الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: موقف التشريعيين على الجريمة منذ نشأة فكرتها
…
المطلب الثاني: موقف التشريعيين من العقاب على الجريمة منذ نشأة فكرتها
كل من يقدم على ارتكاب ما من الجرائم، لا بد له قبل القيام بها من عقد النية على ذلك، وإرادة هذا العمل الإجرامي إرادة تصرف الجوارح، وتوظف التفكير في حياكة خيوط ما أرد من الجرائم.
غير أن التنفيذ قد يأتي وفق ما أراد الجاني، أو أقل مما أراد لأمر حال بين الجاني وبين أن يتم قصده.
والتشريع الجنائي الإسلامي لا يعاقب على ما خالج النفس، وانشغل به القلب.
ولقد أرسى هذا المبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما روي عنه "من أن الله سبحانه وتعالى قد تجاوز لأمته عما وسوست، أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم"1.
فلا عقاب إذا على النية التي يبيتها شخص من الأشخاص للقيام بأي عمل إجرامي، ما دام لم يقم بما نواه، ولم يحقق ما عزم عليه.
1 يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: أطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلامي ويسرون غيره، ولم يجعل له أن يحكم عليه بخلاف حكم الإسلام، ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا
…
إلى أن يقول: وبذلك قضت أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بين العباد من الحدود، وجميع الحقوق وأعلمهم، أن جميع أحكامه على ما يظهرون، وأن الله يدين بالسرائر.
الأم للإمام الشافعي ج7 ص268، 269، ط دار الشعب.
هذا هو موقف التشريع العقابي من وجهة النظر الإسلامية، أما الشرائع الوضعية، فإنها لم تأخذ بهذا المبدأ إلا منذ فترة وجيزة، وهي وإن أخذت به الآن إلا أنها لم تلزم به التزامًا كاملًا، إذ لا زال التجريم فيها يضع ضمن ما يعاقب عليه، سبق الإصرار والترصيد، فالجريمة تزاد عقوبتها إذا صاحبها سبق إصرار وترصد، وتقل عقوبتها إذا لم تقترن بذلك1.
العقاب على الأعمال التحضيرية:
الأعمال التحضيرية التي تسبق القيام بجريمة ما من الجرائم نوعان:
1 يقول الإمام الشافعي مبينا جانبًا من مواقف الشريعة الإسلامية من العقاب على النية: "أطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلام، ويسرون غيره ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا.. وقد أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فقال:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، فجعل حكمه عليهم جل وعز على سرائرهم، وحكم نبيه عليهم في الدنيا على علانيتهم. الأم ج7 ص268.
ويعلق الشيخ أبو زهرة على ذلك كله بقوله: "هذه حقيقة يذكرها التاريخ لمحمد رسول الله، ويذكرها التاريخ للإسلام الحر، ومن احتقار العقول أن يقارن هذا بما كان من زعماء النصارى في عهد قسطنطين عندما دخل الرومان في المسيحية، وما كان من محاكم التفتيش في القرون الأخيرة، وما يسلكه سياسة اليوم من نشر الجاسوسية، والتنقيب عن الخواطر والقلوب، ولكن هكذا الإسلام، وسيستمر حجة على الناس إلى يوم القيامة.
"الجريمة ص388".
أ- أعمال تعتبر في حد ذاتهلاا جريمة، وذلك مثل حمل سلاح غير مرخص بقصد استعماله في جريمة ما من الجرائم، والتي بدأ الجاني في أعمال التحضير لها.
وكمن يشتري خمرًا ليستخدمه في جريمة ينوي ارتكابها.
فهذه الأعمال التحضيرية، وما يماثلها هي في حد ذاتها أعمال إجرامية يعاقب عليها في كل من الشريعة والقانون1.
ب- أعمال هي في حد ذاتها مباحة، ولكنها قد تدخل ضمن الأعمال التحضيرية لجريمة ما من الجرائم، وذلك مثل من يعد مفاتيح ليستعملها في فتح أبواب بقصد السرقة.
ومن يشتري سلاحًا بقصد إعداده لاستعماله في جريمة من الجرائم.
ومن يعد أماكن ليجمع فيها الأقوات يقصد تخزينها، واحتكارها ورفع ثمنها والتحكم في الناس إن ذلك، وإن كان لا يعد ارتكابًا لما أعد له من جرائم؛ لأنه عمل مباح في أصله؛ ولأنه لم يتخط بعد مرحة الإعداد، إلا أنه وسيلة لهذه الجرائم وإعداد للقيام بها، ومثل هذه الأعمال يرى فقهاء الحنفية والشافعية، أنه لا عقاب عليها، وقد أخذ برأيهم رجال القانون2.
1 الجريمة للشيخ أبو زهرة ص389-391 ط دار الفكر العربي شرح قانون العقوبات أد/ محمود نجيب حسني ص362ط 1977.
2 ولذ أجاز الشافعي بيع السلاح لمن يشتريه ليقتل به إنسانًا.
فقد جاء في كتاب الأم: "ألا ترى أن رجلًا لو اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقل به كان الشراء حلالًا، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع، وهكذا لو باع البائع سيفًا من رجل يرى أنه يقتل به رجلًا كان هكذا، الأم ج7 ص270، ويراجع أستاذي الدكتور سلام مدكور أصول الفقه الإسلامي ص182 للشيخ أبو زهرة الجريمة ص386-388 أد: محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات ص362.
ويرى ابن القيم، والقرافي أن مثل هذه الأعمال، وسائل لفعل إجرامي حرمته الشريعة، وعليه فإنها تأخذ حكم الفعل الإجرامي التي هي وسيلة له، من حيث الحرمة ويعاقب عليها بعقوبة أقل من عقوبة الجريمة الأصلية، التي هي الغاية لمن اتخذ هذه الوسائل وصولًا إليها.
وذلك في حالة عدم الوصول إلى الغاية التي ابتغاها الجاني، ووقوفه عند مرحلة الإعداد والتحضير1.
1 يقول ابن اقيم: وسائل المحرمات في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطها بها، فوسائل المقصود تابعة للمقصود.
وكلاهما مقصود بقصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب شيئًا، وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها، ويمنع فيها تحقيقًا وتثبيتًا له، ومنعا ممن أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصا للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه تأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي أعلى الدرجات الحكمة والمصلحة والكمال.
إعلام الموقعين ج3 ص117 طبع الشيخ منير الدمشقي.
ويقول القرافي:
الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسط "فالوسيلة تأخذ حكم الغاية" الفروق للقرافي ج2 ص32، أستاذ الدكتور سلام مدكور أصول الفقه ص180 وما بعدها، الشيخ أبو زهرة الجريمة ص246.
مرحلة ارتكاب الفعل:
وجهة نظر كل من الشريعة والقانون في العقاب عليها.
تبدأ هذه المرحلة بإقدام الجاني على فعل من الأفعال هو الطريق إلى تحقيق الجريمة التي يريد ارتكابها.
وهذا الفعل الذي يبدأ به، وينظر إليه في حد ذاته بصرف النظر عن قربه، أو بعده من الركن المادي للجريمة.
فمن وجهة النظر التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
يحرم هذا الفعل الذي يبدأ به الجاني الإقدام على ارتكاب جريمته.
فمن يحاول فتح باب غير مأذون له في فتحه، قاصدًا من وراء فتح هذا الباب ارتكاب جريمة سرقة لزمتة العقوبة التعزيرية على محاولة فتح الباب هذه.
بل إن من يراقب بيتا لينقض على ما فيه، ويسرقه يعزر أيضًا على مجرد هذه المراقبة.
ومن يوجد في مكان، ومعه آلة من الآلات التي يستخدمها السراق في تسهيل عملياتهم الإجرامية، وكسر أقفال أبواب المتاجر مثلًا، في وقت غير معتاد السير فيه، أو في مكان ليس من حقه التواجد فيه في مثل الوقت الذي ألقي القيض عليه فيه، ومعه هذه الأدوات والوسائل حتى ولو لم يستخدم هذه الأدوات، أو الوسائل في شيء مما أعدت له، لزمته عقوبة تعزيرية مناسبة على هذا كله1، أما فقهاء القانون
1 الأحكام السلطانية للماوردي ص206-207ط مطبعة السعادة.
الوضعي، فإن الماديين منهم يرون أن لا عقاب إلا على البدء في تنفيذ الركن المادي للجريمة، وما عدا ذلك، فلا عقاب عليه عندهم.
وأما أصحاب المذهب الشخصي، فإنهم متفقون مع وجهة النظر الشرعية، ويرون أنه يكفي لتحقيق الشروع، أن يبدأ الفاعل في تنفيذ فعل ما سابق مباشرة على تنفيذ الركن المادي للجريمة، ومؤد إليه حتمًا، وهنا يأتي دور نية الشخص، ومعرفة أحواله لكي يمكن أن يبين قصده1.
هذه هي وجهة نظر كل من الشريعة والقانون، يبين منها حرص الشريعة على أمان الفرد، وأمن المجتمع صورة لا تخضع لمقاييس غير منضبطة.
1 يعتبر الجاني مرتكبًا لمعصية يعزر عليها، وبالتالي يعتبر شارعًا في الزنا إذا دخل منزل لمرأة التي يقصد الزنا بها، أو اجتمع بها في غرفة واحدة، أو قبلها أو ضمها، أو نعل ذلك من مقدمات الزنا، وهو يعاقب على =