الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المزاح
روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لأخيه الصغير:"يا أبا عُمَيرٍ ما فعَلَ النُّغَيْرُ".
ــ
باب المزاح
بكسر أوله مصدر مازح فهو بمعنى الممازحة وبضمه مصدر مزح كذا قرره جمع وفي المصباح مزح مزحاً من باب نفع ومزاحة بالفتح والاسم المزاح بالضم والمزحة المرة ومازحته ممازحة ومزاحاً من باب قاتل ويقال: إن المزاح مشتق من زحت الشيء عن موضعه وأزحته عنه إذا نحيته لأنه تنحية له عن الجد وفيه ضعف لأن باب مزح غير باب زوج والشيء لا يشتق مما يغايره في أصوله اهـ، وبالجملة هو انبساط مع الغير من غير إيذاء له وبه فارق الاستهزاء والسخرية وقد سئل بعض السلف عن مزاحه صلى الله عليه وسلم فقال: كانت له مهابة فلذا كان ينبسط النّاس بذلك:
يتلقى الندا بوجه صبيح
…
وصدور القنا بوجه وقاح
فبهذا وذا تتم المعالي
…
طرق الجد غير طرق المزاح
قال ابن قتيبة إنما كان صلى الله عليه وسلم يمزح لأن النّاس مأمورون بالتأسي به والاقتداء بهديه فلو ترك الطلاقة والبشاشة ولزم العبوس والقطوب لأخذ النّاس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء فمزح ليمزحوا ولا يناقض ذلك خبر ما أنا من الدد ولا الدد مني فإن الدد اللهو والباطل وهو كان إذا مزح لا يقول إلا حقاً وأخرج جمع عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يمزح ويقول: إن الله لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه.
قوله: (روينا في صحيحي البخاري ومسلم الخ) تقدم الكلام عليه في باب كنية من لم يولد له وكنية الصغير وروى هذه الجملة من الحديث الترمذي في الشمائل وابن السني في عمل اليوم والليلة. قوله: (كان يقول) على سبيل الممازحة وجبر خاطر ذلك الصغير لما أصابه من الحزن على ذلك الطير (لأخيه)
وروينا في كتابي أبي داود والترمذي عن أنس أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا ذا الأذُنيِن" قال الترمذي: حديث صحيح.
وروينا في كتابيهما عن أنس أيضاً "أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله احملني، فقال: "إني حامِلُكَ على وَلَدِ النَّاقَةِ"، فقال: يا رسول الله: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهَلْ
ــ
من أمه.
قوله: (وروينا في كتابي أبي داود والترمذي) وأخرجه ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة.
قوله: (قال له) على سبيل المزاح، في الشمائل للترمذي بعد تخريج الحديث قال محمود: يعني ابن غيلان قال أسامة يعني يمازحه قال الشيخ وإنما كان مزاحاً مع كون معناه صحيحاً يقصد بالإفادة لأن في التعبير عنه بذا الأذنين مباسطة وملاطفة حيث سماه بغير اسمه فهو من جملة مزحه ولطيف أخلاقه كما قال للمرأة عن زوجها: ذاك الذي في عينه بياض. قوله: (يا ذا الأذنين) أي يا صاحب الأذنين ووصفه به مدحاً لذكائه وفطنته وحسن استماعه لأن من خلق الله له أذنين سميعتين كان أدعى لحفظه ووعيه جميع ما يسمعه وبما تقدم عن الترمذي ظهر وجه كون هذا الكلام من المزاح.
قوله: (وروينا في كتابيهما) وكذا أخرجه الترمذي في الشمائل: أن رجلاً كان فيه نوع من البله، ولم أر من بين اسمه. قوله:(احملني) أي أركبني على دابة. قوله: (إني حاملك) أي مريد لحملك. قوله: (على ولد الناقة) وفي الشمائل على ولد ناقة بحذف أل وهذا الكلام أراد به صلى الله عليه وسلم المباسطة للسائل والملاطفة معه مما عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك وإظهاراً لتحققه فيه فإن أكثر أهل الجنة البله على ما ورد والمراد بهم البله في أمور الدنيا مع كمال فطانتهم في أمور العقبى فهم من الأبرار عكس صفة الكفار التي قال الله تعالى في بيانها: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} قال بعض العارفين سموا بلها حيث رضوا بالجنة ولم يطلبوا الزيادة قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} فالحسنى الجمعة والزيادة اللقاء. قوله: (وما أصنع الخ) سبق إلى خاطر السائل استصغار ما يصدق عليه لفظ البنوة كما هو المتبادر للفهم من ذلك فقال: ما أصنع الخ. قوله: (وهل
تَلِدُ الإبِلُ إلَاّ النُّوقُ؟ " قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: "إني
ــ
تلد الإبل الخ) أي إن الإبل صغرت أو كبرت ما تلدها جميعها (إلا النوق) جمع ناقة وهي أنثى الإبل قال أبو عبيد ولا تسمى ناقة حتى تجذع كأنه يقول له لو تدبرت لم تقل ذلك ففيه مع المباسطة الإيماء إلى إرشاده غيره إلى أنه ينبغي إذا سمع قولاً أن يتأمله ولا يبادر برده إلا بعد أن يدرك غوره ولا يسارع إلى ما يقتضيه الصورة.
قوله: (وروينا في كتاب الترمذي) أي جامعه وكذا رواه في شمائله. قوله: (إنك تداعبنا) بدال وعين مهملتين أي تمازحنا قال الزمخشري: الدعابة كالنكاية والمزاحة مصدر داعب إذا مزح والمداعبة مفاعلة منه اهـ، وقال في المصباح: دعب يدعب كمزح يمزح وزناً ومعنى فهو داعب بالضم اسم لما يستملح من ذلك اهـ، قال بعضهم وتصدير الجملة:"إن" يدل على إنكار سابق كأنهم قالوا سبق أنك منعتنا عن المزاح ونحن أتباعك مأمورون باتباعك في الأفعال والأخلاق فقال: لا أقول إلا حقاً جواباً للسؤال على وجه يتضمن العلة الباعثة على نهيهم عن المداعبة والمعنى إني لا أقول إلا حقاً فمن قدر على المداعبة كذلك فجائزة والنهي عما ليس كذلك وأطلق النهي نظراً إلى حال الأغلب من النّاس كما هو من القواعد الشرعية في بناء الأمر على الحال الأغلب وقال آخر وجه الاستبعاد لوقوع المزاح منه صلى الله عليه وسلم جليل مكانته وعظيم رتبته فكأنهم سألوا عن الحكمة في ذلك، وأما قول الطيبي تصدير الحديث:"إن" الدالة على الإنكار كأنهم قالوا: لا ينبغي لمثلك في صدر الرسالة ومكانتك من الله المداعبة فرد عليهم من باب القول بالموجب وقال إني لا أقول إلا حقاً أي نعم أداعب غير أني لا أقول إلا حقاً الخ فالمداعبة كذلك لا تنافي الكمال بل هي من توابعه وثباته حيث جرت على طبق القانون الشرعي اهـ. فتعقب بأنه يبعد أن يخطر ببال الصحب أنه يصدر عنه صلى الله عليه وسلم ما لا ينبغي فضلاً عن
اعتراضهم عليه فكأنهم قصدوا السؤال عن المداعبة هل هي من خصائصه
لا أقُولُ إلاّ حَقاً" قال الترمذي: حديث حسن.
وروينا في كتاب الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تُمَارِ أخاكَ، ولا تُمازِحْهُ، وَلا تَعِدْهُ مَوْعِداً فَتُخْلِفَه".
قال العلماء: المزاح المنهي عنه، هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحاك وقسوة القلب، وَيشْغَلُ عن ذكر الله تعالى والفكر في مهمات الدين،
ــ
فلا يقتدي به فيها فأجاب بأني لا أقول إلا حقاً فمن حافظ على الحق وتجنب الكذب مع إبقاء المهابة والوقار فله ذلك أي فهو عند السلامة من المحذور مندوب لا مباح خلافاً للعصام إذ الأصل في أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم وجوباً أو ندباً الافتداء به فيها إلا لدليل يمنع ولا مانع هنا. قوله: (قال الترمذي حديث حسن) زاد ورجاله ثقات.
قوله: (وروينا في كتاب الترمذي) أي وقال: حديث غريب وفي الجامع الصغير رمز التضعيف بجانبه وفي التماس السعد للسخاوي بعد ذكر الحديث: في الأدب المفرد. قوله: (لا تمار أخاك) أي لا تحاجه وتجادله أي بالباطل قال الراغب في مفرداته الامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية وأصل ذلك من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب اهـ. قوله: (ولا تعده موعداً فتخلفه) بالنصب في جواب النهي وسبق في باب الوفاء بالوعد أن الخلف المذموم هو ما كان مقارناً للوعد أو ترك الوفاء من غير عذر ما لو وعد وعزم على الوفاء وعرض ما منع منه فلا يدخل في ذلك وينبغي أن يحترز من ذلك أيضاً ولا يجعل نفسه معذوراً من غير ضرورة حافة.
قوله: (قال العلماء المزاح الخ) وكذا من المنهي عنه المزاح المشتمل على كذب أو غيبة أو نحو ذلك من المحظورات لما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم ولا أقول إلا حقاً أي فيما كان المزاح كذلك وكان لا على سبيل الإكثار فجائز بل مندوب وإلا فلا. قوله: (وقسوة القلب) أي الناشئة من كثرة الضحك والاشتغال بما لا يعني. قوله: (والفكر) أي ويشغل الفكر عن التفكر (في مهمات الدين) أي في أمر الدين المهم وعطفه على ما قبله من باب التدلي إذ الذكر أرقى من الفكر لأن الذكر يوصل
ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار. فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعله في نادر من الأحوال لمصلحة
ــ
إلى مقام المشاهدة ولا كذلك التفكر نعم يوصل بها إلى معرفة أوصافه العلية من كمال القدرة والعظمة الأزلية. قوله: (ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء) أي للمخاطب بذكر ما يتأذى به مما يظن المتكلم إن السامع لا يتأثر منه فيذكره على وجه المباسطة له فيحصل منه ذلك. قوله: (ويورث الأحقاد) جمع حقد أي إخفاء الضغينة. قوله: (فأما ما سلم من هذه الأمور) أي وما في معناها من الكذب والغيبة والنميمة (فمباح) أي ما لم يقترن به ما يصيره مطلوباً مندوباً من نحو جبر خاطر أو إيناس وإلا فيصير مندوباً كما سيأتي في آخر كلامه، وحاصل كلام المصنف إذا خلا عن المحظور وما ذكر من المندوب مباح ومع الأول منهي عنه تنزيهاً تارة كأن أكثر منه واشتغل به عن مهمات الدين المندوبة وتحريماً أخرى كأن اشتمل على محرم من نحو غيبة أو كذب ومندوب إن اشتمل على مندوب كإيناس وجبر
خاطر لكن قضية كلام ابن حجر الهيتمي وغيره أنه عند خلوه عن المنهي عنه مندوب إلا أن يقال مزاحه صلى الله عليه وسلم لا يفارق شيئاً مما يصير المباح مندوباً والله أعلم، وعبارته: الأظهر إن ما كان خالياً عن ذلك أي المنهي عنه مثل مزاحه صلى الله عليه وسلم مندوب وما قيل إنه مباح لا غير فضعيف إذ الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم وجوباً أو ندباً التأسي به فيها إلا لدليل يمنع من ذلك ولا مانع هنا فتعين الندب كما هو مقتضى كلام الفقهاء والأصوليين اهـ. قوله: (وللمصلحة: ) أي التي منها قدرة أصحابه على التشريف بمجالسته وسماع لذيذ خطابه إذ لولا ما طبع عليه صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وملاطفة أصحابه وتواضعه معهم لما أطاقوا مجالسته ولا شهود حضرته لما أسبغ عليه من المهابة والجلال فمن المصالح المرتبة على مزاحه معهم في بعض الأوقات اقتدارهم على مجالسته والتلقي عنه نقل الشريعة الشريفة، ومن المصالح ما فعله من مج الماء في وجه محمود بن الربيع كما في صحيح البخاري وكان عمره أربع