الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي
ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأن الكافر إذا قال
…
المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي
وصح مما ذكر في تعريف الردة، والمرتد عند فقهاء الشريعة أنه لا يتحقق قيام هذه الجريمة، إلا ممن كان مسلمًا، نظرًا؛ لأن الردة قد عرفت بأنها قطع الإسلام والرجوع عنه، وذلك يقتضي بالضرورة أنها لا تقع إلا من مسلم، لهذا فإن الحديث عن الشبهات التي تلحق الركن الشرعي لهذه الجريمة، يتناول ما ذكره الفقهاء من آراء بالنسبة للقول بصحة إسلام بعض الأشخاص، توطئه لبيان حكم ما وقع منهم من أفعال، أو أقوال نقطع استمرار الإسلام، ودوامه من عدمه.
كما يتناول ما ورد من اختلاف الفقهاء حول بعض الأفعال، من حيث اعتبار هذه الأفعال، تخرج من قام بها عن الإسلام، ويعد بها مرتدًا أم لا.
1-
ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأن الكافر إذا قال:
لا إله إلا الله محمد رسول الله صار بذلك مسلمًا، فإن رجع عن الإسلام اعتبر مرتدًا، ولزمته العقوبة الحدية، واستدل الجمهور لصحة الإسلام الكافر بالنطق بالشهادتين بأدلة كثيرة منها.
أ- ما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"1.
ب- روى أنس "أن يهوديًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول الله، ثم مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا على صاحبكم" 2.
1 نيل الأوطار ج7 ص223.
2 المرجع السابق ص222.
وأكثر من ذلك اعتبر الكتابة مع النية كصريح لفظ إسلام، فقد روى ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فجعلوه يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا أصبح أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيرى، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين"، رواه أحمد والبخاري، وهو دليل على أن الكناية مع النية، كصريح لفظ الإسلام"1.
قال الشوكاني عند شرحه لهذا الحديث: "قوله: صبأنا صبأنا"، أي دخلنا في دين الصابئة، وكان أهل الجاهلية يسمون من أسلم صابئا، وكأنهم قالوا: أسلمنا أسلمنا، والصابئ في الأصل الخارج من دين إلى دين
…
وقد استدل المصنف بأحاديث الباب على أنه يصير الكافر مسلمًا بالتكلم بالشهادتين، ولو كان ذلك على طريق الكناية بدون تصريح2.
وذهب فقهاء المالكية إلى القول بأنها لا يكفي للحكم بإسلام الكافر أن ينطق بالشهادتين، وإنما لا بد للحكم بذلك من أن يقف من نقط بالشهادتين على دعائم الإسلام، ويلتزم الأحكام التي جاء الإسلام بها، وعلى هذا من نطق بالشهادتين، ولم يلتزم بالأحكام الإسلامية، لا يعد مسلمصا فإذا رجع إلى ما كان عليه من كفر، لا يكون مرتدًا حيئنذ، ولا يلزم بعقوبة الردة، وإنما عليه الأدب فقط نظير تلاعبه.
1 نيل الأوطار ج7 ص222.
2 المرجع السابق ص223، ويراجع البحر الرائق ج5 ص139 المغني ج8 ص142، مباني تكملة المنهاج ج1 ص233.
يقول الخرشي مبينًا ذلك: "ولا ينقر الإسلام إلا بالنطق بالشهادتين، والتزام أحكامهما، واحترز به عما لو نطق بالشهادتين، ثم رجع قبل أن يقف على الدعائم -فلا يكون مرتدًا ويؤب فقط"1.
وإلى هذا مال الشيخ أبو زهرة، وذكر مثالًا لذلك ما يجري الآن في مصر، وغيرها من الأقطار من أن يشهد الرجل، أو المرأة على إسلامه لغرض من أغراض الدنيا لا يستطيع قضاءه، وهو على ما كان عليه أولًا كأن يطلق امرأته، أو تطلق هي من زوجها لتتزوج من آخر، فإذا ما نال كل غرضه عاد إلى ما كان عليه قبل أن يعلن إسلامه، وفي حقيقة أمره لم يفارق ما كنا عليه أولًا.
ثم يقول الشيخ أبو زهرة: ولا نقول في هذه الحالة أنه يعفى من عقاب الردة إذا تقرر لها عقاب، أو أي عقاب آخر، بل نقول: إنه إذا أعفي من عقوبة الردة لا يسلم من عقوبة أخرى، ربما تكون أشد وأنكى، وهي عقوبة التزوير في ورقة رسمية، ينص على ذلك في قانون العقوبات.
ثم يعقب على ذلك بقوله: إننا بهذا ننسق الأحكام تنسيقًا سليمًا، فلا يدخل في الإسلام إلا من ذاق بشاشته، وعلم أحكامه ولا تتخذ الأديان هزوًا ولعبًا
…
2.
وما ذكره فضيلة الشيخ أبو زهيرة يحتاج إلى وقفة، إذ هو قد رأى أن من فعل ذلك لا يسلم من عقوبة، فإن لم تكن عقوبة الردة عوقب بأشد، وأنكى منها وهي عقوبة التزوير، والأمر هنا معكوس؛ لأن عقوبة التزوير عقوبة تعزيرية هينة، إذا قيست بعقوبة الردة التي حددها الشارع للمرتدين.
وما ذهب إليه فقهاء المالكية من القول بأن عدم التزام من أسلم
1 الخرشي ج8 ص62، حاشية الدسوقي ج4 ص301.
2 العقوبة للشيخ أبي زهرة ص201-203.
أحكام الإسلام شبهة تشوب إسلامه، فلا يلزم بالعقوبة الحدية إذا رجع إلى ما كان عليه، وإنما عليه الأدب فقط، فهو كلام قد حمل في طيه قضيتين، أولاهما عدم الحكم بصحة إسلامه، والثانية درء العقوبة الحدية عنه.
أما بالنسبة للقضية الأولى، وهي أن إسلامه هذا غير صحيح، فهي مردودة بما استدل به جمهور الفقهاء من الأحاديث الصحيحة، وإن كانت الشبهة قد شابت إسلامه لعدم صدقه في نيته، إلا أنها شبهة لا يترتب عليها إسقاط العقوبة الحدية عن هذا المتلاعب، وإنما هي شبهة يلزم عنها إلزامه بالعقوبة الحدية وزيادة.
العقوبة الحدية نظير ردته، والزيادة عليها نظير تلاعبه، وتزويره بغية كسب ونفع.
وهذه هي الشبهة الوحيدة، التي أرى أن تخرج عن قاعدة درء الحد بها، إلى قاعدة أخرى هي إلزام الحد بها وزيادة، إلزاما لا يقبل الإسقاط أو التبديل؛ لأن هذا المتلاعب لم يجبر على الإسلام، وإنما جاء طائعًا، وما دام ينوي التلاعب والتحايل، فإنه يكون قد زاد على جناية الردة جناية أخرى، وهي الاستهزاء بالدين، واتخاذه ستارًا يحقق من وراء تلاعبه به أطماعه، وما يبغي ويشتهي ويتخلص من حقوق لزمته، ووجبت عليه، فهو بذلك قد ارتكب جناية تزوير، ثم بعد ذلك يمرق من الدين، وهو يتغامز عليه، وعلى من حققوا له مأربه آملين فيه النفع والهداية، أن من اتخذ من دين الله هزوا، ولعبًا لا يجوز أن يعتبر ذلك الهزو، واللعب مبررًا لإسقاط العقوبة الحدية عنهم، وإنما هؤلاء نشدد عليهم العقوبة بقدر استهزائهم، هؤلاء الذين تاجروا مع الشيطان، فيجب ألا تربح تجارتم، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا