الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: عند فقهاء الشريعة
اهتم فقهاء الشريعة الإسلامية، وعنوا عناية فائقة بالجرائم الحدية، وتحدثوا عنها حديثًا تناول هذه الجرائم، وعقوباتها من كل نواحيها وأركانها وشروط إثباتها.
ولكنهم لم يعرضوا هذا كله مصنفًا، بجمع كل ما يتصل بالجريمة، وعقوبتها في صورة متتابعة متكاملة.
وإنما جاء حديثهم عن الجرائم وعقوباتها، وما يتصل من شروط وأركان، وما يعتري الأفعال المجرمة من شبهات تخرجها عن دائرة التجريم الحديث، حديثًا متناثرًا.
لهذا سأعرض ما جاء من تعريف للشبهة عند بعض الفقهاء الذين وضعوا تعريف لها مثل فقهاء الأحناف.
أما من لم يضعوا تعريفًا مستقلًا لها، فسأحاول أن أجمع ما جاء من حديث لهم من الشبهات، وأستخرج مه ما يرسم، ويحدد معنى الشبهة عندهم.
وهذا البيان الذي وضعه الجرجاني للشبهة بيان لها بحسب حال الجاني الذي اختلط عليه حل الفعل وتحريمه، ولا يوجد ما يقوي أحد الاحتمالين عند الجاني، أو يغلب أحدهما على الآخر1.
وتردد الفعل بين الحال والحرمة في نظر الجاني، ينتج غالبًا من اختلاف الفقهاء في بيان الحكم مسألة لم يرد في حكمها نص صريح.
ففي مثل هذه المسألة يعمل كل من الفقهاء رأيه في استنباط حكم لها، بقدر ما يتيسر له من علم ومعرفة واجتهاد، حتى يوصله ذلك كله إلى استنباط حكم معين، وقد يكون هذا الحكم مخالفًا لما رآه الآخرون من الفقهاء، كما قد يكون موافقًا لرأيهم، فإذا كان بعض الفقهاء قد رأى رأيا في حكم مسألة ما من المسائل، ورأى البعض الآخر رأيا مخالفًا
1 التعريفات لعلي بن محمد الحسيني الجرجاني ت816هـ ص11.
لنفس المسألة، فإنه في مثل هذا ومع وجود التعارض، والاختلاف في الرأي ينتج عدم تيقن حكم لمثل هذه المسألة الخلافية.
ويتضح هذا فيما يأتي من أمثلة للمسائل الخلافية بين الفقهاء.
أ- يرى فقهاء الأحناف القول بصحة الزواج الذي لم يتول العقد فيه ولي الزوجة نيابة عنها.
وعلى هذا فمن عقدت لنفسها عقد زواج، فإن هذا العقد صحيح عند الأحناف ما دام قد حضره الشاهدان.
فإذا تم دخول في ظل مثل هذا العقد، فإن الفقهاء الأحناف يرون أنه دخول مباح؛ لأنه تم في ظل عقد صحيح1.
أما باقي فقهاء المذاهب الأربعة، فإنهم يرون أن الزواج الذي يتم من غير حضور ولي الزوجة -التي تحتاج إلى وجوده لكونها بكرا ليس لها مخالطة سابقة، أو ممارسة لمثل هذا- زواج باطل.
وعلى هذا، فإنه إذا حدث دخول في ظل مثل الزواج، فإنه يصبح دخولًا حرامًا تلزم به العقوبة، لكونه تم في ظل عقد غير صحيح2، وعلى هذا أصبح للفقهاء رأيان في حكم هذه المسألة.
1 فتح القدير لابن الهمام ص256 "ط مصطفى الحلبي".
2 وقد استدل أصحاب هذا الاتجاه على ما ذهبوا إلى القول به بما روى ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". وبما روت السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة، فهو سفاح خاطب، وولي وشاهدان". المهذب للشيرازي ج2 ص40، الخرشي ج3 ص165 وما بعدها. الوجيز لأحكام الأسرة أد. سلام مدكور ص115.
-117 "ط النهضة العربية سنة 1978م".
الأول يقول بصحة الزواج، وعليه فالدخول مباح.
والثاني يقول ببطلان مثل هذا الزواج، وعليه فالدخول حرام.
ووجود هذا الخلاف ينتج عنه عدم تيقن الحكم بالحل، أو الحرمة وينتج عن ذلك شبهة تدرأ الحد عمن وقع منه الدخول في ظل مثل هذا الزواج.
ويماثل ما سبق مما اختلف الفقهاء فيه، اشتراط وجود شاهدي عقد الزواج وقت العقد.
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط وجوج الشاهدين عند قيام العقد وانعقاده، فإذا تأخر وجودهما لم ينعقد العقد وعلى هذا، فإن من يدخل في ظل عقد لم يحضر وقت إجرائه شاهدان، فإنه يكون قد أتى فعلا حرامًا معاقبًا عليه حتى، ولو حضر شاهدان بعد إجراء العقد، وقبل الدخول وأخبرا بما حدث، أما فقهاء المالكية فإن الشهادة، وإن كانت مطلوبة عندهم وقت العقد، إلا أن المشهور عندهم أن وقت وجوبها هو قبل الدخول.
وعلى هذا فإنهم يرون صحة الزواج الذي لم يحضره شاهدان، لكنه لا يجوز الدخول إلا بعد حضور الشاهدين.
فوجود الشاهدين عند المالكية شرط لإباحة الدخول، وليس حضورهما شرطا لصحة العقد.
وعلى هذا، فمن دخل في ظل عقد لم يحضر إجراءه شاهدان، لكنهما حضرا بعد إجراء العقد، فإن دخوله هذا مباح عند فقهاء المالكية.
ويبين من هذا أن للفقهاء رأيين في حكم من دخل في ظل عقد لم يحضره شاهدان وقت إجرائه، وإن كانا قد حضرا قبل الدخول، وأخيرًا بما تم من عقد.
الرأي الأول:
وهو رأي الجمهور، إن مثل هذا الدخول يعد دخولًا في ظل عقد غير صحيح.
الرأي الثاني:
وهو المشهور عند فقهاء المالكية. أن مثل هذا الدخول دخول في ظل عقد صحيح1.
ووجود مثل الخلاف ينتج عنه عدم تيقن الحكم، الأمر الذي يصبح معه الفاعل مترددًا في حكم فعله بين الحال أو الحرمة.
ووجود الفاعل على هذه الحالة ينهض شبهة تدرأ الحد عنه.
وهكذا كل خلاف ينتج تردد الفعل بين الحل، والحرمة بسبب تعارض أقوال الفقهاء، وتفسيراتهم المتباينة.
وقد ذكر ابن قدامة جانبًا من ذلك قوله: "ولا يجب الحد
1 حاشبة الباجوري ج2 ص102 المهذب ج2 ص40، فتح القدير ج3 ص256 وما بعدها، الخرشي ج3 ص167، الوجيز لأحكام الأسرة أ. د: سلام مدكور ص45.
بالوطء في نكاح مختلف، كنكاح المتعة1 أو الشغار2، والتحليل3 والنكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها من طلاق بائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن، ونكاح المجوسية، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيها شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات"4.
وتعريف الجرجاني للشبهة تعريف قاصر، نظرًا؛ لأنه حصر الشبهة
1 نكاح المتعة هو كما يقول ابن عطية: أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل مسمى على ألا ميراث بينهما، وقيل: هو ما ليس بولي ولا شاهدين، وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة قال: وإنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح والطلاق، والعدة والميراث بين الزواج والمرأة نسخت. القرطبي ج2 ص1700 "ط دار الشعب. المهذب ط دار النهضة العربية".
2 نكاح الشغار هو: أن يزوج ابنته أو أخته من رجل، على أن يزوجه ذلك ابنته، أو أخته، "ويكون بضع كل واحدة منهما صداقًا للأخرى".
وهذا الزواج غير جائز، فإذا عقد عقده كان باطلًا. المهذب ج2 ص46.
3 نكاح التحليل: أن يتزوج رجل امرأة ليحللها لزوجها الذي طلقها للمرة الثالثة، وهو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن مسعود لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل. "أو أن يتزوجها على أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما، وذلك ليحللها لزوجها الأول، وفيه رأيان الأول أنه باطل، والثاني أنه زواج صحيح ويبطل الشرط.
القرطبي ج2 ص957، المهذب ج2 ص957، المهذب ج2 ص46 أحكام الأسرة أ. د: سلام مدكور ص100.
4 المغني لابن قدامة ج8 ص183-184 "ط مكتبة الجمهورية العربية".
في الركن الشرعي للجريمة، ولم يشمل ما قد يطرأ على دليل إثباتها من شبهات،
وهذا قصور مخل بكون التعريف جامعًا مانعًا.
كما عرف ابن الهمام الشبهة بأنها ما يشبه الثابت، وليس بثابت1 أورد ابن قدامة اثناء حديثه، عمن تزوج ذات محرم ما يفيد الإباحة، والحل إلى حد أن الذي قام بالفعل قد اعتقد حله، وإباحته نتيجة وجود هذه الشكلية التي رتب عليها اعتقاده.
أما من حيث الواقع، فإن الفعل لا يزال كما هو محرم، وغير مباح وهو الجانب الواقعي كان بعيدا كل البعد عن فكرة من قام بالفعل معتقدًا إباحته وقت قيامه به.
فلو لم يكن معتقدًا إباحة فعله نتيجة وجود هذا المبيح من الناحية الصورية، لم تعن عنه هذه الصورة شيء، ولم تنهض بها شبهة تترتب عليها درء العقوبة2.
ج- أما فقهاء الشافعية، فقد تحدثوا عن الشبهات حديثًا بينوا فيها أنواعها وذكروا أمثلة لها، ولكنهم لم يوردوا في شروحهم الفقهية تعريفًا للشبهة، وإن كان قد جاء في بعض كتب القواعد، والفروع ما يمكن عده عريفًا للشبهة بأنها ما تسقط الحد3.
1 فتح القدير ج5 ص249 "ط مصطفى الحلبي، وقد جاء مثل ذلك -أيضًا في بدائع الصنائع ج7 ص36 "ط المطبوعات العلمية" البحر الرائق ج5 ص12.
2 ورد هذا التعريف بمعناه في المغني لابن قدامة ج8 ص182 "ط مكتبة الجمهور العربية".
3 مغني المحتاج للشربيني ج4 ص144 "ط مصطفى الحلبي سنة 1958م.
كما جاء فيما أورده السيوطي بأنها ما جهل تحليله على الحقيقة، وتحريمه على الحقيقة1.
وهذا التعريف للشبهة يوافق تمامًا ما عرفها به الجرجاني الحنفي من تعريف سبقت الإشارة إليه.
غير أن جهل الحكم، وعدم الاهتداء إلى قوم فصل فيه لا يجوز عده من الشبهات المسقطة للعقوبة الحدية على إطلاقه؛ لأن منه ما يعتبر كذلك، ومنه ما لا يعتد به الفقهاء، ولا يعدونه مما يدرأ الحد، وسيأتي بيان ذلك بما يسمح به المقام من تفصيل.
د- أما فقهاء الماليكة، فإنهم مع اهتمامهم بالحديث عن الشبهات، وبيانهم لأنواعها إلا أنهم لم يوردوا لها تعريفًا، وإن كان فيما قالوه عنها من بيانهم لأنواعها، وحديثهم عن كل نوع، وذكرهم أمثلتها وما يعتد به، وما لا يعتد. قد وافقوا ما قاله الفقهاء الذين سبق ذكر تعريفاتهم للشبهة، بصورة تكاد تكون مطابقة، إلا في القليل النادر، والذي سيأتي ذكره عن الحديث عن الشبهات التي تعتري أركان الجريمة، وعرض وجهات نظر الفقهاء في كل منها2.
هـ- أما فقهاء الشيعة، فإنهم قد عرفوا الشبهة عند حديثهم عن جريمة الزنا، فقالو أبو القاسم الموسري: المراد بالشبهة الموجهة لسقوط
1 الأشباه والنظائر للسيوطي ص109-110، المواهب السنية لسليمان الجوهري الشافعي، مطبوع بهامش الأشباه والنظائر للسيوطي ص245-249.
2 الخرشي ج8 ص75-70، حاشية الدسوقي ج4 ص313 وما بعدها.
الحد: هو الجهل عن تصور، أو تقصير في المقدمات مع اعتقاد الحلية حال الوطء1.
ومع أنه واضح أن هذا التعريف قد ورد عند الحديث عن جريمة الزنا، إلا أنه قد ورد ما يفيد أنه هو تعريف الشهبة بصفة عامة، إذا ما قصرناه على قولهم: هو الجهل عن قصور، أو تقصير في المقدمات مع اعتقاد الحلية.
وذلك نظرًا لما جاء في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله حين قال: لو أن رجلًا دخل في الإسلام، وأقر به ثم شرب الخمر، وزنا وأكل الربا، ولم يتبين له شيء من الحلال والحرام، لم أقم عليه الحد إذا كان جاهلًا2 من هذا يتبين أن الشبهة عندهم تتمثل في الجهل بالحكم مع اعتقاد الحلية.
ومنشأ هذه الاعتقاد الخاطئ يرجع إلى كون الجاهل بالأحكام قريب عهد بالإسلام، أو نشأ في منأى عن الناس، ولم تتح له معرفة الأحكام الصحيحة.
مع ملاحظة أن يكون جهلة هذا لقصوره لا لتقصيره؛ لأن من كان جهله ناتجًا عن تقصيره، فإنه جهل لا يلتفت إليه، ويلزم من كان جهله لهذا السبب بعقوبة ما يأتيه من أفعال
1 مباني تكملة المنهاج ط1 ص169 "ط النجف الأشرف بالعراق".
2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص167 "ط النجف الأشرف بالعراق".
وقد بينوا ذلك بقولهم: أما من كان جاهلًا بالحكم عن تقصير، وملتفتا إلى جهله حال العمل، حكم عليه بالزنا وثبوت الحد، وذلك؛ لأنه عالم بالحكم الظاهري، وجهله بالواقع لا يكون -في مفروض المسألة- عذرًا له، ومثلوا لذلك بامرأة تزوجت في عدتها حالة كونها تعلم أن عليها عدة، ولكنها لا تدري كم هي، حيث ألزمها بالحد، وعللوا ذلك بقولهم: إذا علمت أن عليها العدة لزمتها الحجة، فتسأل حتى تعلم1.
وعرفها صاحب البحر الزخار بأنها: "توهم الفاعل، أو المفعول بأن ذلك الفعل سائغ له".
أو بأنها "ما أوجبت ظن الإباحة"2.
وهذان التعريفان قد توسعا في الشبهة كثيرًا عن التعريف الأول.
حيث جعلا مجرد توهم الفاعل، أو المفعول أن ما يقوم به من أعمال سائغ له جائز أن يأتيه، شبهة من الشبهات الدارئة للحد.
ومجرد التوهم هذا لا ضابط له، وهذا أمر يفتح باب ادعاء الشبهة على مصراعيه.
وإن كان تقيد ذلك بقيد الجهالة المغتفرة أمر لا بد منه حتى يتسنى قبول هذين التعريفين.
1 البحر الزخار للمرتضى ج5 ص145-147 "ط الخانجي سنة 1948م".
2 التاج المذهب لابن قاسم العجس ج4 ص209-220 "ط مصطفى الحلبي سنة 1947م".
وهذا ما جاء على لسان جمهور فقهاء الشيعة، وإن لم يكن قد جاء بلفظ يدل على تخصيص هذين التعريفين فقط، وإنما جاء في معرض الحديث عن الوطء بشبهة حين عرفه أبو القاسم الحلبي، ومن وافقه بأنه: الوطء الذي ليس بمستحق في نفس الأمر مع اعتقاد فاعله الاستحقاق، أو صدوره بجهالة مغتفرة في الشرع، أو مع ارتفاع التكليف بسبب غير محرم1.
وبهذا يمكن ضبط ما قد يفهم من عموم التوهم، ورده إلى الحد الذي -يحكم القول بالشبهة، وهو الجهالة المغتفرة شرعًا.
ولا يخفى ما في تعريف فقهاء الشيعة للشبهة من قصور أيضًا، إذ أنهم لم يشيروا إلى ما قد يعتري طرق الإثبات من شبهات.
وقد عرف الشيخ أبو زهرة الشبهة بأنها: الحال التي يكون عليها المرتكب، أو تكون بموضوع الارتكاب، ويكون معها المرتكب معذورًا في ارتكابها، أو يعد معذورًا عذرًا يسقط الحد، ويستبدل به عقاب دونه، على حسب ما يرى الحاكم2.
وهذا التعريف الشبهة حاول فيه واضعه أن يتتبع الحالات التي تنشأ الشبهة عند وجودها، سواء أكانت لصيقة بالجاني، أو وجدت في محل الجناية، وموضوعها.
1 المختصر النافع لأبي القاسم الحلبي ص290-292 ط وزارة الأوقاف سنة 1377هـ الخلاف لأبي جعفر الطونسي ج30 ص180-182 "ط طهران سنة 1382هـ.
2 العقوبة للشيخ محمد أبو زهرة ص218 "ط دار الفكر العربي".
كما تضمن هذا التعريف أيضًا شرط قيامها بالنسبة للجاني، وهو أن يكون معذورًا في ارتكابها، أو يعد في ذلك.
كما أن قول الشيخ أبو زهرة: ويستبدل به عقاب دونه، يفهم منه أنه لا بد من إلحاق عقاب بالجاني الذي قامت الشبهة في حقه، ولا يخفى أن من الشبهة ما يترتب على قيامها إسقاط العقوبة كلية، وتبرئة المدعى عليه مما نسب إليه تبرئة لا يمكن معها إلحاق أي عقوبة به على الواقعة المنظورة.
وهذا التعريف للشبهة لم يتضمن أي إشارة إلى ما يمكن أن يشوب أدلة الإثبات من شبهات يترتب على قيامها، ووجودها درء العقوبة الحدية.
وبعد هذا العرض لتعاريف الشبهة عند الفقهاء، يمكن أن أستخلص من كل هذه التعاريف أن الشبهة المسقطة للعقوبة الحدية هي:-
ما يعتري أحد أركان الجريمة، أو دليل إثباتها من خلل يدرأ عقوبتها الحدية، ويؤدي هذا التعريف أن أحد أركان الجريمة -وعلى الأخص ركنها الشرعي، أو المعنوي- لم يخلص من شبهة، سواء أكانت في انطباق النص، أو كانت نتيجة تعارض أدلة التحريم والإباحة.
أو كانت الشبهة لصيقة بالفاعل من حيث ما يعتري أهليته، وقصد مما يخص الركن المعنوي.
كما يشمل التعريف أيضًا، ما يمكن أن يعرض دليل إثبات الجناية من شبهة يصبح بعدها غير كاف لإقامة العقوبة الحدية على
الجاني، سواء أكان دليل الإثبات إقرار الجاني، أم شهادة الشهود، ويتضح هذا كله، فيما يأتي من أمثلة:
أ- شبهة أنتجها اختلاف الفقهاء حول انطباق اللص على المكان الذي وقعت فيه الجريمة.
وذلك في حالة ما إذا ارتكب مسلم جناية حدية في دار الحرب، فالفقهاء قد اختلفوا في إلزامه عقوبة جنايته الحدية، فمنهم من يرى إلزامه العقوبة الحدية على جنايته.
ومنهم من يرى عدم إلزامه ذلك نظرًا لعدم قدرة الإمام على الجاني في المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة.
وأصحاب هذا الرأي يشترطون لإقامة العقوبة الحدية أن يكون الإمام قادرًا على مرتكب الجناية الحدية وقت ارتكابه لها، فإذا كان قد ارتكبها في دار حرب، فإنه حينئذ لا تلزمه العقوبة الحدية لعدم قدرة الإمام عليه، وقت ارتكابه الجناية، ووجود هذا الخلاف ينهض شبهة ينتج عنها درء الحد عن الجاني1.
ب- شبهة نتجت من وجود تعارض بين أدلة الحل والحرمة في ظاهر الأمر، وإن كانت هذه الأدلة غير متعاونة في الحقيقة، ولكن بعضها قد خصص إطلاق البعض الآخر وعمومه.
ويتحقق ذلك في حالة ما إذا سرق الوالد من مال ولده.
إذ أن نصوص تجريم السرقة تشمل في عمومها هذه الواقعة، غير
1 شرح فتح القدير ج5 ص266 "ط مصطفى الحلبي".
أنه قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يفيد حل مال الابن لأبيه بوجه ما من الوجوه التي تثبت له فيه حقًا.
وعلى هذا تكون الواقعة قد خصصت بنص آخر، يعارض في حكمه ومدلوله انطباق النص العام على الواقعة، وما يترتب عليه، ووجود مثل هذا ينتج شبهة يترتب على وجودها عدم إلزام الوالد عقوبة السرقة الحدية إذا سرق مال ولده1.
ج- شبهة نتجت بسبب جهل الجاني جهلًا يعتد به، ومن أمثلتها التي ذكرها الفقهاء، الرجل الذي يدخل بيته، ويأوي إلى فراشه، فيجد فيه امرأة فيعتقد أنها زوجته نظرًا لتقاربهما، وتشابههما فيواقعها على أساس اعتقاده أنها زوجته، ثم يبين أنها امرأة أخرى غير زوجته.
ففي مثل هذه الحالة من جهل الفاعل جهلًا ينتفي معه قصده الجنائي، يرى الفقهاء قيام شبهة الجهل هذه بدرء العقوبة الحدية عن الفاعل.
وهكذا كل ما ينتج انتفاء القصد الجنائي، أو يزيل أهلية الفاعل بحيث يوجد خلل في قيام الركن المعنوي للجريمة2.
د- أما ما يعتري دليل إثبات الجنايات الحدية من شبهات، فيتوقف على نوع دليل الإثبات.
1 فيض القدير ج2 ص50 "ط المطبعة التجارية طبعة أولى سنة 1357هـ" المغني لابن قدامة ج10 ص152 "ط المنار ط أولى".
2 المغني لابن قدامة ج2 ص184 "ط مكتبة الجمهورية العربية".
فإذا كان الإقرار، فإن ما يعتريه من شبهات كثير منها على سبيل المثال: كون الإقرار غير مفصل، كمن يقول: إنه زنى، ولم يزد على ذلك ولا يخفى أن كلمة الزنا كلمة تشمل الجناية الحدية وغيرها، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"العينان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"1.
فالإقرار بمثل هذه الصورة إقرار غير واضح، ولا تلزم المقر العقوبة الحدية بمثله، ومن ذلك أيضًا من يقر بأنه زنى بامرأة، فتكذبه المرأة، فإن من الفقهاء من يرى أن في تكذيبها له شبهة تدفع عنه العقوبة الحدية2.
أما إذا كان دليل الإثبات هو شهادة الشهود، وحضر الشهود متفرقين، أو لم تتفق أوصافهم للواقعة، فإن الفقهاء من لا يلزم العقوبة الحدية بمثل ذلك، لقيام شبهة في دليل الإثبات3.
هذا هو تعريف الشبهة، وبعض الأمثلة الموضحة له، من أنواع
الشبهات الكثيرة التي أوردها الفقهاء، والتي سأعرض لها بالتصنيف والبيان، موضحًا رأيهم في الاعتداد بها من عدمه، مبينًا العلاقة بيم الشبهة، وما يجرى مجراها من الشك أو النسيان والسهو، وما لذلك من أثر في كل من العبادات والمعاملات، وغيرهما من أبواب الفقه -بادئًا به ثم بما يليه.
1 مصنف عبد الرازق ج7 ص414 "ط بيروت سنة 1390هـ".
2 تبين الحقائق للزيلغي ج3 ص196، المغني ج8 ص309.
3 المغني ج8 ص193 "ط مكتبة الجمهورية العربية".
ما يجرى مجرى الشبهة من الشك والنسيان، أو السهو وآثاره في العبادات والمعاملات، وما يماثلها من أبواب الفقه.
أما الشك فأصله الضيق، وهو يقبض الصدر ويضمه، ويطلق على عدم التأكد. وقد أورد الشك بهذا المعنى كثيرًا في القرآن الكريم، فيقول الله سبحانه وتعالى مبينًا حال من اختلفوا في أمر عيسى عليه السلام، وسعوا في إيذائه:{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} 1.
ويقول تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} 2.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} 3.
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 4، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 5.
وعلى هذا، فالشك قريب من الالتباس الذي هو المعنى اللغوي للشبهة، أو موافق له، فمن شك في وقوع شيء، فقد التبس عليه الأمر ولم يصل فيه إلى يقين، ومن تيقن الطهارة ثم شك في وقوع الحدث منه، فإن الحدث والحالة هذه أشبه الشيء الثابت، وإن كان مشكوكًا فيه، ولذا فهو ليس بثابت من حيث سريان ما يترتب على ثبوته من أحكام، فهو إذا قد وافق الشبهة أيضًا، المعنى الاصطلاحي الذي ذكره فقهاء الأحناف "ما يشبه وليس بثابت".
أما السهو أو النسيان فمعناهما واحد، ولذا قال صاحب لسان العرب "السهو نسيان الشيء والغفلة عنه، وذهاب القلب عنه إلى غيره
1 من الآية 157 من سورة النساء.
2، 3 الآيتان 94، 104 من سورة يونس.
4، 5 من الآيتان 62، 110 من سورة هود، القرطبي ج4 ص3221.
والسهو في الصلاة الغفلة عن الشيء منها، والسهو في الشيء تركه عن غير علم، والسهو عن الشيء تركه من العلم1.
ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} 2، ولما كان الناس حميعًا معرضين للنسيان اعتبره الشارع الحكيم عذرًا رفع بسببه المؤاخذة عمن أتى سلوكًا آثمًا، وجعل كلمة حكمه الخطأ، أو انعدام الإرادة بالإكراه على إتيان فعل من الأفعال المعاقب عليها.
وعلى هذا فمن وقع في محظور نتيجة نسيانه، فلا إثم عليه بوقوعه في هذا المحظور، وإن كان يلزم بما ترتب على سلوكه هذا مما يتعلق بحقوق الآدميين، كما يلزم أيضًا بما فاته من واجبات يمكن أن تقضى، فمن لم يصل الفروض مثلًا لوقوعه في النسيان، لزمه قضاء هذه الفروض عند تذكره لها3.
وقد بين ذلك القرطبي عند حديثه عن قول الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 4، فقال: المعني: أعف عن إثم ما يقع هنا على هذين الوجهين أو أحدهما، كقوله عليه السلام:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" أي إثم ذلك، وهذا لم
1 لسان العرب ج19 ص132ط الدار المصرية للتأليف والترجمة.
2 الآية 5 سورة الماعون، تفسير القرطبي ج8 ص7302ط دار الشعب.
3 الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج5 ص149ط السعادة الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص217ط دار الكتب.
أصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص119ط الثانية.
4 من الآية 286 من سورة البقرة.
بختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء، أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه. والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيًا في رمضان أو حنث ساهيًا، وما كان مما يقع خطأ ونسيانًا1.
وعلى هذا، فإنه قد وضح ما بين الشبهة، والشك، والنسيان أو السهو من تشابه وإن كانت الشبهة أعم، سواء من حيث الإثراء أو التكوين؛ لأن منها ما ينتج عن الشك، ومنها ما ينتج عن النسيان، أو السهو ومنها ما ينتج عن غير ذلك.
كما أن الشك أعم من النسيان أو السهو؛ لأن منه ما ينتج عنهما، ومنه ما ينتج عن غيرهما.
كما أن الشبهة في الجنايات قد لا تزيل الأثر كلية، وإنما يقتصر تأثيرها على تغيير نوع العقوبة، أما ما ينشأ عن الشك والنسيان، أو السهو من آثار فإنه يغاير ذلك، ولبيانه أورد فيما يأتي بعض القواعد الفقهية التي تتصل بهذا، ذاكرًا ما ينتج عن تطبيقها من آثار في مسائل الفقه المختلفة، حتى يتضح ما بين الشبهة، وكل من الشك والنسيان، أو السهو من تشابه.
1 تفسير القرطبي ج2 ص239-1240 "ط دار الشعب".
القاعدة الأولى: اليقين لا يزال بالشك
ويراد بهذه القاعدة أن ما تيقن الإنسان وقوعه، فإنه يظل ثابتًا لا يرفعه ما يقع شك حياله؛ لأنه وقع يقينًا وما كان كذلك لا يرفعه إلا يقين مماثل له، ولا أثر للشك فيه.
وقد استدل على ذلك بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه فأخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"، رواه مسلم من حديث أبي هريرة1.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين؟ فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن صلى اثنتين أم ثلاثًا؟ فليبن على اثنتين
…
"
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن"، رواه مسلم2، فالشك في كل هذا لم يثبت به حكم، ولم يرتفع به يقين.
وهو في ذلك مثل الشبهة من حيث إنها لا يثبت بها أو معها عقوبة حدية، لكون الأصل براءة الذمة مما تلزم به العقوبة الحدية.
وهذا الأصل هو المتيقن، فلا يعدل عنه إلى غيره إلا بالأدلة اليقينية.
فمن تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو محدث، ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، فهو متطهر.
ومن شك في الطاهر المغير للماء، هل قليل أو كثير؟ فالأصل بقاء
1 صحيح مسلم ج1 ص156 "ط عيسى الحلبي".
2 صحيح مسلم ج1 ص229.
الطهورية مع أن تغير الماء قرينة تقوي كثرة المغير له، ومع ذلك طرحت ولم يلتفت إليها أخذا بالأصل، وهو بقاء الطهارة.
ومن ذلك ما لو أكل آخر الليل، وشك في طلوع الفجر صح صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل، وعلى العكس منه من أكل آخر النهار، وشك في الغروب فالأصل بقاء النهار.
وكما إذا وقع بيقين ثم شك في حدوث ما يفسخه، فالعقد قائم1 من هذا كله تبين أن اليقين لا يزال بالشك.
القاعدة الثانية: الأصل براءة الذمة
لا تختلف هذه القاعدة عن سابقتها كثيرًا؛ لأنها تعني الإبقاء على ما هو الأصل حتى يرفع بدليل يقيني، ولذا فإنه لما كان الأصل براءة الذمة من كل تبعة، فإنه لا يجوز العدول عن هذا الأصل، إلا إذا قام دليل يقيني ينفيه، ويثبت الإدانة والتبعة.
ويمثل ما بين هذه القاعدة، وسابقتها من تقرب قول الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه:"أصل ما انبنى عليه الإقرار أني أعمل اليقين وأطرح الشك، ولا أستعمل الغلبة"2.
ويمثل هذه القاعدة ما هو مطبق في الفقه الإسلامي من إلزام المدعي البينة؛ لأن الأصل براءة ذمه المدعى عليه، وإبقاء الأصل هو القاعدة.
وعلى هذا لو توجهت اليمين للمدعى عليه، فنكل فإنه لا يقضي بمجرد
1 الأشباه والنظائر الفقهية للسيوطي ص58-63 ط عيسى الحلبي أصول الفقه الإسلامي أ. د/ سلام مدكور ص339 ط دار النهضة العربية.
2 الأشباه والنظائر الفقهية للسيوطي ص59 ط الحلبي.
نكوله؛ لأن الأصل براءة ذمته، ولذا تعرض اليمين على المدعي حتى ينظر في أمر الحكم لصالحه بما ادعى به1.
ومن ذلك أيضًا ما إذا اختلف في قيمة التلف، حيث تجب قيمته على متلفه، كالمستعير، والغاصب، والمودع المتعدي، فالقول قول الغارم؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد.
وذكر السيوطي من الأمثلة المطبقة فيها هذه القاعدة أيضًا، أنه لو قال رجل: أن كان هذا الطائر غرابًا فامرأتي طالق، فقال رجل آخر كان موجودًا: إن لم يكن نفس الطائر -الذي أشار إليه الأول- غرابًا فامرأتي طالق، فطار الطائر، ولم يعرف، فإنه يباح لكل واحد من
1 ذكر ابن قيم أن الإمام الشافعي قال لبعض مناظريه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد الواحد، وذكر عمر بن حزم، والمغيرة بن شعبة قالا: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل رجلان يختصمان، مع أحدهما شاهد له على حقه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمين صاحب الحق مع شاهده، فاقتطع بذلك حقه".
وروى البيهقي أيضًا من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعثمان كانوا يقضون بشهادة الشاهد الواحد، ويمين المدعي"، قال جعفر: والقضاة يقضون بذلك عندنا اليوم.
وقد نسب إلى البخاري إنكار الحكم بشاهد ويمين، وقد ذكر ابن قيم أن عدم رواية البخاري حديثًا، أو أثرًا في الشاهد واليمين ظاهر في أنه لا يذهب إليه. وهذا ليس بصريح مذهبه، ولو صرح به فالحجة فيما يرويه لا فيما يراه.
الطرق الحكمية ص194، 202.
وقد أورد أستاذي الدكتور/ سلام مدكور أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بالشاهد بالشاهد واليمين على ما رواه مسلم عن ابن عباس، وأبو داود عن أبي هريرة والبيهقي، وكذا الإمام علي وهذا مذهب الشافعي، وأحمد والليث، في المال وما يتعلق به، ورد الآخرون شهادة الواحد مع اليمين.
الرجلين في الظاهر الاستمتاع بزوجته؛ لأن الأصل حل الاستمتاع بالزوجة ولا يعدل إلا بدليل يقيني، ولا يكفى الشك حتى وإن كان شكًا يصل في حق أحدهما حد اليقين، فإنه يبقي الأصل المتيقن في حق كل منهما ابتداء1.
ويوافق هذه القاعدة أيضًا ما جاء من الأصل العدم، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل.
ولهذا فإن عامل القراض لو قال: لم أربح مطلقًا، أو لم أربح إلا كذا، صدق في مقالته هذه ما لم يقم دليل على غير ما قال؛ لأن الأصل عدم الربح أو عدم الزيادة التي يطالب بها، هذه وما ماثلها مسائل فقهية ظهر فيها بوضوح أثر الشبهة، وما قاربها من الشك والسهو.
- وقضى فيها الفقهاء ببقاء ما هو متيقن، وطرح ما هو مشكوك فيه.
إذ إن بقاء المتيقن هو الأصل، وبراءة الذمة هي القاعدة، وما عداها لا بد وأن يثبت بدليل قوي يصل في قوته إلى حد اليقين، حتى يمكن رفعهما، وإحلاله محلهما.
1 السيوطي الأشباه والنظائر الدكتور/ سلام مدكور ص339 ط دار النهضة المصرية يراجع القضاء في الإسلام ص85.
وليس ذلك قاصرًا على باب من أبوبا الفقه دون بقية الأبواب، وإنما ما جاءت به هذه القاعدة يحكم أحكام أبواب الفقه المختلفة، وما تشتمل عليه من مسائل وقضايا، وعلى الأخص ما نحن بصدده من أحكام التشريع الجنائي.
لذا جاء ذكره هنا تتميمًا لما تتناوله هذه الرسالة من موضوع الشبهات لما بين هذا، وبين الشبهات من تقارب في المفهوم، واتفاق في الآثار.
أثر هاتين القاعدتين في التقنينات الحديثة:
يظهر أثر هاتين القاعدتين في التقنينات الجنائية الحديثة، واضحًا فقد نصت دساتير الدول المختلفة على الأخذ بهاتين القاعدتين1، كما طاللب كل المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان بمراعاة العمل في المواد الجنائية، والأدلة القانونية طبقًا لهاتين القاعدتين2، كما ينص فقه الإجراءت الجنائية على تفسير الشك لمصلحة المتهم، والربط بين هذه
1 نص الدستور السوداني على الأخذ بقاعدة الشك يفسر لمصلحة المتهم، وهي القاعدة المأخوذة من كون اليقين لا يزال بالشك. المادة 69 من الدستور السوداني.
كما ينص الدستور المصري الصادر في 1971 في مادته 67 بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولا يجب أن يطلب منه الدليل على براءة نفسه، بل المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته دون شك معقول، وقد نص على ذلك أيضًا قانون الإجراءات الجنائية السوداني رقم 65/ 1974م في المادة الثالثة.
2 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10/ 12/ 1948م، والمادة الرابعة عشرة من الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية، والسياسية، التي وافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/ 12/ 1966م.
القاعدة وأختها التي تفيد أن الأصل افتراض البراءة، كما جرى القضاء في الدولة العربية على مراعاة هذا، والأخذ بالقاعدتين السابقتين، من تفسير الشك لمصلحة المتهم، التي هي وليدة القاعدة الفقهية "اليقين لا يزال بالشك".
ومن أن الأصل في الإنسان البراءة، حتى تثبت إدانته بدليل قطعي، فقضت محكمة النقض المصرية بأن الأحكام في المواد الجنائية، يجب أن تبنى على الجزم، واليقين لا على الظن والاحتمال.؟
وأن الأحكام الصادرة بالإدانة يجب ألا تبنى إلا على حجج قطعية الثبوت تفيد الجزم واليقين.
هذا جانب من تطبيقات هاتين القاعدتين في النظم القانونية الحديثة، والأخذ بهما وإعمالهما لما قبل به، فقهاء الشريعة الإسلامية في مجال التجريم والعقاب.
وإن كانت القاعدتين قد توافق في العمل بهما في هذا المجال كل من الشريعة والقانون، إلا أن التنظيم الشريعي قد أعملهما منذ نزل من أربعة عشر قرنا، والتزمم بهما في كل أحكامه، أما النظم القانونية فلم تعرفهما إلا حديثا منذ عهد قريب، وإن كانت حتى بعد أن عرفتها، ونصت عليهما لم يلتزم بهما قضاتها في كثير من الأحكام التي يقضى بها في ظل الأحكام العرفية، أو العسكرية وما إلى ذلك.
كما أن أعمال الفقه الإسلامي لهاتين القاعدتين أوسع من أعمال التنظيم الوضعي لهما، فقد قصرهما الأخير على المجال الجنائي.
أما الفقه الإسلامي، فقد أعملهما في كافة فروعه الدينية والتكليفية، وفي كل أحكامه وقضاياه1.
1 الأشباه والنظائر للسيوطي ص56-65، 158 الأشباه والنظائر لابن تجيم ص56 وص15-156 ط سنة 1968م قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعز الدين بن عبد السلام ج2 ص32 ط سنة 1968م أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص339-340، دار النهضة أصول السياسة الجنائية أ. د: أحمد فتحي سرور ص141-142 ط 1972م. رؤوف عبيد، مبادئ الإجراءات الجناية ص676. وفي أصو النظام الجنائي الإسلامي أ. د: محمد سليم العوا ص91- 96 دار المعارف.