الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي
ذكرت فيما سبق عند الحديث عن الشبهات، التي تعتري الركن الشرعي لجريمة الردة، ما ذهب إليه الفقهاء من قول في إسلام السكران، وردته وكذا إسلام المكره، وردته وإٍسلام الصبي وردته، وما ذهب إليه الفقهاء أيضًا من قول في كفر الساحر، سواء وقع منه ما يفكر به، كقول كفر أو فعل كفر، أم لا ولذلك حكم تعلم السحر، وتعليمه وهذا كله وإن كان قد ذكر عند الحديث عن الشبهات، التي تعتري الركن الشرعي، إلا أنه لا يخلو عن صلة بما يلحق القصد الجنائي من شبهات.
لذا، فإني أشير إشارات موجزة إلى ما ورد من آراء في ردة كل ممن سبق، فإذا أضيفت هذه الإشارة إلى ما سبق، اكتملت الصورة.
1-
ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأن من صدر منه قول كفر، أو فعل كفر حكم بكفره، ما دام قد وقع منه ذلك باختياره، حتى ولو لم ينو الكفر به، كان صدر منه عن جهل بما يؤدي إليه، أو أن يكون سكرانا في وقت صدور ذلك منه -إذا كان متعد بسكره، أو كان نتيجة تهور في كلام أو زلل لسان.
يقول الدردير: "لا يعذر أحد في الكفر بالجهل، أو السكر أو -التهور ولا بدعوى زلل اللسان".
وبين الدسوقي ذلك بالنسبة للسكران، ورد ما قد يعرض من اعتراض بقوله:"أو سكر"، أي أدخله على نفسه، ولا يرد قول
حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم هل أنتم إلا عبيد أبي، كما في البخاري؛ لأنه كان قبل تحريم الخمره، كما في الشفاء والسكران، إذ ذلك يحكم عليه بحكم المجنون1.
ويرى الإمام الشافعي، وابن حزم أنه لا بد من توافر فيه الكفر مع إيان الفعل أو القول، لجواز ان يكون القائل، أو الفاعل لا يعلم مدلول ما وقع منه.
ولا يكفي في ذلك أن يتعمد الفاعل إتيان ما وقع منه؛ ليدل على بنته؛ لأنه قد يتعمد إتيان ذلك، وهو يجهل أنه يؤدي إلى الكفر، ولو علم ذلك لما أقدم عليه.
واستدل الإمام الشافعي، وابن حزم لذلك، بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قول: وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى2.
وما ذهب إليه الإمام الشافعي، وابن حزم هو ما أرجحه، وأميل إليه لاستناده على دليل قوي؛ ولأنه قد سبق أن من جهل حكمًا من الأحكام، وترتب عليه جهله هذا وقوعه في جناية حدية لا حكم عليه
1 يراجع في ذلك حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص310، الخرشي ج8 ص71، شرح الزرقاني ج8 ص62، 63، حاشية ابن عابدين ج3 ص392، شرح الأزهار ج4 ص575-577، فتح القدير ج4 ص407، المبسوط ج10 ص123، بدائع الصنائع ج7 ص139-178ط الجالية المغني ج8 ص145.
2 صحيح البخاري ج1 ص2ط جال الشعب، نهاية المحتاج ج7 ص394، المحلى 269، ج13 ص137-184.
يحدها، مطلقًا من غير نظر في جهله، وإنما لا بد وأن ينظر في ذلك، أهو جهل يعذر به، ويعتد به في إسقاط العقوبة الحدية عنه أم لا.
كما أنه لا يمكن أن يؤاخذ الناس بزلات ألسنتهم، إذا رجعوا عنها فور عملهم بما وقعوا فيه، خصوصًا فيما يتعلق بالعقيدة.
ولأن زلل اللسان، خطأ غير مقصود، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بين أن الله رفع عن أمته الخطأ، والنسان وما استكرهوا عليه.
ولجواز أن يقع ذلك ممن سكر، وذهب عقله بسكره، ولا يتصور أن السكران يقصد الكفر، فيحكم عليه بالدره خصوصًا إذا رجع بعد إفاقته؛ ولأن السكران يلزم بحد السكر، فلا يجمع عليه معه حد الردة، التي لم يقصدها ورجع عنها. وذلك إن لم يكف للحكم بعدم قيام الجريمة منه أصلًا، فلا أقل من أن تنهض به شبهة، تدرأ عنه الحد أخذا بما قرره جمهور الفقهاء، من أن الحدود تدرأ بالشبهات.
"أثر الشبهات في العقوبة التعزيرية":
وضح مما سبق أثر الشبهات في العقوبات الحدية، فهي تدرأ هذه العقوبة، وينتج عن ذلك أما إسقاط جنس العقوبة عن المدعى عليه، وأما إسقاط نوع العقوبة عنه، بمعنى إعفائه من العقوبة الحدية لوجود الشبهة الدارئة لها، وإلزامه عقوبة تعزيرية مناسبة، بما في ذلك ما يلزم به من تعويضات مالية في بعض الحالات، والهدف من ذلك كله ضمان تحقيق العدالة، واحترام حقوق المدعى عليه، وعدم مؤاخذة بريء بفعل لم يصدر منه، أو لم يثبت عليه بالصورة التي يلزمه بها الحد، إذا الأصل براءة الذمة.
وقد ظهر أثر الشبهات في العقوبات الحدية واضحًا ملموسًا، وما دام الهدف من أعمال مبدأ درء الحد بالشبهة، هو تحقيق العدالة، واحترام حقوق المدعى عليه، فليس هناك ما يمنع من أعمال هذا المبدأ بالنسبة للعقوبات التعزيرية.
ولا يعارض ذلك ما ورده ابن نجيم "من أن التعزير يثبت مع الشبهة"1.
لأن إثبات الجريمة التعزيرية، وإلزام المدعى عليه عقوبة من العقوبات التعزيرية. لا يتطلب شكلية معينة، أو شروطًا محددة يتحتم استكمال عناصرها، بل يكفي لإقامة العقوبة التعزيرية، وإلزام المدعى عليه بها اقتناع القاضي، واستنتاجه، أو أنه المقارف للفعل من خلال الظروف، والملابسات والقرائن المصاحبة.
كما أن أعمال الشبهات بالنسبة للعقوبات التعزيرية، لا يعترض أيضًا عليه بما أورده السيوطي من أن الشبهة لا تسقط التعزير، وإن كانت تسقط الكفارة؛ لأن هذا القول يرده الواقع، إذ أن السيوطي نفسه قد أورد أن الشبهة تنتج التخفيف، وعلى هذا فإن التخفيف في العقوبة، يمتد أثره إلى كل أنواع العقوبات، ولا دليل على قصر أثره على عقوبة دون أخرى.
وقد وضح السيوطي القضية بما يأتي:
"لو جامع ناسيًا في الصوم، أو الحج فلا كفارة للشبهة، وكذا لو وطئ على ظن أن الشمس، أو أن الليل باق، وبان خلافه، فإنه يفطر ولا كفارة".
1 زين العابدين إبراهيم بن نجيم المصري، الحنفي المتوفى سنة 970هـ، الأشباه والنظائر ص130.
وذكر السيوطي أن من الفقهاء من قال: بأن الفدية لا تسقط بالنسبة؛ لأنها تضمنت غرامة مالية، بخلاف الكفارة، فإنها تضمنت عقوبة، فالتخفيف في الإسقاط بالحد، وتسقط الإثم والتحريم أن كانت في الفاعل دون المحل1.
وقد وضح ما ذكره السيوطي في آخر عبارته، أن هناك من الشبهات ما يترتب على قيامه إسقاط الإثم والتحريم، وهذا القول وحده يكفي لإثبات ما نحن بصدده، من أن للشبهات أثر في ما يأتيه الفاعل من أفعال، جرمها المشرع، ورتب عليه عقوبة، إذا تم إثباتها على من ارتكبها، سواء أكانت هذه العقوبة حدية أم تعزيرية.
وأثر هذه الشبهات، وأن ظهر بوضوح في العقوبات الحدية، وخفي أثره بالنسبة للعقوبات التعزيرية، فليس ذلك راجعًا إلى عدم إعمال الشبهة بالنسبة للعقوبات التعزيرية، وإنما مرد ذلك هو أن العقوبة التعزيرية، غير محددة في أصل وضعها، وإنما ترك أمر تقديرها إلى ولي الأمر ابتداء، وعليه فإن ما يقرر عند نظر الواقعة، وما يحيط بها من ظروف وملابسات ودوافع، وما خالطها من شبهات، وما إلى ذلك ما هو إلا عقوبة روعي فيها كل ذلك، فلا يجوز بعد هذا
أن يقال:
إن الشبهة التي خالطت الواقعة التعزيرية، لم يترتب عليها أثر في عقوبتها.
1 جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي، المتوفى سنة 911هـ، الأشباه والنظائر الفقهية ص137ط، عيسى الحلبي، ويراجع ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين ج2 ص140، ابن حزم الأحكام ج5 ص149ط مطبعة السعادة ط أولى. الشيخ محمد الخضري أصول الفقه ص119ط الثانية.
ويظهر واضحًا ما للشبهة ما أثر في العقوبة التعزيرية في حالة ما، إذا لم يذكر الجاني للقاضي عند محاكمته، ما خالط فعلته التعزيرية من شبهات، ولم يستطع القاضي الوقوف على شيء من هذه الشبهات، التي خالطت فعلة الجاني، وبعد أن صدر تقدم الجاني، وعرض على القاضي ما خالط الجناية التي ارتكبها هذا الجاني من شبهات، وأُثبت صحة مقولته للقاضي، فإن القاضي والحالة هذا لا يسعه -إذا رأى أن ما ذكر من شبهات يترتب عليها إعفاء الجاني من العقوبة التعزيرية، أو تخفيفها لا يسعه إلا أن يعفي الجاني من العقوبة، أو يخففها عنه.
وعليه فإن الشبهات في هذه الحالة، وما يماثلها قد أثرت تأثيرًا ملموسًا في العقوبة التعزيرية، التي كان القاضي قد حكم بها.
وهذا أمر لا يحتاج في إثباته كثير عناء.