الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الركن الأدبي للجريمة
وهو ما يعنيه فقهاء القانون بالركن المعنوي.
إذ إن الجريمة ليست كيانًا ماديًا فقط، ولكن هذا الكيان المادي لا بد وأن يُحاط برباط من الصلة النفسية التي تجمع بينه، وبين من يقوم بذلك الكيان المادي للسلوك الذي أسبغ عليه المشرع صفة التجريم، وعاقب على اقترافه، والقيام به كما أم من يقوم بذلك السلوك لا بد، وأن يكون من الأشخاص ذوي الصفة الأدبية، التي تجعلهم أهلًا للمساءلة، وتحمل التبعة، وانضوائهم تحت لواء من يسألون عما يقترفونه من الأعمال التي يحويها المُشرع.
وقديمًا لم يكن ذلك واضحًا أمام واضعي القوانين، إذ كان يحاكم الحيوان، والجماد، والإنسان على السواء1.
تغيرت المفاهيم، وأصبحت القواعد القانونية لا تلزم إلا بمساءلة الإنسان عما يأتيه من الأعمال.
ذلك؛ لأن الإنسان وحده هو صاحب الإرادة التي يعتد بها لدى المُشرع، وهو الذي يوجه تلك الإرادة حسبما يشاء ورغب، وإن كان هناك من رأي أن بعض العوامل تؤثر على سلوكه إلى حد الوصول إلى حتمية السلوك.
1 شرع قانون العقوبات د. محمود نجيب حسني ص531 ط سنة 1977م.
كما أن المسئولية الأدبية تمر بمراحل تحتم أن تكون العقوبة أحيانًا في شكل تدبير احترازي أو تعزيري، حسبما يتفق وحال من خالف أمر المشرع، وما يستلزم البحث بيانه هنا هو ما يقوم به الركن الأدبي لدى الجاني، ويصبح به أهلًا للمساءلة الجنائية، وذلك محدد في عنصرين أساسيين:
أولهما: الإدراك: إذ لا بد من أن يكون من يقوم بالسلوك مدركًا إدراكًا يعتد به حتى يمكن معاقبته على سلوكه.
فإذا فقد هذا العنصر من قام بالسلوك، انعدمت مساءلته جنائيًا عما قام به استنادًا لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يبرأ"1.
ثانيهما: الاختيار: أي أن يكون من قام بالسلوك المُعاقب عليه، قد قام بسلوكه مختارًا بناء على رغبة منه واختيار حر.
فإذا اختلت إرادة من يقوم بالسلوك: فإن تلك الإرادة تصبح إرادة معينة، وعليه تنعدم مساءلة صاحب هذه الإرادة المعينة2.
لأن الأصل أنه لا يساءل جنائيًا إلا من أتي متعمدًا فعلًا قد حرمه الشارع لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ
1 نيل الأوطار ج6 ص160، سنن أبي داود ج2 ص452 ط مصطفى الحلبي.
2 أصول الفقه للشيخ الخضري ص109 ط ثانية، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص251 ط دار الكتب.
مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} 1. هذا هو الأصل، وإن كانت الشريعة قد عاقبت على الخطأ في بعض الجرائم استثناء من هذا الأصل، كما هو الحال في عقابها على جرائم القتل الخطأ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 2.
هذه بعض الجوانب المتعلقة بالجريمة فيما يتصل بموضوع البحث، حاولت فيها إلقاء الضوء على ما لفقهاء الشريعة الإسلامية من وجهات نظر في كل ما عرضت من موضوعات، مقارنا ذلك بما ذهب إليه فقهاء القانون الوضعي.
وقد ظهر واضحا في كل ذلك مدى سمو نظرة الشريعة الإسلامية، وأصالتها وشمولها، سمو من شرعها على غيره ممن خلق، وصدق الله العظيم:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .
1 الآية: 5 من سورة الأحزاب، والتي يتضح منها أنه لا يعاقب على الجرائم العمدية إلا من قام بها متعمدا إتيانها أما من وقعت منه هذه الجرائم العمدية بطريق الخطأ، فإنه لا يعاقب عليها بعقوبتها الموضوعة لمن أتاها عمدا.
كما أن من وقعت منه الجريمة العمدية، وهو مكره على إثباتها إكراها يعتد به فإنه أيضا لا يلزم بعقوبتها، كما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وما روي من أن رقيقا وقع على وليدة، فاستكرهها حتى اقتضها، فجلده عمر ونفاه ولم يجلد الوليدة؛ لأنها استكرهت"، سنن ابن ماجه ج1 ص659 ط الحلبي، صحيح البخاري ج9 ص27 ط دار الشعب.
2 من الآية 92 من سورة النساء.