الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوطء بعد النكاح الباطل
…
1-
الوطء بعد النكاح البالطل:
يراد بعقد النكاح الباطل: كل عقد أصابه خلل في أركانه، أو في شرط من شروط الانعقاد أو بعبارة أخرى، هو ما لم يصح إلا بأصله ولا بوصفه1.
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار الدخول في ظل العقد، والباطل زنا أم لا فيرى الإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري2، وزفر: أن من عقد على امرأة لا يحل له نكاحها لتحريمها عليه تحريمًا مؤبدًا أو مؤقتًا، ثم دخل بها، فإنه لا يجب عليه الحد بوطئها، حتى وإن علم أنها عليه حرام، وإنما يجب أن يعزر تعزيرًا شديدًا من باب الإصلاح والسياسة.
وعلل الإمام أبو حنيفة هذا الرأي القائل بعدم وجوب العقوبة الحدية بأن العقد، وإن كان باطلًا إلا أنه مضاف إلى محله، والمحلية عنده لا تعني قبول الحل، وإنما تعني قبول المقاصد من العقد، وقبول المقاصد من العقد أمر ثابت بالنسبة للمعقود عليها، لصحة ذلك بالنسبة لغيره عليها.
كما أن المعقود عليها -بالنسبة لمن وجد سبب التحريم بينها وبينه- محل نكاح في الجملة، وامتناع ثبوت حكم العقد بالنسبة له ناتج من وجود المنافاة -بين الحل، الذي هو أثر في الآثار المترتبة على العقد.
والحرمة التي نتجب من وجود العلاقة المقتضية للتحريم بينهما.
والعقد وإن كان وجوده غير نابت ولا مستقر، إلا أنه وجود تقوم به الشبهة التي تدرأ الحد، وتسقطه عند الإمام أبي حنيفة، ومن وافقه3.
1 أحكام الأسرة في الإسلام للأستاذ الدكتور سلام مدكور ج1 ص213، 221 ط الثانية سنة 1969م.
2 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، مات بالبصرة متواريًا من السلطان سنة 161هـ.
3 فتح القدير ج5 ص260-262 المبسوط ج9 85-86.
وقال أبو يوسف، ومحمد بوجوب الحد بالدخول في ظل عقد باطل ما دام من دخل في ظل هذا العقد قد علم أن التي عقد عليها، ودخل بها محرمة عليه تحريمًا غير مختلف فيه، فالوطء هنا قد وقع في فرج مجمع على تحريمه من غير ملك، ولا شبهة ملك، والواطئ أهل للحد عالم بالتحريم، فيجب الحد كما لو لم يوجد العقد وليس العقد شبهه؛ لأنه نفسه جناية هنا توجب العقوبة التي انضمت إلى الزنا، كما لو أكرهها ثم زنى بها.
فالعقد هنا لا أثر له؛ لأن محل العقد هو ما يقبل حكمه، وحكمه الحل والمعقود عليها هنا من المحرمات في سائر الحالات، فكان الثابت صورة العقد إلا انعقاده؛ لأنه لا انعقاد في غير المحل، كما لو عقد على ذكر.
ولأن العقد الصحيح لو انفسخ بالطلاق قبل أن يدخل على التي عقد عليها، ثم دخل بها بعد الطلاق، عوقب بالعقوبة الحدية، ولم يبق للعقد السابق أي أثر نفسخه، فما لم ينعقد أصلًا أولى1.
1 بين السرخسي ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة ومن وافقه، وما ذهب إليه أبو يوسف، ومحمد بقوله: "رجل تزوج امرأة ممن لا يحل له نكاحها، فدخل بها لا حد عليه، سواء أكان عالمًا بذلك، أم غير عالم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولكنه يوجع عقوبة إذا كان عالما بذلك، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كان عالمًا بذلك، فعليه الحد في ذوات المحارم، وكل امرأة إذا كانت ذات زوج، أو محرمة عليه على التأبيد.. والدليل عليه أن العقد لا يتصور انعقاده بدون المحل، ومحل النكاح هو الحل؛ لأنه مشروع لملك الحل، فالمحرمية على التأبيد لا تكون محلًا للحل، وإذا لم ينعقد العقد لا تحل له لا أنه لم يصادف محله فكان لغوا، كما يلغو إضافة النكاح إلى الذكور، والبيع إلى الميتة والدم، والدليل عليه أن العقد المنعقد لو رفع بالطلاق قبل الدخول لم يبق شبهة مسقطة للحد، فالذي لم ينعقد أصلًا أولى، المبسوط ج9 ص85-86، فتح القدير ج5 ص26.
وقال فقهاء الشافعية بوجوب الحد في وطء المحرمة بنسب، أو رضاع أو مصاهرة، سواء أكان ذلك في ظل عقد أم لا؛ لأنه وطء صادف محلًا مقطوعًا بتحريمة ولا شبهة فيه، أما إذا كان الواطئ بجهل الذي بينه، وبين الموطوءة، ولم يظهر كذبه، فقد ذهب الأدرعي إلى أن الظاهر تصديقه، وكذا لو جهل تحريمها عليه بالرضاع، أو بكونها مزوجة، أو معتدة، وأمكن جهله بذلك.
وتحد هي أن علمت التحريم:
يبين الشربيني الخطيب ذلك في قوله: "ويجب الحد في وطء محرم بنسب، أو رضاع أو مصاهرة، وإن كان تزوجها؛ لأنه وطء صادف محلًا ليس فيه شبهة، وهو مقطوع بتحريمه، فيتعلق به الحد".
ثم يقول: لو ادعى الجهل بتحريم الموطوءة بنسب لهم يصدق لبعد الجهل بذلك. قال الأذرعي: إلا أن جهل مع ذلك النسب، ولم يظهر لنا كذبه، فالظاهر تصديقه، أو بتحريمها برضاع، فيقولان: أظهرها كما قال الأذرعي: تصديقه أن كان ممن يخفى عليه ذلك، أو بتحريمها بكونها مزوجة، أو معتدة وأمكن جهله بذلك صدق بيمينه، وحدت هي دونه إن علمت تحريم ذلك، ويحد في وطء نكاح أخت نكحها على أختها، وفي وطاء من ارتهنها، وفي وطء مسلمة نكحها وهو كافر، ووطئ عالمًا بالحال.
وفي وطء وثنية، أو مجوسية نكحها مسلم، ويحد في وطء مطلقته ثلاثًا، وذات زوج وملاعنة، ومعندة لغيره، ومرتدة"1.
وقال فقهاء الحنابلة بوجوب الحد على كل من تزوج ذات محرم ودخل بها؛ لأنه دخول في ظل نكاح باطل للإجماع على تحريم المدخول بها عليه، والعقد في مثل هذا لا تدوم به شبهة؛ لأنه كأن لم يوجد، والشبهة لا تقوم إلا إذا كان المبيح صحيحًا، والعقد هنا باطل، وفعله جناية تقتضي عقوبة أخرى تضم إلى عقوبة الزنا، ما دام الفاعل عالمًا بالتحريم.
أما لو كان جاهلًا بالحكم كمن يتزوج امرأة في عدتها ثم يدخل بها، وأمكن تصور جهله، فلا حد عليه؛ لأن مثل هذا الحكم يخفى على غيره أهل العلم2. والمشهور عند المالكية أنه لا حد عليه حتى، وإن كان عالمًا3، وذهب فقهاء الشيعة إلى القول بعدم وجوب الحد، فيما جهل تحريمه مما ذكر من الوطء بشبهة الجهل بشرط أن يكون الجهل عن قصور، أو تقصير في المقدمات مع اعتقاد الحلية حال الوطء، وأما الجهل بالحكم عن تقصير، فلا يعتد به ويجب معه الحد.
وذلك؛ لأن الجهل الأخير وجد معه العلم بالحكم الظاهري، ولذا قالوا بوجب الحد على من تزوجت في عدة طلاق لزوجها عليها الرجعة فيه، ما دامت تعلم أن عليها عدة، وأن كانت لا تدري كم هي؛ لأنها ما دامت علمت أن عليها العدة لزمتها، الحجة، فتسأل حتى تعلم4.
1 مغني المحتاج ج4 ص146.
2 المغني ج8 ص182-183.
3 الخرش ج8 ص78.
4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص169.
وذهب فقهاء المالكية إلى القول بأن من يعقد على امرأة محرمة عليه تحريمًا مؤيدا، ثم بدخل بها، فإنه يلزمه الحد، ولا يعتد بذلك العقد الذي دخل عليها في ظله، ولا تقوم به شبهة1.
أما من كان تحريمها عليه تحريمًات مؤقتًا كأخت زوجته مثلًا، فإنه إذا عقد عليها ودخل بها، فإن فقهاء المالكية يفرقون -في القول بالحد حينئذ- بين حالتين:
الأولى: إذا كانت أخت زوجته من النسب، فإنه يجب الحد.
الثانية: إذا كانت أخت زوجته من الرضاع، فإنه لاحد عند بعضهم؛ لأن دليل التحريم بالنسبة للجمع بين الأختين من الرضاع جاء من السنة بخلاف دليل تحريم الجمع بين الأختين من النسب، فقد جاء به القرآن الكريم.
يقول الخرش مبينًا ذلك كله:
وكذلك لا حد على من تزوج أختًا على أختها ودخل بهما، وهل لا حد سواء كانت الأخت من نسب أو رضاع؛ لأن الآية اقتضت تعميم الأختين من نسب أو رضاع، أو محل عدم الحد إذا كانت الأخت من رضاع؛ لأن تحريم الجمع حينئذ -بالنسبة، وأما لو كانت من نسب، فإنه يحد إذا وطئها لتحريم ذلك بالكتاب، وإليه ذهب بعض شيوخ
1 يقول الخرش: "وكذلك يحد من وطئ الحرمة بصهر مؤبد بنكاح، أو بملك.. أن تزوج زوجة أبيه، أو زوجة ولده حدان كان عالمًا بتحريم ذلك، وإذا حد بالوطء المحرمة بالصهر، فأولى من وطئ محرمة بالنسب، أو بالرضاع بنكاح؛ لأنهما لا يكونان إلا مؤبدين بخلاف الصهر قد يكون مؤبدًا
…
الخرش ج8 ص76، حاشية الدسوقي ج4 ص315.
عبد الحق، وإلى هذا أشار بقوله:"وهل الأخت النسب لتحريمها بالكتاب تأويلان"، ولا حد على من تزوج المرأة على عمتها مثلًا؛ لأن التحريم لذلك بالسنة لا بالكتاب"1، ومن قال بإسقاط الحد في ذلك أوجب عقوبة تأديبية موجعة.
وقال ابن حزم بمثل ما قال به جمهور الفقهاء: "من أن من وقع على ذات محرم كأمه، وأخته أم امرأة أبيه أو عمته، أو خالته، أو واحدة من ذوات محارمة بصهر، أو رضاع -فسواء أكان ذلك بعقد، أو بغير عقد- هوزان عليه الحد، ولا عبرة بعقده على واحد، من هؤلاء؛ لأن وجود عقده على واحدة منهن كلا وجوده إلا إذا كان جاهلًا، فلا شيء عليه.
أما من وقع على امرأة أبيه -بعقد أو بغير عقد، أو عقد عليها باسم نكاح، وإن لم يدخل بها -فإنها بفعل ولا بد- محصنًا كان أو غير محصن ويخمس ماله، وسواء أمه كانت أو غير أمه، دخل بها أبوه أو لم يدخل بها2، وذهب فقهاء الشيعة إلى من أن زنى بذات محرم يقتل محصنًا كان أو غيره3، أما من تزوج خامسة، فإن فعله
1 الخرش ج8 ص76-79، حاشية الدسوقي ج4 ص315-317.
2 استدل ابن حزم لذلك بما روي عن البراء بن عازب، قال: لقيت خالي ومعه الراية، فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن اضرب عنقه، وأخذ ماله "يقول ابن حزم معلقًا على هذا الحديث: هذه آثار صحاح تجب بها الحجة"، ويقول الشوكاني: هذا الحديث، رواه الخمسة، ولم يذكر ابن ماجه، والترمذي أخذ المال، مراجع المحلى ج12 ص107-233، نيل الأوطار ج7 ص130.
3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص188-192.
لا يسمى زواجًا، وإنما هو عهر وعليهما الحد، إن كانا عالمين بأن ذلك لا يحل، ولا حد على من جهل تحريم ذلك، ومثلهما من تزوج امرأة في عدتها، ومن طلق ثلاثًا قبل الدخول، أو بعده ثم وطئ1.
وما ذهب إليه جمهور الفقهاء من إيجاب الحد على كل من دخل على امرأة، وعاشرها معاشرة الأزواج في ظل عقد نكاح هو ما أميل إليه، وأرجحه حفظًا على روح الإسلام، وأخلاقياته وكيان الأمة، وروابطها الشرعية المقدسة؛ لأن من يقدم على ذلك، وهو عالم بتجريم فعله -الذي هو من المحرمات البينة الواضحة- لا شك أنه إنسان عابث منحرف الطبع.
وما قيمة إتيانه فعلًا باطلًا محرمًا في صورة قيامه بعقد نكاحه على من لا تحل له.
إن فعله هذا هو في حد ذاته جريمة تضاف إلى جريمة زناه المتمثل في دخوله بمن عقد عليها عقدًا باطلًا، ومثل هذا لا يتصور القول بإسقاط الحد عنه تذرعًا بوجود شبهه ترتبت على عقده الباطل.
إن العقد الباطل لا يجوز أن يترتب عليه سوى عقوبة من قام به، أن جاز أن يترتب عليه شيء -هذا بالنسبة لإيجاب الحد.
أما ما ذهب إليه ابن حزم، ومن وافقه من القول بقتل من وقع على امرأة أبيه، أو ذات محرم، فهو قول يتفق على إطلاقه2، والذي أميل إليه، أن من وقع منه ذلك، فهو قد ارتكب جريمة الزنا، ويلمزه بها حدها، فإن تكرر منه ذلك بالنسبة لزوجة أبيه، أو ذات محرم فإنه إن جاز قتله، فإنما يكون على سبيل العقوبة السياسية لا الحدية، ولا يخفى ما ذكره فقهاء الشيعة عند قبولهم القول بشبهة الجهل من اشتراط أن يكون هذا الجهل ناشئًا عن قصور، لا عن تقصير إنه قول له وجاهته؛ لأن ادعاء الجهل أمر سهل يستطيع التذرع به من انحرف طبعه، وساء خلقه
1 يقول ابن حزم: وأما من طلق ثلاثًا، ثم وطئ فإن كان عالمًا أن ذلك لا يحل، فعليه حد الزنى كاملًا وعليها كذلك؛ لأنها أجنبية، فإن كان جاهلًا فلا شيء عليه، ولا يلحق الولد هنا أصلًا؛ لأنه وطء فيما لا عقد له معها -لا صحيحًا ولا فاسدًا، المحلى ج13 ص219-221.
2 يراجع فتح القدير ج5 ص261.