الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: شبهة الملك
وتتأتى شبهة الملك عندما يكون للفاعل نوع ما من الملك في المحل الذي نيط الفعل به.
ويترتب على وجود هذه الشبهة درء العقوبة الحدية عن هذا الفاعل الذي ثبت له نوع من الملك في المحل الذي نيط به الفعل الجنائي.
وقد عد فقهاء الأحناف هذه الشبهة ضمن ما أطلقوا عليه شبهة المحل، ووافقهم في ذلك أيضًا فقهاء الشافعية، فشبهة المحل عندهم تشمل كلا من شبهة الدليل، وشبهة الحق وشبهة الملك، كما سبق بيانه عند الحديث عن شبهة الحق، والملك الذي تنشأ عنه هذه الشبهة، إما أن يكون ملكًا خالصًا للمحل الذي قام بالفعل به، ووقع الاعتداء عليه سواء أكان ملكًا حقيقًا، أم ملكًا حكميًا.
وإما أن يكون مشتركًا، وإما أن يكون لشخص آخر غير الفاعل، إلا أن مالكه قد أباحه لهذا الذي قد وقع منه الفعل الجنائي، إلى غير ذلك من أنواع الملك التي ستضح فيما يأتي من أمثلة، قامت في كل منها شبهة الملك، وترتب على وجودها دراء العقوبة عن الفاعل.
1-
شبهة سببها الملك الخالص:
أ- وتقوم هذه الشبهة في حق من يطأط أمته التي بينها، وبينه حرمة نسب لكنها
لا تعتق بملكه لها، كعمته أو ابنة أخيه مثلًا فمثل هذا لا تلزمه العقوبة الحدية
نظرًا لقيام شبهة الملك في حقه، وهي التي ترتب عليها عدم إلزامه الحد.
والذين أسقطوا العقوبة الحدية هنا ألزموا الجاني عقوبة تعزيرية رادعة، يقول الخرشي عند حديثه عن شبهة الملك المسقطه للعقوبة الحدية: "وكذلك يؤدب من اشترى أمة لا تعتق عليه بنفس الملك كعمته، وابنة أخيه، وما أشبه ذلك ثم وطئها وهو عالم بتحريمها، وإنما لم يحد لعدم انطباق حد الزنا عليه، ويلحق به الولد، وتباع عليه خشية أن يعود لوطئها ثانية1.
ويقول ابن قدامة: وإن اشترى أمه أو أخته من الرضاعة ونحوهما، ووطئها فذكر القاضي عن أصحابنا أن عليه الحد؛ لأنه فرج لا يستباح بحال، فوجب الحد بالوطء كفرج الغلام2، وقال بعض أصحابنا: لا حد فيه وهو قول أصحاب الرأي والشافعي؛ لأنه وطء في فرج مملوك به يملك المعاوضة عنه، وأخذ صداقه فلم يجب به الحد كوطء الجارية المشتركة.
فأما إن اشترى ذات حرمة من النسب ممن يعتق عليه، ووطئها3 فعليه الحد لا نعلم فيه خلافًا؛ لأن الملك لا يثبت فيها فلم توجد الشبهة، وقد ذكر الشيرازي أن للشافعي رأين في هذا: إحدهما أنه يجب عليه الحد؛ لأنه ملكه لا يبيح وطأها بحال من الأحوال، فلم يسقط الحد.
والثاني: أنه لا يجب عليه الحد، وهو الصحيح؛ لأنه وطء في ملك فلم يجب به الحد4.
1 الخرشي ج8 ص78، حاشية الدسوقي ج4 ص316، ويراجع ما جاء في فتح القدير ج5 ص252-2537 البحر الرائق ج5 ص12-17.
2 أي يحرم وطؤها كما يحرم على مالك الغلام وطؤه.
3 المغني ج8 ص184.
4 المهذب ج2 ص268 مغني المحتاج ج4 ص144.
ب- شبهة تقوم بسبب الملك الحكمي، وذلك كما في حق الأب الذي يسرق مال ابنه كما مر، أو يطأ الجارية التي يمكلها ابنه، فإن هذا الأب تقوم في حقه شبهة الملك الحكمي؛ لأنه مالك حكمًا لكل ما يمتلكه ابنه، وعليه فإن هذا الملك الحكمي تنشأ عنه شبهة تسقط العقوبة الحدية.
يقول ابن قدامة: الأب إذ وطئ جارية ولده، فإنه لا حد عليه في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك وأهل المدينة، والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور وابن المنذر: عليه الحد إلا أن يمنع منه إجماع؛ لأنه وطء في غير ملك، أشبه وطء جارية أبيه.
ولنا أنه وطء تمكنت الشبهة منه فلا يجب به الحد، كوطء الجارية المشتركة والدليل على تمكن الشبهة قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنت ومالك لأبيك"، فأضاف مال ولده إليه وجعله له، فإذا لم يثبت حقيقة الملك، فلا أقل من جعله شبهة دارئه للحد الذي يندرئ بالشبهات؛ ولأن القائلين بانتفاء الحد في عصر مالك والأوزاعي، ومن وافقهما قد اشتهر قولهم، ولم يعرف لهم مخالف، فكان ذلك إجماعًا، ولا حد على الجارية؛ لأن الحد انتفى عن الواطئ لشبهة الملك، فينتفي عن الموطوءة كوطء الجارية المشتركة؛ ولأن الملك من قبيل المتضايفات إذا ثبت في أحد المتضايفين ثبت في الآخر فكذلك شبهته، ولا يصح القياس على وطء جارية الأب؛ لأنه لا ملك للولد فيها، ولا شبهة ملك بخلاف مسألتنا1.
2-
شبهة الملك المشترك:
وتقوم هذه الشبهة في حق المحارب المستحق جزءًا من الغنيمة إذا
1 المغني لابن قدامة ج8 ص185، ويراجع فتح القدير ج5 ص252، الخرشي ج8 ص78، مغني المحتاج ج4 ص145.
قام بسرقة بعض هذه الغنيمة قبل أن تقسم على مستحقيها، فالسرقة هنا قد تحققت صورتها بأخذ المحارب المال خفية، لكنه لما كان مالكا لجزء من المال الذي أخذ منه خفية ملكية صحيحة، غير أنها لم تتأكد بالقسمة أنتجت هذه الملكية غير المستقرة شبهة تدرء الحد عنه1.
وتقوم شبهة الملك المشترك أيضًا في حق كل من يقع منه فعل جنائي على محل له فيه شركة.
كمن يطأ أمة مشتركة بينه وبين غيره، والعقوبة الحدية وإن سقطت على الجاني بسبب قيام شبهة الملك المشترك، إلا أنه يلزم بعقوبة تعزيرية موجعة ورادعة.
يقول الخرشي: يؤدب من وطئ أمة مشتركة من أحد الشريكين، أو الشركاء؛ لأن الشريك له في الأمة المشتركة ملك قوي، والشبهة إذا قويت تدرء الحد أي تسقطه2.
وقد ذكر ابن قدامة أن أب ثور قد خلف جمهور الفقهاء، وقال بوجوب الحد على من وطئ جارية مشتركة بينه، وبين غيره.
غير أن ابن قدامة قد رجح رأي الجمهور على أساس أن وجود الملك المشترك يدفع الحد عن الجاني في هذه المسألة3.
1 جاء في حاشية الدسوقي ج4 ص315- أن الجندي في الحربة السيرة إذا وطئ أمة من الغنيمة قبل قسمتها، فلا حد عليه؛ لأن له سهمًا في الغنيمة، وإن كان قد حدد بعده بخلاف من الأسهم له في الغنيمة فإنه يحد.
2 الخرشي ج8 ص78، شرح القدير ج5 ص252، مغني المحتاج ج4 ص145، المهذب ج2 ص45، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ج2 ص137.
3 المغني ج8 ص184.
3-
شبهة إباحة الملك:
يأتي القول بهذه الشبهة في حالة ما إذا مالك الأمة لغيره وطأها، وقد ذهب الفقهاء في حكم هذا، وما يجب به إلى ما يأتى:-
أ- ذكر الشربيني الخطيب إنه حكي عن عطاء جواز إباحة مالك الأمة لغيره وطأها1.
كما ذكر الخرشي عند حديثه عن هذا: أن القول بعدم الحد بوطء الأمة المحللة ما هو إلا مراعاة المذهب عطاء القائل بجواز التحليل ابتداء2، كما جاء في الروضة البهية: وتباح الأمة لغير مالكها بالتحليل، وحل الأمة بذلك هو المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعًا، ولا بد من صيغة دالة عليه مثل أحللت لك وطأها، أو جعلتك في حل من وطئها، وفي صحته بلفظ الإباحة قولان، والأشبه أنه ملك يمين لا عقد نكاح؛ لأن عقد لازم ولا شيء من التحليل بلازم3، وجاء في الاستبصار تحت عنوان "أبواب تحليل الرجل جاريته لأخيه"، يجوز أن يحل الرجل جاريته لأخيه المؤمن، وروي في ذلك عدة أخبار عن فقهاء الشيعة4.
1 مغني المحتاج ج4 ص145، عطاء بن أبي رباح المكي القرشي، مولى أمي خيثم، من كبار التابعين ولد في خلافة عثمان، سمع العبادلة الأربعة، أحد شيوخ الشافعية.
2 الخرشي ج8 ص79.
3 الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج2 ص113، نقلًا عن أ. د/ سلام مدكور من كتاب نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء.
4 الاستبصار فيما اختلف من الأخبار لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى في سنة 460هـ جـ3، القسم الأول ص135-141 مطبعة النجف سنة 1956 نقلًا عن أ. د/ سلام مدكور.
ب- وجاء في المغني أنه حكي عن النخعي أنه يعزر، ولا حد عليه أي أن من وطئ جارية زوجته لا يلزمه بذلك الحد؛ لأنه يملك امرأته، فكانت له شبهة في مملوكتها، حتى وإن لم تحلها له1.
جـ- ذكر الخرشي عند شرحه لعبارة المصنف "وكأمة محللة وقومت، وإن أبيا" المشهور أنه لا حد على من وطئ أمة قد حللها له مالكها للشبهة، وإنما عليه الأدب فقط، وسواء أكان عالمًا بالتحليل أم جاهلًا، والولد لاحق به؛ لأنه وطء الشبهة، وتقوم تلك الأمة على واطئها لتتم الشبهة، وسواء أرضيا بذلك أي صاحبها والواطئ لها أم لا، وعدم الحد مراعاة لمذهب عطاء القائل بجواز التحليل ابتداء2.
د- جاء في المغني أن من وطئ جارية امرأته بإذنها، فإنه يجلد مائة، ولا يرجم أن كان ثيبًا، ولا يغرب إن كان بكرًا، وإن لم تكن أحلتها له، فهو زان حكمه حكم الزاني بجارية الأجنبي.
وقد اختار هذا الرأي ابن قدامة، بقوله: ولنا: ما روى أبو داود بإسناده عن حبيب بن سالم أن رجلًا يقال له عبد الرحمن بن حنين، وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير، وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدناك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمناك بالحجارة، فوجدوها أحلتها له فجلد مائة3.
1 المغني ج8 ص186- النخغي أبو عمران إبراهيم بن زيد بن الأسود بن النخع الفقيه الكوفي النخعي تابعي مات سنة 95، وقيل: سنة 96، ونسبته إلى النخع، وهي قبيلة، كبيرة مذجح باليمن.
2 الخرشي وبهامشه حاشية العدوي ج8 ص79 ط دار الفكر بيروت.
3 المغني ج8 ص186.
هذه هي جملة أقوال من رأوا الإباحة، وأسقطوا العقوبة بها، ومن رأى إلزام الواطئ العقوبة التعزيرية سواء أعلم تحليل مالكها له ذلك أم لم يعلم.
ورأى من قصر ذلك على تحليل المرأة جاريتها لزوجها، وإلزامه الجلد مائة إن فعل ثيبًا أو بكرًا.
هـ- روي عن عمر وعلي ومالك، والشافعي وقتادة1، وغيرهم أن وطء الأمة التي أحلتها له زوجه كوطء الأجنبية سواء بسواء؛ لأنه لا شبهة له فيها، فأشبه وطء جارية أخيه أو أخته؛ ولأنه إباحة لوطء محرمة عليه، فلم يكن شبهة كإباحة الملاك2.
كما جاء في فقه الشيعة الإسماعيلية، "عن جعفر بن محمد أنه نهى عن عارية الفرج كالرجل يبيح للرجل وطء أمته، أو المرأة تبيح لزوجها، أو لغيره وطء أمتها من غير نكاح ولا ملك يمين، وقال جعفر بن محمد: عارية الفرج هي الزنا وأنا بريء إلى الله ممن يفعله، والقرآن ينطق بهذا قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3.
فلم يبح الله تعالى وطء الفروج إلا بوجهين: بنكاح، أو بملك
1 قتادة، هو أبو دعامة العروسي الأعمى، كان أحفظ أهل زمانه توفي سنة 117هـ. المعارف لابن قتيبة ص203 نقلًا عن نظرية الإباحة للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص148.
2 المغني ج8 ص186.
3 الآيات 5، 6، 7 من سورة المؤمنين.
يمين1، ويعلق الدكتور سلام مدكور على ما ذهب إليه القائلون بجواز إباحة مالك الأمة لغيره أن يطأها بقوله: وهذا مسلك من مسالك الشيعة الجعفرية التي نرى شذوذها، وأنها لا تتفق مع مذهب من مذاهب غيرهم من المسلمين، ولا تتمشى مع ما عرف من أحكام الدين، وأصوله العامة مهما كان لهم تأويل، أو تبرير.
فإن هذه الأبضاع "الفروج" محرمة في أصلها، ولم تستبح في الإسلام إلا بالعقد، أو ملك اليمين عند وجود الرق، لا بما يسمونه ملك المنفعة، والظاهر أن هذا تطرف إليهم من قياس فاسد لا يعتمد على مصدر من مصادر الشرع المعقول منها والمنقول.
وهو أشبه شيء بمذهبهم في المتعة التي هي في حقيقتها احتيال على الزنا، وإباحة صوره باسم الدين، افتراء على الله، بل إباحتهم أبضاع الإماء لغير مالكها أكثر شذوذًا من إباحتهم للمتعة، فقد يكون في تلك بعض الشهبة من ظواهر بعض النصوص2.
وما ورد من أقوال تجيز إباحة مالك الأمة لغيره أن يطأها، فهي أقوال مردودة حتى وإن أسندت لأي إمام من الأئمة3.
لأنه لا يعقل أن يجيز إمام ما هو مخالف لما علم من الدين بالضرورة، كما أن ما رواه الخرشي من أنه بلغه ذلك عن بعض البربر وغيرهم، فهي رواية ضعيفة لا سند لها، ومثل هذه لا يجوز الاعتماد عليها
1 دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد ج2 ص245، نقلًا، عن الإباحة للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص225.
2 نظرية الإباحة ط دار النهضة والفقهاء للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص226- ط دار النهضة العربية سنة 1965م.
3 يراجع الخرشي، وبهامشه حاشية العدوي ج8 ص79.
كما أنها رواية عن قوم لا قوم لهم في المسائل الفقهية بل هم قوم جاهلون، ولو كانوا غير ذلك لكانوا مرتدين، وفي كلا الحالين لا قول لمثلهم في المسائل الفقهية.
وعليه فلا شبهة في مثل ذلك، وما ذهب إليه النخعي من القول بالشبهة على أساس أن الزوج يملك امرأته هو قول مردود.
لأن عقد الزواج لا يفيد ملك الرجل لزوجته، وإنما يفيد إباحة معاشرتها، والاستمتاع بها ولا يحق له امتلاك ما لها من أموال وغير ذلك، وحتى وإن أمكن القول بوجود شبهة له في مالها بحكم المخالطة، وإباحة الانتفاع به بأمرها، وعليه فالقول بوجود مثل ذلك بالنسبة للجارية التي تملكها الزوجة مردود؛ لأن إباحة الوطء حق لله سبحانه وتعالى بين الطريق إليه، وليس لغيره ترخيص فيه أو إباحة.
لأنه كما يقول أستاذي الدكتور سلام مدكور: إن كل ملك في الإسلام لا يأخذ صفة الإباحة الشرعية بمجرد إذن صاحبه، إلا إذا كان على وفق إذن الشارع1.
ولم يبق بعد هذا القول حجة لمخالف، أو رأي يعتد به.
4-
ذكر فقهاء الأحناف أن الإمام أبا حنيفة -رضي الله تعالى عنه- يرى أن من استأجر امرأة ليزني بها، فلا حد عليه، وإنما يعاقب تعزيريًا لقيام شبهة الملك باستجاره إياهال ليزني بها.
لأن المستوفي منها هو المتعة، وهي المعقود علهي في الإجارة أما لو
1 نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص227.
استأجرها لعمل آخر من الأعمال، ثم وطئها فإنه يعاقب بالعقوبة الحدية؛ لأن المعقود عليه غير الوطء.
فقد جاء في البحر الرائق: لا يجب الحد بوطء من استأجرها ليزني بها عند أبي حنيفة، وقالا -الصاحبان- يجب الحد لعدم الشبهة، ولهذا لا يثبت النسب وتجب العدة، وله -أي لأبي حنيفة- أن الله تعالى سمى المهر أجرة بقوله تعالى:{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فصار شبهة؛ لأن الشبهة ما يشبه الحقيقة لا الحيقية، فصار كما لو قال: أمهرتك كذا لأزني بك، قيدنا بأن يكون استأجرها ليزني بها؛ لأنه لو استأجرها للخدمة، فزنى بها يجب الحد اتفاقًا؛ لأن العقد لم يضف إلى المستوفي بالوطء، والعقد المضاف إلى محل يورث الشبهة في ذلك المحل لا في محل آخر.
واستدل الإمام أبو حنيفة لذلك بما روي من أن امرأة جاءت أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه، فقالت له: إنها استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرء أمير المؤمنين الحد عن هذه المرأة.
وبما روي أيضًا من أنه جاءته امرأة أخرى، فقالت له: إنها سألت رجلًا مالًا، فأبى الرجل أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرء أمير المؤمنين الحد عنها أيضًا، وقال هذا مهر.
هذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه1.
1 ذكر صاحب المبسوط أن الإمام أبا حنيفة يرى أن من استأجر امرأة ليزني بها، فزنى بها فلا حد عليهما، وذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى إلى وجوب الحد في هذه الحالة لتحقق فعل الزنا منهما. =
أما الأئمة الثلاثة، فقد قالوا بوجوب الحد في مثل هذا لعموم الآيات القرآنية الموجبة للحد، ولعموم النصوص المأخوذة من السنة أيضًا، وعدم تخصيصها بغير المستأجرة للزنا، أو استثنائها من عموم الآيات.
وكذا لوجود المقتضي لوجوب الحد، وادعاء وجود الشبهة هنا نتيجة عقد استئجاره إياها ادعاء لا طائل تحته1، وما ذهب إليه الأئمة الثلاثة هو ما يقبله العقل، ويتفق مع تعاليم الشريعة الغراء؛ ولأنه لو أخذ بما ذهب إليه أبو حنفية لكان ذلك سبيلًا للفساق، والفجار تحت سمع وبصر الفقه الإسلامي، وبحماية منه، وهذا مما لا يقبل، أما ما استدل به أبو حنيفة حتى وإن صحت روايته، فقد يكون هناك ما قد ظهر للخليفة العادل عمر الغيور على حرمات الإسلام، وحدوده من أمور قد أغفلها الرواة ولم يذكروها، وسهو الرواة أمر ليس ببعيد، وفوق ذلك كله لا يجوز تخصيص عموم النص بمثل هذه الروايات المتعارضة وأهداف التشريع، هذه هي الشبهات التي تتعلق بالركن الشرعي، للجريمة وهي في جملتها تنضوي تحت شبهة الدليل بمفهومها العام،
= واحتج الإمام أبو حنيفة بما روي أن امرأة استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ عمر رضي الله عنه الحد عنهما، وبما روي أيضًا عن عمر من أن امرأة سألت رجلًا مالًا، فأبى أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ الحد، وقال:
هذا مهر: ولا يجوز أن يقال: إنما دراء الحد عنهما؛ لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش؛ لأن هذا المعنى لا يوجب سقوط الحد عنه، وهو غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالًا، كما ذكر في المبسوط ج9 ص58 البحر الرائق لابن نجيم ج5 ص19-20، فتح القدير ج5 ص262، تبيين الحقائق ج3 ص184.
1 المغني ج8 ص211-212، تحفة المحتاج ج3 ص134، منح الجليل ج7 ص488.
نظرًا؛ لأنها في جملتها شبهات ننتجت لدى القائلين بها من وجود دليل من الأدلة المتعمدة عندهم، أو نتيجة ترجيح رأي على آخر لدى فقيه من الفقهاء.
ومن هنا فهي كلها لا تخرج عن شبهة الدليل، ولا يخفى أن شبهة الجهة التي يقول بها فقهاء الشافعة والحنابلة، ما هي إلا محصلة لاختلاف الفقهاء على إيجاب الحد نتيجة اتيان فعل ما من الأفعال، أو عدم إيجاب الحد بذلك.
بمعنى أن بعض الفقهاء يرى الحد جزاء ما وقع من فعل، والبعض الآخر لا يرى على اتيان ذلك الفعل، وعليه فإن شبهة الجهة يتسع مفهومًا ليشمل كل خلاف في إيجاب الحد.
والمسائل الخلافية مسائل ورد فيها أكثر من رأي نتيجة تعارض الأدلة، أو ثبوت دليل إيجاب الحد بفعل من الأفعال عند بعض الفقهاء، وعدم ثبوت ذلك الدليل عند الآخرين.
وعليه فمرجع الاختلاف ناشيء عن الدليل ومتعلق به، ولا يخفى أن بعض هذه الشبهات، وإن دخلت تحت المفهوم العام لشبهة الدليل، إلا أن بعضها يتميز عن غيره بنوعية تعليل، أو جوانب أو إضافات لا تتوافر في باقي الشبهات التي تنضوي تحت المفهوم العام لشبهة الدليل.
ومن هنا تسمياتها بمسميات متغايرة حسب ما توافر فيها من جوانب خاصة، أو تعليل متميز.