الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسلمِ" قال الترمذي: حديث حسن.
قلت: ما أعظم نفع هذا الحديث وأكثر فوائده، وبالله التوفيق.
باب بيان مهمات تتعلق بحدِّ الغيبة
قد ذكرنا في الباب السابق أن الغيبة: ذِكْرُكَ الإنسان بما يكره، سواء ذَكَرْتَهُ بلفظك أو في كتابك، أو رمزتَ أو أشرتَ إليه بعينك، أو يَدِك أو رَأسِكَ. وضابطه: كلُّ ما أفهمت به غيرك نقصانَ مسلم فهو غيبة
ــ
(أن يحقر أخاه المسلم) خبره ويستوي في حسب الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث لأنه مصدر قال بعضهم إذا كان ما بعده معرفة فرفعه على الخبرية والإضافة لفظية أو على الابتداء، وإن كان نكرة فرفعه على الابتداء فقط والإضافة معنوية ثم في هذه الجملة تفظيع لشأن الاحتقار وتعظيم له وذلك لأن الله عز وجل لم يحتقر الإنسان إذ خلقه في أحسن تقويم وخلق له ما في الأرض وسخر له ما في السموات وما في الأرض وسخر له الأنهار وسخر له الشمس والقمر دائبين وسخر له الليل والنهار وآتاه من كل ما سأله فمن حقر أخاه المسلم فقد حقر ما عظم الله وكفاه ذلك شراً، ومن احتقاره أن يسلم عليه فلا يرد عليه السلام. قوله:(حديث حسن) تقدم أنه جاء من حديث مسلم باختلاف يسير وحديث مسلم صحيح ولا يبعد أن يصير به حديث الباب صحيحاً وتكون صحته لغيره. قوله: (ما أعظم نفع هذا الحديث) أي حيث اشتمل على جميع ما يطلب فعله من الأفعال الجميلة، والأخلادق الجليلة، من التقوى ونصر المؤمن وإعانته وعلى ما يطلب تركه من الأخلاق الرذيلة من الكذب والخيانة، وترك نصر المؤمن والإعانة.
باب بيان مهمات تتعلق بحد الغيبة
قوله: (نقصان مسلم) ومثله كما علم مما تقدم الذمي ولذا عبر فيما يأتي آخر الباب بقوله: الضابط تفهيمك المخاطب تنقيص إنسان أي محترم وإلا فنحو الحربي لا
محرَّمة، ومن ذلك المحاكاة، بأن يمشي متعارجاً أو مطأطئاً أو على غير ذلك من الهيئات، مريداً حكايته هيئة من يتنقَّصه بذلك، فكل ذلك حرام بلا خلاف، ومن ذلك إذا ذَكَرَ مُصَنِّفُ كتابٍ شخصاً بعينه في كتابه قائلاً: قال فلان كذا مريداً تنقُّصه والشناعة عليه فهو حرام، فإن أراد بيان غَلَطِهِ لئلا يقلَّد، أو بيان ضعفه في العلم لئلا يغترَّ به ويقبل قوله، فهذا ليس غيبةً، بل نصيحةٌ واجبة يثاب عليها إذا أراد ذلك، وكذا إذا قال المصنف أو غيره: قال قوم أو جماعة كذا، أو هذا غلط أو خطأ أو جهالة
ــ
تحرم غيبته. قوله، (بأن يمشي متعارجاً الخ) قال الغزالي: هو أعظم الغيبة أي لأنه أبلغ في التصوير والتفهيم وأنكى للقلب. قوله: (ومن ذلك) أي ذكر الغير بما يكره (إذا ذكر مصنف كتاب الخ). قوله (قال فلان الخ) أي
لكون ذلك القول من الغلط الذي يكره قائله نسبته إليه (فإن أراد بيان غلطه) أي الشخص القائل فالمصدر مضاف للفاعل أو القول فالإضافة بيانية ومحل كونه عند إرادة بيان نحو غلطه لا يكون غيبة إذا كان على وجه النصيحة كما يؤذن به قول المصنف بل نصيحة لا على وجه التنقيص والفضيحة وإلا فيحرم ولو ضم إليه قصد إرادة البيان. قوله: (أو ضعفه) أي ضعف القائل بدليل قوله: لئلا يغتر به ويقبل قوله. قوله: (فهذا ليس بغيبة) أي وإن تأذى به من ذكر عنه لأنه عند عدم قصده إيذاءه انتفى عنه إثمها بل وجب عليه ذلك بذلاً للنصيحة وحفظاً للشريعة فلذا كان مثاباً عليها عند إرادة ذلك. قوله: (وكذا) أي ليس بغيبة (إذا قال المصنف قال قوم الخ) محله ما لم يفهم منه المخاطب معيناً ولو بقرينة خفية ويقصد المتكلم تنقيصه وإلا فيحرم نظير ما يأتي في قول المصنف ومن الغيبة قول فعل بعض النّاس كذا إذا كان المخاطب يفهمه بعينه ويوميء إليه تعليل المصنف بقوله: إنما الغيبة ذكر إنسان بعينه أو جماعة معينين، وقد تقدم أن الذكر لا يشترط اأن يكون بصريح العبارة بل يكفي ما يقوم
وغفلة ونحو ذلك فليس غيبة، إنما الغيبة ذِكْرُ الإنسان بعينه أو جماعة معينين.
ومن الغيبة المحرَّمة قولك: فعل كذا بعض النّاس، أو بعض الفقهاء، أو بعض من يدعي العلم، أو بعض المفتين، أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو يدَّعي الزهدَ، أو بعض من مرَّ بنا اليوم، أو بعض من رأيناه، أو نحو ذلك إذا كان المخاطَب يفهمه بعينه لحصول التفهيم. ومن ذلك غِيبة المتفقِّهين والمتعبِّدين، فإنهم يعرِّضون بالغيبة تعريضاً يفهم به كما يفهم بالصريح، فيقال لأحدهم: كيف حال فلان؟ فيقول: الله يصلحنا، الله يغفر لنا، الله يصلحه، نسأل الله العافية، نحمد الله الذي لم يبتلنا بالدخول على الظَّلَمة، نعود بالله من الشرِّ، الله يعافينا من قِلَّةِ الحياء، الله يتوب علينا، وما أشبه ذلك مما يفهم
ــ
مقامها في الإفهام ولو من التعريض والرمز والإشارة. قوله: (فليس غيبة) أي فلا حرمة. قوله: (إذا كان المخاطب يفهمه) أي ولو بقرينة خفية، وإلا: أي بأن لم يعرفه المخاطب فلا يحرم كما في الإحياء وغيره قال في الزواجر فإن قلت ينافيه قولهم تحرم الغيبة بالقلب أيضاً فلا عبرة بفهم المخاطب قلت: الغيبة بالقلب هي أن تظن السوء وتصمم عليه بقلبك من غير أن تستند في ذلك إلى مسوغ شرعي فهذا هو الذي يتعين أن يكون مرادهم بالغيبة بالقلب وأما مجرد الحكاية عن مبهم لمخاطبك ولكنه معين عندك فليس فيه ذلك الاعتقاد بالقلب فافترقا ثم أيد ذلك بكلام للإحياء في الغيبة وإنها عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء. قوله: (ومن ذلك غيبة المتفقهين الخ) في الزواجر من أخبث أنواع الغيبة غيبة من يفهم المقصود بطريقة الصالحين إظهاراً للتعفف عنها ولا يدري أنه بجهله جمع بين فاحشتي الريا والغيبة كما يقع لبعض المراءين أنه يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله
الذي ما ابتلانا بقلة الحياء الله يصلحنا وليس قصده بدعائه إلا أن يفهم عيب الغير اهـ. قوله: (فإنهم يعرضون الخ) ولا بد من قصد ذلك التعريض والتنقيص كما صرح به ابن حجر آنفاً.
منه تنقُّصه، فكل ذلك غِيبة محرَّمة، وكذلك إذا قال: فلان يبتلى بما ابتُلينا به كلُّنا، أو ما له حيلة في هذا، كلنا نفعله، وهذه أمثلة، وإلا
فضابط الغيبة: تفهيمك المخاطب نفص إنسان كما سبق، وكلُّ هذا معلوم من مقتضى الحديث الذي ذكرناه في الباب الذي قبل هذا عن "صحيح مسلم" وغيره في حد الغيبة، والله أعلم.
فصل: اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذِكرُها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنساناً يبتدئ بغيبة محرَّمة أن ينهاه إن لم يخف ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه ومفارقة ذلك المجلس إن تمكَّن من مفارقته، فإن قدَر على الإنكار بلسانه، أو على قطع الغيبة بكلام آخر، لزمه ذلك، إن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه: اسكت وهو يشتهي بقلبه استمراره، فقال أبو حامد الغزالي: ذلك نفاق لا يخرِجه عن الإثم، ولا بدَّ من كراهته بقلبه، ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة، وعجز عن الإنكار، أو أنكر فلم يقبل منه
ــ
قوله: (في حد الغيبة) وفي نسخة في حديث الغيبة أي الذي فيه حدها.
فصل
قوله: (يحرم على السامع استماعها) جعله في الزواجر من إفرادها حيث قال: أخبث أنواع الغيبة: الإصغاء للمغتاب على جهة التعجب ليزداد نشاطه واسترساله في الغيبة وما درى الجاهل أن التصديق بالغيبة غيبة بل الساكت عليها شريك المغتاب كما في خبر المستمع أحد المغتابين فلا يخرج عن الشركة إلا أن أنكر ولو بأن يخوض في كلام آخر فإن عجز فبقلبه اهـ، وكأنه أدخله تحت الذكر وأراد به ما يشمل الذكر بالقوة فإنه لما تسبب لها بإصغائه صار كأنه قالها. قوله:(أو قطع الغيبة بكلام آخر)
ولم يمكنه المفارقة بطريق حرم عليه الاستماع والإصغاء للغيبة، بل طريقه أن يذكر الله تعالى بلسانه وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضرُّ بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكَّن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرُّون في الغيبة ونحوها، وجب عليه المفارقة، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
ــ
أي يشغل المغتاب عن الغيبة فينتفي المحرم فهي قائمة مقام الإنكار عند عدم القدرة عليه كما يشعر به عبارة المصنف هنا وكلام الزواجر يقتضي أنه من أنواع الإنكار وإنه يكتفي به مع القدرة على صريح الإنكار باللسان وكلام المصنف أقعد لأن في الإنكار إعلاماً بأنها من المنكر الذي يتعين إنكاره على من يقدر عليه بخلاف قطعها بالخوض في كلام آخر فإنه محتمل لذلك ولغيره والله أعلم. قوله: (الاستماع) أي قصد سماعها لإسماعها أي وصولها لسمعه من غير توجه. قوله: (ليشتغل عن استماعها) أي فإن القلب ليس له إلا وجهة واحدة فإذا اشتغل بأمر منعه اشتغاله به من غيره قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . قوله: (وإصغاء) في مفردات الراغب أصغيت إلى فلان ملت بسمعي نحوه اهـ، فالعطف للتفسير والبيان. قوله:(فإن تمكن بعد ذلك) أي ما ذكر من الأعراض والتفكر في أمر آخر، وتمكنه منها بأن زال من المجلس من كان يخشى منه لو فارق
المجلس بحضوره. قوله: (قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه المؤمنون لأن علة النهي وهو سماع الخوض في آيات الله تشمله وإياهم ورأيت هنا بصرية ولذا تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة أي وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهم خائضون فيها والخوض أصله في الماء شبه تنقلهم في آيات الله بالخوض في الماء، وتنقلهم قولهم في الآيات هذا سحر هذا افتراء هذا أساطير الأولين. قوله:(فأعرض عنهم) أمر له عليه الصلاة والسلام بالإعراض
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وروينا عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه دعي إلى وليمة، فحضر، فذكروا رجلاً لم يأتهم، فقالوا: إنه ثقيل، فقال إبراهيم: أنا فعلت هذا بنفسي حيث حضرت موضعاً يُغتاب فيه النّاس، فخرج ولم يأكل ثلاثة أيام. ومما أنشدوه في هذا
ــ
عنهم وهو تركهم أي ترك الجلوس معهم، يبينه قوله تعالى وقد نزل عليكم الآية وفيها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره. قوله:(وإما ينسينك الشيطان) أي بشغله لك عن النهي عن مجالستهم. قوله: (فلا تقعد) أي معهم (بعد الذكرى) أي بعد ذكرك النهي أي تذكرك وما أحسن مجيء الشرط الأول بإذا التي للمحقق لأن كونهم يخوضون في الآيات محقق ومجيء الشرط الثاني بأن لأن أن لغير المحقق وجاء (مع القوم الظالمين) تنبيهاً على علة الخوض في الآيات والطعن فيها وإن سبب ذلك ظلمهم وهو مجاوزة الحد وما زائدة بعد إن الشرطية والفعل وفي لحقته النون الشديدة وكثر ذلك في القرآن ويجوز في غير القرآن حذف ما ونون التوكيد وحذف أيهما شئت فتقول: إما تقم أقم وإن تقومن أقم نص على ذلك سيبويه كذا في النهر لأبي حيان وبه يعلم ما في قول البيضاوي في قوله تعالى: {فإِمَّا تَرَيِنَّ} : ما مزيدة للتأكيد ولذا أكد بالنون. قوله: (وروينا عن إبراهيم بن أدهم) البلخي الولي الجليل من شيوخ الطائفة الجليلة الصوفية ومن رجال الرسالة القشيرية والقصة ذكرها في الرسالة فقال: وقيل دعي إبراهيم إلى وليمة الخ، قال شيخ الإسلام في شرح الرسالة: فيه دلالة على أن من حضر الغيبة ورضي بها كان شريكاً فيها ولما فرط إبراهيم في الحضور مع من لا يحترز منها أدب نفسه بالجوع ثلاثة أيام مقابلة للشيء بضده أي لأنه لما حضر ذلك المجلس لشهوة الطعام هذا مع أنه لم يرض الغيبة بل أنكرها بحسب قدرته وقام ولم يأكل اهـ. قو له: (ومما أنشدوه في هذا المعنى) قال في التمهيد أحسن محمود في قوله:
تحر من الطرق أوساطها
…
وعد من الموضع المشتبه
وسمعك صن عن سماع القبيح الخ
قال: وهذا مأخوذ من