها في إثبات الحدود؛ لأن الإثبات بها لا يصل حد اليقين الدال على أن من قامت القرائن تدينه هو فعلًا ارتكب جناية حدية، تلزمه بها عقوبتها المقدرة.
واستدل جمهور الفقهاء لما ذهبوا بأدلة كثيرة منها ما يأتي:
1 عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها"2.
يقول الشوكاني: "أنه لا يجب الحد بالتهم، ولا شك أن إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به، وهو قبيح عقلًا وشرعًا، فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص، وما أشبه ذلك بعد
1 المرجع السابق ص424.
2 رواه ابن ماجه، رجاله ثقات رجال الصحيح، نيل الأوطار ج7 ص117.
حصول اليقين؛ لأن مجرد الحدس والتهمة، والشك مظنة للخطأ، والغلط وما كان كذلك، فلا يستباح به تأليم المسلم، وإضراره بلا خلاف"1.
2 روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين رمى هلال بن أمية زوجته بالزنا ولاعنها: "أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سمحاء"، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لولا ما مضى من كتاب الله لي ولها شأن"2.
3 لم يقض رسول الله صلى الله عليه وسلم بحد الزنا على الغامدية، إلا بعد أن أقرت أمامه، مع أنها كانت حاملًا، والحمل قرينة تدل على ما سبقها، فلو كانت تكفي القرينة وحدها، أو حتى مع إقرار الشريك في الجريمة لاكتفى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى على الغامدية بالحد، ولكنه لم يقض حتى جاءت، وطلبت أن يطهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليها، فقال لها:"ويحك: ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فأصرت على إقرارها3، ولو لم تصر على إقرارها لما ألزامها الحد مع وضوح حالتها، وظهور حملها، وهو قرينة دالة على فعلتها، لهذا قال فقهاء الأحناف والشافعية والحنابلة، والشيعة بأنه يجوز إثبات الجرائم بالقرائن.
1 المرجع السابق.
2 الأكحل من كانت منابت أجفانه سوداء كان فيها كحلًا، سابغ الإليتين، عظيمهما، خدلج الساقين: ممتلئ الساقين، نيل الأوطار ج6 ص306 ج7 ص117، فتح الباري على صحيح البخاري ج8 ص363.
3 نيل الأوطار ج7 ص125-128، سنن أبي داود ج2 ص456-462.
فقد جاء في قول ابن الهمام: "ولا حد على من وجد به ريح الخمر، أو تقيأها؛ لأن الرائحة محتملة، فلا يثبت بالاحتمال ما يندرئ بالشبهات، وكذا الشرب قد يكون عن إكراه، فوجود عينها في القيء لا يدل على الطواعية، فلو وجب الحد وجب بلا موجب، إلى أن يقول: أما عدم وجوب الحد بوجود الرائحة والتقيؤ فظاهر، وطريقه أنه لو ثبت الحد لكان مع شبهة عدمه؛ لأن الرائحة محتملة، وإن استدل عليها، فإن فيها مع الدليل شبهة، فلا يثبت الحد معها"1.
كما أورد الشربيني الخطيب أن عمر -رضي الله تعالى عنه، وعلي معه قد أسقطا الحد عن امرأة أتى بها إليهما، وأقيمت عليها البينة بالزنا، وأقرت لكنها ذكرت جهدها العطش، ولم يسقها الراعي إلا بتمكينه من نفسها، واعتبر هذا إكراها لها.
فإذا كان الإكراه قد أسقط الحد مع قيام البينة، والإقرار وهما أقوى طرق الإثبات، فالأولى أن يسقط احتمال الإكراه الحد الذي تدل عليه القرائن، ومن المعروف أن الاحتمال يسقط به الاستدلال، كما أورد أيضًا أن الحد لا يجب بريح الخمر، أو السكر أو القيء الدال على شرب الخمر: لاحتمال أن يكون قد شربها غلطًا، أو مكرها والحد يدرء بالشبهة.
كما أورد أن القاضي لا يجوز له أن يستوفي في الحد بعلمه على الرأي الصحيح، وقد يكون سبب علم القاضي، وجود قرينة من القرائن الدالة2، وهذا ما ذهب إليه فقهاء الحنابلة، فيما ذكره ابن قدامة
1 فتح القدير ج5 ص308-309.
2 مغني المحتاج ج4 ص145، 190، المهذب ج267، 319-320.
واستدل لذلك بأدلة ما جاء في قوله، ولنا قول الله تعالى:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} ، وقال تعالى:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، وقال عمر: وكان الحبل أو الاعتراف؛ ولأنه لا يجوز له أن يتكلم به، ولو رماه بما علمه منه لكان قاذفًا يلزمه حد القذف، فلم تجز إقامة الحد به كقول غيره؛ ولأنه إذا حرم النطق به، فالعمل به أولى1.
ويقول ابن قدامة: وإذا حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد، لم يلزمها الحد بذلك وتسأل، فإن ادعت أنها أكرهت أو وطئت بشبهة، أو لم تعترف بالزنا لم تحد
…
إلى أن يقول: ولنا: أنه يحتمل أنه من وطء إكراه، أو شبهة والحد يسقط بالشبهات.
وقد قيل: إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها، إما بفعلها أو بفعل غيرها، ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك2.
وجاء عن فقهاء الشيعة في قولهم: إذا حملت المرأة، وليس لها بعل لم تحد لاحتمال أن يكون الحمل بسبب آخر دون الوطء، أوبالوطء شبهة، أو إكراه أو نحو ذلك، وعللوا إسقاط الحد أيضًا بقولهم: ومع احتمال أن يكون الحمل بسبب آخر غير الزنا، لا يثبت الحد3.
أما ابن حزم، فمع أنه لا يرى درء الحد بالشبهة، كما سبق إلا أنه لا يرى أيضًا أن تقام الحدود بشبهة، وقد جاء هذا صراحة في قوله: وذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرء بشبهة، ولا أن تقام
1 المغني ج8 ص210.
2 المغني ج8 ص210-211.
3 مباني تكلمة المنهاج ج1 ص187.
بشبهة، وإنما هو الحق لله تعالى ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة1.
كما قرر ابن حزم أن الحد لا يقام على شارب الخمر إن أكره على شربها، أو اضطر إليها لعطش، أو علاج أو لدفع ضيق، أو جهلها2، ومن هذا يبين أن من تقيأها، أو شمت رائحتها من فيه لا تكفي هذه القرينة في إقامة الحد عليه لجواز أن يكون لسبب من الأسباب المذكورة.
هذا هو رأي جمهور الفقهاء، الذي يقرر عدم إثبات حد من الحدود بقرينة من القرائن؛ لأن القرينة لا تفيد إثبات الفعل المؤثم بالطريق الذي يجرمه الشرع، كما أنها دليل لا يخلو عن شبهة، والحدود كما تدرء بالشبهات، فإنها لا تثبت مع وجودها، ولا بدليل يحتملها، ولا يفيد القطع واليقين.
الرأي الثاني:
إعمال القرائن في إثبات الحدود؛ لأن القرائن عند أصحاب هذا الرأي أقوى من البينة، والإقرار إذ أنهما خبران يتطرق إليهما الصدق، والكذب، أما القرينة عندهم فهي دلالة صادقة، ولا يتطرق إليها احتمال الكذب، أو الشبهة في الغالب.
هذا ما ذهب إليه الإمام مالك، وابن قيم الجوزية، واستدل للاعتداد بالقرائن والحكم بمقتضاها بأدلة منها:
1 قول الشاهد الذي ذكر الله شهادته، ولم ينكر عليه، ولم يعبه بل حكاها مقررًا لها، فقال تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي
1 المحلى ج23 ص61.
2 يراجع المحلى ج13 ص429.
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} 1.
فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب، وهذا لوث في أحد المتنازعين، يبين به أولاهما بالحق2.
2 حكم النبي صلى الله عليه وسلم بموجب اللوث في القسامة، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينًا، ويستحقن دم القتيل3.
3 ما روه ابن عباس عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من أنه قال: إن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف4.
يقول ابن القيم: هذا حكم عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه، والصحابة معه برجم المرأة التي ظهر بها الحبل، ولا زوج لها ولا سيد، وذهب إليه مالك وأحمد في أصح روايته -اعتمادًا على القرينة
1 الآيات من 25-28 من سورة يوسف عليه السلام.
2 الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ص7 "ط المدني بالقاهرة".
3 ذكر ابن حزم أن سليمان بن يسار -مولى ميمونة أم المؤمنين، رضي الله عنها روي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه، وقضى بها بين أناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر -المحلى ج12 ص461، يرجع في هذا الطرق الحكمية ص8، وفي اعتبار شرع من قبلنا دليلًا يراجع أصول الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص122.
4 هذا القول رواه الجماعة، إلا النسائي نيل الأوطار ج7 ص118.
الحد برائحة الخمر من فم الرجل، أو فيئه خمرًا، اعتمادًا على القرينة الظاهرة. وحكم عمرو ابن مسعود -ولا يعرف لهما مخالف- بوجوب الظاهرة1.
بهذا استدل القائلون بالاعتداء بالقرائن في إثبات الجنايات الحدية، وأوجبوا بناء على ذلك الحكم بالعقوبة الحدية، على ما دلت القرائن على ارتكابه جناية من جناياتها.
فالإمام مالك قد رأى أن من قامت القرائن على إدانته بجناية حدية لا يقبل إنكاره، ولا يسقط به لحد عنه ما لم يقم دليل يشهد له بما يدفع الحد عنه، فإن لم يقم الدليل على براءته، أو أنه أكره على الفعل الذي قامت القرينة تدل عليه لزمته العقوبة، يقول الخرشي مؤكدًا ذلك: أن المرأة إذا ظهر حملها، ولا يعرف لها زوج، أو كانت أمة ولا سيد لها، أو لها سيد وهو منكر لوطئها فإنها تحد، ولا يقبل دعواها الغصب على ذلك بلا قرينة تشهد لها بذاك، وأما إن قامت لها قرينة فلا حد عليها، كما إذا جاءت تدمي وهي مستغيثة عند النازلة، أو أتت متعلقة به على ما مر بيانه عند قوله: وإن دعت استكراها على لائق بلا تعلق2.
كما يقرر ابن قيم أن عدم الاعتداد بالقرائن يترتب عليه إضاعة كثير من الحقوق، فيقول:"فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال ومعرفة شواهده الحالية، والمقلية، كفقهه في كليات الأحكام، أضاع حقوقًا كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعمل الناس بطلانه لا يشكون فيه، اعتمادًا منه على نوع ظاهر، ولم يلتفت إلى باطنه، وقرائن أحواله"3.
1 الطرق الحكمية ص8.
2 الخرشي ج8 ص81.
3 الطرق الحكمية ص4-5.
ثم يضرب مثالًا لما ذهب إليه، بقوله:"وهل يشك أحد رأى قتيلًا يتشحط في دمه، وآخر قائم على رأسه بالسكين: أنه قتله؟ ولا سيما إذا عرف بعداوته، ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يمينًا: أن ذلك الرجل قتله، ثم قال مالك وأحمد: يقتل به. وقال الشافعي: يقضي عليه بديته"1.
هذه مقالة من يرى الاعتداد بالقرائن في إثبات الجرائم الحدية، وجرائم القصاص، وإلزام عقوبتها.
لكنها مقالة لا تصل في قوتها ما ذكره جمهور الفقهاء من أدلة نقلية، وعقلية وافقت ما سبق أن اتفق جمهور الفقهاء عليه، ومنهم المالكية من درء الحد بالشبة، ومن أن الأصل براءة الذمة.
أما ما استدل به ابن قيم ومن وافقه ممن يعملون القرائن في إثبات الحدود، فهو يحتاج إلى إعادة نظر.
فما ذكر من الاستدلال بما جاء من قصة يوسف عليه السلام، أمر لا جدال فيه، والقرائن بينة، ومع هذا لا دليل فيه على إثبات حد؛ لأن الاستدلال في هذا بالقرائن أنتج دفع التهمة عن يوسف عليه السلام، وأثبت براءته التي هي الأصل، إذ الأصل براءة الذمة لا يعدل عنه إلا بدليل يقيني.
فالقرينة هنا اعتد بها أنها دليل نفي، وليس على أنها دليل إثبات أما ما استدل به على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم بموجب اللوث، وطالب المدعين أن يحلفوا خمسين يمنيًا، ويستحفوا رجم القتيل
1 الطرق الحكمية ص8-9.
فإنه قد جاء عن الجمهور ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم لهم بالدية، ولم يقتص لقتيلهم.
وما رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنهم- يمكن حمله على أن كلمة "أو"، التي جاءت بعد كلمة الحبل، وقبل كلمة الاعتراف في قوله: أو كان الحبل أو الاعتراف، يمكن أن تحمل على أنها عاطفة، ويكون قول عمر على هذا: أو كان الحبل والاعتراف.
هذا لا يعارض قواعد العربية، ويؤيده ما جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- من أنه لم يقم الحد على من جاء معترفًا؛ لأنه أتى جريمته الحدية، وهو مكره.
والقرينة إذا دلت على الجريمة، فإنها لا تدل على الطريقة التي وقعت بها، ولا الظروف التي أحاطتها، وهذه كلها أمور جوهرية لا بد من التثبت منها لإلزام الحد.
وحتى لو حمل قول عمر على الوجه الذي استدل به مثبتوا الحد بالقرائن، فإنه لا يعدو أن يكون اجتهادًا لعمر في هذه الحادثة بعينها لم عن له من ظروف، وملابسات، وأدلة أخرى لم يروها عنه من روى هذه الحادثة، ويؤكد ذلك أن عمر يلتزم بما قضى به هنا، إن صح -في كل ما عرض عليه من قضايا- الحدود.
وقد ذكر جانبًا من هذا الشوكاني في مقالته: إن هذا من قول عمر، ومثل ذلك لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس، وكونه قاله في مجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه لا يستلزم أن يكون إجماعًا.. لأن الإنكار في مسائل الاجتهاد غير لازم
للمخالف لا سيما القائل بذلك عمر، وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة وغيرهم1.
وما استدل به ابن القيم من أن لفظ البينة يصدق على كل ما يبين الحق، ويظهره دون تخصيص شيء دون شيء لا حجة له فيه، ولا يلزم منه إثبات الحدود بالقرائن؛ لأن الله سبحاه وتعالى لم يذكر كلمة البينة التي تثبت بها الحدود مطلقة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتبع كلمة البينة التي يعتد بها في إثبات الحدود، بما يفيد ما تصدق عليه بأنها الشهادة، والإقرار المفيدان القطع واليقين، فقد جاء ذكر البينة في الحديث مقابلًا بما ظهر من تلك المرأة من ريبة، وقرائن مختلفة دالة على سلوكها، وسمعتها هي ومن يدخل عليها.
ومع قيام كل هذه القرائن لهم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم على المرأة المذكورة حدًا.
ولم يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغامدية الحد مع قيام القرائن على جريمتها -من كونها حبلى، واعترف ماعز- إلا بعد مجيئها واعترافها، ومع ذلك يقول لها الصادق الأمين الرءوف الرحيم:"ويحك: ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه".
ويطعن فيما ذكر ابن القيم من أنه لا شك أحد رأى قتيلًا يتشحط في دمه، وآخر قائم على رأسه بالسكين أنه قتله، ما ذكره هو نفسه من قصة الأعرابي الذي أتى به لعلي رضي الله عنه، وبيده سكين ملطخة بالدم، وقد وجد في خربه، وأمامه قتيل يتشحط في دمه، فسأله علي فقال: أنا قتلته، ومع هذا كله تثبت براءته2.
1 نيل الأوطار: ج7 ص119.
2 الطرق الحكمية ص82-83.
من هذا كله يبين أن القرائن مهما وصلت قوتها الاستدلالية في أداة إثبات احتمالية تلحقها الشبهات وتحفها الظنون، فلا يعتد بها في الجنايات الحدية، والقصاص إلا إذ صاحبتها شهادة الشهود، أو إقرار.
أما ما عدا ذلك من الجنايات الأخرى ذات العقوبات التعزيرية، أو التعويضات المالية، فإنه يمكن الاعتماد على القرائن في إثباتها.
لأن أمرها مفوض فيه للقاضي، وهذا ما أميل إليه وأرجحه.
الباب الثاني: الجرائم الحدية الشبهات التي تعتريها ومالها من أثر في عقوبتها
الفصل الأول: جريمة الزنا
مدخل
…
الباب الثاني: الجرائم الحدية الشبهات التي تعتريها ومالها من أثر في عقوبتها
الفصل الأول: جريمة الزنا
تقديم:
عرف فقهاء الأحناف الزنا بأنه: "اسم الوطء الحرام في المرأة الحية عن حقيقة الملك وعن شبهته، وعن حق الملك، وعن حقيقة النكاح وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه في الملك، والنكاح جميعًا"1.
وعرفه فقهاء المالكية بأنه: "الوطء المحرم شرعًا في غير ملك أو شبهة الملك، سواء كان في قبل، أو دبر في ذكر، أو أنثى"2.
1 تعريف فقهاء الأحناف للزنى، يخرج عن دائرة هذه الجريمة الحدية ما يأتي:
أ- الوطء في الدبر بصفة عامة سواء أكان دبر رجل، أو امرأة.
ب- وطء الميتة.
ج- المكرهة بالنسبة لها -أما بالنسبة لمن وقع عليها، فإن كان مكرهًا هو الآخر، فليس بزنا كما سيأتي الخلاف فيه.
د- الوطء في دار الحرب.
هـ- الوطء في دار الإسلام من غير المسلم، وسيأتي بيان القول في ذلك كله، البدئاع ج9 ص4150 "ط الإمام" المبسوط ج9 ص38، فتح القدير ج5 ص248.
2 أحكام القرآن لابن العربي ج2 ص83 "ط دار إحياء الكتب العربية" سنة1378هـ سنة 1958م بداية المجتهد لابن رشد ج2 ص467، الزخيرة للقرافي ج8 ص114 الخرشي ج8 ص75.
وعرفه فقهاء الشافعية: بأنه "تغييب البالغ العاقل حشفة ذكره في أحد الفرجين من قبل، أو دبر ممن لا عصمة بينهما ولا شبهة"1.
وعرفه فقهاء الحنابلة: بأنه "فعل الفاحشة في قبل أو دبر"، وعرف ابن قدامة الزاني بأنه:"من وطئ امرأة في قبلها حرامًا لا شبهة له في وطئها"، ثم يقول:"والوطء في الدبر مثله في كونه زنا؛ لأنه وطء في فرج امرأة لا ملك له فيها، ولا شبه ملك فكان زنا"2.
وعرفه فقهاء الشيعة: بأنه "إيلاج الإنسان فرجه في فرج امرأة من غير عقد، ولا ملك، ويتحقق بغيبوبة الحشفة قبلًا أو دبرًا"3.
وعرفه ابن حزم بأنه: "وطء من لا يحل النظر إلى مجردها مع العلم بالتحريم"، أو بأنه "وطء محرمة العين"4.
من هذا يبين أن فقهاء الأحناف قد قصروا إطلاق الزنا على الوطء المحرم في القبل فقط بين الرجل، والمرأة في دار العدل ممن التزم أحكام الإسلام، وهي امرأة لا توجد بينه وبينها علاقة تبيح ذلك الفعل.
وهم بذلك قد أخرجوا ما عدا الوطء في القبل من دائرة التجريم الخاصة بالزنا، وجعلوا له عقوبة أخرى سواء أكان بين رجل وامرأة، أم كان بين رجلين.
1 المهذب ج2 ص266، مغني المحتاج ج4 ص143-144.
2 المغني ج8 ص181، الإقناع ج4 ص250.
3 المختصر النافع للحلى ص291، مباني تكملة المنهاج ج1 ص166 شرح الأزهار ج4 ص366.
4 المحلى ج13 ص188-189.
أما جمهور الفقهاء، فإنهم قد أطلقوا الزنا على كل وطء في قبل المرأة، أو دبرها إذا لم توجد علاقة تبيح ذلك الفعل.
كما أدخلوا اللوط أيضًا تحت ما يسمى من الوطء زنا.
وقد اعتمد جمهور الفقهاء في ذلك على ما جاء به القرآن الكريم، الذي سوى بين الزنا واللواط في التسمية، إذا سماها الله سبحانه وتعالى بالفاحشة في قوله سبحانه:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} 1، وقوله تعالى:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 2.
كما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا اللواط زنا في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان"3.
وفقهاء الشريعة، وإن تفاوت آراؤهم، واختلفت نوعية العقوبات عندهم نتيجة اعتبار اللواط زنا أم لا، إلا أنهم متفقون على إطلاق كلمة الزنا على الوطء -المحرم بين الرجل والمرأة اللذين لا يجمعهما زواج صحيح، ويوبجبون عليهما عقوبة فعلهما.
أما فقهاء القانون، فلم يعتبرا وطء الرجل المرأة الأجنبية زنا يوجب العقوبة المقدرة عندهم لهذا الفعل، وإنما قصروا العقوبة على ما يقع من ذلك الفعل بين رجل وامرأة متزوجين، فالعقاب عندهم على انتهاك حرمة الزوجية، لا على الفعل في حد ذاته.
1 من الآية 15 من سورة النساء.
2 الآيتان 54، 55 من سورة النمل.
3 نيل الأوطار ج7 ص131-132.
كما أن العقاب عندهم مشروط بأن يقوم المجني عليه بتحريك الدعوى، ويفرق فقهاء القانون بين جريمة زنا الزوج، وبين جريمة زنا الزوجة، من وجوه عدة إذ -لا نقوم هذه الجريمة في حق الزوج إلا إذا وقعت في منزل الزوجية، بخلاف المرأة المتزوجة؛ لأن هذه الجريمة تقوم في حقها إذا وقع منها ذلك الفعل في أي مكان.
كما يفرق القانون بين عقوبتيهما، إذ يعاقب الزوجة بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، بينما يعاقب الزوج بالحبس مدة لا تزيد على ستة شهور.
ويجعل القانون للزوج الحق في العفو عن زوجته حتى بعد صدور الحكم النهائي عليها، أما الزوجة فليس لها حق التنازل بعد صدور الحكم النهائي عليه.
هذا ما يأخذ به القانونيون في مصر، وهو أحسن حالًا مما عليه كثير من القانونيين في بلاد أخرى، والتي لا تعاقب على الزنا، ولو وقع من زوج، أو زوجة1.
1 شرح قانون العقوبات القسم الخاص أ. د: محمود مصطفى ص334-342 "ط سنة 1975م".
المبحث الأول: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة في الركن الشرعي
مدخل
…
المبحث الأول: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة في الركن الشرعي
سبق أن ذكرت عند تعريف الزنا أن جمهور الفقهاء يرى أن الزنا هو الوطء المحرم في قبل، أو دبر -لانعدام العلاقة التي تبيح الفعل- كما يولج الميل في المكحلة أو الرشاء في البئر، سواء أصحاب ذلك إنزال أم لم يصاحبه، وجد حائل بين الفرجين أم لم يوجد، هذا هو الفعل المادي الذي تقوم به جريمة الزنا، وهو ما استفسر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ممن جاءه مقرًا بالزنا؛ لجواز أن يكون قد أتى فعلًا آخر لا يقوم به الركن المادي لهذه الجريمة، أو أن الأمر قد التبس عليه1.
لأن من أتى فعلًا آخر عم ما ذكر لا يعد مرتكبًا للجريمة الحدية، وإلا يعد مرتكبا لجريمة الزنا أيضًا من قام بالفعل المادي لها مع وجود شبهة من الشبهات التي تحلق الركن الشرعي لجريمة الزنا، نظرًا؛ لأنه يترتب على قيام الشبهة درء العقوبة الحدية عن طرفي الواقعة، أو عن أحدهما، حسبما يرى الفقهاء.
وفيما يلي أورد بعض الوقائع التي اكتمل فيها الركن المادي لجريمة الزنا غير أنه قد يحول بين الجناة، والحد قيام شبهة بالركن الشرعي للجريمة يعتد بها بعض الفقهاء في درء العقوبة، وقد لا يعتد بها البعض الآخر حسبما يأتي:
1 نيل الأوطار ج7 ص111-112.
الوطء بعد النكاح الباطل
…
1-
الوطء بعد النكاح البالطل:
يراد بعقد النكاح الباطل: كل عقد أصابه خلل في أركانه، أو في شرط من شروط الانعقاد أو بعبارة أخرى، هو ما لم يصح إلا بأصله ولا بوصفه1.
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار الدخول في ظل العقد، والباطل زنا أم لا فيرى الإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري2، وزفر: أن من عقد على امرأة لا يحل له نكاحها لتحريمها عليه تحريمًا مؤبدًا أو مؤقتًا، ثم دخل بها، فإنه لا يجب عليه الحد بوطئها، حتى وإن علم أنها عليه حرام، وإنما يجب أن يعزر تعزيرًا شديدًا من باب الإصلاح والسياسة.
وعلل الإمام أبو حنيفة هذا الرأي القائل بعدم وجوب العقوبة الحدية بأن العقد، وإن كان باطلًا إلا أنه مضاف إلى محله، والمحلية عنده لا تعني قبول الحل، وإنما تعني قبول المقاصد من العقد، وقبول المقاصد من العقد أمر ثابت بالنسبة للمعقود عليها، لصحة ذلك بالنسبة لغيره عليها.
كما أن المعقود عليها -بالنسبة لمن وجد سبب التحريم بينها وبينه- محل نكاح في الجملة، وامتناع ثبوت حكم العقد بالنسبة له ناتج من وجود المنافاة -بين الحل، الذي هو أثر في الآثار المترتبة على العقد.
والحرمة التي نتجب من وجود العلاقة المقتضية للتحريم بينهما.
والعقد وإن كان وجوده غير نابت ولا مستقر، إلا أنه وجود تقوم به الشبهة التي تدرأ الحد، وتسقطه عند الإمام أبي حنيفة، ومن وافقه3.
1 أحكام الأسرة في الإسلام للأستاذ الدكتور سلام مدكور ج1 ص213، 221 ط الثانية سنة 1969م.
2 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، مات بالبصرة متواريًا من السلطان سنة 161هـ.
3 فتح القدير ج5 ص260-262 المبسوط ج9 85-86.
وقال أبو يوسف، ومحمد بوجوب الحد بالدخول في ظل عقد باطل ما دام من دخل في ظل هذا العقد قد علم أن التي عقد عليها، ودخل بها محرمة عليه تحريمًا غير مختلف فيه، فالوطء هنا قد وقع في فرج مجمع على تحريمه من غير ملك، ولا شبهة ملك، والواطئ أهل للحد عالم بالتحريم، فيجب الحد كما لو لم يوجد العقد وليس العقد شبهه؛ لأنه نفسه جناية هنا توجب العقوبة التي انضمت إلى الزنا، كما لو أكرهها ثم زنى بها.
فالعقد هنا لا أثر له؛ لأن محل العقد هو ما يقبل حكمه، وحكمه الحل والمعقود عليها هنا من المحرمات في سائر الحالات، فكان الثابت صورة العقد إلا انعقاده؛ لأنه لا انعقاد في غير المحل، كما لو عقد على ذكر.
ولأن العقد الصحيح لو انفسخ بالطلاق قبل أن يدخل على التي عقد عليها، ثم دخل بها بعد الطلاق، عوقب بالعقوبة الحدية، ولم يبق للعقد السابق أي أثر نفسخه، فما لم ينعقد أصلًا أولى1.
1 بين السرخسي ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة ومن وافقه، وما ذهب إليه أبو يوسف، ومحمد بقوله: "رجل تزوج امرأة ممن لا يحل له نكاحها، فدخل بها لا حد عليه، سواء أكان عالمًا بذلك، أم غير عالم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولكنه يوجع عقوبة إذا كان عالما بذلك، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كان عالمًا بذلك، فعليه الحد في ذوات المحارم، وكل امرأة إذا كانت ذات زوج، أو محرمة عليه على التأبيد.. والدليل عليه أن العقد لا يتصور انعقاده بدون المحل، ومحل النكاح هو الحل؛ لأنه مشروع لملك الحل، فالمحرمية على التأبيد لا تكون محلًا للحل، وإذا لم ينعقد العقد لا تحل له لا أنه لم يصادف محله فكان لغوا، كما يلغو إضافة النكاح إلى الذكور، والبيع إلى الميتة والدم، والدليل عليه أن العقد المنعقد لو رفع بالطلاق قبل الدخول لم يبق شبهة مسقطة للحد، فالذي لم ينعقد أصلًا أولى، المبسوط ج9 ص85-86، فتح القدير ج5 ص26.
وقال فقهاء الشافعية بوجوب الحد في وطء المحرمة بنسب، أو رضاع أو مصاهرة، سواء أكان ذلك في ظل عقد أم لا؛ لأنه وطء صادف محلًا مقطوعًا بتحريمة ولا شبهة فيه، أما إذا كان الواطئ بجهل الذي بينه، وبين الموطوءة، ولم يظهر كذبه، فقد ذهب الأدرعي إلى أن الظاهر تصديقه، وكذا لو جهل تحريمها عليه بالرضاع، أو بكونها مزوجة، أو معتدة، وأمكن جهله بذلك.
وتحد هي أن علمت التحريم:
يبين الشربيني الخطيب ذلك في قوله: "ويجب الحد في وطء محرم بنسب، أو رضاع أو مصاهرة، وإن كان تزوجها؛ لأنه وطء صادف محلًا ليس فيه شبهة، وهو مقطوع بتحريمه، فيتعلق به الحد".
ثم يقول: لو ادعى الجهل بتحريم الموطوءة بنسب لهم يصدق لبعد الجهل بذلك. قال الأذرعي: إلا أن جهل مع ذلك النسب، ولم يظهر لنا كذبه، فالظاهر تصديقه، أو بتحريمها برضاع، فيقولان: أظهرها كما قال الأذرعي: تصديقه أن كان ممن يخفى عليه ذلك، أو بتحريمها بكونها مزوجة، أو معتدة وأمكن جهله بذلك صدق بيمينه، وحدت هي دونه إن علمت تحريم ذلك، ويحد في وطء نكاح أخت نكحها على أختها، وفي وطاء من ارتهنها، وفي وطء مسلمة نكحها وهو كافر، ووطئ عالمًا بالحال.
وفي وطء وثنية، أو مجوسية نكحها مسلم، ويحد في وطء مطلقته ثلاثًا، وذات زوج وملاعنة، ومعندة لغيره، ومرتدة"1.
وقال فقهاء الحنابلة بوجوب الحد على كل من تزوج ذات محرم ودخل بها؛ لأنه دخول في ظل نكاح باطل للإجماع على تحريم المدخول بها عليه، والعقد في مثل هذا لا تدوم به شبهة؛ لأنه كأن لم يوجد، والشبهة لا تقوم إلا إذا كان المبيح صحيحًا، والعقد هنا باطل، وفعله جناية تقتضي عقوبة أخرى تضم إلى عقوبة الزنا، ما دام الفاعل عالمًا بالتحريم.
أما لو كان جاهلًا بالحكم كمن يتزوج امرأة في عدتها ثم يدخل بها، وأمكن تصور جهله، فلا حد عليه؛ لأن مثل هذا الحكم يخفى على غيره أهل العلم2. والمشهور عند المالكية أنه لا حد عليه حتى، وإن كان عالمًا3، وذهب فقهاء الشيعة إلى القول بعدم وجوب الحد، فيما جهل تحريمه مما ذكر من الوطء بشبهة الجهل بشرط أن يكون الجهل عن قصور، أو تقصير في المقدمات مع اعتقاد الحلية حال الوطء، وأما الجهل بالحكم عن تقصير، فلا يعتد به ويجب معه الحد.
وذلك؛ لأن الجهل الأخير وجد معه العلم بالحكم الظاهري، ولذا قالوا بوجب الحد على من تزوجت في عدة طلاق لزوجها عليها الرجعة فيه، ما دامت تعلم أن عليها عدة، وأن كانت لا تدري كم هي؛ لأنها ما دامت علمت أن عليها العدة لزمتها، الحجة، فتسأل حتى تعلم4.
1 مغني المحتاج ج4 ص146.
2 المغني ج8 ص182-183.
3 الخرش ج8 ص78.
4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص169.
وذهب فقهاء المالكية إلى القول بأن من يعقد على امرأة محرمة عليه تحريمًا مؤيدا، ثم بدخل بها، فإنه يلزمه الحد، ولا يعتد بذلك العقد الذي دخل عليها في ظله، ولا تقوم به شبهة1.
أما من كان تحريمها عليه تحريمًات مؤقتًا كأخت زوجته مثلًا، فإنه إذا عقد عليها ودخل بها، فإن فقهاء المالكية يفرقون -في القول بالحد حينئذ- بين حالتين:
الأولى: إذا كانت أخت زوجته من النسب، فإنه يجب الحد.
الثانية: إذا كانت أخت زوجته من الرضاع، فإنه لاحد عند بعضهم؛ لأن دليل التحريم بالنسبة للجمع بين الأختين من الرضاع جاء من السنة بخلاف دليل تحريم الجمع بين الأختين من النسب، فقد جاء به القرآن الكريم.
يقول الخرش مبينًا ذلك كله:
وكذلك لا حد على من تزوج أختًا على أختها ودخل بهما، وهل لا حد سواء كانت الأخت من نسب أو رضاع؛ لأن الآية اقتضت تعميم الأختين من نسب أو رضاع، أو محل عدم الحد إذا كانت الأخت من رضاع؛ لأن تحريم الجمع حينئذ -بالنسبة، وأما لو كانت من نسب، فإنه يحد إذا وطئها لتحريم ذلك بالكتاب، وإليه ذهب بعض شيوخ
1 يقول الخرش: "وكذلك يحد من وطئ الحرمة بصهر مؤبد بنكاح، أو بملك.. أن تزوج زوجة أبيه، أو زوجة ولده حدان كان عالمًا بتحريم ذلك، وإذا حد بالوطء المحرمة بالصهر، فأولى من وطئ محرمة بالنسب، أو بالرضاع بنكاح؛ لأنهما لا يكونان إلا مؤبدين بخلاف الصهر قد يكون مؤبدًا
…
الخرش ج8 ص76، حاشية الدسوقي ج4 ص315.
عبد الحق، وإلى هذا أشار بقوله:"وهل الأخت النسب لتحريمها بالكتاب تأويلان"، ولا حد على من تزوج المرأة على عمتها مثلًا؛ لأن التحريم لذلك بالسنة لا بالكتاب"1، ومن قال بإسقاط الحد في ذلك أوجب عقوبة تأديبية موجعة.
وقال ابن حزم بمثل ما قال به جمهور الفقهاء: "من أن من وقع على ذات محرم كأمه، وأخته أم امرأة أبيه أو عمته، أو خالته، أو واحدة من ذوات محارمة بصهر، أو رضاع -فسواء أكان ذلك بعقد، أو بغير عقد- هوزان عليه الحد، ولا عبرة بعقده على واحد، من هؤلاء؛ لأن وجود عقده على واحدة منهن كلا وجوده إلا إذا كان جاهلًا، فلا شيء عليه.
أما من وقع على امرأة أبيه -بعقد أو بغير عقد، أو عقد عليها باسم نكاح، وإن لم يدخل بها -فإنها بفعل ولا بد- محصنًا كان أو غير محصن ويخمس ماله، وسواء أمه كانت أو غير أمه، دخل بها أبوه أو لم يدخل بها2، وذهب فقهاء الشيعة إلى من أن زنى بذات محرم يقتل محصنًا كان أو غيره3، أما من تزوج خامسة، فإن فعله
1 الخرش ج8 ص76-79، حاشية الدسوقي ج4 ص315-317.
2 استدل ابن حزم لذلك بما روي عن البراء بن عازب، قال: لقيت خالي ومعه الراية، فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن اضرب عنقه، وأخذ ماله "يقول ابن حزم معلقًا على هذا الحديث: هذه آثار صحاح تجب بها الحجة"، ويقول الشوكاني: هذا الحديث، رواه الخمسة، ولم يذكر ابن ماجه، والترمذي أخذ المال، مراجع المحلى ج12 ص107-233، نيل الأوطار ج7 ص130.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص188-192.
لا يسمى زواجًا، وإنما هو عهر وعليهما الحد، إن كانا عالمين بأن ذلك لا يحل، ولا حد على من جهل تحريم ذلك، ومثلهما من تزوج امرأة في عدتها، ومن طلق ثلاثًا قبل الدخول، أو بعده ثم وطئ1.
وما ذهب إليه جمهور الفقهاء من إيجاب الحد على كل من دخل على امرأة، وعاشرها معاشرة الأزواج في ظل عقد نكاح هو ما أميل إليه، وأرجحه حفظًا على روح الإسلام، وأخلاقياته وكيان الأمة، وروابطها الشرعية المقدسة؛ لأن من يقدم على ذلك، وهو عالم بتجريم فعله -الذي هو من المحرمات البينة الواضحة- لا شك أنه إنسان عابث منحرف الطبع.
وما قيمة إتيانه فعلًا باطلًا محرمًا في صورة قيامه بعقد نكاحه على من لا تحل له.
إن فعله هذا هو في حد ذاته جريمة تضاف إلى جريمة زناه المتمثل في دخوله بمن عقد عليها عقدًا باطلًا، ومثل هذا لا يتصور القول بإسقاط الحد عنه تذرعًا بوجود شبهه ترتبت على عقده الباطل.
إن العقد الباطل لا يجوز أن يترتب عليه سوى عقوبة من قام به، أن جاز أن يترتب عليه شيء -هذا بالنسبة لإيجاب الحد.
أما ما ذهب إليه ابن حزم، ومن وافقه من القول بقتل من وقع على امرأة أبيه، أو ذات محرم، فهو قول يتفق على إطلاقه2، والذي أميل إليه، أن من وقع منه ذلك، فهو قد ارتكب جريمة الزنا، ويلمزه بها حدها، فإن تكرر منه ذلك بالنسبة لزوجة أبيه، أو ذات محرم فإنه إن جاز قتله، فإنما يكون على سبيل العقوبة السياسية لا الحدية، ولا يخفى ما ذكره فقهاء الشيعة عند قبولهم القول بشبهة الجهل من اشتراط أن يكون هذا الجهل ناشئًا عن قصور، لا عن تقصير إنه قول له وجاهته؛ لأن ادعاء الجهل أمر سهل يستطيع التذرع به من انحرف طبعه، وساء خلقه
1 يقول ابن حزم: وأما من طلق ثلاثًا، ثم وطئ فإن كان عالمًا أن ذلك لا يحل، فعليه حد الزنى كاملًا وعليها كذلك؛ لأنها أجنبية، فإن كان جاهلًا فلا شيء عليه، ولا يلحق الولد هنا أصلًا؛ لأنه وطء فيما لا عقد له معها -لا صحيحًا ولا فاسدًا، المحلى ج13 ص219-221.
2 يراجع فتح القدير ج5 ص261.
2-
الوطء بعد النكاح الفاسد:
والنكاح الفاسد هو: ما كان عقده صحيحًا بأصله دون وصفه بمعنى أن عقده استوفى أركانه، وشروط انعقاده، لكنه فقد شرطا من شروط الصحة.
ومثل ذلك النكاح بلا ولي، أو بلا شهود، وزواج الأخت في عدة أختها، وزواج خامسة في عدة، الرابعة، وكل نكاح فيه كنكاح المتعة، والشغار والتحليل.
فإذا حدث دخول في ظل عقد من هذه العقود الفاسدة، فإن جمهور الفقهاء يرى درء الحد لقيام شبهة ترتبت على وجود العقد الفاسد، وهم وإن قالوا بذلك إلا أن كلا منهم قد أطلق على هذه الشبهة مسميات غير الآخر، فقد أطلق عليها فقهاء الحنفية، شبهة العقد، إذا قد جاء عن ابن الهمام: "وذكر في شبهة العقد أن يطأ التي تزوجها بغير شهود، أو بغير إذن مولاها وهي أمة، أو طئ العبد من تزوجها بغير إذن مولاه.
وذكر ابن الهمام أن أبا حنيفة يرى القول بإسقاط الحد بالنسبة لمن تزوج أمه على حرة، أو مجوسية، أو خمسًا في عقد، نظرًا لوجود شبهة العقد، وإن كان أبو يوسف، ومحمد قد أوجبا الحد
إذا حدث دخول بالأمة التي تزوجها على الحرة، أو بالمجوسية، أو بالخمس اللاتي تزوجهن في عقد واحد، إذا علم أن ذلك حرام1.
وأطلق عليها المالكية شبهة العقد في قول الخرش: "تحد المرأة لذا مكنت مملوكها من نفسها إذا وطئها عن غير عقد، لا أن كان بعقد للشبهة، وإن كان غير صحيح.
كما يقول: إذا عقد على معتدة من غيره ووطئها عالمًا، فإنه لا حد عليه وهو المشهور، مع أن حد الزنا صدق عليه.
كما أطلقوا عليها أيضًا: شبهة الخلاف في قول الخوشئ "وإن تزوج أم امرأته، فإن دخل بالابنة حد، وإن لم يدخل بها لم يحد للخلاف"2.
كما يقول الخرشي: "وخرج بقوله: باتقاق، النكاح المختلف فيه كالنكاح بلا ولي، فإن الوطء فيه لا يسمى زنا شرعًا إذ لا حد فيه، فالمراد بالاتفاق اتفاق العلماء لا الاتفاق المذهبي"3.
ويطلق فقهاء الشافعية على هذه الشبهة شبهة الجهة، أو الطرق فيقول الشربيني الخطيب في معرض حديثه، عما لا يجب به الحد من الزنا:"واحترز عن شبهة الطريق التي تضمنها قوله: "وكذا كل جهه أباحها"، أي قال بالوطء بها عالم "كنكاح بلا شهود" فقط، كما قال به مالك، أو بلا ولي فقط كما قال به أبو حنيفة، أو بولي وشهود،
1 فتح القدير ج5 253، أحكام الأسرة في الإسلام ج1 215-221.
2 الخرشي ج8 ص76-78.
3 الخرش ج8 ص76، وجاء مثل ذلك أيضًا في حاشية الدسوقي ج4 ص313.
ولكنه مؤقت، وهو نكاح المتعة كما قال به ابن عباس -رضي الله تعالى عنهم: لا حد بالوطء فيه على الصحيح، وإن اعتقد تجريمه لشبهة الخلاف1.
ويقول ابن قدامة: "ولا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة والشغار، والتحليل، والنكاح بلا ولي، ولا شهود ونكاح الأخت في عدة أختها البائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن، ونكاح المجوسية، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات2.
وجاء عن فقهاء الشيعة إجازة العقد بلا شهود؛ لأن الشهود عندهم من باب تزويج السنة، ولإثبات الولدة فقط، فقد أورد الحلي: "لا بأس بالتزويج ألبته بغير شهود فيما بينه وبين الله تعالى، وإنما جعل الشهود من تزويج السنة3.
أما ابن حزم، فإنه يرى في الدخول في ظل العقد الفاسد وجوب الحد، إلا إذا وقع ذلك ممن يجهل الحكم، فقد ورد عنه: "وأما العالم بفساد عقد النكاح، أو عقد الملك، فهو عاهر عليه الحد، فلا يلحق به الولد، كما ورد عنه في نكاح الشغار: ومن يدخل في ظله، أن كان عالمًا فعليه الحد كاملًا، ويلحق به الولد، وإن كان جاهلًا، فلا حد عليه4، وجاء عن فقهاء الشافعية قول بوجوب
1 مغني المحتاج ج4 ص145، والمهذب ج2 ص35، 40.
2 المغني ج8 ص183-184.
3 كما جاء في تذكرة الفقهاء يستحب الإعلان، والإظهار في النكاح الدائم، والإشهاد، وليس الإشهاد شرطًا في صحة العقد عند علمائنا أجمع المختصر النافع للحلي ص194، يراجع المهذب ج2 ص40.
4 المحلى ج11 ص131-741.
الحد على من وطئ في ظل عقد فاسد، وإن اعتقد الإباحة، ويجب الحد أيضًا في نكاح المتعة؛ لأنه ثبت نسخه، وابن عباس رجع عنه كما رواه البيهقي.
واشترطوا في الشبهة التي تدرأ هنا أن تكون شبهة قوية المدرك، لا لمجرد عين الخلاف1.
واشتراط الشافعية ذلك له وجاهته، حتى لا يصبح الحكم عرضة لبعث الأهوء، والرغبات.
وما أرجحه هو أن من دخل في ظل عقد فاسد، وهو يعلم ذلك، ولا عدل له لزمته عقوبة تعزيرية موجعة ورادعة له ولأمثاله؛ لأن حدود الله يجب أن تصان عن العبث.
1 أي يجب أن يكون الخلاف الذي تقوم به الشبهة الدارئة للحد -خلافا ناشئا عن دليل، لا مجرد قول بالرأي العاري عن الدليل، مغني المحتاج جـ4 ص145.
3-
وطء الميتة:
ويراد به مواقة رجل امرأة أجنبية ميتة، وللفقهاء في إيجاب الحد بذلك.
رأيان:
الأول:
يجب الحد على ما فعل ذلك؛ لأنه أولج في فرج محرم لا شبهة له فيه، ولا فرق بين أن يكون الإيلاج في فرج امرأة حية، أو ميتة.
الثاني:
لا يجب الحد بهذا الفعل؛ لأن وطء الميتة لا يترتب عليه ما يترتب على وطء الأحياء -ولأن عضوها لا حياة فيه، فإنها لا تشتهي، وتعافه النفس، ويؤيد القائلون بهذا الرأي أن الانزجار يتحقق بما عليه الميتة من حال لا بالعقوبة الحدية.
جاء هذان الرأيان فيما ذكره ابن قدامة: من أن وطئ ميتة، ففيه وجهان أحدهما: عليه الحد وهو قول الأوزاعي؛ لأنه وطئ في فرج آدمية، فأشبهه وطء الحية؛ ولأنه أعظم ذنبًا وأكثر إثمًا؛ لأنه انضم إلى فاحشة هتك حرمة الميتة. الثاني لا حد عليه، وهو قول الحسن.
قال أبو بكر: وبهذا أقول؛ لأن الوطء في الميتة كلا وطء؛ لأنه عضو مستهلك؛ ولأنها لا يشتهي مثلها وتعافها النفس، فلا حاجة إلى شرع الزجر عنها، والحد إنما وجب زجرًا"1.
وجاء الرأيان أيضًا عند فقهاء الشافيعة، فقد ذكر الشيرازي: "أن من وطئ امرأة ميتة، وهو من أهل الحد، ففيه وجهان:
أحدهما أنه يجب عليه الحد؛ لأنه إيلاج في فرج محرم، ولا شبهة فيه فأشبه إذا كانت حية.
والثاني: أنه لا يجب؛ لأنه لا يقصد فلا يجب فيه الحد"2.
وذهب فقهاء الأحناف إلى أنه لا حد في وطء الميتة؛ لأنه لا يعتبر عندهم زنا3، أما فقهاء المالكية قد أوجبوا الحد في ذلك، نظرًا؛ لأنه زنا، فيقول الخرشي عند حديثه عن الزنا الموجب للحد:
1 المغني ج8 ص181.
2 المهذب ج2 ص269.
3 فتح القدير ج5 ص247.
"وكذلك من أتى ميتة غير زوجته بعد موتها في قبلها، أو دبرها فإنه يحد، لانطباق حد الزنا عليه"1.
كما جاء مثل ذلك عند فقهاء الشيعة، فيقول أبو القاسم الموسوي:"لا فرق فيما ذكرناه من الأحكام المترتبة على الزنا بين الحي والميت"، فلو زنى بامرأة ميتة، فإن كان محصنا رجم، وإن كان غير محصن جلد، واستدل لذلك بما روي عن أبي جعفر في رجل نبش قبر امرأة، فسلبها ثيابها ثم نكحها، قال: إن حرمة الميت كحرمة الحي نقطع يده لنبشه وسلبه الثياب، ويقام عليه الحد في الزنا، إن أحصن رجم، وإن لم يكن أحصن جلد مائة"2.
والذي أميل إليه، وأرجحه هو الرأي القائل بوجوب الحد على من سولت له نفسه انتهاك حرمة الأموات، والقيام بفعل مثل هذا الذي لا يقدم عليه، إلا صاحب الطبع الفاسد، والسلوك الشاذ المعوج، بل ويجب أن يزاد فوق الحد علاجًا لطبعه وشذوذه، فإن عاود فعلته هذه وجب رجمه إن لم يكن محصنًا، على سبيل العقوبة السياسية.
1 الخرشي ج8 ص76.
2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص228.
4-
وطء المرأة المستأجرة:
ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن من استأجر امرأة ليزني بها، ثم فعل بها ما استأجرها من أجله، فإنه لا حد عليه.
لأنه قد استوفى منها ما استأجرها من أجله، والإجارة عقد تقوم به الشبهة عنده، ويترتب على قيام هذه الشبهة درء العقوبة الحدية.
واستدل الإمام أبو حنيفة لذلك، بما روي عن عمر -رضي الله تعالى عنه- من أن امرأة استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ عمر -رضي الله تعالى عنه- الحد عنهما.
وبأن امرأة سألت رجلًا مالًا، فأبى أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ الحد، وقال: هذا مهرها.
ويعلق الإمام أبو حنيفة على هذا بقوله: ولا يجوز أن يقال: إنما درأ الحد عنها؛ لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش؛ لأن هذا المعنى لا يوجب سقوط الحد عنه.
وهذا المعنى غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالًا ذكرنا في الحديث الثاني، مع أنه علل نقل: أن هذا مهر، ومعنى هذا أن المهر، والأجر يتقاربان1.
أما جمهور الفقهاء، فإنهم لم يرتضوا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، وألزموا من استأجر امرأة ليزني بها، وفعل بها ما استأجرها له العقوبة الحدية.
وذلك؛ لأن عقد الإجارة لا يستباح به البضع، فصار كما لو استأجرها للطبخ ونحوه من الأعمال، قال أبو حنيفة: لو استأجرها لمثل هذه الأعمال، وزنى بها لزمه الحد.
فعقد الإجارة لا أثر له في استباحه ذلك، ولا يورث شبهة، فصار كما لو اشترى خمرًا فشربها.
ولأن محل الاستئجار منفعة لها حكم المالية، والمستوفي بالوطء
1 المبسوط ج9 ص58، فتح القدير ج5 ص262.
ليس بمال أصلًا، والعقد بدون محله لا ينعقد أصلًا، فإذا لم ينعقد به كان هو والإذن سواء، ولو زنى بها بإذنها يلزمه الحد.
وذهب ابن حزم إلى أن جرم المستأجرة للزنى، ومن استأجرها، وزنى بها أعظم من جرم من زنى بامرأة لم يستأجرها لذلك، فقال:"وحد الزنى وجب على المستأجر والمستأجرة، بل جرمهما أعظم من جرم الزاني، والزانية بغير استئجار؛ لأن المستأجر والمستأجرة زنيا كما زنى غير المستأجر ولا فرق، وزاد المستأجر والمستأجرة على سائر الزنى حراما آخر -وهو أكل المال بالباطل"2، وما ذهب إليه الجمهور أولى، ولا يجوز القول بأن ما أخذته المستأجرة من مال يماثل ما تأخذه من مهر في النكاح الصحيح بجامع أن المهر، والأجرة يتقاربان؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق على المهر أجرًا، في قوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 3؛ لأن الفرق بينهما واضح أحل الله الزواج، وأوجب المهر فيه وحرم الزنا، ولو كان على مال.
والمهر أجر مشروع في ظل نكاح حلال أباحه الله، ورغب فيه وحض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بينما الزنا حرمه الله، ونهى عنه وبغض فيه، وحدد له عقوبة من العقبات -الشديدة الرادعة.
وأما الاستدلال بما روي عن عمر -رضي الله تعالى عنه، فهو استدلال بما لا دليل فيه؛ لأنه لم يذكر ما فعل عمر بالرجل،
1 المرجعان السابقان، المهذب ج2 ص268، مغني المحتاج ج4 ص146، الخرشي ج8 ص87 المغني ج8 ص187.
2 المحلى ج13 ص225.
3 من الآية 24 من سورة النساء.
هل أقام عليه الحد أم لا، فإن قبل لم يقم عليه الحد، فلجواز عدم توافر البينة عليه؛ لأن ما قالته المرأة غير ملزم الرجل بالحد.
ما لم تتم عليه بينة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءه رجل مقرًا بأنه زنى بفلانة، فلما سألها الرسول صلى الله عليه وسلم أنكرت ما قاله الرجل، فلم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم الحد عليه1.
أما عدم إقامة عمر الحد على المرأة، فلجواز أنه رأى أنها كانت مضطرة، وبذا تصبح في حكم المكرهة التي لا حد عليها.
وهذا ما جاء عن ابن قدامة بما رواه من أن عمر سأل عليًا -رضي الله تعالى عنهما- في شأن هذه المرأة، فقال علي: إنها مضطرة2.
1 نيل الأوطار ج7 ص119.
2 المغني ج8 ص187.
5-
إذا كان أحد طرفي جريمة الزنا غير مكلف:
ذهب فقهاء الأحناف إلى أن الصبي، أو المجنون إذا زنى بامرأة طاوعته، فلا حد عليه ولا عليها، أما سقوط الحد عنه، فلعدم تكليفه، وأما سقوطه عنها؛ فلأن الأصل في باب الزنا فعل الرجل والمرأة تابعة له، فامتناع الحد في حق الأصل يوجب امتناعه في حق التبع، وقد جاءت رواية عن أبي يوسف بإيجاب الحد عليها نظرًا؛ لأنها مكنته من نفسها مختارة راضية، فحكمها حكم المكلف الذي يزني بغير مكلف، وكون الفاعل غير مكلف لا يترتب عليه شبهة تسقط الحد عنها1، وذهب فقهاء الشيعة إلى أن البالغة العاقلة إذا مكنت من نفسها صبيًا، أو مجنونًا تجلد فقط، حتى وإن كانت محصنة؛ لأن من واقعها ليس بمدرك.
1 فتح القدير ج5 ص269-271.
كما ذهب بعضهم إلى أن البالغ العاقل المحصن إذا زنى بصبية، أو مجنونة فلا رجم عليه ويجلد الحد، لنقص حرمة الصبية والمجنونة، بالإضافة إلى البالغة العاقلة، ولنقص اللذة في الزنا بالصغيرة1.
أما جمهور الفقهاء، فإنهم يرون وجوب الحد على المكلف، وإن كان هناك رأي عند بعض فقهاء الحنابلة، مؤداه أنه لا حد على من وطئ صغيرة لم تبلغ؛ لأنها لا يشتهي منها، وكذلك لو استدخلت امرأة ذكر صبي لم يبلغ عشرًا لا حد عليها.
وقد علق ابن قدامة على هذا بقوله: "والصحيح أنه أمكن وطؤها، وأمكنت المرأة من أمكنه الوطء، فوطئها أن الحد يجب على المكلف منهما، فلا يجوز تحديد ذلك بتسع ولا عشر؛ لأن التحديد إنما يكون بالتوقيف، ولا توقيف في هذا وكونت التسع وقتًا لإمكان الاستمتاع غالبًا لا يمنع وجوده قبله، كما أن البلوغ يوجد في خمسة عشر عامًا، ولا يمنع من وجوده قبله"2.
وما أرجحه هو وجوب الحد على المكلف مطلقًا، ولا يعتد بكون من شاركه جنايته غير مكلف؛ لأن هذا لا شبهة فيه بالنسبة للمكلف، ولا مبرر للقول بأنغير المكلف لا يشتهي، أو ينقص اللذة.
كما يلزم تعزير الصغير إن أتى ذلك مطلوعًا، زجرًا له عن المعصية.
1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص198-199.
2 المغني ج8 ص181، مغني المحتاج ج4 ص146، المهذب ج2 ص268، الخرشي ج8 ص75.
6-
وطء الرجل معتدته البائن:
إذا طلق الرجل زوجته ثلاثًا، أو خالعها ثم وقع عليها في عدتها، فإن جمهور الفقهاء يرى إلزامه الحد أن كان عالمًا بتحريمها عليه.
فإن قال بأنه لا يعلم تحريمها، فإن الحد لا يلزمه هذا ما هب إليه فقهاء الأحناف1 الحنابلة2، وابن حزم3.
وحكم المرأة في ذلك حكم الرجل:
وذهب فقهاء المالكية، والشافعية إلى القول بوجوب الحد عليهما مطلقًا.
أما إذا عقد الرجل على مطللقته ثلاثًا، ووطئها في العدة، فإن جمهور الفقهاء يلزمهما الحد ما داما عالمين بالتحريم، أما أن كان جاهلين أو أحدهما، فلا حد على من جهل التحريم4، وذهب الإمام أبو حنيفة
1 يراجع المبسوط ج9 ص88، فتح القدير ج5 ص251، الوجيز في أحكام الأسرة أ. د: سلام مدكور ص236-239.
2 المغني ج8 ص183.
3 المحلى ج13 ص219.
4 يقول ابن حزم: ولا تخلو الناكحة في عدتها بأن تكون عالمة بأن ذلك لا يحل، أو تكون جاهلة بأن ذلك محرم، أو غلطت في العدة: فإن كانت جاهلة، أو غلطت في العدة، فلا شيء عليها؛ لأنها لم تعمد الحرام، والقول قولها في الغلط على كل حال -فإن كانت عالمة بأن ذلك لم يحل "ولم تغلط في العدة: فهي زانية وعليها الرجم" المحلى ج13 ص219.. ويراجع
المبسوط ج9 ص88، فتح القدير ج5 ص251-254 الخرش ج8 ص77، حاشية الدسوقي ج4 ص315- مغني المحتاج ج4 ص146، المغني ج8 ص183.
إلى القول بعدم لزوم الحد نظرًا لقيام شبهة العقد، فالإمام أبو حنيفة يرى أن العقد، وإن كان متفقًا على تحريمه، إلا أنه تقوم به شبهة تنتج درء الحد1.
وما ذهب إليه جمهور الفقهاء، هو ما أرجحه إذا كانا جاهلين التحريم، فإن كان أحدهما جاهلًا، والآخر عالمًا لزم عالم التحريم الحد، ويدرأ الحد عن جاهل التحريم بشرط أن يكون هذا الجهل من الجهل الذي يعتد به.
أما إن كان جهلًا لا يعتد به، فلا يلتفت إليه، ولا تقوم به شبهة.
1 فتح القدير ح5 ص252.
7-
وطء البهائم:
إذا وطئ الرجل حيوانًا، أو مكنت المرأة من نفسها حيوانًا، فإن للفقهاء آراء في اعتبار ذلك زنًا موجبًا للحد، أو التعزير.
فقد ذهب فقهاء الأحناف، والملكية والشيعة إلى أن ذلك ليس في معنى الزنا؛ لأن الطبع السليم ينفر عنه، والحامل عليه نهاية السفه، ولا يجب به حد، وإنما يلزم من أتاه بعقوبة تعزيرية تأديبا له، وقد جاء هذا في قول عند فقهاء الشافعية والحنابلة1.
وذهب فقهاء الشافعية والحنابلة في رأي آخر إلى اعتبار ذلك في حكم اللواط موجبًا للحد.
كما جاء عنهم أيضًا في رأي آخر أنه يجب قتل من فعل ذلك
1 فتح القدير ج5 265، الخرش ج8 ص78، حاشيءة الدسوقي ج4 ص316 المهذب ج2 ص269، مغني المحتاج ج4 ص145 المغني ج8 ص190، شرح الأزهار ج4 ص336.
مستدلين بما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من وقع على بهيمة، فاقتلوه، واقتلوا البهيمة"1.
والذي أرجحه هو ما ذهب إليه الجمهور من أن ذلك يوجب التعزير.
فإن تكرر ذلك من الجاني حبس حتى يعالج، ويتوب أما من ذهب إلى أن ذلك يوجب الحد كالزنا، فقوله بعيد؛ لأن الحد للردع عما يشتهي، وتميل إليه النفس، ومثل هذا لا يشتهى، ولا يقدم عليه إلا مرضى النفوس.
أما القول بقتله، فما استدل به على ذلك ضعيف الرواية، أو على أساس من أتى ذلك مستحلًا له، ودليل يتطرق إليه الضعف لا يعون عليه في القول بقتل إنسان.
1 رواه عكرمة، وأخرجه النسائي، وابن ماجه، قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه، إلا من طريق ورد ما يعارضه من نفس الطريق، قال الشوكاني: اختلف أهل العلم فيمن وقع على بهيمة، فأخرج البيهقي: من أتى بهيمة أقيم عليه الحد، وعن الحسن بن علي إن كان محصنًا رجم، وعن الحسن البصري هو بمنزلة الزنى، وقال الحاكم: يجلد، "ولا يبلغ الحد والمرتضي، والمؤيد بالله والناصر والإمام يحيى إلى أنه يوجب التعزير فقط"، وقد ضعف هذا الحديث البخاري وكثير من الحفاظ، نيل الأوطار ج7 ص133-134.
المبحث الثاني: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة ترتب عليها انتقاء القصد الجنائي
مدخل
…
المبحث الثاني: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة ترتب عليه انتفاء القصد الجنائي
اقتضت عناية الشارع الحكيم، ورحمته بخلقه عدم مؤاخذة أحد، أو معاقبته بعقوبة من العقوبات المقدرة، إلا قصد الفاعل إتيان الفعل المجرم، واتجهت نيته إلى ذلك، وقام به مختارا عالمًا بتجريم الشارع له.
لذا فإن الحديث عن هذا المبحث يتناول ما يأتي:
أولًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة جهل الفاعل بالحكم الشرعي لما وقع منه من أفعال جهلًا يعتد به، وإن أتى هذه الأفعال عن حرية واختيار.
ثانيًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة جهل الفاعل بمن وقع عليه الفعل وشاركه فيه، جهلًا يعتد به وتندرئ بوجودة العقوبة الحدية.
ثالثًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرًا لانتفاء القصد الجنائي نتيجة إكراه الفاعل، مع علمه بتجريم الشارع لفعله الذي أكره عليه، إكراها يعتد به في درء العقوبة.
هذه هي الحالات التي ينتفي معها وجود القصد الجنائي، ولبيانها أذكر هذا الحديث الموجز بالإضافة إلى ما سبق بيانه عند الحديث عن الشبهات، التي تعتري القصد الجنائي في الفصل الثاني من الباب الأول.
أولًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرًا لجهل الفاعل بالحكم الشرعي لما وقع منه من أفعال، جهلًا يعتد به
ويعتبر الفقهاء جهل الفاعل بالحكم الشرعي مسقطًا للعقوبة الحدية، إذا كان من أتى الوطء مقيمًا بعيدا عن البلاد الإسلامية، ولم يتيسر له معرفة الأحكام الشرعية بسبب خارج عن إرادته، بحيث تصبح معرفة الأحكام بالنسبة له أمرًا معتذرًا، كمن يقيم بجزيرة نائية، وليس لديه من سبل المعرفة ما يمكنه من الوقوف على الأحكام الشرعية، وكان قد صادق من حدثه عن الإسلام حديثًا موجزًا، فاقتنع به وأمن، ولم يفسر على أحكام تجريم الزنا مثلًا، لضيق وقت من علمه مبادئ الإسلام عن أن يحدثه عن ذلك، ولم يتيسر له معرفة بقية الأحكام، فلو أن هذا الشخص وقع منه الوطء المحرم المعاقب عليه بالعقوبة الحدية، فإنه لا تلزمه هذه العقوبة؛ لأنها تندرئ عنه لجهله بالحكم الشرعي.
ومثله من أسلم حديثًا، ولم يتعلم أحكام الإسلام، وكانت النظم العقابية التي يحتكم إليها قبل إسلامه لا تجرم الزنا، وغيره من العلاقات غير المشروعه في الإسلام بين الرجل، والمرأة فواقع امرأة أجنبية عنه، فإنه لا تجب عليه العقوبة الحدية بفعله هذا لوجود شبهة جهلة بالحكم الشرعي، وهي الشبهة التي يترتب عليها درء العقوبة الحدية، لانتفاء القصد الجنائي، ومثل هذا أيضًا من كان مجنونًا، منذ أن كان طفلًا لا يدرك، ثم ظل على جنونه حتى بلغ ثم أفاق من جنونه، وقبل أن يعلم شيئًا من أحكام الإسلام، واقع امرأة أجنبية، فإن لفعله هذا وإن كان زنا، إلا أنه لا يوجب العقوبة الحدية عليه، لجهله بالحكم الشرعي.
يقول الشيرازي مبينا ذلك: "ولا يجب -الحد- على من لا يعلم تحريم الزنا، لما روى سعيد بن المسيب قال: ذكرنا الزنا بالشام، فقال رجل: زنيت البارحة. فقالوا: ما تقول، قال: ما علمت أن الله
عز وجل حرمه، فكتب، يعني عمر، إن كان يعلم أن الله حرمه فخذوه، وإن لم يكن قد علم فعلموه، فإن عاد فارجعوه، وروي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر -رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنها زنت فخفقها بالدرة خفقات، وقال: أي لكاع، زنيت. فقالت: من غواش بدرهمين، تخبر بصاحبها الذي زنى بها، ومهرها الذي أعطاها، فقال عمر رضي الله عنه: ماذا ترون، وعنده علي وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، فقال علي -رضي الله تعالى عنه: أرى أن ترجمها، وقال عبد الرحمن: أرى مثل ما رأى أخوك، فقال لعثمان: ما تقول؟ قال: أراها تستهل بالذي صنعت، لا ترى به بأسا، وإنما حد الله على من علم أمر الله عز وجل، فقال: صدقت، ويعلق الشيرازي على ذلك بقوله: فإن زنى رجل بامرأة وادعى أنه لم يعلم بتحريمه، فإن كان قد نشأ بين المسلمين لم يقبل قوله: لأنا نعلم كذبه.
وإن كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة من المسلمين، أو كان مجنونًا، فأفاق وزنى قبل أن يعلم الأحكام قبل قوله: لأنه يحتمل ما يدعيه، فلم يجب الحد1.
ويقبل أيضًا القول بجهل حكم من الأحكام التي تحتاج إلى أعمال الفكر، وإمعان النظر، إذا كان المدعي الجهل من العامة الذين يمكن أن يخفى عليه معرفة ذلك، وينهض ذلك شبهة تدرأ الحد.
وقد ذكر جانبًا من ذلك الخرش في قوله: "ومن طلق زوجته قبل
1 يراجع في ذلك، المهذب ج2 ص267-268، مغني المحتاج ج4 ص145 فتح القدير ج5 ص257، مباني تكملة المنتاج ج1 ص167، 168 المحلى ج13 ص118-119، المغني ج8 ص185، ج الجرش ج8 ص77.
أن يبني بها طلقه أو طلقتين، ثم وطئها من غير عقد فإنه يحد، إلا أن يعذر بجهل"1.
كما يقول ابن قدامة: "وإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله؛ لأن عمر قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة؛ ولأن مثل هذا يجهل كثيرًا، ويخفى على غير أهل العلم"2.
من هذا كله يبين أن الجهل بالحكم الشرعي، فيما عده الفقهاء جهلًا يعتد به. يترتب عليه درء العقوبة الحدية، لانتفاء القصد الجنائي لدى الفاعل.
1 الخرش ج8 ص77.
2 المغني ج8 ص185، وباقي المراجع السابقة.
ثانيًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة جهل الفاعل، بمن وقع عليه الفعل وشاركه فيه
أي أن الفاعل هنا يعلم الحكم الشرعي للوطء المحرم، غير أنه أتى فعله هذا، وهو يعتقد أن المحل الذي واقعه محل مباح له مواقعته، معتمدًا في ذلك الاعتقاد على الوقائع الجوهرية المصاحبة للفعل، والسابقة عليه.
ويتضح ذلك فيما يأتي:
1-
رجل واقع امرأة زفت إليه على أساس أنها زوجته، ثم اتضح له بعد مواقعتها أنها ليست هي التي عقد عليها، فلا حد عليه ما دام قد واقعها معتقدًا حلها له مع وجود ما يبرر هذا الاعتقاد، ويقويه، ولا حد عليها إن كانت تعتقد أنه زوجها.
فإن كان أحدهما يعمل حقيقة صاحبه، وأنه ليس هناك ما يبيح الحل، وجب الحد على من علم ذلك.
أما من لم يعلم فلا حد عليه، يقول ابن الهمام مبينا ذلك:"ومن زفت أي بعثت إليه غير امرأته، وقال النساء: هي زوجتك، فوطئها لا حد عليه وعليه المهر: قضى بذلك علي رضي الله عنه وبالعدة؛ ولأنه اعتمد دليلًا، وهو الإخبار في موضع الاشتباه، لذ الإنسان لا يميز بين امرأته، وبين غيرها في أول الوهلة، وهذه إجماعية لا يعلم فيها خلاف"1.
2-
رجل وجد امرأة في فراشه، فظنها زوجته، لتماثل أوصافهما من حيث الصغر أو الكبر وما إلى ذلك، فلا حد عليه عند الجمهور اعتمادًا على وجودها في فراشه الذي هو قرينة الزوجية، مع وجود هذا التماثل في الأوصاف بينهما، وعدم علمه أن أحدًا في منزله غير زوجته، ولم يبد له منها ما يعرف به حقيقتها، فوجود هذا الظن المبني على الملابسات القوية، والقرائن المصاحبة قد نتج عنه انتفاء القصد الجنائي لدى الفاعل.
يقول ابن قدامة عند حديثه، عما ينتفي به القصد الجنائي، ولا يجب به حد:"أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته، أو جاريته فوطئها، أو دعا زوجته أو جاريته، فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها، أو اشتبه عليه ذلك لعماه، فلا حد عليه، "ويعلق ابن قدامة على ذلك بقوله": ولنا أنه وطء اعتقد إباحته بما يعذر مثله فيه، فأشبه ولو قيل له: هذه زوجتك؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات وهذه من أعظمها"2.
1 فتح القدير ج5 ص258، المبسوط ج9 ص57-58، مغني المحتاج ج4 ص145، الخرش ج5 ص75، المغني ج85 ص184، مباني تكملة المنهاج ج1 ص167-169، أحكام الأسرة في الاستلام ص136.
2 المغني ج8 ص184، مغني المحتاج ج4 ص145، المهذب ج2 ص268، الخرش ج8 ص75. المحلى ج13 ص216-218، مباني تكملة المنهاج ج1 ص167.
وذهب جمهور فقهاء الأحناف إلى أن من وجد امرأة في فراشه، فوطئها فعليه الحد، وبين ابن الهمام رأي جمهور فقهاء الأحناف بقوله:"ولنا أن المسقط شبهة الحل، ولا شبهة هنا أصلًا سوى أن وجدها على فراشه، ومجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند الظن إليه، وهذا؛ لأنه قد ينام على الفراش غير الزوجة من حبائبها الزائرات له، وقرباتها، فلم يستند الظن إلى ما يصلح دليل حل".
ولم يستثن فقهاء الأحناف من وجوب الحد في ذلك إلا حالة واحدة، وهي ما إذا دعي الأعمى زوجته، فإجابته امرأة أجنبية، وقالت: أنا زوجتك فواقعها، فلا حد عليه؛ لأن الإخبار دليل، وجاز تشابه النغمة خصوصًا لو لم تطل الصحبة، وذهب الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى القول بدرء الحد، وإن أتته ساكته1، وما أرجحه في ذلك هو أن القاضي إذا اقتنع بأن الفاعل أشكل عليه الأمر، واعتقد أن من واقعها هي زوجته، لتوافقهما في الصوت والأوصاف. وقيام القرائن الدالة، فإنه لا حد لقيام الشبهة التي ينتفي معها القصد الجنائي.
أما إن كان ذلك من باب التذرع بالحيل، وادعاء الشبهة فالحد واجب إذا العبرة بقوة الشبهة المدركة، لا مجرد وجودها، وفقهاء الجمهور، وإن أسقطوا الحد، فمنهم لم يسقطوه لمجرد أنه وجدها في فراشه، وإنما لما صاحب ذلك من توافق، وقرائن قوية، وصلت به إلى اعتقاد أنها زوجته.
فلا خلاف إذا بينهم، وبين ما ذهب إليه جمهور فقهاء الأحناف الذين لم يسقطوا الحد لمجرد أنه وجدها في فراشه، وأسقطوه إذا اعتقد ذلك بناء على القرائن، وقصر الصحبة.
1 فتح القدير ج5 ص258-259، المبسوط ج9 ص57-58.
ثالثا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرا لانتقاء القصد الجنائي نتيجة اكراه الفاعل
…
ثالثًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية، نظرًا لانتفاء القصد الجنائي نتيجة إكراه الفاعل
سبق الحديث عن الإكراه، ووضح منه أن الذي يعتد به في إسقاط العقوبة الحدية هو الإكراه النام، أو الملجئ1، فالوطء الذي يقع تحت وطأة هذا النوع من الإكراه للفقهاء آراء في إيجاب الحدية، بالنسبة للرجل المكره -بفتح الراء- أما بالنسبة للمرأة، فقد اتفق الفقهاء على إسقاط الحد عنها إذا أكرهت على ذلك.
وتنحصر آراء الفقهاء بالنسبة لمن أكره على فعل الزنا، فيما يأتي:
1-
يرى جمهور الفقهاء أنه لا حد على من أكره على فعل الزنا؛ لأن المكره لا إرادة له، ولذا فقد رفع عنه القلم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"عفي لأمتى عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وراه البيهقي2.
واشترط الإمام أبو حنيفة أن يكون الإكراه على إتيان فعل الزنا من الحاكم لآاك لا يمكنه الاستعانة بمن يخلصه، ولا قدرة له على محاربة الحاكم، ولذا فإنه ينتفى قصده الجنائي، ويعدم رضاه واختياره، أما أن أكرهه شخص آخر غير الحاكم، فإن أبا حنيفة يرى أن مثل هذا الإكراه لا ينهض شبهة، وعليه فإن وقع منه فعل الزنا لزمه الحد.
إذا إن المكره -بفتح الراء يمكنه الاستعانة بالحاكم، أو بغيره ليحميه
1 المبحث الثاني من الفصل الثاني من الباب الأول.
2 الخرش ج8 ص80، حاشية الدسوقي ج4 ص318، المهذب ج2 ص268. مغني المحتاج ج4 ص145، المغني ج8 ص187. المحلى ج9 ص260، مباني تكملة المنهاج ج1 ص170، السنن الكبرى للبيهقي ج7 ص356.
ويخلصه ممن تسلط عليه، بين ذلك ابن الهمام بقوله: "ومن أكرهه السلطان حتى زنى، فلا حد عليه
…
فإن أكرهه غير السلطان حد عنه أبي حنيفة، لعدم تحقق الإكراه من غيره"1، وذهب الصاحبان إلى القول بعدم إيجاب الحد على المكره مطلقًا، سواء أكرهه السلطان، أو غيره ممن له سطوة، وقوة وخاف المكره التلف على نفسه.
وذكر السرخسي أن الاختلاف بين رأي الإمام، والصاحبين اختلاف عصر، فالسلطان كان مطاعًا في زمن أبي حنيفة، ولم ير لغيره السلطان من القوة ما يقوي به على الإكراه: فقال -الإمام: لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان، ثم في عصرهما قد ظهرت القوة لكل متغلب، فقالا: يتحقق الإكراه من غير السلطان، وجه قولهما أن المعتبر خوف التلف على نفسه، وذلك يتحقق إذا كان المكره قدرًا على إيقاع ما هدد به، سلطانا كان أو غيره، بل خوف التلف هنا أظهر؛ لأن المتغلب يكون مستعجلًا لما قصده لخوفه من العزل بقوة السلطان، والسلطان ذو أناة بما يفعله، فإذا تحقق الإكراه من السلطان بالتهديد، فمن المتغلب أولى"2، وعلى هذا فالخلاف بين الإمام، وصاحبه مرجعه اختلاف العصر، والزمان، وليس الحجة والبرهان.
2-
ذهب فقهاء الحنابلة إلى أن الرجل إذا أكره، فزنى لزمه الحد، ووافقهم في هذا بن الحسن وأبو ثور وزفر، ومبنى ذلك عندهم أن الوطء لا يكون إلا بالانتشار، والإكراه ينافيه، فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه، فيلزمه الحد، كما أكره على غير الزنا، فزنى3.
1 فتح القدير ج5 ص273، المبسوط ج9 ص59.
2 المبسوط ج9 ص59، فتح القدير ج5 ص373.
3 المغني ج8 ص187، المبسوط ج9 ص59، فتح القدير ج5 ص273.
ولا وجهة لهؤلاء فيما استدلوا به، إذ إن الانتشار قد يكون طبعًا لا طواعية بدليل ما قد يحدث للنائم من غير قصد ولا رغبة، وقد بين ذلك ابن حزم عند حديثه عن الإكراه على الزنى، بقوله: "لو أمسكن امرأة حتى زنى بها، أو أمسك رجل، فأدخل إحليله في فرج امرأة، فلا شيء عليه، ولا عليها، سواء انتشر أو لم ينتشر أمنى أو لم يمن، أنزلت هي أو لم تنزل؛ لأنهما لم يفعلا شيئًا أصلًا.
والانتشار والإمناء فعل الطبيعة، الذي خلقه الله تعالى في المرء، أحب أم أكره، لا اختيار له في ذلك1.
والذي أرجحه أن من أكره على الزنا إكراها يخشى منه التلف، ولم يجد بدا من الزنا، فلا حد عليه لانتفاء قصده، الجنائي سواء أكرهه السلطان، أو غيره ممن يستطيع تنفيذ ما أكرهه به، وما استدل به من أن الانتشار دليل الطواعية التي ينتفي معها الإكراه، قد وضح خلافه، وثبت أن الانشار قد يكون طبعًا من غير قصد.
هذه هي الحالات التي ينتفي القصد الجنائي لدى الفاعل فيها، وآراء فقهاء الشريعة في درء الحد عن الفاعل.
وما ذكر من آراء تفضي بعدم إيجاب العقوبة الجنائية على الفاعل هنا، قد شملت ما ذهب إليه فقهاء القانون، الذين سبق عرض آرائهم عند الحديث عن الشبهت التي تعتري القصد الجنائي.
وقد ذكر جانبًا من ذلك الأستاذ الدكتور، محمود مصطفى عند حديثه عن القصد الجنائي في جريمة الزنا، فقال:
1 المحلى ج9 ص270، ويراجع في هذا المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص827، نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390-391.
"يتوافر القصد الجنائي لدى الزوجة، التي ارتكبت الفعل عن إرادة، وعن علم بأنها متزوجة، وأنها تواصل شخصًا غير زوجها، فلا تقوم الجريمة لانعدام القصد إذا ثبت أن الوطء قد حصل على غير رضاء الزوجة، نتيجة لقوة أو تهديد، أو أي سبب من الأسباب المعدمة للرضاء، فإذا تسلل رجل إلى مخدع امرأة، فسلمت له ظنا منها أنه زوجها، فإن المواقعة تكون قد حصلت مباغتة على غير رضاها، فلا ترتكب الزنا، ويرتكب الفاعل جناية الاغتصاب، كذلك ينتفي القصد إذا كانت الزوجة وقت الفعل تجهل أنها مقيدة بعقد زواج، كما لو اعتقدت أنها مطلقة، أو أن زوجها الغائب قد مات"1.
هذا ما ذهب إليه فقهاء القانون، وهم وإن ذكروه بالنسبة للمرأة، فذلك؛ لأنهم يرون أن جريمة الزنا لا تقوم بالنسبة للرجل، إلا إذا كان مترزجًا، ووقعت الجريمة في منزل الزوجية، أما هي فلم يشترطوا بالنسبة لها أن تكون الجريمة قد وقعت في منزل الزوجية، وإنما تقوم الجريمة بالنسبة لها لذا وقعت منها في أي مكان ما دامت متزوجة.
وما ينطبق عليها بالنسبة لانتفاء القصد الجنائي ينطبق على الرجل أيضًا.
1 شرح قانون العقوبات القسم الخاص ص337.
المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة في إثباته
أولا: إذا كان إثباتها عن طريق الإقرار
…
المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة في إثباته
سبق عند الحديث عن الإثبات أن الشريعة الإسلامية، قد حددت طرقًا معينة لإثبات الجنايات الحدية.
وتقدم ذكر ما يشترط في أدلة الإثبات بصفة تشمل إثبات جميع الجرائم الحدية.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإنه يشترط لإثبات جريمة الزنا، وإلزام الحد ما يأتي:
أولًا: إذا كان إثباتها عن طريق الإقرار
أذهب بعض الفقهاء إلى اشتراط أن يتعدد الإقرار بعدد ما يثبت به جريمة الزنا من شهود، وأن يكون كل إقرار في مجلس غير ما سبقه من إقرارات، أي أن يتعدد المجلس بتعدد الإقرار.
وذهب البعض إلى اشتراط تعدد الإقرارات، ولو في مجلس واحد، وقال فريق من الفقهاء: تثبت جريمة الزنا بإقرار واحد، ولكل حجة ودليل.
فقد ذهب فقهاء الحنابلة، والأحناف، وجمهور فقهاء الشيعة إلى اشتراط أن يكون الإقرار الذي تثبت به جريمة الزنا، أربع مرات، فلا يكفي الإقرار مرة واحدة لإثباتها، ووجوب الحد، واستدلوا لذلك بأدلة، منها ما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه: "من أن رجلًا من المسلمين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله إني زنيت،
فأعرض عنه حتى في ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجموه"1.
وقال أصحاب هذا الاتجاه: فلو كان الحد يلزم بالإقرار مرة واحدة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى2.
كما ثبت من روايات أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة"، وهذا تعليل منه يدل على أن الإقرارات الأربع هي الموجبة.
كما أن أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه، قال لمن جاء مقرًا بالزنا عند النبي صلى الله عليه وسلم: إن أقررت أربعًا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل من وجهين:
أحدهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره عن هذا ولم ينكره، فكان بمنزلة قوله:"لأنه لا يقر على الخطأ".
الثاني: أنه قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه وسلم، لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه3.
1 نيل الأوطار ج7 ص106.
2 المغني ج8 ص192.
3 يراجع في ذلك المغني ج8 ص192، مباني تكملة المنهاج ج1 ص173-175، فتح القدير ج5 ص218-219، نيل الأوطار ج7 ص106-111.
وزاد الإمام أبو حنيفة على ذلك اشتراط أن تكون أربعة إقرارات في أربعة مجالس متفرقة، بالنسبة للمقر نفسه، ويجوز أن كون القاضي الذي يحكم الواقعة في مكان واحد، ويحتسب مجيء المقر، وذهابه مرة.
ورأى أن ما يدل على ذلك هو ما سبق أن ذكره ابن قدامة، وأظهر منه في إفادة أن الإقرارات في مجالس ما في الصحيح، مما رواه الإمام مسلم، أن ماعزًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فرده، ثم أتاه الثانية من الغد، فرده ثم أرسل إلى قومه، فسألهم:"هل تعلمون بعقله بأسًا"؟ فقالوا: ما نعلمه، إلا وفي العقل من صالحينا، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضًا فسألهم:"فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة، فرجمه"1.
وذهب الشافعية والمالكية، وبعض فقهاء الشيعة إلى أن الزنا يثبت بالإقرار الواحد، واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب من أنيس إلا الذهاب إلى المرأة وسؤالها، فإن أقرت رجمها، ولم يقيد الرسول صلى الله عليه وسلم الإقرار بأن يكون أربع مرات.
وما ذكر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد راجع ماعزًا، حتى كرر إقراره أربع مرات، فإن ذلك راجع إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شك في عقله، وإذا فقد سأله:"أبك جنون"؟، وسأل أهله، وذويه من عقله أيضًا.
1 فتح القدير ج5 ص219-220، نيل الأوطار ج7 ص106-111.
واستدلوا أيضًا بما أخرجه مسلم، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت:"أنه صلى الله عليه وسلم رجم امرأة من جهينة، ولم تقر إلا مرة واحدة".
ومثل هذا كثير: "مما ذكره الشوكاني من المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الأجلاء".
وأما استدلال القائلين بأن يكون الإقرار أربع مرات قياسًا على شهادة الزنا؛ لأنها لا يعتبر فيها إلا أربعة شهود، استدلال لا تقوم به حجة؛ لأنه يلزم منه أن يعتر في الإقرار بالأموال، والحقوق أن يكون مرتين؛ لأن الشهادة في ذلك لا بد وأن تكون من رجلين، ولا يكفي فيها الرجل الواحد، واللازم باطل بإجماع المسلمين، فالملزوم مثله"1.
كما أن الشهادة إذا ثبتت بها الجريمة لم يعد في مقدور المشهود عليه دفع العقوبة عن نفسه بفعل، أو قول لا يرجع فيه إلى الشهود، أما في الإقرار، فإنه باستطاعة المقر أن يدفع الحد عن نفسه بالرجوع عن إقراره، ولو كان في أثناء تنفيذ الحد عليه.
وما ذهب إليه الأحناف والحنابلة، ومن وافقهم ما هو إلا من باب الاحتياط في الإثبات، أو قياسًا منهم للإقرار على الشهادة، وإعمالًا منهم لمبدأ الحد بالشبهة، أن من جاء طالبًا تطهير نفسه لن يثنيه عن ذلك مراجعة، وتعدد إقرار، ومن حاول تبرئة نفسه لن يعجزه ادعاء.
1 مغني المحتاج ج4 ص150، أسنى المطالب ج4 ص131، نيل الأوطار ج7 ص106-111، الخرشي ج8 ص80، حاشية الدسوقي ج4 ص318، مباني تكملة المنهاج ج1 ص175، ويراجع المغني ج8 ص191-193، فتح القدير ج5 ص218-222.
ب- أن يبدأ القاضي برجم الزاني المحصن:
إذا أقر من يعتد بإقراره عند القاضي بارتكابه جريمة الزنا الحدية، وكان محصنًا لزمه بإقراره هذا حد الرجم بما سبق من شروط، وقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى اشتراط أن يبدأ القاضي برجم المقر، واعتبر الإمام أبو حنيفة بدء القاضي بالرجم أمرًا واجبًا ولازمًا، فإن امتنع القاضي من أن يبدأ برجم المقر ترتب على امتناعه شبهة يندرئ الحد عن المقر بسببها؛ لأن امتناع القاضي قد يستشف منه رجوعه، عما قضى به على الجاني، لجواز أنه قصر في أمر القضاء، أو تساهل في بعض شروط القضاء بحد الرجم هذا.
وأورد ابن الهمام ما روي في ذلك، عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- من أنه قال:"فإذا كان وجوب الحد -بإقرار- بدأ هو -أي الحاكم، أو القاضي، فرجم ثم رجم الناس بعده".
كما روي قول الإمام علي -رضي الله تعالى عنه: "أيها اناس إن الزنا زناءان، زنا السر، وزنا العلانية، فزنا السر أن شهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي، ثم الإمام، ثم الناس، وزنا العلانية، أن يظهر الحبل، أو الاعتراف، فيكون الإمام أول من يرمي".
ثم يذكر ابن الهمام ما روي من أن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، كان أول من رمى سراحة بحجر، ورماها الناس.
ثم يقول ابن الهمام: "وإن يبتدئ هو -أي القاضي بالرجم- في الإقرار لينكشف للناس أنه لم يقصر في أمر القضاء، وبأنه لم يتساهل في بعض شروط القضاء بالحد، فإذا امتنع حينئذ ظهرت أمارة الرجوع، فامتنع الحد، لظهور شبهة تقصيره في القضاء، وهي
دارئه"1، وأجاب فقهاء الأحناف على ما وجه إليهم، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبدأ برجم ماعز -أجابوا" بأن التقصير من الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر القضاء ومسائله، أمر غير وارد ومنتف تمامًا، وعليه فإن عدم بدئه صلى الله عليه وسلم برجم ماعز، لم يقم به شبهة، ولم يترتب عليه درء الحد2.
وذهب فقهاء الشافعية، والحنابلة إلى أن بدء القاضي بالرجم في الحد الذي ثبت بإقرار الجاني سنة، وليس بشرط.
وعليه، فإذا لم يبدأ القاضي بالرجم فيه، فلا يورث ذلك شبهة، ويجب استيفاء الحد، ويقوم به غير القاضي من الناس، فيقول الشربيني الخطيب عند حديثه عن الحد الواجب بالإقرار:"والسنة أن يبدأ الإمام بالرجم، ثم الناس، إذا ثبت بالإقرار"3، ويقول ابن قدامة:"والسنة أن يدور الناس حول المرجوم، فإن كان الزنا ثبت ببينة، فالسنة أن يبدأ بالرجم، وإن كان ثبت بإقرار، بدأ به الإمام أو الحاكم، إن كان ثبت عنده، ثم يرجم أناس بعده"4.
أما فقهاء المالكية، فإنهم لم يشترطوا قيام الإمام، أو القاضي بالبدء برجم المقر المقر بالزنا، لا على سبيل الوجوب، ولا من قبيل السنة، فقد أورد فقهاء المالكية أنه لم يعرف الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- بدء البينة
1 فتح القدير ج5 ص226-228، البحر الرائق ج5 ص9، المبسوط ج9 ص50-51.
2 فتح القدير ج5 ص228، البحر الرائق ج5 ص9-10.
3 مغني المحتاج ج2 ص152.
4 المغني ج8 ص159.
بالرجم، ثم من بعدهم الإمام أي الحاكم -ثم الناس عقبيه، والحديث الدال على ذلك، وقد تمسك أبو حنيفة لم يصح عند الإمام"1.
وما ذهب إليه فقهاء المالكية هو ما أرجحه؛ لأن احتمال تقصير الإمام في القضاء الذي تعلق به فقهاء الأحناف، أمر مشكوك فيه، ولا يترتب عليه إلزام المقر بشيء إذا رجع المقر عن إقراره، أما إذا لم يرجع المقر، فلن يغير من إلزامه الحد شيء قصر القاضي، أو لم يقصر.
كما أن ذلك لو كان واجبًا لما تخلف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لم يرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على ذلك في كل ما قضى به.
وأما رجمه لبعض من أقر فمن باب التعليم، ولبيان أن الرحمة الحقيقية في التزام ما شرع الله، وتنفيذه حتى ولو كان الرجم، وما روي عن الإمام علي رضي الله عنه، فقد يكون من باب الاجتهاد، ولتحري الحق وزجر الجناة، وإعلاء حدود الله.
1 الشرح الكبير، للدرديري بهامش حاشية الدسوقي، ج4 ص320 الخرشي ج8 ص82، المدونة ج16 ص41، وذكر محمد بن يوسف الشهير بالملوق عن مالك قوله: منذ أقامت الأئمة الحدود، فلم نعلم أحدًا منهم تولى ذلك بنفسه ولا ألزم ذلك البينة، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل ج6 ص295 "ط أولى مطبعة السعادة".
ثانيًا: إذا كان إثبات جريمة الزنا عن طريق شهادة الشهود
إذا كان إثبات جريمة الزنا عن طريق شهادة الشهود، فإن الفقهاء يرون أنه لا بد من توافر الشروط الآتية:
أ- أن يكون الشهود الذي يعتد بشهادتهم أربعة، وهذا مستفاد مما جاء به قوله الله تعالى:{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 1.
فإن نقص الشهود عن أربعة لم يجب الحد بشهادتهم، ووجب عليهم هم حد القذف طبقًا لقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2، وإن كان ابن حزم لا يرى أن شهادة الثلاثة تعد قذفًا؛ لأن حد القذف على الرامي لا على الشاهد3، وعند الجمهور تعد قذفًا؛ لأنه أولًا ذلك لانفتح باب اتهام الناس بهذه الجناية بالباطل من باب الكيد لهم، والتنكيل بهم4.
1 من الآية 15 من سورة النساء.
2 الآية 4 من سورة النور.
3 المحلى ج13 ص239-241.
4 يقول الإمام القشيري: "إن الله بالغ في عدد الشهود، وألا تقبل تلك الشهادة، إلا بالتفرغ التام لئلا يستبيحوا أعراض المسلمين.
لطائف الإرشادات ج4 ص226-267 "ط دار الكتاب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1965م".
ويقول السرخسي: "والزنا مختص من بين سائر الحقوق في أنه لا يثبت إلا بشهادة أربعة، لقوله تعالى:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، وقد تكلف بعضهم فيه معنى، وهو: أن الزنا لا يتم إلا باثنين، وفعل كل واحد لا يثبت إلا بشهادة شاهدين، ولكن هذا ضعيف، فإن شهادة شاهدين كما يثبت فعل الواحد يثبت فعل الاثنين، ولكن نقول أن الله تعالى يحب الستر على عباده، وإلى ذلك ندب، وزم من أحب أن تشيع
الفاحشة، فلتحقيق معنى الستر شرط زيادة العدد في الشهود على الفاحشة، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهه لهلال بن أمية:"أئت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك، وإلا فحد في ظهرك"، وإليه أشار عمر رضي الله عنه حين شهد عنده =
ولهذا، فلو لم يشهد بواقعة الزنا أربعة شهود، أو جاءت شهادتهم غير متفقة في شيء، مما لزم بيانه لندرأ الحد عن المدعى عليه، لقيام شبهة في إثبات الجريمة.
= أبو بكرة وشبل بن معبد، ونافع بن الأزرق على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالزنا، فقال لزياد وهو الرابع: بم تشهد فقال: أنا رأيت أقدامًا بادية، وأنفاسًا عالية وأمرًا منكرًا، وفي رواية قال: رأيتهما تحت لحاف واحد. ينخفضان، ويرتفعان، ويضطربان اضطراب الخيزران، وفي رواية رأيت رجلًا أقعى وامرأة صرعى، ورجلين مخضوبتين، وإنسانا يذهب ويجيء ولم أر ما سوى ذلك، فقال: الله أكبر الحمد لله الذي لم يفضح واحدًا، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي هذا بيان اشتراط الأربعة لإبقاء ستر العفة.
المبسوط ج9 ص37-38، فتح القدير ج5 ص289. ويقول الخرشي:"فإن قلت: لم اختصت شهادة الزنا بالأربعة؟ قبل لقصد الستر، ودفع العار للزاني والمزني بها وأهلها، ولهذا لم يلحقه في ذلك القتل، اكتفي باثنين، وإن كان أعظم من الزنا، الخرشي ج7 ص198، حاشية الدسوقي ج4 ص185. ويقول الشيرازي: "وإن شهد ثلاثة بالزنا ففيه قولان: أحدهما: أنهم قذفه ويحدون، وهو أشهر القولين؛ لأن عمر -رضي الله تعالى عنه- جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة، وروى ابن الوصي أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا، "وقال الرابع: رأيتهما في ثوب واحد، فإن كان هذا زنا، فهو ذلك، فجلد علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- الثلاثة، وعزر الرجل والمرأة المهذب ج2 ص332، مغني المحتاج ج4 ص149، 441 ويراجع في كل ما سبق أيضًا.
المحلى ج10 ص566 وما بعدها، ج13 ص238 وما بعدها، نيل الأوطار ج7 ص109، المغني ج8 ص202، ج9 ص147 مباني تكملة المنهاج ج1 ص118، المختصر النافع للحلي ص292.
وسقوط الحد لا يعني إسقاط جنس العقوبة، بل قد يسقط الحد، ويلزم الجاني بعقوبة من العقوبات التعزيرية.
والأمر في ذلك متروك للقاضي الذي يحكم الواقعة، ويقتضي فيها بما يحقق العدل والإصلاح.
ب- تأدية الشهادة في مجلس واحد:
ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط أن يجيء الشهود الأربعة، الذين يشهدون بجريمة
الزنا، في مجلس واحد يؤدون فيه شهادتهم، فإن لم يأت الأربعة في مجلس قضائي واحد، لم يعتد بشهادتهم في إثبات جريمة الزنا.
واعتبر عدم اكتمال: صاب الشهادة في مجلس واحدة شبهة يندرئ بها الحد عن المدعى عليه.
وقد بين ذلك ابن قدامة بعد أن ذكر آراء الفقهاء1، واستدل بما كان من ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- مع من شهدوا على المغيرة بن شيعة2، فلو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحد الثلاثة لجواز
1 قال ابن قدامة: والشرط السابع: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد، ذكره الخرقي، فقال: وإن جاء أربعة متفرقين، والحاكم جالس في مجالس حكمه لم يقم قبل شهادتهم، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة، وعليهم الحد. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي والبتني، وابن المنذر لا يشترط ذلك لقول الله تعالى:{لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، ولم يذكر المجلس؛ ولأن كل شهادة مقبولة إن اتفقت تقبل إذا افترقت في مجلس كسائر الشهادات، المغني ج8 ص200.
2 المغيرة بن شعبة الثقفي، كان من قادة العرب البارزين، ومن دهاتهم المشهود لهم، صحابي جليل ولد سنة 20 قبل الهجرة بمدينة الطائف، وفد على المقوقس بالأسكندرية، أسلم وحضر الحديبية واليمامة، وولاه عمر البصرة ت سنة 50هـ.
أن يكتملوا برابع في مجلس آخر؛ ولأنه لو شهد ثلاثة، فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم، وبهذا فارق سائر الشهادات1.
واشتراط الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك زيادة على ما ذهب إليه الجمهور أن يجيء الشهود الأربعة مجتمعين، فلو جاء كل واحد منهم بمفرده أو أكثر ولم يكتمل الأربعة مجتمعين، لا تقبل شهادتهم في إثبات الحد في المشهود عليه2.
ورجح ابن قدامة قبول شهادتهم، لو جاءوا متفرقين ما داموا قد أدوا الشهادة في مجلس واحد، مستدلًا بما كان من قصة المغيرة، فقال:"ولنا قصة المغيرة، فإن الشهود جاءوا واحد بعد واحد، وسمعت شهادتهم، وإنما حدوا لعدم كمالها؛ ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه"3.
وذهب الإمام الشافعي، والبتي4 وابن المنذر5 وابن حزم،
1 المغني ج8 ص201، المبسوط ج9 ص38، 65، حاشية الدسوقي ج4 ص185، مباني تكملة المنهاج ج1 ص184، 187.
2 المبسوط ج9 ص38، 65، حاشية الدسوقي ج4 ص185، المغني ج8 ص200.
3 المغني ج8 ص201.
4 البتي نسبة إلى البت موضع بضواحي البصرة، منه عثمان البتي الذي روى عن أنس، وعن الحسن البصري، ومنه أبو الحسن أحمد بن الكاتب البتي، راوي الحديث سنة 405هـ.
5 أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيها، عالمًا صنف في اختلاف العلماء كتبًا لم يصنف مثلها سنة 309، أو سنة 310، وافيات الأعيان ج3 ص340.
إلى أنه لا يشترط اتحاد المجلس الذي تؤدي فيه الشهادة للأربعة شهود؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكر ما يدل على ذلك، وعلى هذا فلا حاجة لاشتراطه1.
وما استدل به هؤلاء من أن الله سبحانه وتعالى، لم يذكر ما يدل على اشتراط ذلك، فيما جاءت به الآيتان الكريمتان مردود بأن الآيتين الكريمتين لم يتعرضا للشروط، ولذا لم يذكرا العدالة ولا صفة الزنا؛ ولأن مجيء الشهود لا يخلو من أن يكون مطلقًا في الزمان كله، أو مقيدًا، لا يجوز أن يكون مطلقًا؛ لأنه يمنع من جواز جلدهم؛ لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء، أو بكمالهم، إن كان قد شهد بعضهم، فيمتنع حدهم المأمور به، فيكون تناقضًا، وإذا ثبت أنه مقيد، فأولى ما يفيد بالمجلس؛ لأن لمجلس كله بمنزلة الحال الواحد2.
ولذا قال ابن حزم بعدم جواز جلدهم إذا لم يرد ذلك، وعليه فلا مانع من الانتظار عنده، فإنه لا يجوز أن يحتاج بأن الآيتين الكريمتين لم تشترطا ذلك الذي ذهب إليه الجمهور من حضور الشهود مجتمعين؛ لأن الآيتين لم تشترطا غيره، وإنما جاء ذلك وغيره مما اشترط في الشهادة من شروط، أوردها الصحابة الأجلاء، واستدل الفقهاء على اشتراطهم، ومنهم ابن حزم3.
1 المحلى ج13 ص240-241، المغني ج8 ص200، يراجع مغني المحتاج ج4 ص149.
2 المغني ج8 ص201.
3 المحلى ج10 ص564-617.
ج- أن يعين الشهود شريك المشهود عليه بالزنا:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من شهدوا على إنسان بارتكابه جريمة الزنا، يلزم أن يذكروا من شاركه جريمته هذه، فإن كان المشهود عليه رجلًا، فلا بد من أن يحددوا المرأة التي شاركته جنايته تحديدًا لا يحتمل أدنى لبس، ولا يبقى أي احتمال لقيام علاقة بينهما تبيح له أن يأتي منها ما يأتيه الرجل من زوجته، وأن كانت المشهود عليها امرأة، لزم أن يحدد الشهود من شاركها جريمتها، تحديدًا دقيقًا لا تبقى معه أدنى شبهة، لجواز أن يكون الشهود قد رأوا رجلًا يأتي زوجته، وهم لا يعرفون ما بينهما من علاقة الزوجية مثلًا.
وعلى هذا، فلو لم يعين الشهود شريك المشهود عليه في جريمة الزنا، نتج عن ذلك شبهة تدرأ العقوبة الحدية عن المشهود عليه.
يقول الشيرازي مبينًا ذلك، ومن شهد بالزنا ذكر الزاني، ومن زنى به؛ لأنه قد يراه على بهيمة، فيعتقد أن ذلك زنا، والحاكم لا يعتقد أن ذلك زنا، أو يراه على زوجته، أو جاريته ابنه فيظن أنه زنى1، ويقول ابن قدامة: وأما تعيينهم المزني بها، أو الزاني إن كانت الشهادة على امرأة، ومكان الزنا، فذكر القاضي أنه يشترط لئلا تكون المرأة ممن اختلف في إباحتها.. ولهذا سأل صلى الله عليه وسلم ماعزا فقال:"إنك أقررت أربعًا فبمن"؟.
وذهب ابن الهمام إلى أكثر من هذا حين قال: "وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها، لم يحد؛ لأن الظاهر أنها امرأته أو أمته".
1 المهذب ج2 ص336، يراجع أيضًا المحتاج ج4 ص149.
2 المغني ج8 ص200.
فلو قال المشهود عليه: المرأة التي رأيتموها معي ليست زوجتي، ولا أمتي لم يحد أيضًا؛ لأن الشهادة وقعت غير موجبة للحد، وهذا اللفظ منه ليس إقرارًا موجبًا للحد، فلا يحد"1.
هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الأحناف، والماليكة، والشافعية والحنابلة والظاهرية2، وذكر أبو القاسم الموسوي من فقهاء الشيعة أنه لا يشترط ذلك، فلو أختلف الشهود في تعيين الشريك في جريمة الزنا، فإنه لا أثر لذلك في إيجاب الحد على المشهود عليه؛ لأن الشريك غير داخل في شهادتهم أصلًا.
وقد بين ذلك، فقال:"أما لو كان اختلافهم -أي الشهود- غير موجب لتعدد الفعل واختلافه، كما إذا شهد بعضهم على أن المرأة المعينة المزني بها من بني تميم مثلًا، وشهد البعض الآخر على أنها من بني أسد مثلًا، أو نحو ذلك من الاختلاف في الخصوصيات، لم يضر بثبوت الزنا بلا إشكال، ثم أورد توضيحًا لذلك بقوله: "لأن أختلافهم في هذه الخصوصيات لا يضر بثبوت أصل المشهود به، لعدم دخلها فيه أصلًا"3، وما ذهب إليه جمهور الفقهاء أولى بالاتباع، وأقوى حجة، لجواز أن يكون الشهود قد توهموا أن من يواقعها الرجل المعروف لهم امرأة أجنبية عنه، بينما هي امرأة تزوجها، وهم لا يعلمون ذلك.
وما استدل به من قالوا بعدم اشتراط تعين الشريك في إثبات الزنا بالشهادة، قياسًا على عدم اشترطا ذلك في الإثبات بالإقرار، مردود
1 فتح القدير ج5 ص284، ويراجع تبيين الحقائق ج3 ص189.
2 المراجع السابقة، الخرشي ج7 ص198-199، المحلى ج13 ص378.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص180-181.
بما جاء من الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم، سأل ماعزًا عمن شاركته فعله حتى وقف عليها1.
كما أن الإنسان لا يقر على نفسه كاذبًا، وحال المقر على نفسه تخالف تماما حال المشهود عليه، الذي يحاول جاهدًا دفع التهمة عن نفسه.
وعلى هذا، فإن ذكر الشهود، وتعينهم شريك المشهود عليه أمر ضروري تنهض بتركه شبهة، تدرأ الحد عن المشهود عليه.
وهذا الشبهة إن درأت الحد، فإنها لا تمنع من التعزير إذا رأى القاضي ذلك.
د- أن يبدأ الشهود برجم الزاني المحصن:
إذا تم إثبات جريمة الزنا بشهادة الشهود، وكان الزاني محصنًا لزمه الرجم، وقد اشترط فقهاء الأحناف لتنفيذ عقوبة الرجم على الجاني أن يبدأ الشهود برجم الجاني، ثم بعد ذلك يرجمه الحاضرون.
فإن امتنع الشهود عن البدء برجم الجاني، فإن امتناعهم هذا، وإن لم يكن رجوعًا صريحًا، عن شهادتهم، إلا أنه يورث شبهة تلحق شهادتهم، وينتج عن ذلك درء العقوبة الحدية عن الجاني.
كما أنه لا يلزم عن ذلك اعتبار الشهود قذفه؛ لأن امتناعهم عن البدء بالرجم ليس رجوعًا صريحًا، عما شهدوا به، وإن كان دليلًا عليه، والحدود لا تلزم بمثل ذلك.
هذا إذا كان بدء الشهود برجم الجاني أمرً مقدورًا عليه من جهتم، فإن تعذر بدؤهم برجم الجاني، فإما أن يكون سبب ذلك طارئًا.
1 رواه أحمد ومسلم، وأبو داود الترمذي، نيل الأوطار ج7 ص107.
بعد أن أدوا شهادتهم، كسفرهم مثلًا، أو أن أحدهم قطعت يده، أو مات بعضهم.
وإما أن يكون سبب ذلك كان موجودًا عند آدائهم شهادتهم على الجاني، كان أحدهم مقطوع اليدين مثلًا، أو مريضًا مرضًا لا يستطيع معه البدء بالرجم.
فإن كان تعذر بدئهم برجم الجاني لسبب طارئ بعد آدائهم الشهادة، أوقف تنفيذ الحد على الجاني في رأي أبي حنيفة، حتى وإن أدى ذلك إلى إسقاط الحد، كما لو مات أحد الشهود قبل تنفيذ العقوبة.
وذهب أبو يوسف إلى أنه إذا تعذر بدء الشهود برجم الجاني لسب، لا تلحقهم به تهمه، كأن غابوا مثلًا، أو مات بعضهم، لزم الجاني الحد، ونفذ فيه، أما إن كان لسبب تلزمه به تهمة درئ الحد عن الجاني، أمال إذا كان سبب تعذر بدئهم برجم الجاني موجودًا عند آدائهم الشهادة، فلا خلاف على إلزام الجاني العقوبة، ويقوم بتنفيذها عليها من يستطيع ذلك، هذا ما ذهب إليه فقهاء الأحناف1.
وذهب فقهاء الشافعية، والحنابلة إلى أن بدء الشهود برجم الجاني من باب السنة، فإن امتنعوا عن ذلك مع قدرتهم عليه، لم يترتب على امتناعهم شيء بالنسبة لإلزام الجاني، ويقوم القادرون على التنفيذ برجم الجاني2.
1 يراجع في ذلك فتح القدير ج5 ص226-228، البحر الرائق ج5 ص9 المبسوط ج9 ص50-51.
2 مغني المحتاج ج4 ص152، المغني ج8 ص159، 170.
وذهب فقهاء المالكية إلى أن بدء الشهود برجم الجاني أمر غير لازم، فليس بواجب أو سنة، ولا يترتب على امتناع الشهود عن ذلك شيء، ما داموا لم يرجعوا عن شهادتهم، ويلزم الجاني الحد، وينفذ عليه1.
والذي أرجحه من ذلك هو ما ذهب إليه أبو يوسف، من القول باشتراط بدء الشهود برجم الجاني -ما داموا قادرين على ذلك- مع بعض الزيادة على ما ذهب إليه أبو يوسف، وتنحصر في أنهم أن امتنعوا عن رجم الجاني مع قدرتهم عليه، فإن التنفيذ يوقف، ويسألون عن سبب امتناعهم، فإن أبدوا سببًا مقبولًا لا يتطرق معه الشك في شهادتهم، ثم تنفيذ العقوبة على الجاني لجواز أن امتناعهم لرقة في قلوبهم، فإن لم يبدوا سببًا، أو أبدوا سببًا غير مقبول، فإن امتناعهم حينئذ تنهض به شبهة في شهادتهم، يترتب عليه درء الحد عن المشهود عليه.
أما ما ذهب إليه الإمام مالك عن عدم اشتراط ذلك، فقد يرجع سببه إلى أنه كان من فقهاء المدينة، وعاشر أهلها، وهم -وقت ذلك- ممن لا يشك في ذمتهم، ولا تلحقهم تهم، واختلاف الأزمنة، والأمكنة أمر تختلف معه الطباع.
1 المدونة ج16 ص41، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل للخطاب ج6 ص295، الخرشي ج8 ص82، الشرح الكبير بلدردير بهامش حاشية الدسوقي ج4 ص320.
الفصل الثاني: جريمة السرقة
المبحث الأول: جريمة السرقة الصغرى
المطلب الأول: تعريف السرقة
…
الفصل الثاني: جريمة السرقة
المبحث الأول: جريمة السرقة الصغرى
ويتناول الحديث عنها مطلبين.
المطلب الأول: تعريف السرقة.
المطلب الثاني: سرقات أختلف في وجوب الحد بها؛ لقيام شبهة في الركن الشرعي للجريمة.
المطلب الأول: تعريف السرقة
السرقة في اللغة: أخذ الشيء خفية، ومن ذلك استراق السمع في قوله تعالى:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} 1، وسرق منه الشيء أخذه خفية من حرزه، والسارق اسم فاعل، وهو من جاء مستترًا إلى الحرز، فأخذ منه ما ليس له2.
وعرفها فقهاء الأحناف: بأنها أخذ مال الغير على سبيل الخفية نصابًا محرزًا للتمول غير متسارع إليه الفساد، ومن غير تأول ولا شبهة3، وعرفها فقهاء المالكية: بأنها أخذ مال الغير مستترًا من غير أن يؤتمن عليه، أو بأنها: أخذ مكلف، حرًا لا يعقل لصغره، أو مالًا محترمًا لغيره نصابًا أخرجه من حرزه بقصد واحد، خفية لا شبهة له فيه4.
1 الآية 18 من سورة الحجر.
2 لسان العرب: المصباح المنير، مختار الصحاح.
3 فتح القدير ج5 ص354.
4 الخرشي ج8 ص91 بداية المجتهد ج2 ص372.
وعرفها فقهاء الشافعية: بأنها -أخذ مال خفية من حرز مثله بشرائط1، وعرفها فقهاء الحنابلة: بأنها أخذ مال محترم لغيره، وإخراجه من حرز مثله لا شبهة له فيه على وجه الاختفاء2.
ويلاحظ أن تعاريف الفقهاء للسرقة متفقة في تحديد معناها، وشروطها التي أن تخلفت، أو تخلف واحد منها لم تعد الواقعة سرقة معاقبًا عليها بالعقوبة الحدية.
كما يتضح من تعريف فقهاء الأحناف، أنهم أشدط الناس تضييقًا لدائرة السرقة الحدية.
وإن فقهاء لمالكية قد اعتبروا أخذ الحر الصغير الذي لا يعرف أين يذهب به، سرقة موجبة للحد.
ومما هو واضح في تعاريف الفقهاء للسرقة الحدية، أنهم نصوا على انعدام للشبهة في المال المأخوذ، حتى يمكن اعتبار الفعل جريمة من الجرائم الحدية.
كما أن اشتراط أن يكون الأخذ خفية، يفرق بين السرقة الصغرى التي هي محل البحث الآن، وبين السرقة الكبرى التي يؤخذ فيها المال على سبيل آخر غير الاستخفاء، وسيأتي الحديث عنها في المبحث التالي.
كما أن اشتراط أن يكون الأخذ خفية، يفرق أيضًا بين جريمة السرقة عند فقهاء الشريعة، وما يراد بها عند القانونيين.
1 نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج7 ص18 ط الحلبي.
2 الروض المربع بشرح زاد المستقنع للبهوتي ج2 ص369 متن الإقناع مع كشاف القناع للمقدسي ت سنة 960هـ ج6 ص129.
إذ إن القانونيين يطلقون السرقة على اختلاس المنقول المملوك للغير، ويدخل ضمن ذلك كله استيلاء على مال الغير من غير رضاه؛ لأن فعل الاختلاس يتوافر إذا قام الجاني بحركة مادية، ينقل بها الشيء إلى حيازته، أيا كانت طريقته في ذلك: بالنزع أو السلب، أو الخطف، أو النقل، وما إليها.
وكل ما يشترطه القانونيين هو أن يكون الاستيلاء على الشيء، قد تم بفعل الجاني، وليس من الضروري عندهم أن يكون الاستيلاء بيد الفاعل، فيعد سارقًا كل من قرب حيوانًا، واستخدمه في الاستيلاء على شيء، ونقله إلى مدربه ويكفي لكي يعد الشخص سارقًا أن يهيئ أسباب انتقال الحيازة إليه، كمن يحول مجرى مياه الغير إلى أرضه، حتى تنحدر إليها عند وردها1، وكل ما عده القانونيون لا يخرج عن مفهوم السرقة المعاقب عليها، عند فقهاء الشريعة بالمعنى العام للعقوبة، وإن كان بعضه فقط، هو الذي ينطوي تحت مفهوم السرقة الحدية المعاقب عليها بالعقوبة المقدرة من لدن الشارع الحكيم.
ولا غرو في هذا إذ أن العقوبات كلها التي وضعها فقهاء القانون، ما هي إلا من باب العقوبات التعزيرية عند فقهاء الشريعة، وإن اختلفتا من بعض الوجوه.
والحديث عن جريمة السرقة الصغرى، والشبهات التي تعتريها يتناول أنواعًا من السرقة التي لا يجب الحد بها؛ لقيام شبهة في الركن الشرعي للجريمة.
وهذا ما سيتضمنه المطلب الثاني من هذا المبحث.
1 شرح قانون العقوبات القسم الخاص أ. د: محمود مصطفى ص441-442.
شرح قانون العقوبات القاسم الخاص. أ. د: أحمد الألفي ص268-269.
المطلب الثاني: سرقات اختلف في وجوب الحد بها؛ لقيام شبهة في الركن الشرعي
مما سبق من تعاريف الفقهاء لسرقة يبين ما وضعه الفقهاء من شروط لاعتبار الفعل سرقة، وتتمثل هذه الشروط بصفة عامة في الأخذ خفية، وأن يكون الشيء المأخوذ محرزًا، متمولًا، مملوكا للغير، تصل قيمته حد النصاب أو تزيد، وأن يكون المسروق، مما لا يتسارع إليه التلف، وأن لا يكون للسارق تأويل ولا شبهة.
فمن قام بالفعل المادي للسرقة، واستوفى فعله هذه الشروط، واكتملت أركانه عوقب على فعله هذا بالعقوبة الحدية.
أما من وقع منه هذا الفعل المادي مع وجود شبهة من الشبهات، التي تلحق الركن الشرعي بجريمة السرقة، فإن عقوبتها الحدية تندرئ عنه، ولا يلزم بها، سواء تترتب على ذلك إعفاؤه من جنس العقوبة، أو إعفاؤه من العقوبة الحدية فقط، وإلزامه بعقوبة تعزيرية تناسب ما وقع منه من سلوك.
وسأذكر فيما يلي بعض الوقائع، التي اكتمل فيها الركن المادي لجريمة السرقة غير أن العقوبة الحدية المترتبة على ذلك، قد لا تلحق الجاني نظرًا قيام شبهة من الشبهات التي تحلق الركن الشرعي للجريمة.
سواء أكانت هذه الشبهة من الشبهات التي يعتد بها من يعمل قاعدة درء الحدود بالشبهات، أم كانت هذه الشبهة من الشبهات التي يعتد بها البعض، ويعملها دون بقية الفقهاء.
مع بيان وجهة نظر كل منهم، ودليله على ما ذهب إليه:
1-
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن السرقة الحدية لا يكتمل وصفها، إلا إذا انتهك السارق الحرز، وأخرج منه المسروق، واستولى عليه وأدخله في حيازته.
وعلى هذا لو دخل شخص منزلًا، وجمع من هذا المنزل متاعًا بلغ حد النصاب أو يزيد، ووضع هذا المتاع في حقيبة مثلًا، ثم حملها وهم بالخروج من المكان الذي سرق منه المتاع، وقبل أن يخرج أمسك به صاحب المتاع أو غيره، فإن جمهور الفقهاء يرون أن مثل هذا الفعل لا يعد سرقة موجبة للعقوبة الحدية؛ لأن وصف الجريمة الحدية لم يكتمل بعد في حق السارق؛ لأنه لم يخرج بما أخذه من متاع خارج حرزه الذي وضع فيه، ولم يصبح المال المأخوذ في حيازة آخذه، وعليه فإن قيام شبهة عدم دخول المال المأخوذ في حيازة آخذه من حرزه، تدرأ العقوبة الحدية عن هذا الآخذ، وإن ألزم عقوبة تعزيرية مناسبة1.
وروي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- والحسن البصري، وإبراهيم النخعي أن من دخل الحرر، وجمع المتاع ثم تهيأ للخروج، ولم يخرج، فإنه يجب قطعه2.
وهذا أيضًا هو ما ذهب إليه ابن حزم، وذلك كله مبني على أساس عدم اشتراط الحرز، أو جوب القطع بالسرقة، واستدل ابن حزم على
1 فتح القدير ج5 ص385، المدونة ج16 ص72 الحرشي ج8 ص97، المهذب ج2 ص279، المغني ج8 ص255، نيل الأوطار ج7 ص146، الموطأ بشرح الزرقاني ج5 ص107، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285.
2 فتح القدير ج5 380، المغني ج9 ص110.
ما ذهب إليه بأدلة منها ما أورده في قوله: قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فوجب بنص القرآن أن كل من سرق فالقطع عليه، وبالضرورة الحسية، وباللغة يدري كل آخذ أن من سرق من حرز، أو من غير حرز، فإنه سارق -فقطع يده واجب بنص القرآن، ولا يحل أن يخص القرآن بالظن الكاذب، فإن من قال: إن الله تعالى أراد في هذه الآية من سرق من حرز، فإنه مخبر عن الله تعالى، بما لم يخبر به عن نفسه، ولا أخبر به عن نبيه صلى الله عليه وسلم".
كما استدل ابن حزم أيضًا بما جاءت به السنة النبوية، مما يفيد العموم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد".
ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده"، ثم علق بن حزم على هذين الحديثين بقوله:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يد السارق جملة، ولم يخص عليه السلام حرزًا من غير حرزه إلى أن يقول: واو "أن الله عز وجل أراد أن لا يقطع يد السارق حتى يسرق من حرزه، ويخرجه من الدار، لما أغفل ذلك".
ولا أهمله، ولا أعنتنا بأن يكلفنا علم شريعة لم يطلعنا عليه، وليبينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم"1.
واستدل أصحاب هذا الاتجاه أيضًا بما روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع يد السارق الذي سرق ثوبًا من المسجد2، إذ المسجد لا يعتبر
1 المحلى ج13 ص340-353.
2 روي أن صفوان بن أمية، قال:"كنت نائمًا في المسجد في خميصة لي فسرقت، فأخذنا السارق، فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه، فقلت: يا رسول الله أفي خميصة ثمن ثلاثين درهمًا؟ أنا أهبها له. قال: فهلا كان قبل أن تأتيني؟ روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء، ثمنه ثلاثة دراهم"، نيل الأوطار ج7 ص145-146، وما بعدهما.
حرزًا، وعليه فإن من سرق سواء أكان من حرز، ولم يخرج بالمسروق، أم كان من غير حرز وجب قطعه، إذا اكتملت فيه باقي شروط السرقة.
وما ذهب إليه فقهاء الجمهور هو ما أرجحه، وأميل إليه لوجود شبهة عدم دخول المال المأخوذ في حرزه من أخذه من حرز، وعدم الاستيلاء الكامل عليه.
أما ما ذهب إليه ابن حزم، ومن وافقه من عدم اعتبار الحرز في إيجاب العقوبة الحدية، فقول مردود بما ذهب إليه أئمة اللغة، الذين عرفوا السرقة، والاستراق بالمجيء مستترًا لأخذ مال غيره من حرز1.
فالحرز شرط لا يجانب العقوبة الحدية، وعدم مفارقة الحرز تنهض شبهة في حق الآخذ؛ لجواز أن يستيقظ ضميره قبل مفارقته المكان، فيترك الشيء المأخوذ.
أما ما استدل به ابن حزم من أن الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية جاءت عامة شاملة كل من سرق من حرز، أو غيره -ولا يجوز أن يخص القرآن بالظن، فقول يحتاج إلى مناقشة.
1 القاموس المحيط مادة سرق، ويراجع ما أوده الشوكاني في نيل الأوطار ج7 ص147، وابن حجر في فتح الباري ج5 ص116 "ط مصطفى الحلبي سنة 1959م".
لأن ما جاء من أدلة تفيد العموم قد خصصت بدليل أنه لا قطع على الصبي، أو المجنون، ولا على من سرق شيئًا غير متمول1.
وعلى هذا فإن الدليل العام قد دخله التخصيص، وما جاز تحصيصه خصص بالدليل الظني2، ومع هذا فإن تخصيص العموم
1 يقول ابن الهمام: "وقد ثبت أن لا قطع في أقل من ثمن المجن، ولا في حريسة الجبل، فتخصصت الآية به، فجاز تخصيصها بعدها بما هو من الأمور الإجماعية، وبأخبار الآحاد، فتح القدير ج5 ص38.
2 اللفظ العام يشمل جميع أفراده على سبيل الاستغراق، لكن قد يرد ما يدل على إخراج بعض ما يشمله اللفظ العام، وقصره على بعض أفراده، ودليل التخصيص قد يكون الفعل أو العرف، أو نصًا مخصصًا، ويتفق الأصوليون على التخصيص بالعقل والعرف، فخطاب الله تعالى بالتكليف في قوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، وقوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، وقوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، "جاء الخطاب بلفظ عام لكن العقل يخرج الصبيان والمجانين.
كما اتفق الأصوليون على أن العام إذا خصص بدليل قطعي، فإنه يجوز تخصيصه بعد ذلك بأي دليل ولو ظني؛ لأن العام بعد تخصيصه أصبحت دلالته على العموم ظنية حتى عند الحنفية.
من ذلك قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، فلفظ البيع عام وقد خصص بنص قطعي، وهو "حرم الربا"، فأصبحت دلالته بعد ذلك على باقي أفراده ظنية: ولذا جاز تخصيصه بأخبار الآحاد، كما جاز تخصيصه بالقياس" يراجع أصول الفقه الإسلامي -أستاذي الدكتور سلام مدكور ص226-235 الأستاذ الدكتور زكريا البزي ص213-218.
هنا تخصيص بما هو مجمع عليه، وبما ورد من الأخبار من رواته موثوق بهم1.
وثمرة لهذا الخلاف تنتج الشبهة تحلق الركن الشرعي للجريمة، يترتب عليها درء العقوبة الحدية عن الفاعل.
1 وذلك مثل ما رواه رافع بن خديج قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا قطع في ثمر ولا كثر"، نيل الأوطار ج7 ص143، وما روي عن الإمام مالك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل"، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن، الموطأ بشرح الزرقاني ج5 ص107 "ط أولى".
وقد ذكر ابن قدامة هذا الخلاف عند حديثه عن شروط وجوب القطع، فقال:"أن يسرق من حرز يخرجه منه"، وهذا قول أكثر أهل العلم، وهذا مذهب عطاء والشعبي، وأبي الأسود الدؤلي، وعمر بن عبد العزيز والزهيي، وعمر بن دينار، والثوري، ومالك، والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحد من أهل العلم خلافهم، إلا قولا حكي عن عائشة والحسن، والنخعي فيمن جمع المتاع، ولم يخرج به من الحرز عليه القطع، وعن الحسن مثل قول الجماعة، وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز؛ لأن الآية لا تفصيل فيه، وهذه أقوال شاذة غير ثابتة عمن نقلت عنه، قال ابن المنذر، وليس فيه ثابت، ولا مقال لأهل العلم، إلا ما ذكرناه، فهو كالإجماع والإجماع حجة على من خالفه، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رجلًا من مزينة، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمار، فقال:"ما أخذ في غير كمامة، فاحتمل ففيه قيمته، ومثله معه، وما كان في الخزائز ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن"، رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب، المغني ج8 ص248.
2-
النشال:
أو الطرار، وهو من يأخذ ما مع الشخص المتيقظ في غفلة منه1.
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب القطع على النشال، إذا أخذ نصاب السرقة، وأثبت عليه ذلك.
سواء شق الجيب، وأخذ منه المال، أو أدخل يده في الكم، أو في الجيب مأخذ من غير شق، وكذا ما أخذ من حقيبة، شقها أو لم يشقها؛ لأن كل هذه الأشياء التي أخذ منها هي عند جمهور الفقهاء حرز لما وضع فيها عرفًا، فإذا أخذه في غفله من صاحبه، فهو إذا سارق، ولا ينظر إلى شق أو غيره؛ ولأن مال الشخص محرز بوجوده معه.
وذهب الإمام أبو حنيفة، ومن وافقه إلى أن النشال لا قطع عليه، إلا إذا شق الجيب أو الكم؛ لأن هتك الحرز قد تحقق، وقد بين ذلك كله ابن الهمام بقول: هـ.. "وعن أبي يوسف أنه أي الطرار يقطع على كل حال، وهو قول الأئمة الثلاثة؛ لأن صورة أخذه من خارج الكم إن لم يكن محرزًا بالكم، فهو محرز بصاحبه، وإذا كان محرزًا بصاحبه، وهو نائم إلى جنبه2، أفلأن يكون محرزًا، وهو يقظان والمال يلاصق بدنه أولى، قلنا: بل الحرز هنا ليس إلا الكم؛ لأن صاحب المال يعتمد الكم، أو الجيب لا قيام نفسه، فصار الكم كالصندوق، وهذا؛ لأن المطرور كمه أما في حالة المشي أو في غيره، فمقصوده في الأولى ليس إلا قطع المسافة لا حفظ المال، وإن كان الثاني فمقصوده الاستراحة عن حفظ
1 طر أي شق، ومنه الطراز وهو الذي يقطع النفقات، ويأخذها على غفلة من أهلها، المصباح المنير.
2 يشير بذلك إلى ما روي من حديث صفوان بن أمية، السابق نيل الأوطار ج7 ص145-146.
المال وهو شغل قلبه بمراقبته، فإنه متعب للنفس فيربطه ليريح نفسه من ذلك، فإنما اعتمد الربط، والمقصود هو المعتبر في هذا الباب1، والذي أرجحه هو وجوب القطع على النشال، سواء أشق جيبًا أو قميصًا، أم لم يشق، وسواء أخذ المال من الجيب، أم أخذه من حقيبة يحملها المسروق منه في يده، ما دام قد غافله النشال، وأخذ منه ما أخذه من مال، أو غيره مما يتقوم بالمال على سبيل الخفية والمغافلة؛ لأنه إن أخذه بغير ذلك فله حكم آخر، يأتي في الحديث عن جريمة السرقة الكبرى، كما أن ما وقع لصفوان بن أمية2، وحكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجوب القطع، يدل صراحة على وجوب قطع النشال، سواء كان المسروق منه نائمًا، أم متيقظًا فسارق خميصة صفوان قد سرقها، وصفوان نائم، ومع ذلك اعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم قد سرقت من حرر لنومه عليه، فمن باب أولى من ينشل من المتيقظ المشغول بما حوله اعتمادًا على أن حاله في جيبه، أو حقيبته، وما إلى ذلك ما دام السارق قد أخذ ماله في الخفاء بعد أن غافله، والشبهة هنا قد نتجت من عدم وضوح دلالة كلمة السرقة على ما وقع من النشال من فعل، ولاختصاص النشال باسم غير اسم السارق، عند اللغوين3، هذا بالإضافة إلى ما أورده الفقهاء، من مسألة اعتبار ما أخذ منه النشال حرزًا أم لا.
1 فتح القدير ج5 390-391 المدونة الكبرى ج15 ص280 المهذب ج2 ص279 المغني لابن قدامة ج8 ص256، أحكام القرآن للقرطبي ج6 ص170.
2 أبو وهب، صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجميحي، صاحبي من أشراف قريش أسلم بعد الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، مات بمكة تهذيب التهذيب ج4 ص424.
3 أصول الفقه الإسلامي الدكتور سلام مدكور ص283 أصول.
الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور، زكريا البري ص236، ويراجع أيضًا المرآة على المرقاة ص106 شرح المنار لابن مالك، وحاشية الرهاوي المصري ص361-363، نقلًا عن أصول الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور.
وعليه، فالشبهة هنا من الشبهات التي تلحق الركن الشرعي للجريمة.
3-
النباش:
هو الذي ينبش القبور لأخذ أكفان الموتى1، ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب القطع على النباش؛ لأن عمله يصدق عليه أنه سرقة، وأن النباش يصدق عليه أنه سارق، يقول ابن حزم مبينًا ذلك:"ووجدنا" السارق "في اللغة التي نزل بها القرآن، وبها خاطبنا الله تعالى: هو الأخذ شيئًا لم يبح الله له، فيأخذه متملكًا له مستخفيا به، فوجدنا النباش هذه صفته، فصح أنه سارق
…
فقطع يده واجب -وبه نقول2، واستدل ابن قدامة لذلك أيضًا بما روي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت:"سارق أمواتنا سارق أحياءنا"،3 واستدل فقهاء الشيعة لذلك أيضًا، بما روي من أن عليا -رضي الله تعالى عنه- نباش القبر، فقيل له: أتقطع في الموتى؟
فقال: "إنا نقطع لأمواتنا، كما نقطع لأحيائنا"4.
1 النبش: الاستخراج: يقال: نبشت الأرض نبشًا: كشفتها موته سمي الإنسان الذي يحفر القبور، ويستخرج منها أكفان الموتى، نباشًا، مبالغة المصباح المنير، ولسان العرب.
2 المحلى ج3 ص358.
3 المغني ج8 ص272.
4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص296.
وذكر الخرش وجوب القطع على النباش، إذا أخذ الكفن، سواء كان القبر قريبًا من العمران أم لا "حتى ولو ألقى الميت في البحر؛ لأن البحر حينئذ صار حرزًا له"1.
أما فقهاء الشافعية، فقد فصلوا القول في ذلك بأن من نبش قبرًا، وسرق منه الكفن، فإن كان في برية لم يقطع؛ لأنه ليس بحرز للكفن، وإنما يدفن في البرية الضرورة، وإن كان في مقبره تلي العمران قطع لما روى البراء بن عازب2 -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه، ومن نبش قطعناه"3.
وذهب فقهاء المالكية، والشافعية والحنابلة، ومن وافقهم إلى أن النباش إن سرق ما زاد على الكفن المشروع، فلا قطع عليه؛ لأنه قد أخذ من غير حرز، وكذا لو سرق ما وضع مع الميت من طيب، أو ذهب أو فضة، أو جوهر وما شابه ذلك، فلا قطع عليه؛ لأن ذلك ليس بكفن، وليس القبر بحرر له فتركه في القبر سفه وتضييع4.
1 الخرشي ج8 ص99.
2 البراء، أبو عمارة البراء بن عازب، وهو وأبوه صحابيان، وأول مشاهدة أحد شهد بيعة الرضوان، وروي له 305 من الأحاديث، ونزل الكوفة توفي بها في عهد عبد الملك بن مروان بعد منتصف القرن الهجري الأول.
3 المهذب ج2 ص278.
4 وهذا ما ذهب إليه عمر، وابن مسعود، والسيدة عائشة، ومن العلماء أبو ثور والحسن، والنخعي، وقتادة، وحماد، وعمر بن عبد العزيز يراجع في ذلك الخرشي ج8 ص99، المهذب ج2 ص278 فتح القدير ج5 ص375 المبسوط ج9 ص159.
وذهب الإمام أبو حنيفة، ومن وافقهما إلى أنه لا قطع على النباش، واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا قطع على المختفي" 1، والمختفي هو النباش في عرف أهل المدينة.
وروي عن الزهري2 قال: أخذ نباش في زمن معاوية، وكان مروان على المدينة، "فسأل من بحضرته من الصحابة والفقهاء، فأجمع رأيهم على أن يضرب ويطاف به"3.
ومبني ذلك عند أبي حنيفة ومن وافقه، أن القبر ليس بحرز؛ لأنه حفره في الصحراء مأذون للعموم من المرور به ليلًا ونهارًا، ولا غلق عليه ولا حارس منصد لحفظه، فلم يبق إلا مجرد دعوى أنه حرز تسمية ادعائية بلا معنى، ولا يترك ذلك عن أن يكون في حرزيته شبهة، وبه ينتفي القطع، وهذه هي الشبهة الأولى عند أبي حنيفة ومن وافقه، وهي من الشبهات التي تتصل بالركن الشرعي للجريمة.
أما الشبهة الثانية عند أبي حنيفة، فهي في كون الكفن مملوكًا لأحد، فالإمام أبو حنيفة يرى أن الكفن مملوك لأحد، لا للميت؛ لأنه ليس أهلًا للملك، ولا للوارث؛ لأنه لا يملك من التركة لا ما يفضل عن حاجة الميت، فإن صح أنه لا ملك فيه لأحد فلا قطع بسرقته، وإلا فتحققت شبهة في مملوكيته بما ذهب إليه الإمام، ويتحققها لا قطع به أيضًا.
1 نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي ج3 ص366 "ط أولى"، ووافق أبو حنيفة، ومحمد كلا من ابن عباس والثوري، والأوزاعي، ومكحول والزهري، فتح القدير ج5 ص375 المبسوط ج9 ص159.
2 وروى ابن أبي شيبة عن الزهري، قال: أتى مروان بقوم يختفون أي ينبشون القبور فضربهم، ونفاهم والصحابة متوافرون. أخرجه عبد الرازق في مصنفه، وزاد فيه وطوف بهم فتح القدير ج5 ص375.
3 المرجع السابق.
وأضاف ابن الهمام ما تلزم به شبهة أخرى، وهو أن في مالية الكفن قصورًا؛ لأن المال ما يجرى فيه الرغبة، والضنة1، والكفن ينفر عنه كل من علم أنه كفن ميت، إلا نادرًا من الناس، وهاتان الشبهتان أيضًا مما يعتري الركن الشرعي للجريمة من شبهات.
كما أورد ابن الهمام شبهة أخرى بقوله: "شرع الحد للانزجار"، والحاجة إليه لما يكثر وجوده، فأما ما يندر فلا يشرع فيه لوقوعه في غير محل الحاجة؛ لأن الانزجار حاصل طبعًا"2.
كما أورد فقهاء الأصول شبهة في وجوب القطع على النباش؛ لأنه وضع له اسم غير السارق، وعليه فلا ينطبق اسم السارق عليه، وقد أورث ذلك شبهة في حقه.
كما ذكروا أن السارق تقطع يده، إذا خاصمه مالك المسروق، والكفن لا مالك له كما قال بذلك الإمام أبو حنيفة3.
وقد أورد أبو القاسم الموسوي بعض أقوال عن بعض فقهاء الشيعة، يرون فيها أنه لا قطع على النباش، إلا إذا عرف بذلك واعتاده، وقد حاول الطعن في صحة ذلك بأن من أوردهما لم يرد فيه توثيق، ولا مدح4.
1 الضنه: البخل، المنجد ولسان العرب مادة "صن".
2 فتح القدير ج5 ص375-376 المبسوط ج9 ص160.
3 أصول الفقه الإسلامي أ. د سلام مدكور ص283. أ. د: زكريا البري ص237.
4 من ذلك صحيحه الفضيل، عن أبي عبد الله "عليه السلام"، قال: "النباش إذا كان معروفًا بذلك قطع..؟ وفي أخرى سألته عن رجل أخذ هو ينبش؟ قال: لا أرى عليه قطعًا إلا أن يؤخذ، وقد نبش مرارًا فاقطعه. يقول أبو القاسم: وهاتان الروايتان، لا يمكن الأخذ بهما؛ لأن الأولى لم يرد في راوياها توثيق ولا مدح، وأما الثانية فإن المعروفية غير التكرار.
روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا قطع على المختفي"، فقد قال عنه الزيلعي1 أنه غريب:"كما أن المختفي يمكن حمله على المظهر للأخذ نظرًا؛ لأن فعله أخفى: من أسماء الأضداد"2، وصرف اللفظ على ظاهر، أو ما استعمل فيه فيما اشتهر من لغة العرب أولى من صرف إلى اسعمال فئة من الناس من غير أن تقوم على ذلك قرينة، "أما ما يراه الإمام من شبهة عدم الحرز، فمردود بما ذكره الجمهور من أن القبر حرز للميت، وثيابه تبعه له، فيكون حرزًا لهما أيضًا".
وذكر ابن قدامة في ذلك:
أن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر دون غير، ويكتفي به في حرزه، ألا ترى أنه لا يترك الميت في غير ذلك القبر من غير أن يحفظ كفنه، ويترك في القبر وينصرف عنه3.
1 الزيلعي: أبو محمد عثمان بن علي الملقب بفخر الزيلعي نسبة إلى زيلعي، وهي بلد تقع على ساحل بحر الحبشة، قدم القاهرة سنة 705، ودرس بها وأفتى واشتهر بالفقه والنحو ت سنة 743هـ.
2 يراجع في ذلك لسان العرب، المصباح المنير مادة خفي.
3 المغني ج8 ص272.
ولأن حرز كل شيء ما يليق به، فحرز الدواب بالاصطبل، والثياب بما أعد لها من حقائب أو ما ماثلها، ولو وضع الشيء في غير حرزه، وسرق لم يجب به قطع لكن الكفن في حرزه، ويتساءل المثبتون للحرز فيقولون: ألا ترى أن الوصي إذا كفن صبيًا من ماله لا يضمن لورثته شيئًا، فلو لم يكن محرزًا، كان تضييعًا موجبًا للضمان، فكان أخذا الكفن من القبر عين السرقة1.
أما ما ذكر من شبهة أنه لا مالك للكفن، فهو قول مردود؛ لأن الكفن مملوك للميت؛ لأنه كان مالكًا له في حياته، ولا يزول مالكه إلا عما لا حاجة به إليه ووليه يقوم مقامه في المطالبة، كقيام ولي الصبي في الطلب بماله2.
كما أن ما ذكره الإمام أبو حنيفة من شبهة عدم مالية الكفن، بدليل أنه لا تجري فيه الرغبة والضنة، وأنه ينفر عنه كل من علم أنه كفن ميت، إلا نادرًا من الناس، فهذه الشبهة ترد بأن من يسرق الكفن، يمكن أن يبيعه لمن لا يعلم حقيقته، وبذا يكون قد استعاض عنه بمال، ومن الأكفان ما يتعالى فيه، فيختار من نوع غال من القماش وهكذا، كما أنه إذا رغب فيه بعض الناس مع علمهم بحقيقة، أصبح للكفن قيمة مالية عندهم.
وما ذهب إليه من أن الحد شرع للانزجار، وأما ما يندر فلا يشرع فيه، أو وقوعه في غير محل الحاجة؛ لأن الانزجار حاصل طبعًا.
1 فتح القدير ج5 ص376، المبسوط ج9 ص160-161.
2 المغني ج8 ص272، المهذب ج2 ص278، ويراجع أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور زكريا البري ص237.
فهذا مردود بما أصبح متفشيا بين الكثير، الذين وصل بهم الحد إلى سرقة جثة الميت ذاتها، والاتجار فيها لطلاب كليات الطب، كما أن الطباع قد ألفت أشياء كثيرة، كانت النفرة عنها غالبة في الماضي.
وعلى هذا، فإن وجوب القطع على النباش بشروط القطع الأخرى، أوجب وألزام بل والزيادة على القطع؛ لأنه بجانب كونه سارقًا، فهو قد انتهك حرمات الموتى، وهذا ما أراه مناسبًا لتعليل ما جاء من أقوال بقتل النباش، أو بقطع يده ورجله1.
وقد ذهب بعض فقهاء القانون الوضعي إلى القول بشبهة عدم امتلاك أكفان الموتى، وما يوضع في القبور من مصوغات، وغير ذلك، واعتبروا ذلك كله من قبيل الأموال المتروكة، التي لا يلزم من سرقها بعقوبة على فعله.
وإن كان الرأي الراجح قد اعتبر ذلك كله من الأموال المتروكة.
ونصت محكمة النقض على أن أكفان الموتى، والملابس والحلي، وغيرها من الأشياء التي اعتاد الناس إيداعها القبور مع الموتى، وإنما هي مملوكة لورثة هؤلاء، وقد خصصوها لتبقى مع جثث أهليهم لما وقر في نفوسهم، واستقر في ضمائرهم من وجوب كرمهم في أجداثهم على هذا النحو2، وما ذهب إليه الفقه الإسلامي من التفريق بين الكفن، وغيره، مما يوضع في القبر أولى، أما ما استقر من عقائد باطلة في نفوس البعض، فالأولى بمحكمة النقض أن تحاول إصلاحه؛ لأن فيه إضاعة أموال بغير داع.
1 المحلى ج13 ص356.
2 قانون العقوبات القسم الخاص. أ. د: أحمد الألفي ص284.
4-
سرقة أحد الزوجين من مال الآخر:
علاقة الزوجية كرمها الإسلام، ورفعها منزلة عالية، وألزم كلا من الزوجين حقوقًا، وفرض عليه واجبات.
فهي علاقة تزيل الحجب التي لا تزال، ولا ترفع في ظل هذه العلاقة، فقد جعل القرآن الكريم كلا من الزوجين لباسًا للآخر:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 1.
ولما كانت علاقة كل من الزوجين بهذه المنزلة، فإن للفقهاء آراء في إيجاب العقوبة الحدية على كل من الزوجين، إذا سرق من مال الآخر.
فقد ذهب فقهاء الأحناف، وفي رأي للإمام الشافعي، أنه لا قطع على أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه، سواء أكان هذا المال غير محرز عن السارق، أم كان محرزًا عنه، وجد هذا المال في المكان الذي يسكنان فيه، أو في مكان آخر، ومبنى ذلك أن بين الزوجين بسوطة في الأموال عادة ودلالة، فإنها لما بدلت نفسها، وهي أنفس من المال كانت بالمال أسمح؛ ولأن بينهما سببا يوجب التوارث من غير حجب حرمان كالوالدين.
ويكفي لإسقاط الحد عن أحدهما قيام الزوجية بينهما، وقت للسرقة فقط، كما لو سرق منها، ثم أبانها ولو رفعت دعواها عليه بعد انقضاء عدتها.
وأيضًا يكفي لإسقاط الحد عن أحدهما قيام الزوجية بينهما، ولو بعد السرقة، سواء أكان التزاوج بعد أن قضى بالقطع، أو لم يقض، وإن
1 من الآية 187 من سورة البقرة.
كان أبو يوسف يرى أن التزواج لو حدث بعد أن قضى بالقطع يقطع.
ولا يجب القطع أيضًا إذا سرق من امرأته المبتوتة، أو المختلفة في العدة، وكذا إذا سرقت هي من الزوج في العدة1.
كما ذهب فقهاء الأحناف إلى أن من سرق من بيت زوجته ابنه، أو أبيه أو زوج ابنته أو زوج أمه، أو بنت زوج أمه، فإنه لا قطع عليه أن كان يجمعهما منزل واحد، أما إذا كان كل منهما في منزل على حده، فإن الإمام أبا حنيفة يرى عدم القطع؛ لأنه لا يرى قطعًا بالسرقة من منزل الأصهار، أو الأختان، وإن كان الصاحبان يريان القطع ما دام لا يجمعهما منزل واحد؛ لأانه لا شبهة في ملكيتهما، واستدل فقهاء الأحناف لما ذهبوا إليه، بالإضافة إلى ما ذكر بأن شهادة كل من الزوجين لا تقبل لصاحبه؛ لاتصال المنافع بينهما، وعليه فلا قطع لأحدهما على الآخر؛ لأنه لو سرق من ماله، فإنه قد سرق من مال له فيه منفعة؛ لأنها لها عليه النفقة، وله عليها الحبس.
واستدلوا لذلك أيضًا بما روي من أن عمر -رضي الله تعالى عنه- أتى بغلام سرق مرآة لامرأة سيده، فقال: ليس عليه شيء، خادمكم سرق متاعكم:"فإذا لم يقطع خادم الزوج، فالزوج أولى".
وبهذا استدل أيضًا بعض فقهاء الحنابلة للقول بإسقاط القطع عن كل من الزوجين، إذا سرق من مال أحدهما، حتى ولو كان محرزًا عن الآخر2، وذهب فقهاء المالكية والشيعة، وجمهور فقهاء الحنابلة، ورأي
1 المبسوط ج9 ص190.
2 فتح القدير ج5 ص382-383، البحر الرائق ج5 ص62-63، مغني المحتاج ج4 ص162، المهذب ج2 ص281 المغني ج8 ص276-277، المبسوط ج9 ص188.
عند الشافعية إلى أنه لا قطع على كل من الزوجين، إذا سرق من مال الآخر إذا كان غير محرز عنه، أما لو سرق أحدهما من مال الآخر المحرز عنه، فإنه يقطع به.
يقول الخرشي: "ويقطع أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه، بشرط أن يكون المال المسروق في مكان محجور عن السارق أن يدخله، أما لو سرق من مكان يدخله، فإنه لا قطع عليه؛ لأنه حينئذ خائن لا سارق"1.
كما استدلوا لذلك بعموم الآيات والأخبار؛ ولأن النكاح عقد على منفعة فلا يؤثر في درء الحد، كالإجارة لا يسقط بها الحد عن الأجير، أو المستأجر إذا سرق أحدهما من الآخر؛ لأنه سرق مالًا محرزًا عنه لا شبهة له فيه.
واشترط فقهاء المالكية أن الحجر إنما يعتبر بغلق لا بمجرد الكلام بالمنع، وذهب الإمام الشافعي في رأي ثالث إلى وجوب القطع على الزوج، فيما سرق من مال الزوجة المحرز عنه بخلافها، فيما لو سرقت من مال زوجها المحرز عنها؛ لأن لها حقًا في ماله بالنفقة، وليس له في مالها مثل ذلك.
وقد عرض الشيرازي الآراء الثلاثة في قوله: "وإن سرق أحد الزوجين من الآخر ما هو محرز عنه، ففيه ثلاثة أقوال أحدها:
1 المغني ج8 ص276-277، الخرشي ج8 ص98، حاشية الدسوقي ص340، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285، مغني المحتاج ج4 ص162، المهذب ج2 ص281، ويراجع شرح الزرقاني ج5 ص120، الموطأ ص236.
أنه يقطع؛ لأن النكاح عقد على المنفعة، فلا يسقط القطع في السرقة كالإجارة، والثاني: أنه لا قطع؛ لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج، والزوج يملك أن يحجر عليها، ويمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء، فصار ذلك شبهة، والثالث: أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة، ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن الزوجة حقًا في مال الزوج بالنفقة، وليس الزوج حق في مالها1.
وذهب ابن حزم إلى أن القطع واجب على من يسرق، وتوافرت فيه شروط القطع بصرف النظر عن كونه زوجًا، أو زوجة للمسروق منه، فمن سرق ما لم يبح له أخذه وجب حده، ولا يلتفت إلى ما بين السارق والمسروق منه من علاقة زوجية.
ورد ابن حزم على من لا يرى القطع في مثل ذلك، فقال:"إن من لا يرى القطع على أحد الزوجين إذا سرق من مال الأخرى، يحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولدها، وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، "فمن لا يرى القطع يقول: إن كل واحد من الزوجين راع في مال الآخر وأمين عليه، فلا قطع عليه كالمودع، كما جاء به الحديث الشريف، ويقول ابن حزم: إن كل هذا لا حجة لهم فيه أصلًا؛ لأن الحديث الشريف لا دليل فيه على ترك القطع في السرقة، كما أن الحديث الشريق قد بين أن كل من ذكر راع فيما ذكر، وأنهم مسئولون عما استرعوا، والمعلوم يقينًا أن من كان مسئولًا لم تبح له السرقة، أو الخيانة
1 المهذب ج2 ص281-282، مغني المحتاج ج4 ص162.
فيما استودع، وأسلم إليه، وهؤلاء إن لم يكونوا كالأجنبيين، وأقل أمورهم أن يكون عليهم ما على الأجنبيين.
كما يضيف ابن حزم: "إن من ذكرهم الحديث لا يختلف أحد في أن عليهم ما على الأجنبيين من إلزام رد ما خانوا وضمانه، فهلا قاسوا -من لم يقولوا بالقطع ما اختلفت فيه من السرقة، والقطع فيها على ما اتفق عليه من حكم الخيانة".
أما قياسهم الزوج والزوجة بالمودع، أو المأذون له في الدخول لا حجة لهم في هذا القياس؛ لأنهم لا يختلفون في أن المودع إذا سرق ما لم يودع عنده، أكان من مال آخر للمودع في حرزه، وأن المأذون له في الدخول "لو سرق من مال محرز عنه للمدخول عليه الإذن له في الدخول، لوجب القطع عليهما بلا خلاف، فيلزم من هذا التشبيه أن لا يسقط القطع عن الزوجين، فيما سرق أحدهما من الآخر، إلا فيما ائتمن عليه، ولم يحرز منه"1.
ورد ابن حزم قول من رأى القطع على الزوج دون الزوجة، إذا سرق أحدهما ما أحرزه عنه الآخر لما لها في ماله من صداق، ونفقة كسوة وإسكان وخدمة، فهي بذلك كالشريك، وذلك كله يترتب عليه شبهة حق في ماله بالنسبة لها، "وذكر ابن حزم أن دليل من قال بذلك، هو ما جاء من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن شكت إليه بخل زوجها، وعدم إعطائه لها ما يكفيها وولدها"، إذ قال صلى الله عليه وسلم:"خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف".
1 المحلى ج13 ص286-288.
إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلق يدها على مال زوجها، تأخذ منه ما يكفيها وولدها، فهي مؤتمنه عليه كالمستودع ولا فرق.
ويرد ابن حزم على هذا بقوله: "أما قولهم أن لها في ماله الحقوق المذكورة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطلق يدها بالصورة الموضحة، فهذا ما لا ينكره أحد.
ولكن الذي لا يشك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلق يدها على ما لا حق لها فيه من مال زوجها، ولا على أكثر من حقها، كما أن إباحة أخذها حقها، وما يكفيها ليس فيه دليل على إسقاط حدود الله تعالى على من أخذ الحرام غير المباح، وقاس ابن حزم ذلك بمن شرب عصيرًا حلالًا، ثم تعداه إلى شراب المسكر الحرام منه.
وقال، بوجوب الحد في الحالين، ولا فرق بين المسألتين عنده من حيث إلزام الفاعل فيما حد ما قام به من أفعال.
وسوى ابن حزم بين الزوجة، إذا أخذت من مال زوجها ما يزيد عن حقها، وبين الأجنبي، إذا كان له حق عند غيره، وتعمد أخذ ما ليس له بحق، حيث لزام الحد.
وبنى ذلك كله على ما ذكره من أن الله تعالى لم يخص إذ أمر بقطع السارق والسارقة، إلا أن تكون زوجة من مال زوجها، وإلا أن يكون زوجًا من مال زوجته، وما كان ربك نسيا1.
وما ذكره ابن حزم يحتاج إلى نظر، ومناقشة:
أولًا: لم يقل أحد أن في الحديث الشريف دليلًا على إباحة السرقة للزوجين من مال أيهما، وكل ما هنالك أنه نتيجة لوجود شبهة
1 المحلى ج13 ص289- 291.
لكل منهما في مال الآخر نظرًا لقيام حق لكل منهما في مال صاحبه، ولوجود البسطة بينهما في المتاع، وقيام علاقة الزوجية، وما يترتب عليها من مخالطة ومودة، كل ذلك يترتب عليه نفي قيام حرز لمال أحدهما بالنسبة للآخر، ونفي قيام حرز لما لهما بالنسبة لكل منهما، أمر يترتب عليه درء العقوبة الحدية، إذا سرق أحدهما من مال صاحبه.
ولم يقل أحد أنه يترتب على ذلك كله، أو أن في الحديث الشريف ما يفيد إباحة السرقة لكل منهما من مال الآخر، هذا ما لم يقل به أحد.
وكل ما قيل: أن ما ذكر ينتج شبهة لكل منهما في مال صاحبه تدرأ العقوبة الحدية، ولا تسقط العقوبة كلية إذ تبقى العقوبة التعزيرية، التي يختار منها القاضي ما يراه مناسبًا، كما يبقى أيضًا رد المال لصاحبه.
ثانيًا: لا يلزم من التسوية بين الزوجين، والأجنبيين في وجوب الرد، والضمان أن يسوي بينهما في إلزام العقوبة الحدية؛ لأن علة كل من الحكمين غير منضبطة.
نظرًا؛ لأن التسوية بين الزوجين والأجنبيين، فيما لكل منهما من حق في مال من سرق منه منعدمة.
إذ أنه لا حق لأجنبي في مال غيره ممن هو أجنبي بالنسبة له، أما الزوج والزوجة، فإن ما بينهما من الحقوق، وما على كل منهما للآخر من الواجبات، وما تحتمه العلاقة الشرعية بينهما من المخالطة ورفع الحجب، ما يوجب لكل منهما حقا في مال صاحبه، أو على الأقل ما يورث شبهة حق، أو أن ما أخذه من مال الآخر قد أخذه لغرض آخر غير السرقة، وحتى لو ادعى ذلك، فإن له من العلاقات بزوجه ما يقوي ما يدعيه ويرجحه، ويغلب احتمال صدق مقالته.
وعليه، فإنه لا وجهة التسوية بين الزوجين، والأجنبيين في إلزام كل منهما الحد إذا سرق أحد الزوجين من مال صاحبه، وسرق شخص من آخر غريب عنه.
ثالثًا: يرى ابن حزم أنه ليس في إباحة أخذ الزوجة حقها، وما يكفيها ما يسقط حدود الله بالنسبة لمن أخذ الحرام غير المباح، وهذا مما لا يختلف عليه أحد. لكنه يفهم من الحديث صراحة، إباحة أخذ الزوجة من مال الزوج ما يكفيها، دون تحديد نوع المال الذي تأخذ منه؛ لأن الحديث أطلق.
وابن حزم ممن لا يحمل النصوص أكثر مما يدل عليه ظاهرها.
وما دام ظاهر الحدجيث قد أباح الأخذ، وأطلق دون تحديد جهة أو نوع معين من مال الزوج، فلا شك أن ذلك يترتب عليه إسقاط حرز مال الزوج بالنسبة للزوجة.
وإسقاط الحرز يترتب عليه عدم إلزام العقوبة الحدية، لوجود شبهة تتصل بالركن الشرعي للجريمة، نظرًا؛ لأن جمهور الفقهاء يرى أن من أخذ مالًا حرامًا غير محرز لا يقطع بأخذه، وإنما يعاقب بعقوبة تعزيرية مناسبة، إذا رأى القاضي ذلك.
رابعًا: استدل ابن حزم على وجوب القطع على الزوجة، إذا سرقت من مال زوجها، مع أن لها فيه حقًا، بقياسه ذلك على ما يجب على من شرب عصيرًا حلالًا، ثم تعده إلى شرب المسكر منه.
ولا شك أن تسوية ابن حزم بين الحالتين تسوية غير منضبطة، وقياسه هذه بتلك قياس فاسد؛ لأن الزوجة التي أخذت من مال زوجها، قد أخذت مما لها في حق ثابت، أو على الأقل شبهة حق.
أما من تعدى شرب العصير الحلال إلى شرب المسكر الحرام مع علمه ذلك، فلا حق له، ولا شبهة حق قيما أقدم عليه.
فالقياس غير قائم، مع أن ابن حزم لا يعتبر القياس حجة مطلقًا1، "وحتى من يعتبر القياس حجة لا يعمله في إيجاب العقوبة الحدية".
خامسًا: التسوية بين "الزوجة وبين الأجنبي إذا أخذ كل منهما ما يزيد على حقه، في وجوب الحد على كل منهم بذلك، تسوية غير منضبطة؛ لأن حق الأجنبي معروف له، ومحدد تمامًا أما حق الزوجة، فليس بمحدد ولا معين المقدار؛ لأن تحديد ذلك يرجع فيه إلى مقدار حاجتها، وما يكفي شراء ما يلزمها، وتحديد ذلك يرجع فيه إلى الظروف والأحوال، والعمدة، فيه هو العرف، وذلك كله يختلف باختلاف الظروف من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، ومن زمان لآخر.
والتسوية بين الزوجة والأجنبي، إذا أخذ كل منهم ما يزيد عن حقه، تسوية غير مقبولة أيضًا؛ لأن ما تأخذه الزوجة، وتنفقه على نفسها وولدها، وإن كان زائدًا على ما يكفيها، وولدها إلا أنه غالبًا ما يسعد زوجها، وخصوصًا حين يرى آثار ذلك على ولده، وزوجته التي هي من نفسه ولباس له.
أما الأجنبي إذا أخذ ما يزيد على حقه، وأنفقه على نفسه، أو على ولده، فمما لا شك فيه أن ذلك يوفر صدر المأخوذ منه، ويثير حنقه، فالتسوية إذا غير منضبطة من كل جوانبها، ونواحيها.
1 يراجع في ذلك أ. د: سلام مدكور أصول الفقه الإسلامي ص650.
سادسًا: ما ذكره ابن حزم من أن الله سبحانه وتعالى لم يخص إذا أمر بقطع السارق والسارقة، إلا أن تكون زوجة من مال زوجها، وإلا أن يكون زوجًا من مال زوجته:"قد سبق الرد عليه بأن الآيات الكريمة لم تذكر شروط السرقة، ولا تصابها وما إلى ذلك".
وما دامت الآيات قد قبلت التخصيص في ذلك، فماذا يمنع من أن يكون من بين ما تخصص به أيضًا سرقة الزوجين من مال أحدهما، نظرًا لما لكل منهما في مال الآخر ما يورث شبهة، سواء أكانت شبهة حق طبقًا لما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حزم:"خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف".
أو كانت شبهة انتفاء الحرز نظرًا لطبيعة علاقة الزوجية، ولا يخفى بعد هذا كله أن ابن حزوم لا يرى درء الحد بالشبهة، هذا مذهبه، وقد سبقت مناقشته في الباب الأول، مع أن الشبهة هنا قد وصلت حدا انتقاص شرط من شروط إيجاب الحد على السارق، ألا وهو شرط إحراز المال المسروق بالنسبة للسارق، إذ الإذن بالدخول ينتفي معه الحرز يندرئ الحد، ولا يمنع درء الحد من إلزام السارق عقوبة تعزيرية مناسبة.
وقد ذهب فقهاء القانون الوضعي إلى أن الأمر بين الزوجين، لا يخلو من أحد فروض ثلاث، فإما أن يكون المال خاصًا بأحد الزوجين كالملابس، والأوراق وعندئذ يكون اغتياله من الآخر سرقة.
وإما أن يكون المال في عهدة أحد الزوجين لحفظه، أو التصرف فيه على وجه معين، وهنا يكون اغتياله تبديدًا.
وأخيرًا قد يكون المال في حيازة الزوجين معًا، ولو كان مملوكًا
لأحدهما، وعندئذ يكون اغتيال أحدهما مال الآخر خيانة للأمانة لا سرقة1.
ومن هذا يتضح أن القانون قد جعل لأخذ أحد الزوجين مال الآخر غير المحرز عنه، حكمًا غير حكم السرقة، وعاقب عليه بعقوبة مغايرة.
أما مال أحدهما المحزر عن الآخر، فقد عد أخذ الآخر له سرقة يلزمه بها عقوبتها، وهذا يتفق وما قال به فقهاء المالكية، والشيعة وجمهور الحنابلة، ورأي للإمام الشافعي، كما سبق بيانه.
5-
سرقة الشخص مما يشاركه فيه غيره:
المشاركة في المال أما أن تكون مشاركة فعلية، أو تكون مشاركة اعتبارية.
أ- المشاركة الفعلية:
ويراد بها أن يكون السارق شريكًا حقيقيًا في المال الذي سرق منه، ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا قطع على الشريك، إذا سرق من المال الذي له فيه شركة، وإن قل نصيبه؛ لأن له في المال المسروق حقًا شائعًا، ويترتب على ذلك تدرأ الحد عنه2.
وذهب فقهاء الشيعة إلى أن من سرق من المال المشترك بينه، وبين غيره بقدر حصته، أو أقل لم يقطع، ولكنه يعزر، أما لو سرق ما يزيد على حصته بقدر ربع دينار من الذهب، قطعت يده3.
1 أ. د: محمود مصطفى: القسم الخاص ص453-454، ص481-482.
2 المبسوط ج9 ص152، فتح القدير ج5 ص376-377 مغني المحتاج ج4 ص162، المهذب ج2 ص281، المغني ج8 ص278.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص284.
أما فقهاء المالكية، فقد ذهبوا إلى أن من سرق من مال شركة بينه، وبين آخرين يقطع بشرطين:
الأول: أن يحجب السارق عن مال الشركة، أي ليس له فيه تصرف.
الثاني: أن يسرق فوق حقه نصابًا من جميع مال الشركة ما سرق، وما لم يسرق إن كان مثليًا، كما إذا كان جملة المال اثني عشر درهما، وسرق منه تسعة دراهم، وأما إن كان مقومًا فالمعتبر أن يكون فيما سرق فوق حقه، مما سرق لا من جميع المال نصابًا.
وعليه فإن من سرق من مال له فيه شركة، ولم يكن المال محجوبًا عنه، فلا قطع عليه.
وكذا لو كان محجوبًا عنه، وسرق ما دون النصاب1، وعلل فقهاء المالكية تفريقهم بين المثلى، والمقوم حيث اعتبروا في المثلى كون النصاب المسروق فوق حقه في جميع المال المشترك، ما سرق وما لم يسرق، واعتبروا في المقوم كون النصاب المسروق فوق حقه، فيما سرق فقط، أن المقوم لما كان ليس له أخذ حظه منه، إلا برضاء صاحبه لاختلاف الأغراض في القوم كان ما سرقه بعضه حظه، وبعضه حظ صاحبه، وما بقي كذلك، وأما المثلى، فلما كان له أخذ حظه منه أبى صاحبه، لعدم اختلاف الأغراض فيه غالبًا، فلم يتعين أن يكون ما أخذه منه مشتركًا بينهما، وما بقي كذلك2.
1 الخرشي ج8 ص97، حاشية الدسوقي ج4 ص337.
2 المرجع السابق.
أما ابن حزم، فقد ذهب إلى أن من سرق من شيء له فيه نصيب، فإن كان نصيبه هو ما أخذه فقط، فلا قطع عليه.
أما إن أخذ نصيبه وزيادة، فإن كانت الزيادة مما يجب القطع في مثلها قطع، ولا بد، إلا أن يكون منع حقه في ذلك، أو احتاج إليه، فلم يصل إلى أخذ حقه إلا بما فعل، ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا قطع إذا عرف ذلك، وإنما عليه أن يرد الزائد على حقه فقط؛ لأنه مضطر إلى ما أخذ، إذا لم يقدر على تخليصه1.
والذي أرجحه من ذلك ما ذهب إليه الجمهور من القول بعدم قطع من سرق مالًا له فيه شركة، أو حق حتى وإن زاد ما أخذه على ماله في هذه الشركة من حق بمقدار النصاب وزيادة، وسواء أكان مثليًا أم منقولًا؛ لأن وجود حق السارق في المال يبيح له اتصال بهذا المال، فيصبح المال غير محرز بالنسبة له.
كما أنه تقوم في حقه شبهة ملكه لبعض المسروق، وهي وحدها تكفي لدرء العقوبة الحدية عنه.
والتفريق بين المثلى والمنقول تفرقة لا يقوم عليها دليل، حتى عند من أخذ بها.
ويكفي لرد رأي من قال بالقطع، ما روي من أن عاملًا لعمر -رضي الله تعالى عنه، كتب يسأله عمن سرق من مال بيت المال.
فقال عمر: لا تقطعا فما من أحد إلا وله فيه حق.
1 المحلى ج13 ص355.
وروى الشعبي1 أن رجلًا سرق من بيت المال، فبلغ عليًا كرم الله وجهه، فقال: إن له فيه سهمًا ولم يقطعه2.
فإذا كان السارق من بيت المال لم يقطع؛ لأن له فيه سهمًا، وهذا السهم غير معلوم المقدار، ولا مخصص بكونه مثليًا بالنسبة لما سرق أو قيميا، ومع ذلك درء الحد عنه لوجود هذا السهم له، فمن باب أولى يدرأ الحد عمن سرق مالًا له فيه شركة، وحق ونصيب.
هذا بالإضافة إلى أن مال بيت المال حرزه قائم بالنسبة لمن سرق منه، أما مال شركة السارق، فالحرز حتى وإن كان موجودًا، إلا أنه لا يقوم بالنسبة له، لجواز دخوله على هذا المال في أي وقت، سواء للاطمئنان عليه، أو لرعايته أو لمراجعته، وما إلى ذلك.
فإذا كانت سرقته المحرز لا يقطع بها أن كان للسارق فيما سرقه حق، فما بالنا بسرقته غير المحرز عنه، مما له فيه شركة ونصيب.
ويرى فقهاء القانون أن السرقة جريمة من جرائم الاعتداء على المال بقصد تملكه، فلا يتصور إذن حصولها من مالك، ونبغي على هذا أن من يختلس ماله لا يكون سارقًا، ولو كان سيئ القصد معتقدًا وقت الاختلاس أن المال يملكه غيره، وتسري هذه القاعدة، حتى ولو كان للغير حقوق على الشيء المختلس نجلعه أولى بالحيازة من مالكه.
غير أن القانون الإنجليزي قد توسع، فأخذ بعموم قاعدة أنه يعد سارقًا كل من يختلس من آخر شيئًا، لا يكون المختلس أحق بحيازته ممن اختلسه منه، ولو كان المختلس مالكًا للشيء، ولو بطريق الاشتراك مع
1 عامر بن شراحبيل ولد بالكوفة، كان يكره الرأي، سمع عليه أبو حنيفة الحديث ت 105.
2 المهذب ج2 ص281.
الغير، فيعتبر سارقًا الشريك الذي يفتح مخزن الشركة بمفاتيح مصطنعة، ويستولي خلسة على شيء من البضائع1.
فالقاعدة الأساسية تقضي بعدم عده سارقًا، وهذا ما ذهب إليه الجمهور من الشرعيين، وإن كان الاتجاه الإنجليزي قد ضيق الرأي، فاعتبروه سارقًا حتى، ولو كان ما أخذه مقدار نصيبه في الشركة2.
ب- المشاركة الاعتبارية:
ويراد بذلك أن يكون للسارق حق ما في المال، الذي سرق منه تقرر -هذا الحق له بدليل شرعي.
ولم يقرر هذا الحق عن طريق المشاركة الفعلية الناتجة عن مساهمة كل من المشاركين في رأس المال، محل الشركة، فالمشاركة الاعتبارية بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرت بالنسبة لكل من الزوجين، الواجب على شخص آخر، أوجد هذا النوع من الحق رعاية المصالح، والروابط التي يقررها الشرع، ويحميها ويحترمها، ويلزم على أساسها شخصًا الإنفاق على آخر وإعاشته.
وهذا النوع من المشاركة ينتج شبهة، تدرأ الحد عمن سرق من المال الذي حدد له الشرع الإعاشة منه، وتتضح صور المشاركة الاعتبارية، بالإضافة إلى ما سبق
أن ذكرت بالنسبة لكل من الزوجين مع الآخر، فيما يأتي من صور أيضًا:
1 أ. د: محمود مصطفى القسم الخاص ص464-466. أ. د: أحمد الألفي القسم الخاص ص181.
2 المرجعان السابقان.
أولًا: المشاركة التي بين الأقرباء ذوي الرحم المحرم كل في مال الآخر، وتشمل مشاركة الوالد ولده، والابن لأبيه، وكل من نفي عنه الحرج في أن يأكل من بيت من تربطه بن صلة، مما حددته الآية الكريمة.
ثانيًا: المشاركة القائمة بين جماعة من الجماعات في مال من الأموال التي تملكوها، أو ثبت لكل منهم حق فيه، ولم تتم قسمة هذه الأموال بينهم، ولم يعين ما يخص كل فرد منهم، أو لم يفصل عن باقي الأموال بوضوح، ولم يوضع في حرز خاص به.
هذه هي صورة المشاركة الاعتبارية، وسأذكر قيما يأتي آراء الفقهاء، فيما إذا سرق أحد هؤلاء من المال الذي له فيه شركة اعتبارية.
ونظرًا؛ لأنه قد سبق الحديث عن سرقة كل من الزوجين من مال الآخر. فسأخص بالحديث هنا ما بقي من صور.
أولًا: سرقة ذوي الرحم المحرم بعضهم من بعض
اهتم الإسلام اهتمامًا عظيمًا بصوة علاقة الأبوة، والحفاظ عليها، فأمر الله سبحانه وتعالى في كثير من آيات القرآن الكريم، بالإحسان إلى الوالدين، ورعايتهما والقيام بشئونهما.
1 من الآية 61 من سورة النور.
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الابن، وكل ماله لأبيه، ومن هنا ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الوالد، إذا أخذ شيئًا من مال ابنه، ولو على سبيل السرقة، فإنه لا يقطع بذلك؛ لأنه أخذ مالًا له فيه ملك، وثبوت هذا الملك للوالد في مال ولده ينتج شبهة في الركن الشرعي لجريمة السرقة، يترتب عليها درء العقوبة الحدية عنه.
والأب هنا مراد به الأم أيضًا، فإنه لا قطع عليها إذا سرقت من مال ابنها لما سبق.
وذهب فقهاء الأحناف، والشافعية والحنابلة، والشيعة إلى إطلاق الأب، وإن علا وكذا الأم وإن علت، أما فقهاء المالكية فقد اختلفوا في إطلاق الأب على الجد، وإعطاء الجد حكم الأب هنا، فقال ابن الحاجب1: وفي الجد قولان قال في التوضيح: اختلف الأجداد من قبل الأب والأم، فقال ابن القاسم:2 أحب إلي أن لا يقطع؛ لأنه أب؛ ولأنه ممن تغلظ عليه الدية، ورد ادرءوا الحدود بالشبهات، وقال أشهب3: يقطعون؛ لأنهم لا شبهة لهم في مال أولاد أولادهم، ولا نفقة لهم عليهم، وتأمل بعضهم قول ابن القاسم: أحب إلي على الوجوب، ولا خلاف في قطع
1 ابن الحاجب: أبو عمر عثمان بن عمرو المالكي، المتوفى سنة 646هـ، وهو صاحب كتاب منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل.
2 ابن القاسم المصري، أبو عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة، صاحب مالكًا عشرين سنة، وهو صاحب المدونة، وعنه أخذ سحنون، وقد روى الموطأ أيضًا توفي سنة 191هـ.
3 أشهب بن عبد العزيز القيسي، فقيه مصر ولد سنة 145هـ، ومات سنة 204هـ، انتهت رياسة المذهب المالكي بمصر بعد ابن القاسم.
باقي القرابات، وقد تبين له الخلاف في الجد مطلقًا لا في خصوص الجد لأم1.
وذهب جمهور الفقهاء من الأحناف، والشافعية والحنابلة، والشيعة إلى أن الابن، وإن سفل لا يقطع بسرقة مال والده، وإن علا.
وظاهر قول الخرقي2 من فقهاء الحنابلة، وأبي ثور من فقهاء الشافعية، وابن المنذر3 والإمام مالك أن الابن يقطع بسرقته من مال والده، لظاهر الكتاب؛ ولأنه يحد بالزنا بجاريته، ويقاد بقتله، فيقطع بسرقة ماله كالأجنبي.
ورد ذلك جمهور الفقهاء نظرًا لما بين الابن، وأبيه من قرابة تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه، فلا يقطع الابن إذا بسرقته من مال والده، كما لا يقطع الوالد بسرقته من مال ابنه.
ولأن النفقه تجب للابن من مال أبيه حفظًا له من التلف، وعليه فلا يجوز إتلافه حفظًا للمال.
ولا يجوز قياس قطعه بسرقته من مال أبيه على وجوب الحد
1 حاشية الدسوقي ج4 ص337، الخرشي ج8 ص96، المبسوط ج9 ص151، فتح القدير ج5 ص381، المذهب ج2 ص281، المغني ج8 ص275، مباني المنهاج ج1 ص285، شرح الأزهار ج2 ص375.
2 هو، أبو القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي، فقيه حنبلي من أهل بغداد، له تصانيف منها المختصر في الفقه، توفي بدمشق سنة 334هـ.
3 أبو بكر، محمد بن أبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيهًا عالمًا صنف في اختلاف العلماء كتبًا لم يصنف مثلها ت ص309، أو سنة 310.
عليه إذا زنى بجارته لما بين الحالتين من فروق أهمها أن للابن شبهة في مال أبيه، وليست هذه الشبهة موجودة في جارية الأب.
وقد بين هذا الشيرازي في قوله: ومن سرق من ولده، أو ولد ولده، وإن سفل أو من أبيه من جده وإن علا، لم يقطع.
وقال: أبو ثور يقطع، لقوله عز وجل:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فعم ولم يخصص، وهذا الخطأ لقوله عليه السلام:"ادرءوا الحدود بالشبهات"، وللأب شبهة في مال الابن وللابن شبهة في مال الأب؛ لأنه جعل ماله كماله في استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه، والآية نخصها بما ذكرناه"1.
وزاد فقهاء الأحناف، والشيعة على ما ذكر القول بعدم القطع على من سرق من ذي رحم محرم.
أما جمهور الفقهاء، فقد ذهبوا إلى قطع من سرق من ذي رحم محرم، أو من سائر أقاربه، عدا ما ذكر في الآباء والأبناء.
واعتمد الجمهور في ذلك على أنه ليس بين باقي ذي الرحم المحرم أبوة، ولا بنوة، وعليه فلا تتمكن الشبهة لأحدها في مال الآخر، بدليل قبول شهادة كل واحد منهم لصاحبه، وجواز إعطائه الزكاة؛ ولأن ما بينهما من قرابة لا يترتب عليها حرمة النكاح أيضًا، ولا استحقاق
1 يراجع في ذلك، المهذب للشيرازي ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص162المغني ج8 ص276، المبسوط ج9 ص151، فتح القدير ج5 ص380-382، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285-289 شرح الأزهار ج4 ص375، الخرشي ج8 ص96 حاشية الدسوقي ج4 ص337.
النفقة، ولهذا يقطع أحدهما إذا سرق من الآخر، ورد فقهاء الأحناف ومن وافقهم، ما ذهب إليه جمهور الفقهاء بأن له سبحانه وتعالى قد رفع الجناح، على الدخول في بيت الأخرى، والأعمام، والأكل منه، وظاهر هذا يقتضي الإباحة، والظاهر وإن ترك لقايم الدليل يبقى شبهة.
كما أن الآية الكريمة عطفت بيوت الأخوة، والأعمام على بيوت الآباء والأولاد، والمعطوف حكمه حكم المعطوف عليه.
ولا يتعرض على ذلك بما جاء من قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} ؛ لأن الصداقة هذه تنتفي مع السرقة، فتنتفي معها الشبهة، والأخوة لا تنتفي مع السرقة كالأبوة والبنوة.
كما ذهب الأحناف أيضًا إلى أن هذه القرابة، يتعلق بها استحقاق النفقة، والعتق عند الدخول في الملك، فإذا ثبت استحقاق النفقة، وما إلى ذلك استتبع وجود حق لبعضهم في مال بعض من وجه.
وعلى ذلك تنهض في حقهم شبهتان، أولاهما انتفاء الحرز بالإذن بالدخول، والثانية وجود حق في مقال بعضهم لبعض، ووجود هاتين الشبهتين، أو إحداهما يكفي لدرء العقوبة الحدية، كما أن العقوبة الحدية لا تلزم أيضًا إذا سرق من مال الغير، أو متاعه الموجود في بيت ذي الرحم لوجود الإذن بالدخول، بخلاف ما إذا سرق مال ذي الرحم المحرم من بيت غيره، فإنه يلزمه به القطع، لعدم الإذن بالدخول، ووجود الحرز.
وقد بين ذلك كله ابن الهمام بقوله: "وأما وجه عدم القطع في قرابة الولادة؛ فلأنها عادة تكون معها البسوطة في المال، والإذن في
الدخول في الحرز حتى يعد كل منهما بمنزلة الآخر، ولذا منعت شهادته له شرعًا. ويخص سرقة الأب من مال الابن قوله عليه الصلاة والسلام:"أنت ومالك لأبيك".
وأما غير الولادة، فألحقهم الشافعي رحمه الله بالقرابة البعيدة، ونحن ألحقناهم بقرابة الولاد، وقد رأينا الشرع ألحقهم بهم في إثبات الحرمة، وافتراض الوصل، فلذا ألحقناهم بهم في عدم القطع بالسرقة، ووجوب النفقة.
ولأن الإذن بين هؤلاء ثابت عادة للزيارة، وصلة الرحم، ولذا حل النظر منها إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة، وما ذاك إلا للزوم الحرج لو وجب سترها عنه مع كثرة الدخول عليها، وهي مزاولة الأعمال، وعدم احتشام أحدهما من الآخر.
وأيضًا فهذه الرحم المحرمة يفترض وصلها، ويحرم قطعها، وبالقطع يحصل القطع، فوجب صونها بدرئه.
ومما يدل على نقصان الحرز فيها قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} .
ورجع الجناح عن الأكل من بيوت الأعمام، أو العمات مطلقًا يؤنس طلاق الدخول، ولو سلم فإطلاق الأكل مطلقًا يمنع قطع القريب، ثم هو أن ترك لقيام دليل المنع بقيت شبهة الإباحة على أوزان ما قلنا في:"أنت ومالك لأبيك".
فإن قلت: فقد قال: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} ، كما قال:{أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ} ، والحال انه يقطع بالسرقة من صديقه، أجيب بأنه لما قصد سرقة ماله فقد عاداه، فلم يقع الأخذ إلا في حال العداوة.
ولو سرق من بيت ذي الرحم المحرم متاع غيره لا يقطع، ولو سرق مال ذي الرحم المحرم من بيت غيره، يقطع اعتبار للحرز وعدمه1.
وذهب ابن حزم إلى وجوب القطع على السارق مطلقًا، سواء أسرق من غريب عنه، أم من ذي رحم محرم، أو من والده أو من ولده، أخذا بظاهر آية السرقة التي أوجبت القطع على كل من سرق، إذا اكتملت فيه شروط القطع، سواء أكان بينه وبين المسروق منه صلة قرابة محرمية أم لا.
ورد على ما استدل به الجمهور فيما سبق، فقال: فأما الآية فحق، ولا دليل فيها على ما ذكروا، بل هي حجة عليهم، وقد كذبوا فيها أيضًا، أما كونها لا دليل فيها على ما ادعوه، فإنه ليس فيها إسقاط القطع على من سرق من هؤلاء لا بنص ولا بدليل، وإنما فيها إباحة الأكل لا إباحة الأخذ بلا خلاف من أحد من الأمه.
فإن قالو: قسنا الأخذ على الأكل قلنا لهم: القياس كله باطل، وأما قولهم:"إن إباحه الله تعالى الأكل من بيوت هؤلاء، يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم"، فليت شعري أين وجدوا هذا في هذه الآية أو في غيرها، فيدخل الصديق منزل صديقه بغير إذنه، هذا عجب من العجب، أما سمعوا قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} 2.
1 فتح القدير ج5 ص381، المبسوط ج9 ص151-152، البحر الرائق ج5 ص62-63، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285-290، شرح الأزهار ج4 ص375، حاشية الدسوقي ج4 ص337 المذهب ج2 ص281، المغني ج8 ص276.
2 من الآيتين 58-59 من سورة النور.
منكم.. إلى قوله تعالى: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، فنص الله تعالى على أنه لا يدخل بالغ أصلًا على أحد إلا بإذن، ودخل في ذلك الأب والابن وغيرهما، حاشا ما ملكت أيماننا، والأطفال، فإنهم لا يستأذنون إلا في هذه الأوقات الثلاثة فقط.
وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فقد أوضحنا أن ذلك حبر منسوخ قد صح نسخه بآيات المواريث، فإن قالوا: إن الوالدين حقًا في مال الولد؛ لأنهما إذا احتاجا أجبر على أن ينفق عليهما، فلا يقطع الأب أو الأم فيما سرقا من ابنهما، فهذا تمويه ظاهر، ولم يخالفهم أحد في أن الوالدين إذا احتاجا، فأخذا من مال ولدهما حاجتهما، باختفاء أو بقهر، أو كيف أخذا، فلا شيء عليهما، فإنما أخذ حقهما، وإنما الكلام فيهما إذا أخذا مالًا حاجة بهما إليه، أما سرا وإما جهرًا، فاحتجاجهم بما ليس من مسألتهم تمويه، كما أنهم لا يختلفون فيمن كان له حق عند أحد، فأخذ من ماله مقدار حقه، فإنه لا يقطع ولايقضي عليه برده، فلو كان وجوب الحق للأبوين في مال الولد إذا احتاجا إليه مسقطًا للقطع عنهما، إذا سرقا من ماله مالًا يحتاجان إليه، ولا حق لهما فيه، لوجب ضرورة أن يسقط القطع عن الغريم، الذي له الحق في مال غريمه، إذا سرق منه مالًا حق له فيه، وهذلًا مالًا يقولونه، فبطل ما موهوا به من ذلك1.
وما ذكره ابن حزم لا يخلو مما يرد عليه، إذ لم يقل أحد أن الآية أباحت السرقة، لكنها أباحت الأكل، وإباحة الأكل بترتب عليها وجود شبهة حق لمن أبيح له، في المال المباح الأكل منه، وشبهة الحق هذه تدرأ العقوبة الحدية، كما سبق الإشارة إلى ذلك،
1 المحلى ج13 ص380-386.
ولا يخفى أن ابن حزم لا يعمل الشبهات في درء الحدود، وقد سبق الرد عليه أيضًا،
وإباحة الأكل أيضًا لم يقل أحد بأنها تبيح الأخذ، وإنما تدرأ الحد فقط مع بقاء العقوبة التعزيرية، ووجوب رد المال، ولم يقال أحد أيضًا أن إباحة الأكل يترتب عليها إباحة دخول المنازل بغير إذن، وإنما يترتب عليها انتفاء حرز المال بالنسبة لمن أبيح له الأكل منه.
كما أن الآية التي تحدثت عن تحديد أوقات الدخول بالنسبة لما ملكت أيماننا وأطفالنا، فالدخول هنا مقصود به دخول مكان النوم، الذي قد يتخفف الإنسان فيه من ملابسه، أو تنكشف فيه عورته، بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال:{ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1.
وأما قول ابن حزم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أنت ومالك لأبيك"، قد نسخ بآيات المواريث، فقول مردود؛ لأنه لا تعارض بين ما يدل عليه الحديث وآيات المواريث؛ لأن هذا الحديث لم يسبق في معرض بيان نصيب الأب في مال ولده، أما محاولة استدلال ابن حزم على وجوب القطع على الوالدين، إذا أخذوا من مال ابنهما خفية ما يجب القطع به، قياسًا لهما بمن كان له حق عند آخر، فأخذ من غريمه أكثر من حقه، فقول مردود؛ لأنه قد جاء في أقوال الفقهاء، فيما مضى التفريق بين حالتين من الحالات التي يأخذ الغريم فيما ما زاد عن حقه، إذ أنهم قد أسقطوا الحد عن الغريم
1 من الآية 58 من سورة النور.
الذي لم يستطع الوصول إلى حقه، إلا بأخذ ما زاد عنه معه1.
ولا يخفى أن التسوية بين الوالدين، ولا بين الغريم تسوية غير مقبولة؛ لأن ما أخذه الوالدان قليل من كثير، إذا ما قيس بما أعطياه لابنهما، كما أن الابن إذا رأى آثار هذا المال على والديه، فلن يوغر صدره مثلمًا يراه على غريم.
أما فقهاء القانون الوضعي، فإنهم قد اعتبروا سرقة الفروع من أصولهم، أو الأصول من فروعهم، وكذا الأزواج، سرقة تختلف عن غيرها من السرقات، كل ذلك من باب المحافظة على الأسرة، وعلاقاتها.
فتنص المادة 312 من قانون العقوبات على أنه: لا تجوز محاكمة من يرتكب سرقة إضرارا بزوجه، أو زوجته، أو أصوله أو فروعه الأبناء على طلب المجني عليه، والمجني عليه أن يتناول عن دعواه بذاك في أية حالة كانت عليها الدعوى، كما له أن يوقف تنفيذ الحكم النهائي عن الجاني في أي وقت شاء.
وهذه المادة جاءت بدلًا من مادة أخرى، كانت تقضي بأنه لا يحكم بعقوبة ما على من يرتكب سرقة إضرارًا بزوجه، أو زوجته أو أصوله، أو فروعه.
1 من هؤلاء الفقهاء الأحناف، ويراجع في ذلك المبسوط ج9 ص178، فتح القدير ج5 ص377، بل وقد قرر ذلك ابن حزم نفسه، حين تحدث عمن سرق ما يزيد على حقه، فقال: إلا أن يكون منع حقه، أو احتاج إليه فلم يصل إلى
أخذ حقه إلا بما فعل، ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا يقطع إذا عرف ذلك، وإنما عليه أن يرد الزائد على حقه فقط؛ لأنه مضطر إلى أخذ ما أخذ إذا لم يقدر على تلخيص مقدار حقه، والله تعالى يقول:{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 6: 119.
يراجع في ذلك المحلى ج13 ص355.
ويعلق الأستاذ الدكتور: محمود مصطفى على المادة السابقة بقوله: وقد رؤي بهذا النص المحافظة على مصلحة الأسرة، فلم يشأ المشرع أن يخول للنيابة السير في الدعوى العمومية، رغم إرادة المجني عليه، الذي قد يرى أن مصلحة العائلة عدم إثارة الجريمة
…
وسواء أكان الفاعل يعلم بهذه العلاقة التي تربطه بالمجني عليه، أو أكان يجهلها1.
ثانيًا: السرقة من المال الذي تملكه الجماعة
والمال الذي تملكه الجماعة ينقسم بحسب ما يصدق عليه لفظ الجماعة إلى قسمين:
الأول: المال الذي تملكه جماعة محددة بسبب اغتنامها له، أو وقفه عليها، أو الإيصاء به لها، أو تخصيصه للإنفاق منه عليها.
الثاني: المال العام، أو الذي تملكه الدولة، وهو ما يسمى عند الفقهاء مال بيت المال.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من سرق من مال له فيه حق، فلا قطع عليه سواء أخذ حقه، أو ما زاد عنه اعتمادًا على أن وجود له في المال ينهض شبهة تدرأ الحد عنه.
وقد سبق بيان ذلك2:
وقيد أبن حزم، وفقهاء الشيعة الجعفرية عدم القطع بما إذا سرق
1 أ. د: محمود مصطفى القسم القاص ص481-483. أ. د: رءوف عبيد جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال ص413-418 "ط سنة 1978 دار الفكر العربي
2 المبسوط ج9 ص188. فتح القدير ج5 ص376-377.
المهذب ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص163، المغني ج8 ص277 شرح الأزهار ج4 ص376، ويراجع في ذلك ما جاء في الباب الأول، عند الحديث عن الشبهات التي تلحق الدليل الشرعي، وشبهة الحق.
مقدار حقه أو نصيبه، فإن زاد عن ذلك مقدار ما يجب القطع به قطع به قطع:"إلا أن يكون قد منع حقه، ولم يستطع الوصول إليه، إلا بما فعل ولم يقدر على أخذ حقه خالصًا، ولزمه في هذه الحالة رد الزائد على حقه".
وإسقاط الحد عنه في هذه الحالة ناتج من اضطراره لذلك1، وذهب الفقهاء الملكية، وحماد، وابن المنذر إلى أن من سرق من بيت المال -ومنه الشون التي توضع فيها الأقوات، أو من مال الغنيمة بعد أن تم جمعها، وقبل قسمتها، وإعطاء كل فرد نصيبه وجب قطعه، ولا يجوز النظر إلى أن له في ذلك شبهة، إذا سرق مال الجيش؛ لأنها شبهة ضعيفة لا تقدر على درء الحد، أما بيت المال فإن فقهاء المالكية يرون أنه لا شبهة أصلًا فيه لأحد، فيلزم القطع كل من سرق منه بشروطه، وجاء مثل ذلك في رأي الفقهاء الشافهية2، وأضاف المالكية إلى ذلك أن من سرق من مال الغنيمة قبل أن يتم جمعها، فلا قطع عليه، ويبدو أنهم بنوا ذلك على أساس أن الغنيمة قبل أن يتم جمعها مال غير محرز.
ويقول الخرش مبينًا ذلك: "وكذلك يقطع من سرق من بيت المال لضعف شبهته في بيت مال المسلمين، وسواء كان منظما أم لا، وكذلك يقطع من سرق من الغنيمة، بعد حوزها لضعف شبهته في الغنيمة، ويدخل
1 المحلى ج13 ص355، مباني المنهاج ج1 ص284.
2 مغني المحتاج ج4 ص163.
في بيت المال الشؤون بخلاف من سرق من الغنيمة، قبل حوزها، فإنه لا يقطع1.
وما ذهب إليه فقهاء الملكية، ومن وافقهم هو ما أرجحه؛ لأن بيت المال أو المال العام بصورته الحالية، لا توجد فيه شبهة لأحد من رعايا الدرعة، تبيح له السرقة من هذا المال العام؛ لأن الدولة قد حددت لكل فرد وطائفة راتبًا معينًا، ونصيبًا تستحقه، قل أم كثر، وحددت الجهة التي يصرف منها ذلك الراتب، وبينت الطريق الذي يتبع عند الطب أو التقاضي، وبدا لم تبق شبهة لأحد في المال العام.
اللهم إلا من احتاج ما يسد به رمقه ولم يجد، وهذا له حكم خاص به.
وقد ذهب فقهاء القانون الوضعي إلى مذهب إليه الإمام مالك، فقرروا أن أموال الدولة سواء وقعت في ملكيتها العامة، أو الخاصة، ليست من الأموال المباحة، ولذا فهي تصلح محلا للسرقة، فمن يستولي على شيء من ذلك يعد سارقًا.
وذهبوا إلى أن من الأموال ما تكون ملكية الدولة لها من قبيل الملكية السياسية العليا، فتأخذ حكم الأموال المباحة، وقد جرى قضاء محكمة النقض على أن أخذ الأحجار من الجبال من غير المناطق المخصصة للمحاجر لا يعتبر سرقة، إلا في صورة ما إذا ثبت أن الحكومة قد وضعت يدها عليها، وضعًا صحيحًا يخرجها من أن تكون
1 الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ج4 ص337، المغني ج8 ص277.
مباحة إلى أن تكون داخلة في ملكها الحر، أو المخصص للمنفعة العامة1.
6-
الاشتراك في السرقة:
يتحقق الاشتراك في السرقة بقيام أكثر من شخص بالركن المادي للجريمة.
ولا يخلو حال المشتركين في السرقة، عما يأتي:
أ- أن يقوموا جميعًا بإخراج المسروق من حرزه.
ب- أن يقوم البعض بإخراج المسروق من حرزه، والبعض بمراقبة الطريق، وما يتبع ذلك.
ج- أن يشارك في الإخراج من لا يجب عليه الحد.
وللفقهاء آراء في إلزام العقوبة الحدية للسراق في كل حالة من هذه الحالات:
أ- إذا قام السراق بإخراج المسروق من حرزه، ذهب فقهاء الأحناف والشافعية -عدا أبي ثور- ووافقهما إسحاق2، وهذا ما اختاره ابن قدامه: أنه إذا اشترك جماعة في سرقة، فلم تبلغ حصة كل منهم نصابًا، فلا قطع عليهم.
1 أ. د. محمود مصطفى القسم الخاص ص468.
أ. د. أحمد الألفي القسم الخاص ص283.
أ. د. رءوف عبيد جرائم الاعتداء على الأشخاص، والأموال ص342-347.
2 هو، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهوية أحد أعلام نيسابور، نقل عنه أنه أملى أحد عشر ألف حديث من حفظه، وكان فقيهًا عالمًا، ومحدثًا ت سنة 238، عن سبع وسبعين سنة.
وبنوا رأيهم هذا على أساس اشتراط النصاب لوجوب القطع، فما دام لم يبلغ نصيب كل سارق نصابًا، فلم يعد هناك ما يقضي قطعه؛ لأنه لا نص في ذلك ولا هو في معنى المنصوص عليه لاختلاف قيمة ما يجب به الحد.
وذلك كله يترتب عليه شبهة في إلزام العقوبة، والحد مما يدرأ بالشبهات، بين هذا ابن قدامة عند حديثه عن السراق، الذين اشتركوا في إحراج المسروق، فقال:"قال الثوري1، وأبو حنيفة، والشافعي، وإسحاق": لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصه كل واحد منهم نصابًا؛ لأن كل واحد لم يسرق نصابًا، فلم يجب عليه القطع، كما لو انفرد بدون النصاب، "ويعلق ابن قدامة على هذا بقوله": وهذا القول أحب إلي؛ لأن القطع هنا لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه، فلا يجب، والاحتياط بإسقاطه أولى من الاحتياط بإيجابه؛ لأنه مما يدرأ بالشبهات2.
وزاد الشيرازي المسألة تفصيلًا، فقال:
"وإنة نقب اثنان حرزًا وسرقا نصابين قطعا؛ لأن كل واحد منهما سرق نصابًا، وإن أخرج أحدهما نصابين، ولم يخرج الآخر شيئًا قطع الذي أخرج دون الآخر؛ لأنه هو الذي انفرد بالسرقة، فإن اشتركا في نصاب لم يقطع واحد منهما3.
ولا يخفى أن أبا حنيفة قد قيد قطعهم، إذا كان نصيب كل
1 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، مات بالبصرة متواريًا من السلطان سنة 161هـ.
2 المغني ج8 ص282.
3 المهذب ج2 ص277.
منهم نصابًا بحالة ما إذا لم يكن واحد منهم ذا رحم محرم من المسروق منه، ولا صبي1، وسيأتي بيان ذلك.
وذهب فقهاء المالكية، والحنابلة عدا ابن قدامة إلى وجوب القطع عليهم إذا بلغ ما أخرجوه نصابًا لكل واحد منهم، سواء أخرجوه أو استقل به واحد منهم، أما إذا لم يبلغ نصيب كل واحد منهم نصابًا، وبلغ المسروق في مجموعه نصابًا، فإن جمهور الحنابلة يرون القطع عليهم أيضًا، وقد فصل المالكية القول.
فقد أورد ابن قدامة، أن جمهور الحنابلة قد احتجوا بأن النصاب أحد شرطي القطع، فإذا اشترك الجماعة فيه كالواحد قياسًا على هتك الحرز؛ ولأن سرقة النصاب فعل بوجوب القطع، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص، ولم يفرق أصحابنا بين كون المسروق ثقيلًا يشترك الجماعة في حمله، وبين أن يخرج كل واحد منه جزءًا، ونص أحمد على هذا، وقال مالك: إن انفرد كل واحد بجزء منه لم يقطع واحد منهم، كما لو انفراد كل واحد من قاطعي اليد بقطع جزء منه، لم يجب القصاص2.
وزاد المالكية المسألة تفصيلًا، فرأوا أنه إن ناب كل واحد نصابًا قطعوا، استقل كل واحد بإخراجه أم لا، وإن لم ينب كل واحد نصابًا، بل ناب كل واحد أقل من نصاب، فإن استقل كل واحد بإخراجه من الحرز فلا قطع، وإلا فالقطع عليهم، وكذا القطع على جماعة رفعوه على ظهر أحدهم في الحرز، ثم خرج به إذا لم يقدر
1 فتح القدير ج5 ص363، المبسوط ج9 ص147.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص335، الخرشي ج8 ص95، الموطأ بشرح الزرقاني ج5 ص115، المغني ج8 ص282.
على إخراجه إلا برفعه معه، ويصيرون كأنهم حملوه على دابة، فإنهم يقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها، وأما لو حملوه على ظهر أحدهم، وهو قادر على حمله على ظهره دونهم كالثوب قطع وحده، ولو خرج كل واحد منهم من الحرز حاملًا لشيء من الآخر، وهم شركاء فيما أخرجوهم، لم يقطع منهم إلا من أخرج ما قيمته ثلاثة دراهم1.
وقال بذالك أيضًا فقهاء الشيعة بدون تفصيل، فقالوا:"لا فرق في ثبوت الحد على السارق أخرج متاعًا واحدًا للمتاع من حرز بين أن يكون مستقلًا، أو مشاركًا لغيره، فلو أخرج شخصان متاعًا واحدًا، ثبت الحد عليهما جميعًا، ولا فرق في ذلك أيضًا بين أن يكون الإخراج بالمباشرة، وأن يكون بالتسبب فيما إذا أسند الإخراج إليه لإطلاق الأدلة"2.
واستدل فقهاء المالكية، وجمهور فقهاء الحنابلة، وأبو ثور لذلك بوجوب القصاص على من اشترك في القتل، فكذلك يجب القطع على من اشتركا في سرقة النصاب.
وما ذهب إليه فقهاء الأحناف، والشافعية وابن قدامة ومن وافقهم أولى بالاتباع؛ لأن الاحتياط بالقول بإسقاط الحد أولى من القول بإيجابه.
وفرق بين إسقاط الحد في السرقة، وإسقاط عقوبة القصاص بالاشتراك.
ففي القصاص لو لم يجب على من اشتركوا في القتل، لغدا الاشتراك في القتال طريقًا لإسقاط القصاص، وإهدار الدماء، بخلافه
1 المراجع السابقة.
2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص289.
ما في الاشتراك في السرقة؛ لأنه لو كان نصيب كل فرد منهم نصابًا وجب القطع عليهم جميعًا، أما إذا لم يبلغ نصابًا غدت الشبهة مسقطة الحد على من لم يخرج بالنصاب، أو لم يحمل مع الآخرين مشتركين ما قيمة نصابًا، ودرء الحد لن يعفي من رد السرقة، وإلزام الفاعلين الذين لم يحدوا عقوبة تعزيرية مناسبة.
ب- إذا قام البعض بإخراج المسروق من الحرز، والبعض بمراقبة الطريق، وما يتبع ذلك من معاونة:
ذهب فقهاء الأحناف -ما عدا زفر- إلى أن المتعاونين في إخراج المسروق عليهم القطع جميعًا استحسانًا.
وجه الاستحسان أنهم اشتركوا في هتك الحرز، وصار المال مخرجًا بمعاونتهم فيلزم القطع، كما لو أخرجوه على ظهر الدابة.
وهذا؛ لأن هذه زيادة حيلة معروفة بين السراق، أن يباشر حمل المتاع واحد منهم، وأصحابه يكونون مستعديين لدفع صاحب البيت عنه، وعن أنفسهم، فلا يجوز أن يكون ذلك مسقطًا للحد عنهم.
وقد قاس فقهاء الأحناف ذلك بمسألة من يكون ردءا قبل قطع الطريق، إذ يجب عليه ما يجب على المباشر للقطع؛ لاعتباره مشاركًا له في أخذه، واحتماء به والاعتماد عليه1.
أما باقي الفقهاء، فلم يروا القطع إلا على من أخرج المسروق فقط من الحرز؛ لأنه هو السارق.
ولم يقس هؤلاء المسألة هنا بمسألة الردء في قطع الطريق؛ لأنهم يرون أن حد قطع الطريق بسب المحاربة، والردء مباشر للمحاربة؛ لأن
1 المبسوط ج9 ص149، فتح القدير ج5 ص290.
المحاربة في العادة هكذا تكون، فإنهم لو اشتغلوا جميعًا بالقتال، فإذا وقعت الهزيمة عليهم لا تستقر قدمهم، وإذا كان بعضهم ردءا، فإذا وقعت الهزيمة على المباشرين للحرب التجئوا إلى الردء، فلهذا كانت العقوبة عليهم، بخلاف السرقة، فالحد هنا إنما يجب بمباشرة فعل السرقة، وذلك في إخراج المال من الحرز، فإذا كان المخرج بحكم فعله، لم يجب القطع على غيره.
وهذا التعليل من القائلين بالقطع على من أخرج المال من الحرز فقط، وإن كانت له وجاهته، إلا أنه يترتب عليه ضياع الحقوق؛ لأن السراق لن يعدموا حيلة يحاولون بها الهروب من القطع، ولا يخفى أن بعض الفقهاء مثل الشيعة والحنابلة، وغيرهم يرون أنه لو هتك شخص الحرز، وأخذ المال شخص آخر فلا قطع عليهما1، وفي هذا حض على اللجوء إلى الحيلة تحاشيًا للحد.
ج- إذا شارك في إخراج المسروق من لا يجب عليه الحد:
الذي لا يجب عليه الحد بالسرقة، أما أن يكون غير مكلف كالصبي والمجنون، وأما أن يكون مكلفًا كالأب، والأم والجد.
وفقهاء الأحناف قد رأوا أنه إذا شارك في السرقة من لا يلزمه الحد بها، فلا قطع على باقي المشاركين له فيها؛ لأن عدم وجوب القطع على أحد الشركاء، تنتج عنه شبهة في حق الباقين، ويترتب على هذه الشبهة درء الحد عنهم.
1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص286، المغني ج8 ص284، ويراجع في الموضوع
المهذب ج2 ص277، الخرشي ج8 ص95، فتح القدير ج5 ص390.
يقول السرخسي:
"وإذا سرق رجلان ثوبًا من رجل، وأحدهم أب للمسروق منه لم يقطع واحد منهما"، أما الأب فلتأول له في مال والده بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم. "أنت ومالك لأبيك"؛ ولأنه قد يدخل بيته من غير استئذان عادة، فلا يكون بيته حرزًا في حقه، والسرقة فعل من السارق، فإذا امتنع القطع على أحدهما للشبهة، يمتنع وجوبه على الآخر للشركة، وهو نظير ما قلنا في الأب، والأجنبي إذا اشتركا في قتل الولد، لم يجب القصاص على واحد منهما1.
هذا إذا كان الشريك أبا للمسروق منه ومن في حكمه، أما إذا كان الشريك صبيًا، فقد ذهب أبو يوسف إلى أنه إذا حمل البالغ المتاع، وخرج به فعليه القطع، ولا معتبر بفعل الصبي، وعلل رأيه بأن درء القطع لهذا يتطرق السراق به إلى إسقاط القطع؛ لأن كل سارق لا يعجز عن أن يستصحب صبيًا، أو معتوهًا مع نفسه.
كما ذهب فقهاء الأحناف أيضًا إلى أنه إذا كان واحد من السراق أخرسًا، فلا قطع، لتمكن الشبهة في حق الأخرس؛ لأنه لو كان ناطقًا ربما يدعي شبهة يدرأ عبها الحد عن نفسه، وأما الناطق فلأجل المشاركة2.
وذكر ابن قدامة أنه إذا كان أحد الشريكين في السرقة، من لا قطع عليه كأبي المسروق منه قطع شريكه في أحد الوجهين، لو شاركه في قطع يد ابنه.
والثاني: لا يقطع وهو أصح؛ لأن سرقتهما جميعًا صارت علة
1 المبسوط ج9 ص151، 152، فتح القدير ج5 ص363.
2 المبسوط ج9 ص189.
لقطعهما، وسرقة الأب لا تصلح موجبة للقطع؛ لأنه أخذ ماله أخذه، بخلاف قطع يد ابنه، فإن الفعل تمخض عدوانًا، وإنما سقط القاص لفضيله الأب لا لغنى في فعله، وههنا فعله قد تمكنت الشبهة منه، فوجب أن لا يجب القطع به كاشتراك العامد والخاطئ، وإن أخرج كل واحد من السارقين نصابًا، وجب القطع على شريك الأب؛ لأنه انفرد بما يوجب القطع1.
وذهب فقهاء المالكية إلى أن من سرق نصابًا مع شركة صبي له في السرقة أو مجنون، يقطع المكلف فقط حتى، ولو كان النصاب المسروق ملكًا للمجنون المصاحب للسارق، أو كان المجنون أبا للمسروق منه؛ لأن المجنون كالعدم، فيجب القطع على المكلف، أما إذا كان شريك السارق أبا للمسروق منه، أو أما أوجدًا، وكان عاقلًا فلا قطع على الشريك لدخوله مع ذي شبهة قوية2.
وذهب فقهاء الشافعية، والشيعة إلى وجوب القطع على من لا يقوم المانع في حقه، سواء ثشاركه فعله صبيًا، أو مجنونًا أو أبا للمسروق، أو غير ذلك ممن لا يقطع بسرقته، هذه؛ لأن عدم القطع نشأ عن سبب خاص بأحد الشريكين، فلا يتعداه للآخر3.
وما ذهب إليه فقهاء المالكية هو ما أرجحه؛ لأن من كان شريكه في السرقة أبا للمسروق منه، أو أما أو جدا تقوم في حقه شبهة، لجواز أنه ذهب لمساعدة هذا الأب مثلًا؛ ولأن دخول الحرز بمصاحبة من له
1 المغني ج8 ص283.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص335، الخرشي ج8 ص95- شرح الزرقاني ج5 ص95.
3 سني المطالب ج4 ص138، 139، ماني المنهاج ج1 ص689 شرح الأزهار ج4 ص364.
دخوله شبهة قوية تدرأ الحد عنه، ويلزم برد المال وبعقوبة تعزيرية مناسبة؛ لأن مثل هذا نادرا بحرص الأب، والأم والجد على مال ابنهما غالبًا أكثر من حرص صاحب المال نفسه.
وذهب فقهاء القانون الوضعي إلى عدم اشتراط أن يكون الاستيلاء على الشيء بيد الجاني، بل يكفي أن يكون بفعله، فمن يدرب قردًا على النشل، أو يحرض كلبًا على السرقة، أو يهيئ أسباب انتقال الحيازة إليه، كمن يحول مجرى مياه الغير إلى أرضه يعد سارقًا.
وكذا لا ينفي الاختلاس إذا حدث التسليم من صغير، أو مجنون أو سكران ففي ذلك كله تقوم في حق المدبر لذلك، والمخطط والمنفذ جناية السرقة، مع أنه لم يقم بالاستيلاء على الشيء بيده1.
7-
سرقة ما اختلف في ماليته:
اشترط الفقهاء لوجوب القطع في السرقة أن يكون المسروق مالًا، أو ما يمكن أن يعتاض عنه بمال.
هذا ما اتفق عليه الفقهاء، وإن كانت وجهة نظرهم قد اختلفت في مالية بعض الأشياء، مما نتج عنه اختلاف آرائهم في القول بوجوب القطع على من سرقها، ومن ذلك الاختلاف على ماليته، ما يأتي:
أ- الصبي.
ب- المصحف وكتب العلم.
ج- بعض الحيوانات.
د- آلات اللهو.
هـ- مال الحربي المستأمن.
1 أ. د: محمود مصطفى القسم الخاص ص442-443 أ. د: أحمد الألفي القسم الخاص ص269.
"أ" سرقة الصبي:
الصبي الذي يتعرض السرقة، إما أن يكون حرًا أو عبدًا، فإن كان حرًا فقد ذهب جمهور فقهاء الأحناف، وفقهاء الشافعية، والحنابلة إلى القول بعدم وجوب القطع على من سرقه؛ لأنه لم يسرق مالًا، فإن كان على الصبي حلي بمقدار -النصاب، فلا قطع عندهم أيضًا بسرقته؛ لأن هذا الحلي تابع لما لا قطع في سرقته؛ ولأن يد الصبي عليه ثابتة، بدليل أن ما يوجد في اللقيط يكون له.
وذهب فقهاء الشافعية في أحد رأييهم أنه لو سرق صبيًا عليه حلي بقدر النصاب قطع؛ لأنه قصد سرقة ما عليه من مال، وذهب أبو يوسف، وفقهاء المالكية والشيعة، وابن حزم إلى القول بوجوب القطع على من سرق صبيًا حرًا كان أم عبدًا، معه حلي أم لا، وإن كان أبو يوسف قد اشترط وجود الحلي معه، وإلا فلا قطع بسرقة الصبي عنده إن كان حرًا.
أما من سرق عبدًا، فإن كان يعقل، وينطق فلا قطع بسرقته، إلا إذا سرق وهو نائم أو سكران، أو مغمى عليه، بحيث لا يقدر على الامتناع من السرقة1.
وما أرجحه ممن ذلك وهو وجوب القطع على من سرق صبيًا حرًا كان، أو عبدًا معًا لمال، أم لا يعقل وينطق أم لا؛ لأن سرقة الصبي أشد ضررًا من سرقة المال، وهذا مما لا ينكره أحد، فقد تسرق أموال بعض الناس، ولا يشغلهم ذلك كثيرًا، بينما لا يوجد من لا يفزع لسرقة ابنه، خصوصًا إن كان صغيرًا.
1 فتح القدير ج5 ص371.
ب- سرقة المصحف، وكتب العلم:
ذهب فقهاء الأحناف إلى أنه لا يجب القطع بسرقة الكتب المشتملة على علم الشريعة، وتشمل هذه الكتب المصحف، وكتب الحديث والفقه، والتفسير والأدب والشعر؛ لأن الحاجة داعية إلى معرفة ما فيها، وذلك ينتج شبهة يترتب عليها إسقاط الحد عن سارقها، حتى ولو كان عليها حلية؛ لأنها تابعة لما لا قطع فيه.
يقول ابن الهمام:
ولا يقطع في الدفاتر كلها: للكتب المشتملة على علم الشريعة كالفقه، والحديث والتفسيير، وغيرها من العربية والشعر، وقد اختلف في غيرها فقيل محلقة بدفاتير الحساب، فيقطع فيها، وقيل: بكتب الشعر؛ لأن معرفتها قد تتوقف على اللغة والشعر، والحاجة وإن قلت كفت في إيراد الشبهة.
وذهب جمهور الفقهاء إلى القول بقطع من سرق المصحف، أو كتب العلم إذا توافرت فيه باقي شروط القطع؛ لأنه بسرقته ذلك قد دخل في عموم من تشمله أدلة القطع من القرآن والسنة؛ ولأنها متقومة سواء أكانت هذه الأشياء المسروقة، من المصاحف أو الكتب محلاة أم غير محلاه، ما دام المسروق قد بلغت قيمته نصابًا1.
وما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع؛ لأن المصاحف وكتب العلم ينفق على طبعها، ونشرها مال كثير، وهذه أيضًا تباع، وتشترى، وتقدر
1 المبسوط ج15 ص277، المغني ج8 ص247-248، المحلى ج13 ص369-370، أسنى المطالب ج4 ص141، الإقناع في حل ألفاظ أبي الشجاع ج4 ص171.
قيمتها من حيث أوراقها، وطباعتها بمال بل ومال كثير، والقول بعدم ماليتها يرده الواقع والمشاهد.
وقد يضر المرء إذا سرق منه مصحف، أو كتاب من كتب العلم أكثر مما يضر بسرقة ما تبلغ نصاب السرقة، أو يزيد من المال، بل إن القوانين الوضعية ذهبت إلى أكثر من هذا، فعاقبت من سرق حق مؤلف فيما ألف، ومن اشترى نسخة من كتاب، ثم قام بنقل ما فيها، وطبعه دون موافقة مؤلفه الأصلي.
بل إن سرقة الاختراع العلمي حتى الذي لم يدخل مرحلة التنفيذ، أمر له اعتباره القانوني.
ج- سرقة بعض الحيوانات -المختلف في ماليتها:
اختلف الفقهاء في مالية بعض الحيوانات كالكلاب، والسباع، والفهود وما ماثلها، وقد أدى اختلافهم هذا إلى الاختلاف في إيجاب القطع بسرقة هذه الحيوانات.
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بعدم قطع من سرق مثل هذه الحيوانات، نظرًا؛ لأن هذه الحيوانات مباحة الأصل، وغير مرغوب فيها؛ ولأن اختلاف الفقهاء في ماليتها يورث شبهة، يترتب عليها درء الحد عمن سرقها.
ولم يفرق القائلون بعدم القطع بين كون هذه الحيوانات معلمة، أو مدربة أم لا؟
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيع الكلب، ولم يقيد بكونه معلمًا، أو مدربًا على عمل من الأعمال أم لا، ومثل الكلب أيضًا الخنزير، ولو كان ملكًا لذمي1.
1 فتح القدير ج5 ص371، المبسوط ج9 ص154، الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ج4 ص336، المهذب ج3 ص280، مغني المحتاج ج4 ص160، المغني ج8 ص160، المحلى ج3 ص366.
وذهب عطاء إلى القول بالقطع على من سرق خمرًا، أو خنزيرًا من أهل الكتاب؛ لأنه حل لهم في ينهم1.
وذهب أشهب من فقهاء المالكية، إلى وجوب القطع على من سرق حيوانًا مأذونًا في اتخاذه، أما ما لم يؤذن في اتخاذه، ولم يكن مملوكًا لأحد، فلا قطع على من سرقه2.
والذي أرجحه من ذلك هو قول الجمهور بعدم قطع من سرق حيوانًا من هذه الحيوانات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعها، فيترتب عليه عدم ماليتها، وإن جاءت بعض الناس وقاموا ببيع هذه الحيوانات وشرائها، وهذه المخالفة لا يترتب عليها مالية هذه الحيوانات، كما أن الأصل فيها أن تكون مباحة3، وذلك كله يترتب عليه شبهة، ينتج عنها درء الحد عمن سرقها.
1 المحلى ج13 ص364، 365.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص336.
3 ذكر أستاذي الدكتور سلام مدكور عند حديثه، عما أباح الشارع استهلاكه وتملكه، وبصفة خاصة عن المادة والإباحة: أن الماء في المجاري العامة كالأنهار، والترع التي تنشئا الدولة فيها إباحة عامة، والأصل في هذه الإباحة العامة الأصلية، ما رماه ابن ماجه، عن أبي هريرة بسند صحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار". أما الماء المحرز في الأواني والأنابيب، والصهاريج ونحوها فهو مالك خاص لصاحبه، لا حق لأحد فيه، وخرج عن الإباحة الأصلية، وذكر أن هناك قول بعدم وجوب حد السرقة على من سرق هذا الماء المحرز، نظرًا =
د: "سرقة آلات اللهو":
ذهب الفقهاء إلى أن اتلاف آلات اللهو، التي لا تستعمل إلا فيه جائزًا، أما ما استعمل منها في أغراض مباحة كتدريب الجيوش، وما إلى ذلك، فهي آلات تؤدي عرضًا مشروعًا، فيجوز اقتناء ما يحتاج إليه منها.
كما ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بعدم القطع في سرقة آلات اللهو من دف وما أشبهه؛ لأنها ليست بمال متقوم، وإنما هي آلات معصية.
يقول السرخسي:
"ولا قطع في الدف، وما أشبهه من الملاهي، أما عندهما؛ فلأنه
= لأن هذا الماء، وإن صار ملكًا بالإحراز، إلا أنه فيه شبهة الشركة الطبيعية التي أثبتها الحديث الصحيح: الناس شركاء في ثلاث الماء، والكلأ والنار"؛ ولأن الشركة وأن أزالتها اليد المتوالية، فقد بقيت شبهتها، ثم بين أستاذي الدكتور سلام أن الذي يراه في هذا، هو أن شبهته الشركة هنا غير واضحة. وأن اقتضاءها لعدم القطع غير مستقيم، ولا سيما أن ابن ماجه قد أورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه، وهذا يدل على أن الماء المحرز ملك لمن أحرزه، وأنه لا شركة فيه، فمن أين تجيء شبهة الشركة، ثم أورد أقوال كثير من الفقهاء، والأئمة توجب قطع يد السارق للماء المحرز، إذا بلغت قيمته نصابًا، وما ذهب إليه القائلون بعدم وجوب القطع هو ما أرجحه؛ لأن شبهة الشركة، وإن زالت عن الماء المحرز، إلا أن شبهة اختلاف الفقهاء المسماة بشبهة الجهة قائمة، وقوية المدرك، وعليه فإن الحد يندرئ، وإن ألزم السارق بعقوبة تعزيرية ورد قيمة ما أخذه، تراجع الإباحة عند الأصوليين. والفقهاء ص113-157
ليس بمال متقوم حتى لا يضمن متلفه، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وإن كان يجب الضمان على المتلف باعتبار معنى آخر فيه سوى اللهو؛ ولأن للآخذ تأويلًا في أخذه؛ لأنه يقصد به النهي عن المنكر، وهو استعماله للتلهي، فيصير ذلك شبهة"، واختلف في طبل الغزاه، فقيل: لا يقطع به أيضًا، وقيل: يقطع؛ لأنه مال متقوم ليس موضوعًا للهو، فليس آلة للهو1.
ويقول ابن قدامة:
"ولنا أنه آلة للمعصية بالإجماع، فلم يقطع بسرقته كالخمر؛ ولأن له حقًا في أخذها لكسرها، فكان ذلك شبهة، مانعة من القطع كاستحقاقه مال ولده، فإن كانت عليه حلية تبلغ نصابًا، فلا قطع فيه أيضًا؛ لأنه متصل بما لا قطع عليه2.
وهذا ما ذهب إليه أيضًا فقهاء الشافعية، إذا كان لا يصلح إلا للمعصية، أما إن كان يصلح لمنفعة مباحة، فإنهم يقطعون بسرقته؛ لأنه مال متقوم على متلفه3.
وذهب فقهاء المالكية إلى أنه إذا بلغت قيمة متلفة نصابًا قطع بسرقته، وجاء مثل هذا أيضًا في رأي فقهاء الحنابلة4.
ولا يدخل في ذلك ما صنع من أجهزة استقبال كالمزياع المسموع.
أو المسموع والمرئي؛ لأنه لا يقصد منه اللهو، وإنما هو وسيلة إعلامية وثقافية، والذي أرجحه أن من سرق شيئًا من آلات اللهو لا قطع عليه
1 المبسوط ج9 ص154، فتح القدير ج5 ص371.
2 المغني ج8 ص273.
3 المهذب ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص160.
4 الخرشي ص96 حاشية الدسوقي ج4 ص336.
وإن ألزم بضمان قيمتها، وبعقوبة تعزيرية يقدرها القاضي؛ لأنه إن كان يبغي الإصلاح، فليس بهذا الطريق يتم الإصلاح، ولا قطع عليه لما فيها من شبهة.
هـ: "سرقة مال الحربي المستأمن"
لا خلاف بين الفقهاء على أن من سرق مالًا لذمي، يقطع به كالسرقة من مال المسلم، حتى ولو كان هذا المسروق صلبيا، إذا كانت قيمة الصلب تبلغ نصاب السرقة، وبشروط القطع والإمام أبو حنيفة وإن لم ينص بالقطع فيه إلا أنه أوجب ضمان ما فيه من المالية، أما أبو يوسف، فقد فصل القول في ذلك بأنه إذا كان الصليب في مصلاهم، فإنه لا قطع على من سرقه؛ لأنه أخذه من مكان مأذون في دخوله، أما إن كان في حرز لا شبهة فيه قطع من سرقة؛ لأنه مال محرز على الكمال.
أما مال الحربي المستأمن، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب القطع على من سرقه:"أيا كان نوع هذا المال؟ "، فيقول الدسوقي في معرض حديثه، عما يجب القطع بسرقته، "دخل فيه -أي فيما يجب القطع بسرقته- مال حربي دخل عندنا بأمان، فيقطع سارقه المسلم"1.
ويقول ابن قدامة:
"ويقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي، ويقطع الذمي بسرقة مالهما، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، فأما الحربي إذا دخل إلينا مستأمنا، فسرق فإنه يقطع أيضًا.. ثم يقول:
1 حاشية الدسوقي ج4 ص336، الخرشي ج8 ص96، ويراجع أيضًا: المهذب ج2 ص281، المحلى ج13 ص364-366، ص371-272.
"وإذا ثبت هذا، فإن المسلم يقطع بسرقة ماله، وعند أبي حنيفة لا يجب، ولنا: أنه سرق مالا معصومًا من حرز مثله، فوجب قطعه كسارق مال الذمي"1.
أما فقهاء الأحناف، فقد جاء عنهم: أنه لا يقطع السارق من مال الحربي المستأمن عندنا استحسانًا، وفي القياس، وهو قول زفر رحمه الله؛ لأن ماله محرز بدارنًا، فإنه معصوم كالذمي، وجه الاستحسان أن العصمة بالإحراز بالدار، وإحراز المستمن لا يتم، ألا ترى أن إحراز المال تبع لإحراز النفس، ولا يتم إحراز نفسه بدار الإسلام حتى يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب، فكذلك لا يتم إحراز ماله؛ ولأنه بقي حربيًا حكمًا، حتى يبقى النكاح بينه، وبين زوجته في دار الحرب، ومال الحربي مباح الأخذ، إلا أنه يتأخر إباحة الأخذ بسبب الأمان إلى أن يرجع إلى دار الحرب، فيصير ذلك شبهة في إسقاط لقطع عن السارق"2.
وما دمنا نقطع الحربي المستأمن إذا سرق من مسلم، فكيف لا نقطع المستأمن هو ما أرجحه، وأميل إليه، نظرًا؛ لأن ما اعتمد عليه الجمهور أقوى مما اعتمد عليه الأمام أبو حنيفة.
وما دمنا نقطع الحربي المستأمن، إذا سرق من مسلم، فكيف لا نقطع المسلم إذا سرق من الحربي المستأمن.
إن ذلك هو الأولى، بل إن نفس ما ذكره الأحناف يقرر ذلك، فهم قد اعترفوا أن القياس يحتم القطع بسرقة ماله، ولم يقطعوه استحسانًا.
1 المغني ج8 ص268.
2 المبسوط ج9 ص181، فتح القدير ج5 ص369.
والذي يرجع إليه في تقرير الحدود للفصل في هذه القضية، هو ما جاء من عموم في النصوص التي قررت الحدود، وهي قد شملت بعمومها كل سارق وسارقة، والرجوع إلى ذلك أولى من الرجوع إلى غيره، سواء في تقرير حد، أو الإخراج منه بالنسبة لما تحدث عنه الفقهاء في هذا الموضوع.
كما أن الحربي بدخول ديارنا، وإعطائه الأمان قد أحرز نفسه، وماله ما دام ملتزما بهذا الأمان، وما يقتضيه من شروط، وواجبات أما أن نقضه، أو رفع هذا الأمان عنه لسبب ما من الأسباب، فإنه يصبح حربيًا له ما للحربي من معاملات، وأحكام.
8-
الخصومة: آراء الفقهاء في اشتراط قيامها لإيجاب القطع
فرق جمهور الفقهاء بين ثبوت المال على السارق للمسروق منه، وبين وجوب القطع على السارق، فذهب الجمهور إلى أن المال يثبت على السارق بإقراره، أو بإقامة البينة على سرقته حسبة.
أما وجوب القطع على السارق، فاشترط له حضور المسروق منه، ومطالبته بالسرقة؛ لأن الخصومة شرط لطهورها، وعلى هذا، فإذا أقر السارق عند الحاكم، وذكر أنه سرق مالًا لفلان، نصابًا من حرز لا شبهة له فيه، فإن الحكم لا يقطعه حتى يحضر صاحب المال، ويدعيه ويخاصم السارق ومبنى الشبهة هنا، أن الإباحة من المالك أباح ذلك المال.
أو أن المالك أذن في دخول بيته، فاعتبرت المطالبة دفعًا لهذه الشبهة، فالمعول عليه أن ملك المقر قائم ما لم يصدقه لمقر له1.
1 المبسوط ج9 ص186، 187، فتح القدير ج5 ص400، 401، المهذب ج2 ص282- أسنى المطالب ج4 ص152 مغني المحتاج ج4 ص175، المغني ج8 ص269، مباني المنهاج ج1 ص313.
وزاد الإمام أبو حنيفة، ووافقه محمد القول باشتراط بقاء الخصومة، حتى يتم التنفيذ، ولا يكفي قيامها حتى القضاء فقط، وقد بين السرخسي ذلك بقوله: "وإذا حكم على السارق بالقطع ببينة، أو بإقرار ثم قال المسروق منه: هذا متاعه، أو قال: لم يسرقه مني إنما كنت أودعته.
أو قال: شهد شهودي بزور، أو قال: هو باطل بطل القطع عنه، لانقطاع خصومته، وقد بينا أن بقاء الخصومة إلى وقت استيفاء القطع شرط، وأن المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء في الحد، كالمنقرن بأصل السبب، وهذا بخلاف رد المال بعد القضاء"1.
وذهب الإمام مالك، وفي رأي سرجوح عند الإمام أحمد، والشيعة الجعفرية إلى أن قيام الخصومة، ليس شرطًا لقبول الشهادة في السرقة، والحكم بمقتضاها بالعقوبة المقدرة، وعلى هذا إذا حضر الشهود، وشهدوا بالواقعة سمعت شهادتهم، وألزم السارق بمقتضاها بعقوبة السرقة، حتى ولو لم يحضر المجني عليه، وسواء أكان المجني عليه حاضرًا بالبلدة، التي أقيمت الدعوة فيها على السارق حسبة، أم كان غائبًا عنها، أو كان المجني عليها مجهولًا2.
بل وأكثر من ذلك لو كذب المسروق منه السارق، أن كان الإثبات بالإقرار، أو الشهود إن كان بالبينة، فإن فقهاء المالكية يرون إلزام السارق الحد، ويرتبون على تكذيب المجني عليه للبينة، أو الإقرار أن يصير المتاع السارق مع إلزامه الحد، فيقول الخرشي مبينًا ذلك في معرض حديثه عن السرقة الموجبة للقطع: "أو نصاب ملك غير، فإنه
1 المبسوط ج9 ص186، ويراجع أيضًا بدائع الصنائع ج7 ص81.
2 المدونة ج15 ص289، المغني ج8 ص270، مباني المنهاج ج1 ص313، 314.
يقطع، ولو كذبه ربه، صورة المسألة إن السارق مقر بالسرقة، ورب المتاع يكذبه فعليه القطع، وحينئذ يصير المتاع للسارق، إلا أن يدعيه ربه بعد ذلك"1.
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير عند شرح قوله: ولو كذب ربه "معنى أن السارق إذا أقر بالسرقة من مال شخص، أو قامت عليه بينة بذلك، وكذبه ذلك الشخص، فإنه يقطع ولا يفيده تكذيبه ذلك الشخص للمقر أن للبينة، "ويبقى المسروق بيد السارق"، أي على وجه الحيازة، واستظهر بعضهم أنه يجعل في بيت المال؛ لأن كلا من السارق وربه ينفيه من ملكه، ما لم يدعه ربه أي بعد ذلك"2.
وما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع، لجواز أن صاحب المال قد أباح ماله لطائفة منهم السارق، أو وهبه السارق، ولم يعلم السارق بذلك، أو أذن للسارق دخول الحرر، وذلك كله يترتب عليه شبهة تنتج درء الحد، ولذا فإن القول باشتراط المخاصمة لإيجاب الحد أولى بالاتباع.
وما ذكره فقهاء المالكية، ومن وافقهم من إيجاب القطع، حتى ولو كذب رب المال الإقرار، أو البينة قول لم يقم عليه دليل، ولا يتفق مع ما ذهبوا إليه من القول بدرء الحد بالشبهة، والشبهة بالتكذيب ببينة.
1 الخرشي ج8 ص95.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص336، شرح الزرقاني ج8 ص97.
المبحث الثاني: جريمة السرقة الكبرى "الحرابة
"
المطلب الأول: الحرابة
…
"المبحث الثاني": جريمة السرقة الكبرى "الحرابة"
ويتناول الحديث عنها مطلبين.
المطلب الأول: تعريفها:
المطلب الثاني: سرقات اختلف في وجوب حد الحرابة بها.
المطلب الأول: الحرابة
الحرابة بكسر الحاء مصدر حرب، حرب الرجل حربًا مثل طلبه يطلبه طلبًا، أي سلبه ماله وتركه بلا شيء.
وحرب ماله بالبناء للمجهول أي سلبه، فهو محروب وحريب1.
وعبر عنها فقهاء الأحناف بقطع الطريق، وعرفوه بأنه:"الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالب على وجه يمنع المارة من المرور، وينقطع الطريق"2.
1 لسان العرب، مختار الصحاح، المنجد ص124 بيروت الطبعة 19.
2 بدائع الصنائع ج7 ص90، وجاء في حاشية سعد حلبي، مع فتح القدير ج5 ص422، أعلم أن قطع الطريق يسمى سرقة كبرى، أما تسميتها سرقة؛ فلأن قاطع الطريق يأخذ سرا ممن إليه حفظ الطريق، وهو الإمام الأعظم كما أن السارق يأخذ المال سرًا ممن؟؟ حفظ المكان المأخوذ منه، وهو المالك أو من يقوم مقامه، وأما تسميتها كبرى؛ فلأن ضرر قطع الطريق على أصحاب الأموال، وعلى عامة المسلمين بانقطاع الطريق، وضرر السرقة الصغرى يخص الملاك بأخذ مالهم، وهتك حرزهم، ولهذا غلظ الحد في حق قطاع الطريق يراجع البحر الرائق ج5 ص72.
وعرف فقهاء المالكية الحرابة بأنها:"الخروج لإخافة السبيل لأخذ مال محترم بمكابرة قتال أو خوفه، أو ذهاب عقل أو قتل خفية، أو لمجرد قطع الطريق، لا لامرة ولا نائرة، ولا عداوة"1.
وذكروا أن المحارب هو من أخاف الطريق لأجل أن يمنع الناس من سلوكها، أي من أخاف الناس في الطريق؛ لأجل أن يمنعهم من السلوك فيها، والانتفاع بالمرور فيها، وإن لم يقصد أخذ مال من السالكين، بل قصد مجرد منع الانتفاع بالمرور فيها، سواء أكان الممنوع من الانتفاع بالمرور فيها خاصًا كفلان، أم كان كل مصري، أو عامًا كما إذا منع كل أحد يمر فيها إلى الشام مثلًا"2.
وقال فقهاء الشافعية: "قطع الطريق هو البروز لأخذ مال، أو لقتل، أو إرعاب مكابرة اعتمادًا على الشوكة، مع البعد عن الغوث"3.
قال فقهاء الحنابلة: "المحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء، فيغصبونهم المال مجاهرة".
1 الخرشي ج8 ص103، 104، شرح الزرقاني ج8 ص108.
2 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص348.
3 مغني المحتاج ج4 ص180، حاشية الشرقاوي على التحرير ج2 ص437.
وضع فقهاء الحنابلة شروطًا ثلاثة في المحاربين، رآها جمهور فقهائهم:
الأول: أن يكون ذلك منهم في الصحراء.
الثاني: أن يكون معهم سلاح.
الثالث: أن يأتوا مجاهرة، ويأخذوا المال قهرًا1.
وعرف ابن حرم المحارب: بأنه "المكابر المخيف لأهل الطريق المفسد في سبيل الأرض سواء بسلاح، أو بلا سلاح أصلًا، سواء ليلًا أو نهارًا، في مصر أو في فلاة أو في قصر الخليفة، أو الجامع سواء أقدموا على أنفسهم إمامًا، أو لم يقدموا سوى الخليفة نفسه فعل ذلك بجنده أو غيره، منقطعين في الصحراء، أو أهل قرية سكانًا في دورهم، أو أهل حصن كذلك، أو أهل مدينة عظيمة، أو غير عظيمة كذلك، واحدًا كان أو أكثر، كل من حارب المار، وأخاف السبيل بقتل نفس، أو أخذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك فرج، فهو محارب2.
وذهب فقهاء الشيعة إلى أن كل من شهر السلاح في مصر من الأمصار، سواء ضرب، أو عقل، أو قتل لأخذ مال، أو لإخافه فهو محارب3.
وتعريفات فقهاء الشريعة لقطع الطريق تعريفات متقاربة، بل وتكاد تكون متفقة، ومجمعة على أن كل من أزعج الآمنين وأخافهم، مجاهرًا بذلك معتمدًا على البطش، والقوة، فهو محارب سواء أأخذ مالًا أم لا.
غير أن بعض الفقهاء يرى أن قطع الطريق، لا يكون إلا في صحراء
1 المغني ج8 ص287، 288.
2 المحلى ج13 ص320.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص318، 319.
والبعض الآخر لا يشترط ذلك، بل يرى أن قطع الطريق كما يكون في الصحراء، يكون أيضًا في البلاد الآهلة بالسكان.
وقد ترتب على هذا، وغيره قيام شبهات لدى بعض الفقهاء، رتبوا عليها درء عقوبة القطع الحدية، ولم يوافقهم الباقون على ذلك، وفي المطلب الثاني بيان لأقوال الفقهاء، ما يترتب عليها فيما سأعرضه من وقائع.
هذا هو تحديد الفقه الإسلامي لجريمة الحرابة، ومن يقوم بها، أما الفقه الوضعي، وإن كان قد ذكر بعض الوقائع التي تتم فيها السرقة تحت ظروف معينة، وحدد عقوبات لها تزيد عن عقوبة السرقة العادية، إلا أن نظرة الفقه الإسلامي، عالجت الأمر علاجًا شاملًا، وشافيًا لم تصل إليه بعد التشريعات الوضعية.
فالتشريعات الوضعية قد نصت على أنه يعاقب بالإعدام، كل من ألف عصابة هاجمت طائفة من السكان، وهي بذلك لا ترى نفس العقوبة على من ألف عصابة، وهاجم بها فردًا، كما أنها تطبق العقوبة، ولو لم تسفر مهاجم هذه العصابة عن قتل أحد من المهاجمين، أو أخذ ماله.
كما فرقت التشريعات الوضعية بين عقوبة من تزعم هذه العصابة، أو تولي فيها قيادة ما، وبين من انضم إلى هذه العصابة، واشترك في تأليفها، ولكنه لم يتقلد فيها قيادة ما، فعاقبت الأول بالإعدام أما الثاني، فبالأشغال الشاقة المؤبدة، أو المؤقتة1.
والفقه الإسلامي لا يرى هذه التفرقة في العقوبة بين فرد، وآخر ممن اشتركوا في واقعة حرابة معينة، كما لا يخفى أن الفقه الوضعي
1 المادة 89 من قانون العقوبات، ويراجع في ذلك أ. د: محمود مصطفى القسم العام ص497-510، جرائم أمن الدولة، دكتور يوسف الشال ص83-90.
لا يعاقب بهذه العقوبة إذا وقع الإكراه بقصد هتك العرض، ثم ارتكبت السرقة عرضًا؛ لأنه يشترط أن يقع الإأكراه وسيلة لاتمام غرض السرقة.
ولا يخفى أن الفقه الإسلامي لا يرى ذلك، بل إن ابن حزم قد نص على أنه كل من حار المار، وأخاف السبيل بقتل نفس، أو أخذ مال ولجراحة، أو لانتهاك فرج، فهو محارب1.
هذه الاختلافات الجوهرية، وغيرها بين كل من التشريعيين، وإن برزت واضحة، إلا أنه لا يخفى أن الفقه الوضعي قد فرق بين نوعين من السرقات، وبين عقوبة كل منهما، محاولًا اقتفاء أثر الفقه الإسلامي في تفرقته بين جريمتي السرقة الكبرى، والصغري، وعقوبتيهما، وإن اختلف المنهج من حيث الشكل والموضوع.
1 المحلى ج13 ص320.
المطلب الثاني: "سرقات اختلف في وجوب حد الحرابة بها
"
1-
إذا قام بالحرابة جماعة، ولم يبلغ نصيب الفرد منهم نصابًا اختلفت الفقهاء في وجوب القطع، فذهب الأحناف، والشافعي وابن المنذر إلى أنه لا يجب القطع على المحاربين، إذا لم يبلغ نصيب كل فرد ممن اشترط في الحرابة نصابًا، إذ أنهم يرون أن إقامة الحد على كل واحد من المحاربين، ناتج عما أصاب من المال، فلا بد أن يكون خطيرًا في نفسه، وما دون النصاب حقير تافه، وإذا كان نصيب كل واحد منهم تافهًا، لا يقام عليهم الحد، كما لو كان المأخوذ في نفسه تافهًا، وأصحاب هذا الرأي، وإن رأوا درء الحد عن المحاربين هنا، إلا أنهم أوجبوا عليهم ضمان المال ورده1.
1 يراجع: المبسوط ج9 ص200، فتح القدير ج5 ص423، مغني المحتاج ج4 ص181، نهاية المحتاج ج8 ص5، المغني ج8 ص293.
وذهب فقهاء الحنابلة إلى أنهم إن أخذوا ما يبلغ في جملته نصابًا قطعوا، سواء أبلغ نصيب كل منهم نصابًا أم لا، قياسًا على قولهم في وجوب الحد في السرقة الصغرى1.
وذهب فقهاء المالكية، والشيعة إلى عدم اشتراط النصاب مطلقًا لوجوب القطع، لإطلاق الأدلة، فيقول ابن العربي2 -في رده على الإمام الشافعي، ومن وافقه ومقررًا ما ذهب إليه الإمام: "أنصف من نفسك أبا عبد الله، ووف شيخك حقه لله
…
أن ربنا تبارك وتعالى قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فاقتضى هذا قطعه في حقه، وقال في المحاربة:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، فاقتضى بذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حقه، فبين النبي صلى الله عليه وسلم في السارق أن قطعه في نصاب، وهو ربع دينار، وبقيت المحاربة على عمومها، فإن أردت أن ترد المحاربة إليها كنت محلقًا الأعلى بالأدنى، وخافضا الأرفع إلى الأسفل، وذلك عكس القياس، وكيف يصح أن يقاس المحارب، وهو يطلب النفس أن رقي المال بهما على السارق، إذا دخل بالسلاح يطلب المال، فإن منع منه أو صيح عليه، فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب"3.
1 المغني ج8 ص293-294.
2 ابن العربي، هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد، المعروف بابن العربي الأندلسي الشيباني، رحل إلى الشرق، ودخل الشتام وبغداد، والحجاز ثم مصر، ثم عاد إلى الأندلس، ولد بأشبيلية سنة 468هـ، وتوفي سنة 543هـ، بالعدرة ودفن بمدينة فاس، وفيات الأعيان ج1 ص489.
3 أحكام القرآن ج1 ص249، ويراجع المدونة ج16 ص100، شرح الزرقاني ج8 ص108، مباني تكملة المنهاج ج1 ص320.
والذي أميل، وأرجحه هو عدم القطع عليهم، إذا لم يبلغ نصيب كل منهم نصابًا؛ لأن الآية الكريمة قد عددت عقوبات المحاربين، فجعلتها القتل أو التصليب، أو أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، فناسب أن يجعل القتل عقوبة من قتل، والقطع على من أخذ المال المعنبر في السرقة، على من لم يأخذ هذا المال، المذكور.
ولا يقدح في اشتراط النصاب كون الجناية هنا مغلظة؛ لأن التغليظ ناسبه تغليظ العقوبة بقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف، فبقي اشتراط بلوغ النصاب على ما هو عليه خصوصًا، وإن عدم بلوغ النصاب لكل فرد لن يعفيهم من جنس العقاب، وإنما عليهم عقوبة النفي، وإلا فمتى يعاقبون بالنفي فقط إن أوجبنا عليهم القطع، ولو لم يبلغ نصيب كل فرد منهم، مما أخذوه نصابًا؛ لأنهم والحالة هذه في حكم من لم يأخذ شيئًا، ولا يخفى أن عدم بلوغ نصيب كل منهم
نصابًا، إن لم يترتب عليه إسقاط القطع صراحة، فلا أقل من أن يورث شبهة في وجوبه، والحدود تدرأ بالشبهات، ولم يخالف في ذلك فقهاء المالكية أو الشيعة.
2-
أخذ المال على سبيل المغالبة من مكان آهل بالسكان:
ذهب فقهاء الأحناف عدا أبي يوسف إلى أن قطع الطريق لا يكون إلا في الصحراء؛ لأن سبب وجوب الحد ما يضاف إليه، فإذا وقع ذلك في مصر من الأمصار، أو بين بلدين من البلاد، فلا يلزم به حد قطع الطريق.
وعليه فإنه أخذوا مالًا طولبوا برده، وعزرهم الإمام، فإن قتلوا أو جرحوا، فأمر ذلك مفوض إلى أولياء الدم.
1 المبسوط ج9 ص201، 202، فتح القدير ج5 ص431، 432، البحر الرائق ج5 ص72.
وحجة الأحناف في ذلك: أن سبب وجوب الحد ما يضاف إليه، وهو قطع الطريق، وإنما ينقطع بفعلهم ذلك في المفازة لا في جوف المصر، ولا فيما بين القرى، فالناس لا يمتنعون من التطرق في ذلك الموضع بد فعلهم، وبدون السبب لا يثبت الحكم؛ ولأن السبب محاربة الله ورسوله، وذلك إنما يتحقق في المفازة؛ لأن المسافر في المفازة لا يلحقه الغوث عادة، وإنما يسير في حفظ الله تعالى معتمدًا على ذلك، فمن يتعرض له يكون محاربًا لله تعالى، فأما في المصر وفيما بين للقرى يلحقه الغوث من السلطان والناس عادة، وهو يعتمد ذلك بالتطرق في هذه المواضع، فيتمكن باعتباره معنى النقصان في فعل من يتعرض له من حيث محاربة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يقام عليه الحد، وقاسوا ذلك بالنقصان في السرقة، إذا جاهر بأخذ المال فيها.
وقال أبو يوسف: إذا اعتمد فطاع الطريق في محاربتهم في الأمصار، أو بين القرى على السلاح، لزمهم حد قطع الطريق، وإن اعتمدوا في ذلك على الأحجار، والأخشاب فإن كان ذلك بالنهار، فلا يقام عليهم الحد، وإن كان بالليل يقام عليهم ذلك، وعلل ذلك بأن الفتك في استعمال السلاح أسرع منه في استعمال غيره، وإن الغوث يلحقهم بالنهار في المصر، قبل أن يأتوا على المجني عليه، أما في الليل فإن الغوث يبطئ، فلهذا يثبت حكم قطع الطريق.
ووافق الخرقي والثوري، وإسحاق أبا حنيفة، فيما ذهب إليه1، أما جمهور الفقهاء فقد رأوا زيادة على ما ذهب إليه أبو يوسف أن الحرابة تقع في المصر، كما تقع في الصحراء ليلًا، أو نهارًا سواء أكان ما معهم سلاحًا، أم كان خشبًا وحجارة، والمعول عليه عدم وصول الغوث لهم.
هذا ما ذهب إليه الأوزاعي، والليث، والشافعي، وأبو ثور وجمهور
1 المغني ج8 ص287.
الحنابلة، وقد جاء عن الشربيني الخطيب:"حيث يلحق غوث فلبسوا"، بقطاع بن منتبهون لإمكان الاستغاثه، وفقد الغوث يكون للعبد عن العمران، وعساكر السلطان، أو للقريب لكن لضعف في السلطان، واستحسن إطلاق الضعف لشمله ما لو دخل جماعة دارًا ليلًا، وشهروا السلاح، ومنعوا أهل الدار من الاستغاثة، فهم قطاع على الصحيح مع قوة السلطان، وحضوره وذو الشوكة قد يغلبون، والحالة هذه أي ضعف السلطان، أو بعده أو بعد أعوانه، وإن كانوا في بلد لم يخرجوا منها إلى طرفها، ولا إلى الصحراء فهم قطاع لوجود الشرط فيهم؛ ولأنهم إذا وجب عليهم هذا الحد في الصحراء، وهي موضع الخوف، فلأن يجب في البلد، وهي موضع الأمن أولى لعظم جراءتهم1.
وزاد المالكية على ذلك عدهم المتسلطين ممن يعينهم الحاكم للجباية، وجمع الضرائب من المحاربين، إذا لم يمكن الاستعانة عليهم أورد ظلمهم، فيقول فقهاء المالكية عند حديثهم عمن يتسملهم لفظ المحاربين، "فيشمل جبابرة أمراء مصر ونحوهم يسلبون أموال المسلمين، ويمنعونهم أرزاقهم، ويعيرون على بلادهم، ولا تتيسر استغاثة منهم بعلماء، ولا بغيرهم، فهم محاربون لا غصاب"، ويقول القرافي: إن من أحد وظيفة أحد لا جنحة فيه بتقرير سلطان، فهو محارب؛ لأنه يتعذر العوث منه ما دام معه تقرير السلطان"2.
أما ابن حزم، فإنه قد وضع ضابطًا للمحارب بأنه كل من كابر لا حافة الطريقة، أو للإفساد في الأرض، سواء أكانت مكابرته هذه بسلاح، أو بلا سلاح ليلًا، أو نهارًا في صحراء، أم في مصر بل أكثر من ذلك قال بأن الحرابة تقع في المسجد، وفي قصر الخليفة نفسه3، ولا يخفى أن
1 مغني المحتاج ج4 ص181، المغني ج8 ص287، 288.
2 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص348.
3 المحلى ج3 ص320.
قصر الخليفة، لا يخلو كل مكان من فيه من الحراس، والجنود بأسلحتهم ودروعهم، ومن استغاث بهم يلحقه الغوث بل من حاول الدخول إلى قصر الخليفة لن يعدم عينا تراقبه، وترصد حركته، ولا يحتاج فيه مع ذلك إلى الاستغاثة، وما ذهب إليه جمهور الفقهاء أولى بالاعتماد والتطبيق.
لأن الحرابة في المكان الآهل بالسكان أشد، وأنكى وأعظم جرمًا بما تحدثه من عظم فساد وهلع، إذ أن كل من كان في المكان الآهل بالسكان غالب حاله، عدم أخذ الحذر من مثل هذه الأخطار، أما من كان بصحراء، فإنه لا شك قد أخذ حذره، وأعد سلاحه لاحتمال مواجهة من يتعرض له.
وما ذهب إليه جمهور فقهاء الأحناف من إسقاط حد الحرابة، عمن وقع ذلك منه في المكان الآهل بالسكان لشبهة إمكان الغوث، يرده ما يشاهد من أحداث سطو، وحرابة في قلب المدينة الكبيرة الممتلئة بالجنود، والحراس ومع ذلك يقف كل هؤلاء عاجزين عن تخليص من وقعت عليهم الحرابة من أيدي المحاربين.
وقد اتجهت التشريعات الوضعية حديثًا إلى وضع نصوص تشدد العقوبة في مثل هذه الحالات، علاجًا لما انتشر في الآونة الأخيرة، ووقفت تشريعاتهم السابقة عاجزة عن وضع حد له، وما ذلك إلا رجوعًا منهم عما قننوه مسبقًا، واتجاهًا إلى الإقرار بفساد ما وضعوه من علاج طلبًا للقضاء على الداء، وتحقيق الأمن.
3-
من تقع منهم، أو عليهم جريمة الحرابة:
اتفق الفقهاء على أن جريمة الحرابة، إذا قام بها مسلم أو زمي، ورفعت من أي منهما على مسلم، أو زمي لزم من قام بالحرابة ما حدده الشارع من عقوبة، طبقًا لما يحكم من قواعد.
أما إذا وقعت الحرابة من مستأمن، أو معاهد أو عليهما، فإن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية، والحنابلة والظاهرية، وأبو يوسف من فقهاء الأحناف، يرون عدم التفريق بين أحد من هؤلاء، وبين المسلمين أو الذميين، وعليه فإن عقوبة الحرابة يلزم بها كل من قام بهذه الجريمة، ممن يقيمون بالبلاد الإسلامية، إقامة دائمة، أو مؤقتة ما دامت الجريمة قد وقعت في حدود سلطان الدولة الإسلامية، سواء وقعت هذه الجريمة من مسلم، أو زمي أو معاهد، أو مستأمن أو على أي منهما، أيا كان القائم بها مسلمًا كان، أو ذميًا أو معاهد، أو مستأمنا1، وذهب الشافعي إلى أن المعاهد إذا فعل ما فيه إضرار بالمسلمين، كأن يفتن مسلمًا عن دينه، أو يقطع عليه الطريق، فإن لم يشترط الكف عن ذلك في العقد لم ينتقض عهده لبقاء ما يتقضى العقد من التزام أحكام المسلمين، ولزمته عقوبة أفعاله؛ لأن عقوبة هذه الأفعال تستوفي عليه من غير شرط.
وجاء عن فقهاء الشافعية رأي آخر، يقتضي أن عقد المعاهد ينتهي بإتيان المعاهد فعلًا من هذه الأفعال، واستدل لذلك بما روي من أن نصرانيا استكره امرأة مسلمة على الزنا، فرفع إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقال: ما على هذا صالحناكم، وضرب عنقه2، هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، إذا وقعت الحرابة من مسلم، أو ذمي أو معاهد، أو مستأمن أو على أي منهم أخذ بعموم الأدلة؛ ولأن المسلم إذا كان ملتزمًا بأحكام الإسلام بمقتضى إسلامه، فإن الذمي ملتزم أيضًا بأحكام الإسلام بمقتضي عقد الذمة، الذي يضمن له الأمان الدائم، والمعاهد والمستأمن
1 جرجع في ذلك الخرشي ج8 ص104، حاشية الدسوقي ج4 ص348، مواهب الجليل ج3 ص165، 355 مغني المحتاج ج4 ص180، المهذب ج2 ص256، المغني مع الشرح الكبير ج9 ص383 المحلى ج13 ص332، نيل الأوطار ج7 ص171.
2 المهذب ج2 ص257.
كلاهما ملتزم بمقتضى عقد الأمان، والعهد الذي خوله الإقامة في دار الإسلام، فصار حكمه حكم الذمي.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المعاهد، أو المستأمن لا تلزم العقوبة من قطع عليه الطريق، كما لا تلزم العقوبة المعاهد، أو المستأمن إذا قام أحدهما بقطع الطريق على مسلم، أو ذمي.
أما عدم إلزامه عقوبة قطع الطريق، فوجهه عند أبي حنيفة ومحمد، أن المستأمن لما لم يدخل للقرار بل لحاجه يقضيها، ويرجع وعلينا أن نمكنه من الرجوع بشرطه، لم يكن بالاستئمان ملزمًا جميع أحكامنا في المعاملات، بل ما يرجع منها إلى تحصيل مقصده، وهو حقوق العباد، غير أنه لا بد من اعتباره ملتزمًا الأنصاف وكف الأذى قد التزمنا له بأمانة مثل ذلك، والقصاص وحد القذف من حقوقهم فلزماه، أما حد الزنا فخاص له، وكذلك المغلب في السرقة حقه تعالى، فلم يلتزم، وصاحبه تعالى منعنا من استيفائه عند إعطاء أمانة1، وأما عدم إلزام المسلم، أو الذمي عقوبة قطع الطريق، إذا قام أحدهما بقطعها على المستأمن أو المعاهد، فقد بينه السرخسي بقوله:"وإذا قطعوا الطريق على قوم من أهل الحرب مستأمنين في دار الإسلام لم يلزمهم الحد لما بينا أن السبب المبيح في مال المستأمن قائم، وهو كون مالكه حربيًا، وإن تأخر ذلك إلى رجوعه إلى دار الحرب، ولكنهم يضمنون المال ودية القتلى، إبقاء الشبهة في دم المستأمن بكونه متمكنًا من الرجوع إلى دار الحرب، وهذا مسقطا للعقوبة، ولكنه غير مانع من وجوب الضمان، الذي يثبت مع الشبهة لقيام العصمة في الحال، ولكن يوجبون عقوبة لتخويفهم الناس بقطع الطريق، كما إذا لم يصيبوا مالًا ولا نفساء "ومثل ذلك إذا وقعت الحرابة من مسلم، أو ذمي على قافلة فيها
1 فتح القدير ج5 ص269، 270 بدائع الصنائع ج7 ص134.
مسلمون ومستأمنون، ووقع القتل، وأخذ المال على المستأمنين فقط، أما إذا وقع القتل، وأخذ المال أو أحدهما على ما بالقافلة من المسلمين والمستأمنين، أقيم الحد على قطع الطريق كما لو لم يكن أهل الحرب من المستأمنين في القافلة1.
وما ذهب إليه جمهور الفقهاء أولى بالاتباع؛ لأن التفرقة بين المقيمين في البلاد الإسلامية إقامة دائمة، وبين غيرهم من المعاهدين، أو المستأمنين من حيث إيجاب الحد لهم، أو عليهم تفرقة لا تقوم على أساس قوي، بل قد تجر كثيرًا من الفوضى، وإهدار حقوق المسلمين أنفسهم، وكم عادت البلاد الإسلامية مما كان للأجانب من امتيازات ترتب عليها إطلاق أيديهم لتعبث وتطبش2.
كما أن القول بأن المعاهد، والمستأمن حربيان، وإن تأخر رجوعهما إلى دار الحرب، وهذا ينتج شبهة في مالهما يترتب عليها إسقاط الحد عمن أخذه، قول لا يقوى على مواجهة عموم الآيات الكريمة، وحتى لو سلمنا بأن ذلك ينتج شبهة لا أنها شبهة ضعيفة لا تقوى على درء الحد؛ لأن هؤلاء قد أمنهم الحاكم على نفوسهم، وأموالهم وأعطاهم عهدًا بذلك ألزمهم بمقتضاه بالمحافظة على نفوس المقيمن إقامة دائمة بالبلاد الإسلامية، وعلى أموالهم، وما كانت الدولة الإسلامية بعد أن عاهدت بغادرة، أو متهاونة في حق من الحقوق بها أو عليها.
وما ذكر من أن ما وجب حقا للعبد ألزموا به أما ما وجب حقا لله، فإنه لا يجب إلزامهم به قول مردود؛ لأنه غير مبني على دليل، بل إن الدليل على إلزامهم الحد لواجب حقا لله تعالى، قد أورده الجمهور حين استدلوا بما كان من أبي عبيدة بن الجراح، مع النصراني الذي استكره
1 المبسوط ج9 ص205، بدائع الصنائع ج7 ص134.
2 التشريع الجنائي الإسلامي ج1 ص285.
مسلمة على الزنا، حين ضرب عنقه، ورد على كل ما يمكن أن يثار بقوله:"ما على هذا صالحناكم".
4-
الحرابة التي تقع بمشاركة الصبي أو المجنون:
ذهب فقهاء الأحناف عدا أبي يوسف إلى أن الصبي، أو المجنون إذا شارك أحدهما غيره في جريمة قطع الطريق، فإن الحد يتدرئ عن الجميع، حتى ولو قام المكلفون بمباشرة القتل، أو أخذ المال ووفت الصي، أو المجنون ردءا لهم، ووجهة أبي حنيفة، ومن وافقه في القول بذلك، أن قطع الطريق جناية واحدة؛ لأن الموجود من الكل يسمى جناية قطع الطريق غير أنها لا تتحقق في الغالب إلا بجماعة، فكان الصادر من الكثير جناية واحدة، قامت بالكل، فإذا لم يقع فعل بعضهم موجبًا للحد لشبهة أو عدم تكليف، لا يوجب في حق الباقين؛ لأن فعل الباقين حينئذ بعض العلة، وبعض العلة لا يثبت الحكم، وصار كالخاطئ مع العامة إذا اجتمعا في قتل معصوم الدم سقط القصاص عن العامة.
وذهب أبو يوسف، وابن قدامة إلى أن الصبي، أو المجنون إذا وقعت درءا، ولم يباشر الفعل، وقام المكلفون بمباشرة جريمة الحرابة، وأخذ المال والقتل، أو هما معا ألزم هؤلاء المكلفون المباشرون للحرابة العقوبة المقررة لجريمتهم، ولم يلزم الشركاء الصبية، أو المجانين حد الجريمة، ولا يؤثر وجود الصبية، أو المجانين مع هؤلاء العقلاء الذين باشروا الجريمة: "أما إن قام الصبي أو المجنون بمباشرة الجريمة ووقف، الشركاء من العقلاء، رداءا لم يلزم هؤلاء الشركاء عقوبة الحرابة التي قام بها شركاؤهم من الصبية، أو المجانين؛ لأن المباشر الأصلي للجريمة غير مكلف، ولا يلزم بعقوبة جريمته، وعدم إلزام المباشر الأصلي عقوبة جريمته التي ارتكبها، ينهض شبهة في حق التبع له من
المكلفين، فيندرئ حد الجريمة عنهم، فالإمام أبو حنيفة، ومن وافقه يدرأ الحد عن العقلاء من الشركاء بصرف النظر عمن باشر فعل جريمة الحرابة الصبي، أو المجنون أو يأتي الشركاء، لشبهه عدم إيجاب الحد على بعض من شارك في الجريمة، أما أبو يوسف، فإنه فصل الأمر وفرق بين قيام الصبي، والمجنون بالجريمة والعقلاء ردءا، وبين العكس.
فأسقط الحد عن العقلاء إذا كانوا ردءا؛ لأن عدم إيجابه على الفاعل الأصلي ينتج عنه عدم الإيجاب على التابع.
أما إن قام العقلاء بالجريمة، وكان الصبي أو المجنون ردءا، فإن الحد إذا اندرأ عن الصبي، أو المجنون لأمر خاص بهما، فإن ذلك لا يؤثر بالنسبة لمن قام بالجريمة، ولم يتوفر فيه هذا الأمر1، وذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب الحد على المكلف؛ لأن الحد وإن لم يلزم الصبي أو المجنون، فإن ذلك ناتج عن كونهما غير مكلفين، وتلزمهما عقوبة تعزيرية مع ضمان ما تلقوه من نفوس أو مال، ولا يشاركهما في عدم إلزام الحد غيرها؛ لأن الأمر بالنسبة لعدم التكليف خاص بهما، فلا يشاركهما فيها غيرهما، ولا يلزم عن ذلك شبهة في حق الباقين2.
وذهب فقهاء الشافعية إلى القول بوجوب الحد على من باشر القتل، أو أخذ المال، فأما من حضر ردءا لما أوعينا، فلا يلزمه الحد.
واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق"، وقالوا بوجوب التعزير على من لم تجب عليه العقوبة الحدية؛ لأنه أعان على معصية.
1 فتح القدير ج5 ص429، 430، المبسوط ج9 ص197، 198، البحر الرائق ج5 ص74، المغني ج8 ص297، 298.
2 مواهب الجليل ج2 ص316، المدونة ج16 ص102 المغني ج8 ص297.
وقالوا أيضًا: لا يجب الحد بالمستوى على الشركاء، وإنما يجب القتل على من قتل، والقطع على من أخذ المال؛ لأن واحد منهم انفرد بسبب حد، فاختص به1.
وما ذهب إليه الجمهور من القول بوجوب حد الحرابة على العقلاء، ولو شاركهم صبي، أو مجنون فعلهم هو ما أميل إليه وأرجحه؛ لأن القول بدرء الحد عن العقلاء بمشاركة الصبي، أو المجنون أو بدرء الحد عن الردء إذا باشر الصبي، أو المجنون الحرابة أمر بفتح باب الجريمة على مصراعيه، ولن يعدم المحترفون صبيًا يشاركهم جريمتهم، أو يدربونه ويقفون له ردًا عينا، كما أن عموم الأدلة أولى بالاتباع من غيره، ما دام يحقق الإصلاح.
5-
حرابة القرابة المحرمية:
ذهب فقهاء الأحناف إلى أن حد الحرابة لا يلزم ذا القرابة المحرمية، إذا قطع الطريق على من تربط به هذه القرابة، فإذا كان له شركاء في جريمة قطع الطريق، نتجت في حقهم شبهة بسبب سقوط حد الحرابة عنه، وترتب على هذه الشبهة إسقاط الحد عنهم أيضًا، يقول السرخسي:"وإن كان في المقطوع عليهم الطريق ذو رحم محرم من القطاع، أو شريك له مفاوض لم يلزمهم حكم القطع؛ لأنه امتنع وجوب القطع على ذي الرحم المحرم للشبهة، فيمتنع وجوبه عن الباقين للشركة.... ولأن مال جميع القافلة في حق قطاع الطريق، كشيء واحد، فإنهم قصدوا أخذ ذلك كله بفعل واحد، فإذا تمكنت الشبهة في بعض ذلك المال في حقهم، فقد تمكنت الشبهة في جميعه"2.
1 المهذب ج2 ص285، أسنى المطالب ج4 ص152، مغني المحتاج ج4 ص182.
2 المبسوط ج9 ص203، فتح القدير ج5 ص430، 431، البحر الرائق ج5 ص74، 75.
وذهب فقهاء الشافعية، والحنابلة إلى القول بإسقاط حد الحرابة عن الأصول والفروع فقط، أما من شاركهم حرابتهم، فإنه عليه حدها الواجب بما قام به من أفعال.
لأن إسقاط الحد من الأصول والفروع ناتج لما لهم في مال بعضهم من حقوق، ترتبت عليها شبهات أنتجت إسقاط الحد، أما غيرهم ممن شاركهم حرابتهم، فليست لهم هذه الحقوق، ولا شبهة لهم فيما أخذوه1.
أما فقهاء المالكية، فقد قصروا إسقاط الحد عن الأب، أو الابن فقط إذا قام أحدهم بقطع الطريق على الآخر، وتوسع بعض فقهاء المالكية، فأسقط الحد عن الجد أيضًا نظرًا؛ لأنه يطلق عليه أب؛ ولأنه ممن تغلظ عليه الدية2.
أما ابن حزم، فإنه لم يسقط الحد بسبب القرابة المحرمية، وألزم كل من قام بالحرابة على قريبه المحرمي بالحد المقرر لذلك، حتى ولو كان أبا قطع الطريق على ابنه3.
وما ذهب إليه فقهاء الشافعية، والحنابلة هو ما أرجحه؛ لأن ما بين الأصول والفرع من قرابة، وعلاقة قد أوجدت لكل منهما حقا في مال صاحبه، كما أن في إلزام كل منهم الحد تسبب حرابته قريبة أصله، أو فرعه ما يورث العداوة والبغضاء بين الأب، وابنه أو الابن، وأبيه الذي أن حنق عليه ساعة بكاه باقي يومه، والعلاقة بينهما حض الشارع على رعايتها وحمايتها، ولا يتحقق ذلك بإلزام من قطع الطريق منهم على
1 شرح التحرير بهامش حاشية الشرقاوي ج2 ص437، المغني ج8 ص297.
2 حاشية الدسوقي ج4 ص337، الخرشي ج8 ص96.
3 المحلى ج13 ص380-386.
أصله، أو فرعه حد قطع الطريق، ويكفي أن يلزم الأصل، أو الفرع برد المال والعقوبة التعزيرية المناسبة، فإن في ذلك ما يردعه ويزجره، ولا يأتي على ما بينه وبين أصله، وفرعه من علاقات.
أما أن يسقط الحد عمن شارك الأصل، أو الفرع أو ذي الرحم المحرم حرابة، فهذا قول بعيد وشبهة لا نقوى على رد عموم الأدلة، كما أن قيام سبب في بعض الشركاء خاص به، لا يترتب عليه أن يتعداه إلى غيره.
أما بالنسبة للمرأة إذا شاركت في قطع الطريق، فقد ذهب الكرخي إلى أنه لا حد على النساء بقطع الطريق، ووافقه أبو حنيفة، لكون المرأة ليست محاربة بأصل خلقتها، وزاد أبو حنيفة القول بإسقاط الحد عمن شاركها حرابتها من الرجال، مثلها في ذلك مثل الصبي والمجنون، وأبو يوسف يرى إيجاب الحد على شركائها من الرجال1، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن المرأة مثلها مثل الرجل في جريمة الحرابة، فيلزمها الحد كما يلزمه2.
أما إذا كانت زوجة المقطوع عليه، ففي ذلك التفضيل الذي مر في سرقتها من مال زوجها.
وما ذهب إليه الجمهور أولى بالقبول، خصوصًا وأن جريمة الحرابة قد تقع في الأماكن الآهلة بالسكان، وقد تسهم المرأة وتقوم بدور رئيسي، ولدعوى بأن طبيعتها، أو أنها في أصل خلقها ليست بمحاربة يكذبه الواقع، فقد شاركت المرأة الجيوش المحاربة.
1 المبسوط ج9 ص197، 198.
2 مواهب الجليل ج6 ص314، مغني المحتاج ج4 ص181، المغني ج8 ص298، المحلى ج13، ص380-386.
الفصل الثالث: جريمة شرب الخمر
مدخل
…
الفصل الثالث: جريمة شرب الخمر
تقديم:
المراد بالخمر:
الخمر هي كل ما خمر العقل، والتخمير: التغطية والستر. يقال: خمر وجهة، وخمر إناءه أي غطاهما وسترهما، والمخامرة: المخالطة1، وعرفها الإمام أبو حنيفة بأنها اسم للنيئ من ماء العنب إذا غلا واشتد، وقذف بالزبد ثم سكن عن الغليان، وصار صافيًا مسكرًا2، وعرفها الصاحبان بأنها عصير العنب النيئ إذا غلا واشتد -فقط- قذف بالزبد أو لم يقذف به، سكن عن الغليان أم لا؟ 3.
وعرفها جمهور الفقهاء بأنها كل شراب مسكر، دون النظر إلى
1 لسان العرب ج5 ص339، القاموس المحيط.
2 النيئ: الذي لم تمسه النار، الغليان فوران ما وضع على النار من تأثيرها الاشتداد: قوة التأثير، الزبد: الرغوة الناتجة عن الغليان.
يراجع بدائع الصنائع ج5 ص112، فتح القدير ج5 ص306، وما بعدها.
3 وهذا هو الرأي الراجح عند الظاهرية والزيدية، والإمامية، وإن ذكر صاحب البحر الزخار أن الخلاف بين أبي حنيفة، والصاحبين خلاف لفظي؛ لأن العصير لا يغلي إلا ويقذف بالزبد، وإن كان ذلك غير منضبط، فالخلاف حقيقي لا لفظي، يراجع في ذلك، الطبعة التمهديدية لموضوعات الموسوعة، الفقهية بالكويت ص9، 10 فتح القدير ج5 ص306 وما بعدها، المحلى ج13 ص427، ج8 ص230.
ما أخذ منه هذا الشراب، معتمدين في ذلك على ما روي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"1.
ونتيجة لهذا فرق الإمام أبو حنيفة بين عقوبة الشرب، وعقوبة السكر، فمن شرب خمرًا لزمه الحد سكر أم لا، كثر ما شرب منها أم قل، أما من شرب شيئًا آخر غيرها مما يسكر، فلا حد عليه إلا إذا سكر، أما جمهور الفقهاء فقد قالوا بوجوب الحد على من شرب مسكرًا خمرًا كان، أو غيره كثر ما شربه أم قل، وقد نتج عن هذا كله شبهات تتصل بالركن الشرعي للجريمة، أوردها هي وغيرها مما يتصل بهذه الجريمة من شبهات.
1 صحيح مسلم بشرح النووي ج4 ص683-686، تفسير القرطبي ج1 ص860، المنتقى شرح موطأ مالك ج3 ص151، المهذب ج2 ص286، الأم ج6 ص180، المغني ج8 ص305، مباني تكملة المنهاج ج1 ص269، 271، ويراجع في هذا كله الخمر في الفقه الإسلامي للدكتور، فكري أحمد عكاز ط المختار الإسلامي.
المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي
مدخل
…
المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي
كان اختلاف الفقهاء في تعريف الخمر، وتحديد ما يقصد بها سببًا للقول بتحريم شرب بعض الأنبذة عند جمهور الفقهاء، والقول بعدم تحريم قدر لا يصل بشاربه حد الإسكار عند فقهاء الأحناف.
والفقهاء وإن اختلفوا في ذلك، إلا أنهم اتفقوا على أن السكر نتيجة شرب أي نوع، مما يسكر جريمة توجب العقوبة الحدية، إذا توافرت فيمن سكر شروط إلزامه الحد، كما اتفق الفقهاء، سواء أكان هذا القدر المشروب كثيرًا، أم قليلًا أسكر شاربه، أم لم يسكره.
ولقد ترتب على ما قال به فقهاء الأحناف، وما ذهب إليه الجمهور قيام شبهة بالنسبة لمن شرب بعض الأنبذة، ولم تصل حد السكر.
كما نشأت شبهة أخرى نتيجة اختلاف فقهاء الأحناف، على الحد الذي إذا وصل إليه الشارب يعد قد سكر، ويلزمه بذلك عقوبة شارب الخمر، وذلك نظرًا لعدم اتفاقهم على معيار محدد لسكر من شرب الأنبذة، التي لا يطلقون عليها خمرًا، وشبهة ثالثة لاختلاف الفقهاء في حكم وصول الخمر إلى الجوف من غير طريق الفم.
1-
شرب قليل الأنبذة:
ذهب فقهاء الأحناف إلى أن الشرب الموجب للحد هو شرب الخمر، وهي المتخذة من ماء العنب، أو نقيع البلح والزبيب بالصورة، التي سبق بيانها عند الامام، وعند صحابه.
أما شرب غيرها من عصير العنب إذا طبخ، فذهب ثلثاه، ونقيع البلح والزبيب إذا طبخ ولم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة، والذرة، والشعير وما إلى ذلك من غير ما يسمى خمرًا عندهم، فلا يوجب -شربه- الحد، إلا إذا بلغ من شربه حد السكر، فإن لم يبلغ به حد السكر، فلا حد بشربه.
واستدلوا لذلك بأدلة منها: ما جاء من قول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} 1، قال الإمام أبو حنيفة وأصحابه السكر هو المسكر، ولو كان محرم العين لما سماه الله تعالى رزقًا حسنًا، والسكر ما لا يسكر من الأنبذة، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم
…
وعضدوا هذا بما رواه أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة"، رواه الجماعة إلا البخاري2. كما قالوا: "إن القرآن قد نص على أن علة التحريم في الخمر، إنما هي الصد عن ذكر
الله، ووقوع العداوة والبغضاء، أخذ مما جاء في قوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 3، وهذه العملية توجد في القدر المسكر لا فيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام.
إلا ما انعقد الإجماع على تحريمه من كثير الخمر وقليلها4.
1 الآية 67 من سورة النحل.
2 يراجع في هذا التفسير القرطبي ج5 ص3744-3746، نيل الأوطار ج8 ص194 وما بعدها.
3 الآية 91 من سورة المائدة.
4 يراجع في هذا كله بدائع الصنائع ج5 ص112، وما بعدها، فتح القدير ج5، نيل الأوطار ج7 ص157، التشريع الجنائي ج1 ص498، وما بعدها ص306-310.
وخلاصة القول أن الإمام أبا حنيفة، وأصحابه يفرقون بين ما يعد خمرًا، وبين ما يسكر مما لا يعد خمرًا عندهم، فما يسكر مما لا يعد خمرًا عندهم لا يعاقب على شربه، وإنما يعاقب على السكر منه؛ لأن المسكر هنا حرامًا في حد ذاته، وإنما الحرام هو الكمية التي أوصلت إلى السكر فيها، فلو شرب شخص مما يسكر غير الخمر قد حين مثلًا، ولم نسكر منهما، أم شرب قدحا ثالثًا، فالمحرم هو هذا القدح الثالث، ويلزمه عندئذ حد السكر.
وذهب جمهور الفقهاء إلى القول بتحريم جميع ما يسكر كثيره من الأنبذة وغيرها، ومساواة ذلك بالخمر المتخذة من عصير العنب، فلا عبرة بما أخذ منه المسكر، إذ يستوي في ذلك التحريم، وإيجاب الحد بشربه ما كان من ماء العنب، أو التمر أو غير ذلك من عسل، أو شعير أو حنطة وما إلى ذلك؛ لأن العبرة في التحريم هو الإسكار، فما دام شرب الكثير منه يؤدي إلى الإسكار، فشرب القليل منه حرام موجب للحد، حتى ولو لم يسكر شارب هذا القليل، فالحد عند جمهور الفقهاء هو حد الشرب لا حد الإسكار.
واستدل جمهور الفقهاء لما ذهبوا إليه بأدلة منها:
أ- ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من الحنطة خمر، ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر"1.
ب- روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- خطب على المنبر، وقال:"ألا إن الخمر قد حرمت، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير".
1 نيل الأوطار ج8 ص194-204، فتح الباري ج10 ص30.
وقد قالت السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها: "لا أحل مسكرًا، وإن خبزا أو ماء"1.
ج- روي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العنب -وهو شراب العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: "كل شراب أسكر، فهو حرام"، وما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام"2.
د- روى ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"3.
هـ- ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أسكر كثيره، فقليله حرام"4.
كما أن ما جاء به علماء اللغة يؤيد ما ذهب إليه الجمهور، إذ إن الخمر إنما سميت بذلك عندهم؛ لأنها تخامر العقل، وعليه فإن ما يخامر العقل، ويستره يسمى خمرًا: سواء كثر أو قل.
ورد القرطبي على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، وأصحابه من أن الله سبحانه وتعالى قد امتن على عباده، ولا يكون امتنانه إلا بما حل، يقوله:"إنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر"، أما ما ذكره
1 صحيح مسلم ج4 ص686، تفسير القرطبي ج3 ص1154 ج5 ص3746، ويراجع أيضًا المحلى ج8 ص232، المغني ج8 ص305.
2 الفرق بسكون الراء ثلاثة أصبع، وبفتحها ستة عشر، صحيح الترمذي بشرح ابن العربي ج8 ص57.
3 صحيح البخاري ج4 ص663، المغني ج8 ص305، نيل الأوطار ج8 ص196، تفسير القرطبي ج5 ص3746.
4 نيل الأوطار ج8 ص196.
الإمام أبو حنيفة وأصحابه من أحاديث، فإنها أحاديث ضعيفة؛ لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنقل الثابت، ما يردها، ويفيد أن ما أسكر كثيره، فقليله حرام1.
كما أن المقصود من الرزق الحسن في قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} ، ليس هو القليل الذي لا يسكر، بل المقصود هو التمر، والزبيب وما أشبههما مما ليس بحرام2.
مما سبق يتضح ما بين أبي حنيفة وأصحابه، وبين جمهور الفقهاء من خلاف في إيجاب الحد على من شرب من النبيذ، قدرا لم يصل به حد السكر، وهو خلاف لا تقوم به شبهة الجهة، وذلك؛ لأن أدلة من أجاز أدلة ضعيفة، والدليل لا يقوى على درء ما أوجبه الدليل القوي الثابت بيقين.
كما ان المختلف فيها، يغاير سائر ما اختلف فيها مما يوجب الحد من جرائم من وجهين:
أولهما: أن فعل المختلف فيه ههنا يفتح الباب إلى فعل ما أجمع الفقهاء على تحريمه، ويرغب فيه ويحض عليه.
ثانيهما: أن الأحاديث الشريفة التي بينت تحريم قليل ما يسكر كثيره، أحاديث كثيرة مستفيضة لم تبق عذرًا لأحد في اعتقاده إباحة ذلك.
وعليه، فلا يقوى الخلاف هنا على درء الحد لضعف الشبهة، ضعفًا يكاد لا يبقى لها وجود.
1 تفسير القرطبي ج5 ص3746.
2 تفسير الجلالين ص219 ط المشهد الحسيني، ويراجع في ذلك شرح الزرقاني ج8 ص112، حاشية الدسوقي ج4 ص352، أسنى المطالب ج4 ص158 مغني المحتاج ج4 ص187، المغني ج8 ص303-306، مباني المنهاج ج1 ص267-270.
2-
وصول الخمر إلى الجوف عن غير طريق الفم:
السلوك المادي الذي تقوم به جريمة شرب الخمر، هو عبارة عن قيام الجاني بشرب المسكر، ويقصد بذلك وصول المسكر إلى الحلق، ومن باب أولى وصوله إلى الجوف عن الطريق الطبيعي: أي عن طريق الحلق؛ لأن الشرب لا يكون إلا عن هذا الطريق.
فمن لم يصل المسكر إلى حلقه لا يلزمه الحد، كمن تمضمض به ثم مجه، أوكمن تروقه بلسانه، ولم يصل إلى حلقه.
ومن وصل الخمر إلى جوفه عن غير طريق الفم، كأن يكون قد استعط به، أو احتقن، فإن كلمه الفقهاء لم تنفق على إلزامه الحد.
فقد ذهب فقهاء الأحناف، والمالكية إلى أن الحد لا يجب إلا إذا وصلت الخمر إلى الجوف عن طريق الفم، فإن وصلت عن طريق الأنف، أو الشرج أو الحقن، فإن ذلك يورث شبهة لعدم وصولها من الطريق الطبيعي، ويترتب على هذه الشبعة درء الحد، وإن كان درء الحد لا يمنع الإمام من تعزير من فعل ذلك1.
وذهب فقهاء الشعية إلى إيجاب الحد على كل من أدخل خمرًا في جوفه، حتى ولو لم يصدق على فعله عنوان الشرب2.
1 بدائع الصنائع ج7 ص40، شرح الزرقاني ج8 ص11، حاشية الدسوقي ج4 ص352.
2 مباني المنهاج ج1 ص270.
وقد جاء عن فقهاء الشافعية ثلاثة آراء:
أولها: لا حد بذلك لقيام الشبهة التي تدرأ الحد.
وثانيها: يجب الحد مطلقًا بوصول الخمر إلى الجوف.
وثالثها: يجب الحد على من استعط المسكر، أما من احتقن به، فلا حد عليه1.
ووافق جمهور فقهاء الحنابلة ما ذهب إليه الشافعية، وإن كان الإمام أحمد قد رأى الحد على من احتقن بالخمر لوصولها لجوفه2.
وما ذهب إليه الأحناف، والمالكية هو ما أرجحه إلا إذا تعمد متعاطي المسكر التحايل، وسكر مما أدخله إلى جوفه، لتحقق علة إيجاب الحد من كونه قد يصل الافتراء، وسدا لباب التحايل.
1 نهاية المحتاج ج8 ص11، مغني المحتاج ج4 ص188.
2 المغني ج8 ص306، 307، الإقناع ج4 ص267.
المبجث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد، لقيام شبهة في القصد الجنائي
…
المبحث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد، لقيام شبهة في القصد الجنائي
جريمة شرب الخمر من الجرائم التي لا بد قيامها من توافر القصد الجنائي لدى الفاعل، وعلى هذا فمن أقدم على شرب الخمر، وهو مكره فلا تقوم الجريمة بالنسبة له بمعنى أنه لا يلزم عقوبتها، وهذا ما أجمع عليه الفقهاء، ومثله من اضطر لدفع عطش أو لعلاج، ومثل ذلك من شربها، وهو يجهل كونها خمرًا، وإن سكر، أما من شرب الخمر وهو يجهل حكمها، ولا يعلم أنها حرام، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بدرء الحد عنه لشبهة جهله هذه.
وهؤلاء الذين لم يلزموه الحد، وإن اتفقوا على ذلك، إلا أن منهم من قد بنوا رأيهم في ذلك على أساس عدم قيام الجريمة أصلًا في حقه، فيقول ابن حزم:"من أكره على شرب الخمر، أو اضطر إليها لعطش، أو علاج أو لدفع خنق، فشربها أو جهلها، فلم يدر أنها خمر، فلا حد على أحد من هؤلاء، ثم فصل المراد بجهلها، فقال: "ما الجاهل -فإنه لم يتعد ما حرم الله عليه، ولا حد إلا على من علم التحريم- ولا يختلف اثنان من الأمة في أنه من دست إليه غير امرأته، فوطئها وهو لا يدري من هي يظن أنها زوجته، فلا حد عليه"1.
وجاء عن فقهاء الشيعة: "لو أن رجلًا دخل الإسلام، وأقربه ثم شرب الخمر وزنى، وأكل الربا ولم يتبين له شيء من الحلال والحرام، لم أقم عليه الحد إن كان جاهلًا"2.
1 المحلى ج13 ص429.
2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص267.
ومن هؤلاء من قال بدرء الحد عنه لشبهة جهله: وقد فصل هؤلاء القول في ذلك، فيقول الشربيني:"لو قرب إسلامه، فقال: جهلت تحريمها لم يحد؛ لأنه قد يخفى عليه ذلك، والحدود تدرأ بالشبهات1، وقد فصل فقهاء الحنابلة القول، فيمن يدعي الجهل بتحريم الخمر، ووافقهم الأذرعي، فرأوا أن مدعي الجهل إن كان ناشئًا ببلاد الإسلام بين المسلمين، لم تقبل دعواه؛ لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله، فلا تقبل دعواه ففيه، وإن كان حديث عهد بالإسلام، أو ناشئا ببادية بعيدة عن البلدان قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله"2.
وإن كان الرأي الظاهر عند فقهاء الشافعية، إسقاط الحد عمن قال بجهله حكم تحريمها؛ لقرب عهده بالإسلام دون تفصيل، سواء أكان ممن نشأ بين المسلمين، أو من غير هؤلاء، فقد جاء عن الشربيني قوله بعد أن ذكر رأي الأذرعي "ظاهر كلام الأصحاب الإطلاق، وهو الظاهر"3.
وذهب فقهاء المالكية إلى القول: بأنه لا حد على من شرب خمرًا يظنها غيرها، كما إذا ظنها ماء، أو عسلًا فشرب، ثم ظهر أنها خمر، أو أن هذا الشراب مسكر، وقاسوا ذلك بمن وطئ أجنبية لظنها زوجته إن كان يتأتى الاشتباه.
أما من جهل وجوب الحد، وعلم الحرمة، فإنه يلزمه الحد، ولا يلتفت إلى جهله هذا؛ لأنه جهل لا يعتد به في إسقاط الحد، وكذا يلزم الحد
1 مغني المجتاج ج4 ص188، ويراجع في ذلك بدائع الصنائع ج7 ص40.
2 المغني ج8 ص308، 309، مغني المحتاج ج4 ص188.
3 مغني المحتاج ج4 ص188.
من جهل الحرمة نفسها، حتى وإن كان قريب عهد بالإسلام، ومثلوا له بالاعجمي الذي دخل دار الإسلام، فمثل هذا لا يعذر بجهله تحريم الخمر.
ورد فقهاء المالكية على ما يمكن أن يوجه لرأيهم من نقد، أنهم لم يعذروا الجاهل عنا، وعذروه في الزنا، فقالوا: إن مفاسد الشرب لما كانت أشد من مفاسد الزنا لكثرتها؛ لأنه ربما زنى وسرق، وقتل كان أشد من الزنا؛ ولأن الشرب أكثر وقوعًا من غيره"1.
وما ذهب إليه فقهاء المالكية من القول بوجوب الحد على من جهل الحكم هنا على عمومه قول مردود؛ لأن الجهل المعتد به، وإن لم يقو على عدم إيجاب الحد ابتداء، فلا أقل من أن يورد شبهة يترتب عليها درء الحد، أما أن الشر مفاسدة أكثر، فهذا إعمال الحدود على أساس من الحدس والتخمين، وهو مردود في هذا الباب، لقيام الدليل على درء الحد بالشبهة، ولم يفصل بين حد وآخر، من حيث كونه أكثر وقوعًا من عدمه في مسائل هذا الباب، وهذا ما أرجحه.
1 الخرشي ج8 ص108، حاشية الدسوقي ج4 ص352، شرح الزرقاني ج8 ص113.
المبحث الثالث: الشبهات التي تعتري إثبات شرب الخمر
أولا: إثباتها بالإقرار وما يعتريه من شبهات
…
المبحث الثالث: للشبهات التي تعتري إثبات شرب الخمر
أولًا: إثباتها بالإقرار وما يعتريه من شبهات
يرى جمهور الفقهاء أن جريمة شرب الخمر، تثبت بإقرار الجاني، ولو مرة واحدة، وذلك نظرًا؛ لأن الحد الواجب على المقر لا يترتب عليه إتلاف، ولهذا قاس جمهور الفقهاء إثباتها بالإقرار الواحد بإثبات جريمة القذف، فيقول بن قدامة:"ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين الإقرار، أو البينة، ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم؛ لأنه حد لا يتضمن إتلافًا، فأشبه حد القذف"1.
ولم يقيد جمهور الفقهاء الإثبات بالإقرار بوجود رائحة الخمر، وإن كان الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف قد اشترطا للاعتداد بالإقرار هنا، أن يكون رائحة الخمر موجودة بفم المقر، فإن أقر بشربه الخمر، ولم تشم منه رائحتها، فلا يحد عند أبي حنيفة، وأبي يوسف2.
كما ذهب أبو يوسف إلى القول: باشتراط أن يعتدد الإقرار من الجاني بعدد الشهود الذين تثبت الجريمة بشهادتهم، وذلك؛ لأنه يرى أن كل إقرار يسقط بالرجوع، فعدد الإقرر فيه كعدد الشهود3.
كما قد جاء عن فقهاء الشيعة اشتراط ذلك التعدد، وإن كان هذا الرأي خلافًا للمشهور عندهم4.
وما أرجحه من ذلك، هو أنه يكفي لإثبات جريمة الشرب، وإلزام الحد إقرار الجاني، ولو مرة واحدة، وجدت رائحة الخمر، أو لم توجد نظرًا لانتقاء التهمة؛ لأن الإنسان لا يتهم نفسه، فلا يشترط التعدد، ولا وجود الرائحة، فلا يسقط الحد بشيء من ذلك، ولا يرد الإقرار، وما يترتب عليها إلا الرجوع عنه، فإذا رجع المقر عن إقراره درئ الحد عنه؛ لأن الحق هنا خالص لله سبحانه وتعالى
1 المغني ج8 ص309.
2 فتح القدير ج5 ص301-305.
3 بدائع الصنائع ج7 ص50.
4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص272- ويراجع الخرشي ج8 ص109، حاشية الدسوقي ج4 ص353، مغني المحتاج ج4 ص190.
ثانيًا: إثبات جريمة الشرب بالبينة، وما يعتريه من شبهات
تثبت جريمة شرب الخمر بشهادة شاهدين، فأكثر بالشروط التي سبق بيانها، عند الحديث عن الإثبات بالبينة.
وذهب الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى اشتراط وجود رائحة المسكر بفم الشارب، عند تأدية الشهود شهادتهم عليه، فإذا جاء الشهود من مكان بعيد، فاستغرق حضورهم وقتًا، زالت فيه رائحة الخمر من فم لزمهم الشارب أن يقولوا: أخذناه، وريح الخر موجودة بفمه1.
ويرى جمهور العلماء عدم اشتراط وجود الرائحة بفم الشارب، فيكفي شهادة رجلين أنهما رأياه يشرب الخمر، فإذا لم يشهدا بأنهما رأياه يشربها فلا حد. كأن يقولا: شممنا منه يرحها أو رأينها سكرانا، أو وجدناه يقيء خمرًا ودرء الحد عنه هنا مبني على أساس احتمال أن يكون شرب الخمر غلطًا، أو مكرها، والحد يدرأ بالشبهة، بين ذلك ابن قدامة بقوله:"وإن وجد سكرانًا أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرهًا، أو لم يعلم أنها تسكر، وهذا مذهب الإمام الشافعي"2.
1 فتح القدير ج5 ص301، 303.
2 المغني ج8 ص309، مغني المحتاج ج4 ص190.