الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنكر له شرط وصفات معروفة ليس هذا موضع بسطها، وأحسن مظانها "إحياء علوم الدين"، وقد أوضحتُ مهماتها في "شرح مسلم"، وبالله التوفيق.
كتاب حفظ اللسان
قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. وقال الله تعالى:
ــ
{إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قوله: (له شروط) بعضها لأصل طلبه بأن يكون المنكر عالماً بما ينكره وقد تقدم تفصيله وبعضها لجوازه بأن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محذور أشد منه كأن عرف أنه متى أنكر عليه غصب درهم من الإنسان غلبه الحمق فغصب مائة أو قتل نفساً محترمة وبعضها لوجوبه بأن يأمن على نفسه وماله وتقدمت جملة صالحة من ذلك أوائل الباب. قوله: (مظانه) جمع مظنة بكسر الظاء كما تقدم نقله عن الحافظ عثمان. قوله: (وقد أوضحت مهماته الخ) وقد لخصت مهمه فيما تقدم أول الباب والله أعلم.
كتاب حفظ اللسان
أي عن محرم وجوباً وعما لا يعني ولو من مباح ندباً وقوله: حفظ اللسان من باب إضافة المصدر إلى مفعوله. قوله: (قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} الخ) قال في النهر ظاهر ما يلفظ العموم قال مجاهد ويكتب عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه وقال السيوطي في الإكليل استدل به ابن عباس على أنه يكتب كل ما يتكلم به حتى قوله: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن طلحة عنه لكن أخرج الحاكم من طريق عكرمة عنه قال: إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام أسرج الفرس ويا غلام اسقني الماء وجرى على الثاني الوارد من طريق عكرمة البيضاوي فقال: لعله أي الملك يكتب ما فيه من ثواب أو عقاب اهـ، وعلى هذا القول الثاني فالآية مخصوصة بالقول الثاني المترتب عليه ثواب أو عقاب وسبق في أول الكتاب في الكلام على الذكر القلبي عن المصنف إن الأصح أن الملك يطلع على ذلك وقوله (رقيب) أي ملك يرقب عمله و (عتيد) أي معد حاضر وفي الحديث كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين وإذا عمل سيئة قال
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] وقد ذكرت ما يسر الله سبحانه وتعالى من الأذكار المستحبة ونحوها فيما سبق، وأردت أن أضم إليها ما يكره أو يحرم من الألفاظ ليكون الكتاب جامعاً لأحكام الألفاظ، ومبيناً أقسامها، فأذكر من ذلك مقاصد يحتاج إلى معرفتها كل متدين، وأكثر ما أذكره معروفة، فلهذا أترك الأدلة في أكثره، وبالله التوفيق.
ــ
صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر وللحديث طرق فأخرجه الثعلبي والبغوي والطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة وعند الطبراني دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم مع العبد ملك الحديث أشار إليه الحافظ في تخريج أحاديث الكشاف. قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} في النهر المرصاد المكان الذي يتقرب فيه الرصد مفعال من رصده وهذا تمثيل لإرصاده العصاة بالعقاب اهـ، أي فلا يهمل سبحانه شيئاً وإن كان قد تفضل بإمهال من سبقت له العناية وتنصل مما جناه من الجناية وإن ذلك الإمهال من جملة آثار إن ربك لبالمرصاد لما فيه من استدراجه الزيادة في العصيان فيبوء بزيادة العذاب. قوله:(ونحوها) أي نحو الأذكار من الأقوال كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة ووعظ إنسان أخاه وغيرها مما سبق. قوله: (إليها) أي الأذكار وما معها مما يطلب التلفظ به إما لذاته كالذكر أو لثمرته كالأمر بالمعروف ونحوه. قوله: (ما يكره) أي كراهة تنزيه والمراد منه ما يشمل خلاف الأولى والكراهة إما لورود النهي عن خصوص ذلك اللفظ أو لغيره كأن كل فيه اشتغال بما لا يعني ففي الحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. قوله: (ليكون الكتاب جامعاً لأحكام الألفاظ) أي من الوجوب والندب فيما يطلب والكراهة والتحريم بالتصريح والإباحة بالمفهوم فيما عدا ما ذكره من اللفظ المباح وكان التلفظ به مما يعني الإنسان. قوله: (ومبيناً أقسامها) أي
بالصراحة تارة وبغيرها أخرى. قوله: (كل متدين) أي متخلق بالدين وفي التعبير به إشارة
فصل: اعلم أنه ينبغي لكل مكلَّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنَّة الإمساك عنه، لأنه في ينجرُّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير أو غالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء.
وروينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ــ
إلى مشقة القيام به إلا على من يسره الله عليه وأعانه وأوصله بفضله إليه وما أحسن ما أنشدنا شيخنا العلامة عبد الرحيم الحساني للعلامة الثاني السعد التفتازاني وفيه جناس تام:
قد كنت قدماً مثرياً متمولاً
…
متجملاً متعففاً متدينا
والآن صرت وقد عدمت تمولي
…
متجملاً متعففاً متدينا
أراد من المتدين في الأول ذا دين بكسر المهملة وفي الثاني ذا دين بفتحها والله أعلم.
فصل: اعلم أنَّه ينبغي لكل مكلف الخ
في أحاسن المحاسن للرقي في ترجمة مجاهد قال: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضوله ما عدا كتاب الله تعالى أن تقرأ أو تأمر بمعروف أو تنهى عن منكر أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها أتنكرون إن عليكم حافظين كراماً كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد أما يستحي أحدكم إن لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه اهـ. قوله: (والسلامة لا يعد لها شيء) أي فينبغي الاعتناء بما وصل إليها وهو الصمت عما لا يعني وإن كان من المباح.
قوله: (روينا في صحيحي البخاري ومسلم الخ) في الجامع الصغير وأخرجه أحمد والترمذي
"مَنْ كانَ يُؤمِنُ بالله واليَوْم الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيراً أوْ لِيَصْمُتْ".
قلت: فهذا الحديث المتفق على صحته نص صريح في أنه لا ينبغي أن يتكلّم إلا إذا كان
ــ
وابن ماجه عن أبي شريح وعن أبي هريرة من جملة حديث لفظه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت في الأربعين للمصنف بتقديم هذه الجملة أي فليقل خيراً الخ، وقال: فليصمت وقال: رواه الشيخان وفي جاء عند الشيخين بلفظ فليصمت وبلفظ فليسكت اهـ، وفي بعض شروح الأربعين حديثاً للمصنف قال ابن أبي زيد أمام المالكية بالمغرب في زمانه جماع الخير متفرع من أربعة أحاديث قوله صلى الله عليه وسلم:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل: خيراً أو ليصمت" وقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقوله: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقوله: "لا تغضب". قوله: (من كان يؤمن بالله) أي الإيمان الكامل المنجي من عذابه الموصل إلى رضاه فالمتوقف على امتثال ما في الخبر كمال الإيمان لا حقيقته أو هو على المبالغة في الاستحباب إلى ما فيه كما يقول القائل لولده إن كنت ابني فأطعني تحريضاً وتهييجاً على الطاعة والمبادرة إليها مع شهود حق الأبوة وما يجب لها لا على إنه بانتفاء طاعته ينتفي إنه ابنه. قوله: (واليوم الآخر) هو يوم
القيامة وهو محل الجزاء على الأعمال حسنها وقبيحها ففي ذكره دون نحو الملائكة مما ذكر معه في حديث جبريل تنبيه وإرشاد لما أشير إليه مما يوقظ النفس ويحركها في الهمة للمبادرة إلى امتثال جزاء الشرط أي قوله: فليقل واللام فيه للأمر ويجوز إسكانها وكسرها حيث دخلت عليها الواو أو الفاء أو ثم بخلافها في ليسكت فإنها مكسورة لا غير والمراد فليقل ما ظهر له بعد تفكره فيه إنه خبر محقق لا تترتب عليه مفسدة ولا يجر إلى محرم أو مكروه. قوله: (أو ليصمت) قال المصنف: قال أهل اللغة: صمت يصمت بضم الميم صموتاً وصماتاً سكت قال الجوهري: أصمت بمعنى صمت والتصميت أيضاً السكوت اهـ، واعترض بأن المسموع والقياس
الكلام خيراً، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم. وقد قال الإِمام الشافعي رحمه الله: إذا أراد الكلام فعليه أن يفكِّر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلَّم حتى
ــ
كسرها إذ قياس فعل مفتوح العين يفعل بكسرها، ويفعل بضمها دخيل نص عليه ابن جني قال ابن حجر الهيتمي: وإنما يتجه إن شبرت كتب اللغة فلم ير ما قاله وإلا فهو حجة في النقل وهو لم يقل هذا قياساً حتى يعترض بما ذكر وإنما قاله نقلاً كما هو ظاهر من كلامه فوجب قبوله قيل: وآثر يصمت على يسكت أي في هذه الرواية لأن الصمت يكون مع القدرة على الكلام بخلاف السكوت فإنه أعم والمراد من الحديث: ليسكت أو إن لم يظهر له ذلك فيسن له الصمت عن المباح لأنه ربما أدى إلى مكروه أو محرم وعلى فرض أن لا يؤدي إليهما ففي ضياع الوقت فيما لا يعني ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. قوله: (ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم) أي إذا لم يظهر إن في السلام نفعاً ولا ضرراً أمسك عنه واشتغل بما هو أهم مما تحققت أو ظهرت مصلحته من ذكر الله تعالى وما في معناه ثم في الحديث إن قول الخير خير من الصمت لتقديمه عليه ولأنه أمر به عند عدم قول الخير وأن الصمت خير من قول الشر وإن قول الخير غنيمة والسكوت عن الشر سلامة وفوات الغنيمة والسلامة ينافي حال المؤمن وما يقتضيه شرف الإيمان المشتق من الأمان ولا أمان لمن فاتته الغنيمة والسلامة وإن الإنسان إما أن يتكلم أو يسكت فإن تكلم فإما بخير وهو ربح وإما بشر وهو خسارة وإن سكت فإما عن شر فهو ربح أو عن خير فهو خسارة فله ربحان وخسارتان فينبغي أن يتجنبهما ويكتسب الربحين ثم قيل: هذا الأمر عام مخصوص بما لو أكره على قول شر أو سكوت عن خير أو خاف على نفسه من قول الخير ونحوه لحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فالمكره عليه منهما هو خير وكذا المأتي به منهما عند النسيان
تظهرَ.
وروينا في "صحيحيهما" عن أبي موسى الأشعري قال: قلت: يا رسول
ــ
لارتفاع العقاب فيه.
قوله: (وروينا في صحيحيهما الخ) ورواه النسائي لكن هذا اللفظ البخاري ولفظ مسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ فقال: "من سلم المسلمون الخ" كذا في المشكاة قال شارحها: ابن حجر فرق بين خير وأفضل وإن كانا أفعل تفضيل بأن الأول من الكيفية إذ هو النفع في
مقابلة الشر والثاني من الكمية إذ هو كثرة الثواب في مقابلة القلة اهـ، ثم لهذا الحديث شواهد كحديث المسلم: من سلم المسلمون من لسانه ويده أخرجه مسلم عن جابر مرفوعاً وقد اتفق على هذا اللفظ الشيخان ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث جابر مرفوعاً أسلم المسلمين إسلاماً من سلم المسلمون من لسانه ويده وأخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً بزيادة والمؤمن من أمنه النّاس على دمائهم وأموالهم، قال العراقي: وهذه الزيادة أي والمؤمن الخ، صحيحه على شرط مسلم اهـ، ورواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمر وزاد في آخره والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وليس فيه قوله: والمؤمن الخ، كما في الجامع الصغير ورواه الحاكم أيضاً من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه بزيادة والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب قال الحاكم: وهذه الزيادة على شرطهما ولم يخرجاها ذكره العراقي في أماليه ثم قال بعد إخراجه من طرق حديث صحيح أخرجه ابن ماجه مقتصراً على المؤمن والمهاجر وأخرجه الترمذي والنسائي في سننه الكبرى مقتصرين على ذكر المجاهد وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال العراقي: ومما قلته في هذا المعنى:
المسلم الكامل الإسلام من تجده
…
قد سلم النّاس من لسانه ويده
والمؤمن الكامل الإيمان من أمنوا
…
منه على النفس والأموال من رشده
ومن يكن هاجراً ما الله عنه نهى
…
فهو المهاجر مع سكناه في بلده
ومن يجاهد فيه نفسه فهو الـ
…
ـمجاهد الجاهد الساعي ليوم غده
الله، أيُّ المسلمين أفضل؟ قال:"مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدِهِ".
ــ
اهـ. قوله: (من لسلم المسلمون) أي الشامل للمسلمات كما في النصوص إلا لدليل والتقييد بالمسلمين لكونه خرج مخرج الغالب لا مفهوم له فأهل الذمة مثلهم على إنه جاء في رواية ابن حبان المسلم من لسلم النّاس الخ، وهم الإنس بل والجن كما في العباب والقاموس فيؤخذ منه إن الخير والأفضل من ترك إيذاء الجن بقول: وكذا فعل إن تصور، وزعم بعض إن المراد بالناس فيها المسلمون ليس في محله. قوله:(من لسانه ويده) أي من أذى لسانه وعبر به دون القول ليشمل إخراجه استهزاء بغيره وقدم لأن الإيذاء به أكثر وأسهل ولأنه أشد نكاية ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لحسان: "اهج المشركين" فإنه أشق عليهم من رشق النبل ولأن الإيذاء به أعم لأنه يتعدى إلى الماضين والحاضرين وإن شاركه في هذا الإيذاء باليد بالكتابة وقوله: ويده أي ومن أذى يده أي سائر جوارحه فهي كناية عن سائر الجوارح لأن سلطنة الأفعال إنما تظهر بها إذ بها البطش والقطع والوصل والأخذ والمنع ومن ثم غلبت فقيل في كل عمل مما عملت أيديهم وإن لم يكن وقوعه بها ولا يدخل في الحديث طلب الإيذاء على وجه الحد والتعزير والدفع لنحو الصائل لأن ذلك استصلاح السلامة والمراد من كون الخير والأفضل من سلم المسلمون الخ، إذا جمع إلى ذلك باقي أركان الإسلام فجمع بين أداء حق الله تعالى بأن أتى بأركان الإسلام وأداء حق المسلمين بأن كف عنهم أذاه وكأن التقدير خير المسلمين من أسلم وجهه الله ورضي بقضائه فلم يتعرض لأحد بنوع من أذى ولا سيما
إخوانه المسلمين وجماع ذلك حسن التخلق مع العالم وقد فسر الحسن البصري الأبرار بأنهم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون الشر فكنى بالذر عن كل حيوان فلم يصل منه لشيء من الحيوانات شيء من الأذى فهذا أمر معروف من العارفين إذ هم المتخلفون بكمال الرحمة للعالم وفيه إشارة إلى حسن المعاملة مع الحق لأنه إذا أحسن معاملة أقرانه كان محسناً لمعاملة مولاه بالأولى كذا قيل، وتعقب بأن المفهوم من الإشارة ما دل عليه اللفظ لا بطريق القصد وهذا ليس كذلك وأجيب بأنه ليس المراد بالإشارة هنا نظير قولهم أشار قوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} إلى صحة صوم
وروينا في "صحيح البخاري" عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ يَضْمَنُ لي ما بينَ لَحْيَيْهِ ومَا بينَ رِجْلَيْهِ، أضْمَنُ لَهُ الجنَّةَ".
وروينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي هريرة، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن
ــ
الجنب، بل ما دل عليه اللفظ بذلك القيد وهذا قد دل عليه اللفظ دلالة أولوية كدلالة ولا تقل لهما أف على حرمة الضرب وإن كانت الأولوية ثمة أظهر منها ها هنا والمراد إن من أحسن معاملة الخلق لكمال إسلامه وحسن استسلامه فهو أولى بحسن معاملة الحق فلا يقال: نجد كثيراً يحسن معاملة الخلق دون الحق.
قوله: (وروينا في صحيح البخاري الخ) قال في المرقاة ورواه أحمد والحاكم عن أبي موسى
بلفظ من حفظ ما بين فقميه ورجليه دخل الجنة والفقم بالضم والفتح اللحي على ما في النهاية ورواه
الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه
دخل الجنة قلت: وسيأتي الحديث في الأصل قريباً وفي رواية للبيهقي عن أنس من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وجبت له الجنة اللقلق اللسان والقبقب البطن والذبذب الذكر كذا في مختصر النهاية للسيوطي اهـ. قلت: وفي الموطأ من حديث عمار بن ياسر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من وقاه الله شر ثنتين ولج الجنة فقال رجل: يا رسول الله ألا تخبرنا فسكت صلى الله عليه وسلم ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مثل مقالته الأولى إلى تمام المرة الثالثة وأراد الرجل أن يقول مثل مقالته الأولى فاسكته رجل إلى جنبه فقال صلى الله عليه وسلم: "من وقاه الله شر ثنتين فقد ولج الجنة ما بين لحييه وما بين ورجليه ما بين لحييه وما بين رجليه ما بين لحييه وما بين رجليه وهذه شواهد لحديث الكتاب. قوله: (من يضمن) بالجزم على أن من شرطية. قوله: (ما بين لحييه) بفتح اللام العظمان في جانب الفم وما بينهما هو اللسان (وما بين رجليه) هو الفرج قال الشيخ زكريا في تحفة القارئ المراد بالضمان الأول والثاني لازمهما وهو أداء الحق في الأول والمجاوزة في الثاني أي من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه أو الصمت عما لا يعنيه وأدى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال وكفه عن الحرام جازيته بالجنة اهـ.
قوله: (وروينا في صحيحي البخاري ومسلم الخ) في الجامع الصغير بعد إيراده بلفظ ما بين المشرق
العَبْدَ يَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ ما يَتَبَينُ فيهَا يَزِلُّ بهَا إلى النَّارِ أبْعَد مِمَا بَينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ" وفي رواية البخاري "أبْعَدُ مِمَّا بَينَ المَشْرِقِ" من غير ذكر "المغرب"، ومعنى يتبين: يتفكر في أنها خير أم لا.
وروينا في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله تَعالى ما يُلْقِي لَهَا بالاً، يَرْفَعُ اللهُ تَعالى بِها دَرَجَاتٍ، وإنَّ العَبْدَ
ــ
والمغرب رواه أحمد والشيخان اهـ، وظاهره أن لفظ والمغرب من زيادات مسلم وحينئذٍ فما في تلك النسخة من غلط الكاتب. قوله:(يزل) بفتح أوله وكسر الزاي أي يسقط. وقوله: (أبعد)
صفة مصدر محذوف أي هو يا بعيد المبدأ والمنتهى جداً وفي نسخة صحيحة من الأذكار ينزل بزيادة نون. قوله: (وفي رواية البخاري الغ) وعليه قال في المشرق للجنس أي بين محلي الشروق إذ مشرق الصيف غير مشرق الشتاء أو المراد من رواية البخاري ما جاء في رواية مسلم والمغرب واكتفى بأحدهما عن الآخر كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أشار إليه الشيخ زكريا في التحفة. قوله: (ومعنى ما يتبين الخ) أي لا يتطلب معنى تلك الكلمة ولا يتأمله ويتفكر فيه أخير هو فيأتي به أم لا فيدعه.
قوله: (وروينا في صحيح البخاري) ورواه أحمد من حديث أبي هريرة أيضاً كما في الجامع الصغير قلت: ورواه في الموطأ وقال إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها في الجنة وفي الجامع الصغير من حديث أبي هريرة مرفوعاً إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم في المستدرك قلت: وقال صحيح على شرط مسلم ورواه البيهقي بنحو حديث الباب وزاد البيهقي وإن الرجل ليزل على لسانه أشد مما يزل على غيره. قوله: (من رضوان الله) أي مما يرضاه الله بضم الراء أفصح من كسرها ومن بيانية حال من الكلمة وكذا (لا يلقي لها بالاً) أي لا يعرف لها قدراً ويظنها هينة قليلة الاعتبار وهي عند الله عظيمة المقدار. قوله: (يرفع الله) جملة مستأنفة
لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعالى لا يُلْقي لَها بالاً يَهْوِي بِها في جَهَنَّمَ".
قلت: كذا في أصول البخاري "يَرْفَعُ اللهُ بِها دَرَجاتٍ" وهو صحيح: أي درجاتِه، أو يكون تقديره: يرفعه، ويُلقي، بالقاف.
ــ
بيان للموجب كأن قائلاً يقول: ماذا يستحق بعد أي بطريق الوعد والفضل قيل: يرفع الله أي له بها درجات والاستئناف البياني ما كان جواباً لسؤال مقدر اهـ. قوله: (من سخط الله) بفتحتين أو بضم فسكون أي مما يسخط أي يوجب غضبه وانتقامه إن لم يتفضل بالعفو. قوله: (يهوي) بفتح أوله وكسر الواو أي يسقط (بها) أي بتلك الكلمة (في جهنم) تقدم الكلام عليها أعاذنا الله منها وقد زاد الترمذي وابن ماجه وغيرهما سبعين خريفاً كما تقدم. قوله: (وهو صحيح أي درجاته) قلت: جاء كذلك عند بعض رواة البخاري ويجوز أن يكون التقدير يرفعه الله درجات فعلى تقدير الضمير بعد درجات يكون مفعولاً به وعلى الثاني يكون مثل قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} قال السفاقسي: درجات منصوب على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة أو على الحال أو على المفعول الثاني لرفع على طريقة التضمين أي بلغ أو على إسقاط حرف الجر وهو على أو إلى ويحتمل أن يكون بدل اشتمال أي رفع درجات بعضهم على درجات بعض اهـ، وتقدير البدل في الحديث يرفع الله يرفعه درجات والله أعلم. قوله:(ويلقي بالقاف) سكت عن ضبط إعرابه
قال بعضهم: هي بضم الياء وكسر القاف وبالاً بالنصب مفعول أي لا يرى لها شأناً وفي بعض نسخ المشكاة بفتح الياء والقاف والمعنى أنه لا يجد لها عظمة عنده وفي شرح المشارق أنه بفتحهما ورفع البال فالبال على هذا بمعنى الحال قيل: والظاهر أنه في المصابيح كذلك فإن شارحه زين العرب قال: أي لا يلحقه بأس وتعب في قولها أو لا يحضر باله أي قلبه لما يقوله منها أو هو من قولهم: ليس هذا على بالي أي مما أباليه والمعنى أنه يتكلم بكلمة يظنها قليلة وهي عند الله
وروينا في موطأ مالك وكتابي الترمذي وابن ماجه عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه أن
ــ
جليلة فيحصل له رضوانه اهـ، وفي التوشيح لا يلقي لها بالاً أي لا يتأملها بخاطره ولا يتفكر في عاقبتها ولا يظن أنها تؤثر شيئاً وفسرها ابن عبد البر بالكلمة تقال عند السلطان قلت: وسيأتي نقل عبارته في حديث مالك المذكور بعده وفسرها القاضي عياض بالتعريض بالمسلم أو الاستهزاء وابن عبد السلام بالكلمة لا تعرف حسنها من قبيحها اهـ.
قوله: (وروينا في موطأ الإِمام مالك الخ) أشار ابن عبد البر في التمهيد إلى اختلاف في سند الحديث قال: فرواه مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن بلال بن الحارث هكذا رواه عنه جميع رواة الموطأ وقال غير مالك عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده عن بلال فهو من رواية مالك غير متصل ومن رواية من قال عن أبيه عن جده متصل سند وقد تابع مالكاً على مثل روايته الليث وابن لهيعة فروياه عن ابن عجلان عن محمد بن عمرو عن أبيه عن بلال بن الحارث ولم يقولا عن جده ورواه الدراوردي وسفيان بن عيينة ومعاذ بن جبل وأبو معاوية الضرير في آخرين عن محمد ابن عمرو عن أبيه عن جده عن بلال وتابعهم حيوة بن شريح عن ابن عجلان عن محمد بن عمرو عن أبيه عن جده ورواه الثوري وموسى بن عقبة عن محمد بن عمرو عن جده علقمة لم يقولا عن أبيه والقول عندي فيه والله أعلم، قول من من قال عن أبيه عن جده وإليه مال الدارقطني اهـ وفي الجامع الصغير رواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن بلال بن الحارث مرفوعاً فذكره بمثله وكذا رواه في شرح السنة كما في المشكاة بنحوه وفي الإحياء كان علقمة يقول وكم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث اهـ، قال ابن حجر الهيتمي: إن الحديث رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ إن أحدكم والباقي سواء. قوله: (عن بلال بن الحارث المزني) قال المصنف في التهذيب هو أبو عبد الرحمن بن بلال بن الحارث بن عصم بن سعد بن فيره بن خلاوة بفتح المعجمة بن ثعلبة بن ثور بن هذبة بضم الهاء وإسكان الذال المعجمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طلحة بن إلياس
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ الله تعالى ما كانَ يَظُن أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ تَعالى لَهُ بِها رِضْوَانَهُ إلى يَوْم يَلْقاهُ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى ما كانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اَللهُ تَعالى بِها سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروينا في كتاب الترمذي والنسائي وابن ماجه
ــ
بن مضر بن نزار المزني وولد عثمان المذكور يقال لهم: مزنيون نسبة إلى أمه مزينة وبلال مدني وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد وكان يحمل لواء مزينة يوم فتح مكة ثم سكن البصرة وتوفي سنة ستين وهو ابن ثمانين سنة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أحاديث. قوله: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة الخ) قال ابن عبد البر في التمهيد: لا أعلم خلافاً في قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إن الرجل ليتكلم بالكلمة إنها الكلمة عند السلطان الجائز الظالم ليرضيه بها فيما يسخط الله عز وجل ويزين له باطلاً يريده من إراقة دم أو
ظلم مسلم ونحوه مما ينحط به في حبل هواه فيبعد من الله وينال سخطه وكذا الكلمة التي يرضى بها الله عز وجل عند السلطان ليصرفه عن هواه ويكفه عن معصية يريدها وهكذا فسره ابن عيينة وغيره وذلك بين في هذه الرواية اهـ. قوله: (ما كان يظن) أي ما يقع في باله لكونه يظن إنها يسيرة قليلة وهي عند الله عظيمة جليلة. قوله: (يكتب الله بها رضوانه الخ) قال العاقولي: يوفقه لما يرضي الله تعالى من الطاعات ويثبته على ذلك إلى يوم يموت فيلقى الله عز وجل مطيعاً ويحصل له ثواب الطائعين اهـ، وظاهر تقريره إن رضوان فيه مصدر مضاف لمفعوله قيل والأظهر أنه مضاف لفاعله لمقابلة القرينة الآتية. قوله:(وروينا في كتاب الترمذي الخ) قال العراقي في تخريج أحاديث الأحياء وهو عند مسلم دون آخر الحديث الذي فيه ذكر اللسان اهـ، قلت ولفظ حديث مسلم عن سفيان بن عبد الله قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك قال: "قل: آمنت
عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به، قال:"قُلْ رَبي اللَّهُ ثم اسْتَقِمْ"، قال: قلت: يا رسول الله،
ــ
بالله ثم استقم" وبه يعلم إن مراد العراقي يكون ذلك عند مسلم أي أصل المعنى لا بخصوص اللفظ والمبنى وفي الجامع الصغير حديث: قل: آمنت بالله ثم استقم رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال العراقي ورواه النسائي عن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به الحديث قال ابن عساكر: وهو خطأ والصواب سفيان بن عبد الله كما رواه الترمذي وصححه وابن ماجه اهـ، ووقع في نسخ المصابيح سعيد بن عبد الله الثقفي وذكر قوله قلت: يا رسول الله ما أخوف الخ قال ابن الجزري والصواب سفيان بن عبد الله اهـ.
قوله: (عن سفيان بن عبد الله الثقفي) قال المصنف في التهذيب: هو أبو عمرو وقيل أبو عمرة سفيان بن عبد الله بن أبي ربيعة الثقفي الطائفي الصحابي كان عاملاً لعمر بن الخطاب على الطائف استعمله إذ عزل عثمان بن أبي العاص ونقله عنها روى عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة أحاديث روى منها مسلم في صحيحه حديثاً واحداً وهو أنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً الخ، وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام روى عنه ابنه عبد الله وعروة وجبير بن نفير وغيرهم اهـ، وخرج له الترمذي والنسائي وابن ماجه. قوله:(بأمر) أي جامع لمعاني الدين وشعبه بحيث يكفيني في مطلوبي بحيث (أعتصم) أي استمسك (به) من عصم بمعنى منع. قوله: (قل ربي الله) وعند مسلم كما تقدم آمنت بالله والمراد جدد إيمانك متفكراً بجنانك ذاكراً بلسانك مستحضراً لتفاصيل الإيمان التي أشير إليها في حديث جبريل فإنه لا بد في الإيمان من ذلك. قوله: (ثم استقم) أي على عمل الطاعات والانتهاء عن المخالفات إذ لا يتأتى مع شيء من الاعوجاج فإنها ضده وما في الحديث
منتزع من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الآية، أي آمنوا به ووحدوه مع شهود ألوهيته وربوبيته لهم ثم استقاموا واعتدلوا على ذلك وعلى طاعته
ما أخوف ما يخاف علي، فأخذ بلسان نفسه ثم قال:"هَذا" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ــ
عقداً وقولاً وفعلاً وداوموا على ذلك إلى أن توفاهم عليه ويؤيد ذلك قول الصديق رضي الله عنه لم يشركوا بالله شيئاً ولم يلتفتوا إلى إله غيره واستقاموا على أن الله ربهم وقول عمر رضي الله عنه استقاموا والله على طاعته ولم يروغوا روغان الثعلب وكذا قال آخرون والمراد بذلك كله الاستقامة على التوحيد الكامل وهو مستلزم للتحقيق بجميع ما قلناه أولاً ويؤيده أنه جاء عن الصديق أنه فسرها أيضاً بأنهم لم يلتفتوا إلى غير الاستقامة ونهايتها والاستقامة هي الدرجة القصوى التي بها كمال المعارف والأحوال وصفاء القلوب في الأعمال وتنزيه العقائد عن سفاسف البدع والضلال.
ومن ثم قال الأستاذ أبو القاسم القشيري من لم يكن مستقيماً في أحواله ضاع سعيه وخاب جده ونقل أنه لا يطيقها إلا الأكابر لأنها الخروج عن المألوفات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق ولعزتها أخبر صلى الله عليه وسلم أن لن يطيقوها بقوله عند أحمد استقيموا ولن تطيقوا وقد جمع صلى الله عليه وسلم لهذا السائل في هاتين الكلمتين جميع معاني الإيمان والإسلام اعتقاداً وقولاً وعملاً كما أشرنا إلى ذلك في تقرير معناهما وحاصله أن الإسلام توحيد وطاعة فالتوحيد حاصل بالجملة الأولى والطاعة بجميع أنواعها في ضمن الجملة الثانية إذ الاستقامة امتثال كل مأمور واجتناب كل منهي ومن ثم قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "شيبتني هود وأخواتها" وأخرج ابن أبي حاتم لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأى ضاحكاً. قوله: (ما أخوف ما يخاف علي) ما الأولى استفهامية مبتدأ خبره خوف وهو اسم تفضيل بني للمفعول نحو أشهر وألوم وما الثانية موصولة فهي مضاف إليه والعائد محذوف على طريقة جد جده فالمضاف إليه المصدر المنسبك من الموصول وصلته والباء في قوله: بلسانه زائدة في المفعول وقوله: هذا مبتدأ أو خبر والمعنى هذا أكثر خوفي عليك منه وأسند الخوف إلى اللسان لأنه زمام الإنسان فإنه إذا أطلق لزم منه ما لا يرضى صاحبه شاء
وروينا في كتاب الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُكْثِروا الكلامَ بغَيرِ ذِكْرِ اللهِ، فإنَّ كَثْرَةَ الكَلامِ بِغَيرِ ذِكْرِ اللهِ تَعالَى قَسْوَة لِلْقَلْبِ، وإن أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الله تَعالىَ
ــ
أو أبى وليس هذا الوصف في عضو آخر من الأعضاء سواه قاله العاقولي وقال بعضهم: قال هذا تنبيهاً على أن أعظم ما تراعي استقامته بعد القلب من الجوارح: اللسان فإنه ترجمان القلب والمعبر به عنه وقد أخرج أحمد لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه وفي الإحياء إنما أسند صلى الله عليه وسلم شدة خوفه على أمته في سائر الأخبار إلى اللسان لأنه أعظم الأعضاء عملاً إذ ما من طاعة أو معصية إلا وله فيها مجال فمن أطلق عذبه اللسان وأهمله مرخي العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار ولا يكب النّاس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ولا ينجي من شره إلا أن يقيد بلجام الشرع، وعلم ما يحمد إطلاق اللسان فيه أو يذم غامض عزيز والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير لكن على من يسره الله يسير اهـ.
قوله: (وروينا في كتاب الترمذي) قال المنذري ورواه البيهقي. قوله: (قسوة للقلب) أي سبب للقسوة ففيه الإخبار بها مبالغة وهي غلظة وحينئذ يجفو عن قبول ذكر الله تعالى والتأثر بالمواعظ قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أخرج الحاكم اطلبوا المعروف من رحماء أمتي تعيشوا في أكنافهم ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإن اللعنة تنزل عليهم وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق بنحوه وفي آخره ولا تطلبوا من القاسية قلوبهم فإنهم ينتظرون سخطي وفي مسند البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة من الشقاء: جمود العبرة وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا" ولما تضمنه الأحاديث من اللعنة والسخط وكونه من الشقاء قال بعضهم: قسوة القلب من الكبائر وقيده ابن حجر في الزواجر إذا كانت بحيث تحمل على منع إطعام المضطر مثلاً اهـ. قوله: (وإن أبعد النّاس من الله)
القَلْبُ القَاسِي".
وروينا فيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَقاهُ اللهُ شَرَّ ما بَين لَحْيَيهِ، وشرَّ ما بَيْنَ
ــ
أي من رحمته ورضاه وشهوده رؤياه. قوله: (القلب القاسي) أي صاحبه لأنه عري من خوف الله تعالى ورجائه ومحبته وامتلأ بمحبة الأغيار واستأنس بمحادثة الأشرار وعبر بالقلب عن الشخص لأنه أشرف ما فيه فيكون مجازاً مرسلاً أو إنه على تقدير المضاف فيكون من مجاز الحذف.
قوله: (وروينا فيه الخ) قال في الجامع الصغير وأخرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك كلهم من حديث أبي هريرة وفي تقدم الكلام على حديث البخاري من يضمن لي ما بين لحييه الخ، من حديث عمار بن ياسر أخرجه مالك في الموطأ وهو شاهد لهذا الحديث أيضاً وفي الترغيب للمنذري أخرجه ابن أبي الدنيا إلا أنه قال: من حفظ ما بين لحييه وأحاديث أخر في الباب تقدمت ثمة. قوله: (من وقاه الله شر ما بين لحييه الخ) قال ابن عبد البر معلوم أنه أراد بقوله ما بين لحييه اللسان وما بين رجليه الفرج قال وفي الحديث من الفقه أن الكبائر أكثر ما تكون والله أعلم من الفرج والفم وفي وجدنا الكفر وشرب الخمر وأكل الربا وقذف المحصنات وأكل أموال النّاس ظلماً من الفم واللسان ووجدنا الزنى من الفرج وأحسب أن المراد من الحديث أن من اتقى لسانه وما يأتي منه من القذف والغيبة والسب كان أحرى أن يتقي القتل ومن اتقى أكل الربا لم يعمل به لأن البغية من العمل به التصرف في أكله فهذا وجه في تخصيص الجارحتين في الحديث وضمان الجنة لمن وقي شرهما ويحتمل أن ذلك خطاب منه صلى الله عليه وسلم لقوم بأعيانهم اتقى عليهم من اللسان والفرج ما لم يتق عليهم من سائر الجوارح ويحتمل أيضاً أن يكون قبل قوله ذلك كلام لم يسمعه الناقل كأنه قال من عافاه الله وقاه كذا وكذا وشر ما بين لحييه ورجليه دخل الجنة فسمع الناقل بعض الحديث ولم يسمع بعضه فنقل ما سمع وإنما احتجنا إلى هذه الاحتمالات لإجماع الأمة أن من أحصن فرجه عن الزنى ومنع لسانه من كل سوء ولم يتق ما سوى ذلك
من القتل والظلم أنه لا تضمن
رِجْلَيهِ دَخَلَ الجَنةَ" قال الترمذي: حديث حسن.
وروينا فيه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: "أمْسِك عَلَيكَ لِسَانَكَ
ــ
له الجنة بل إن مات كذلك ولم يتب تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له إن مات على الإسلام ثم قال ابن عبد البر بعد ذكر عدة أحاديث فيها جملة من الكبائر فمن وقاه الله الكبائر وعصمه منها ضمنت له الجمعة ما أدى فرائضه فمن مات كذلك ثم زحزح عن النار وأدخل الجنة كان مضمون ذلك ومن أتى كبيرة من الكبائر ثم تاب منها توبة صحيحة كان كمن لم يأتها ومن أتى كبيرة ومات مسلماً على غير توبة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له اهـ، بتلخيص.
قوله: (وروينا فيه) أي في كتاب الترمذي قال المنذري ورواه ابن أبي الدنيا في العزلة وفي الصمت ورواه البيهقي في كتاب الزهد كلهم عن أبي أمامة عن عقبة اهـ، وفي المرقاة ورواه أحمد وروى ابن قانع والطبراني عن الحارث بن هشام أملك عليك لسانك اهـ، وهذا شاهد لصدر الحديث وللحديث شاهد من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته رواه الطبراني في الأوسط والصغير بإسناد حسن. قوله: (أمسك عليك لسانك) هكذا هو في نسخ الأذكار بالسين المهملة قال الشيخ زكريا في شرح الرسالة رواه الترمذي بلفظ أمسك اهـ، أي لا تطلقه إلا فيما ينفعك وفي المصابيح أملك باللام وكذا في الجامع الصغير قال العاقولي أي لا تجريه إلا بما يكون لك لا عليك قلت وأصله في النهاية وهو حاصل المعنى وأصل معناه كما في المرقاة أمسك عليك لسانك حافظاً عليك أمورك مراعياً لأحولك ففيه نوع من التضمين وعن بعضهم أي اجعل لسانك مملوكاً لك فيما عليك وباله وتبعته فأمسكه عما يضرك وأطلقه فيما ينفعك وهو ناظر إلى أن الصيغة من الثلاثي المجرد ففي القاموس ملكه يملكه ملكاً مثلثة احتواه قادراً على الاستبداد وأملكه الشيء وملكه إياه تمليكاً بمعنى اهـ، لكن في النسخ المصححة والأصول المعتمدة بفتح الهمزة وكسر اللام من المزيد ولعل الإتيان به من المزيد
وَلْيَسَعْكَ بَيتُكَ وَابْكِ عَلى خَطِيئَتِكَ" قال الترمذي: حديث حسن.
وروينا فيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أصْبَحَ
ابْنُ آدَمَ فإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّها تُكَفِّرُ اللسان فَتَقُولُ: اتقِ اللهَ فِينَا فإنما
ــ
لزيادة المبالغة في التعدية اهـ، قال العاقولي والطيبي هو من أسلوب الحكيم سئل عن حقيقة النجاة فأجاب عن سببه لأنه أهم وكان الظاهر أن يقول حفظ اللسان فأخرجه على سبيل الأمر المقتضى لوجوبه مزيد للتقرير اهـ، قيل وفيه من التكليف ما لا يخفى بل من التعسف في حق الصحابي فإنه جعل العدول عن معرفة حقيقة النجاة بالنسبة إليه أولى فالأولى أن تقدير السؤال ما سبب النجاة على تقدير المضاف بقرينة الجواب وقيل: معنى ما النجاة: ما الخلاص من الآفات حتى أحترس به وعليهما فالمطابقة حاصلة والله أعلم. قوله: (وليسعك بيتك) أمر للبيت وفي الحقيقة أمر لصاحبه أي اشتغل بما هو سبب للزوم البيت وهو طاعة الله تعالى والاعتزال عن الأغيار ولا تضجر من الجلوس فيه بل تراه من الغنيمة لأنه سبب الخلاص من الشر والفتنة ولذا قيل: هذا زمن السكوت وملازمة البيوت والقناعة بالقوت. قوله: (وابْكِ على وخطيئتك) ضمن ابْكِ معنى اندم فعدى بعلى أي ابْكِ نادماً على خطيئتك.
قوله: (وروينا فيه الخ) ورواه من حديث أبي سعيد بن خزيمة والبيهقي في الشعب كما في
الجامع الصغير. قوله: (تكفر اللسان) كذا في نسخ الأذكار وفي الجامع الصغير بتعريف اللسان ونصبه في نسخه مصححة من المشكاة للسان بلام الجر قبل اللسان وعليها شرح صاحب المرقاة وكذا هو في النهاية وهو ظاهر ولعل الأول من النساخ قال في النهاية فإن الأعضاء كلها لتكون للسان أي تذل وتخضع والتكفير هو أن ينحني الإنسان ويطأطئ رأسه قريباً كما يفعل من يريد الركوع اهـ، ورواه ابن الأثير في جامع الأصول لتستكفي اللسان ومثله في مختصره للديبع أي تطلب منه كفاية الشر وإنما كان كذلك لأن الترجمان عما فيه صلاحاً أو فساداً قال الطيبي إن قلت كيف التوفيق بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"إن في الجسد لمضغة" إلى أن قال: ألا وهي القلب قلت: اللسان ترجمان القلب
نَحْنُ بِكَ، فإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوجَجْنا".
وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجه عن أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم:
ــ
وخليفته في ظاهر البدن فإذا أسند إليه الأمر يكون على سبيل المجاز في الحكم كما في قولك شفي الطبيب المريض قال في المرقاة: لا يخفى ظهور توقف صلاح الأعضاء وفسادها على القلب بحسب صلاحه وفساده فإنه معدن الأخلاق الكريمة كما أنه منبع الأحوال الذميمة فهو كالملك المطاع والرئيس المتبع فإنه إذا صلح المتبوع صلح التبع وأما تعلق الأعضاء جميعها باللسان فلم يظهر لي مدة من الزمان حتى ألهمني الله تعالى ببركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن اللسان من أعضاء الإنسان للكفر والإيمان فمع استقامته ينفع استقامة سائر الأعضاء ومع اعوجاجه تبطل أحوالها سواء كانت مستقيمة أو معوجة اهـ.
قوله: (وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه) قال الحافظ المنذري في الترغيب ورواه ابن أبي الدنيا وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه عن محمد بن زيد بن حنين قال المنذري ورواته ثقات وفي محمد بن زيد كلام قريب لا يقدح وهو شيخ صالح. قوله: (عن أم حبيبة رضي الله عنها هي أم المؤمنين بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف اسمها رملة وبه قال الأكثرون كنيت بابنتها حبيبة بنت عبيد الله بن جحش وكانت من السابقين إلى الإسلام هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فتوفي عنها فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي هناك سنة ست من الهجرة قال أبو عبيدة وخليفة ويقال: سنة سبع قال أبو عبيد القاسم بن سلام والواقدي توفيت سنة أربع وأربعين وقال أبو خيثمة: توفيت قبل وفاة معاوية بسنة ووفاة معاوية في سنة ستين وهذا غريب ضعيف قال الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق قدمت زائرة أخاها معاوية وقيل: إن قبرها بها قال والصحيح أنها ماتت بالمدينة قال ابن منده: توفيت سنة اثنتين وأربعين وقيل: سنة أربع وأربعين وكان النجاشي أمهرها من عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان وليها عثمان بن عفان قال أبو نصر الكلاباذي: أمهرها النجاشي أربعة آلاف درهم وبعثها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل ابن حسنة وقال أبو نعيم
"كل كلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيهِ لا لَهُ، إلَاّ أمْراً بِمَعْرُوفٍ، أو نَهْياً عَنْ مُنْكَرٍ
ــ
الأصبهاني مهرها أربعمائة دينار وتولاها عثمان بن عفان وقيل: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس وقال غيره: كان التزويج سنة ست من الهجرة وقيل: سنة سبع وقدم بها إلى المدينة ولها بضع وثلاثون سنة وكان الخاطب عمرو بن أمية الضمري وكان زوجها قبل النبي صلى الله عليه وسلم عبيد الله بن جحش تنصر بالحبشة ومات نصرانياً وهو أخو عبد الله بن جحش الصحابي الجليل استشهد يوم أحد نقله
المصنف في التهذيب وفي رياض العامري خرج حديثها الأربعة وغيرهم روى لها عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج منها في الصحيحين أربعة أحاديث اتفقا على حديثين والآخران لمسلم روى عنها معاوية وعنبسة وعروة اهـ. قوله: (كل كلام ابن آدم عليه لا له) أي يكتب إثمه عليه لا يكتب له ثواب في مقابلته ويستثني المباح فإنه لا عليه ولا له كما هو معلوم من الأدلة والإجماع وعدم ذكره للعلم به من ذلك أو إيهاماً لدخوله في المستثنى منه تحذيراً عنه وتنفيراً منه فإن به تضييع الوقت الذي لا أنفس منه فيما لا فائدة فيه وقيل المباح ليس بمستثني بل هو داخل تحت قوله كل كلام ابن آدم عليه فإنه من جملته لأنه محاسب به أخذاً بظاهر قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ولأنه يورث قساوة القلب كما تقدم وقال الطيبي: الكلام في الخير أجر وهو المستثنى وفي الشر إثم وفي المباح عفو وهذا يؤيد عدم الاستثناء وإن المباح مما عليه إذ العفو يقتضي الجريمة فعفى عنها تفضلاً والحاصل أن قوله كل كلام ابن آدم الخ دل على أن جميع ما ينطق به مضرته عليه ولذا ورد من صمت نجا، ثم خص هذا العام بما لا بد للإنسان منه من الأمور الدينية من ذكر الله وما والاه وأخرى بالأمور الدنيوية وما نظام أمر المكلف عليه من المباحات تفضلاً من الله تعالى عفواً عنه وتعقبه ابن حجر في شرح المشكاة بأن قوله في المباح أقله أن يحاسب عليه ليس في محله كيف والإجماع على أن المباح لا عقاب عليه أصلاً على أن جزمه بأنه لا بد أن يحاسب عليه يحتاج إلى حديث صحيح صريح فإن
أوْ ذِكْراً لِلَهِ تَعَالى".
وروينا في كتاب الترمذي عن معاذ رضي الله عنه
ــ
فرض وروده كان معنى المحاسبة أن يعدد ما فعله من تلك المباحات إظهاراً للنعمة عليه حيث لم يؤاخذ بها وليس في قوله رقيب عتيد ما يخالف ذلك لأنه جاء أن الكاتبين يكتبان ما يلفظ به ثم بعد يمحي ما لا إثم فيه ولا ثواب، وأخذه من قول غيره والمباح عفو الاستدلال على أن المباح عليه ليس في محله فإن العفو على نوعين عفو بمعنى المجاوزة عن إثم الفعل بعد وجوده وكتابته على المكلف وعفو بمعنى عدم جعل شيء من العقاب في مقابلة الفعل وهذا هو المراد فجعله دليلاً لما ذكره وقوله إن العفو يقتضي الجريمة ممنوع قال على أنه ناقض نفسه حيث جعل المباح مستثنى من قوله جميع ما نطق به تعود مضرته عليه ولو قال ما أشرنا إليه فيما من أن المباح لما كان فيه ضياع الوقت الذي لا أنفس منه فيما لا فائدة فيه نزل منزلة ما هو عليه فجعل داخلاً فيه تنفيراً وتحذيراً ويستثنى الطاعة التي ذكر بعض أفرادها في قوله إلا أمر بمعروف الخ، المراد به هنا كما قال بعضهم ما فيه رضي الله تعالى من الكلام كالتلاوة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسبيح والدعاء للمؤمنين وما أشبه ذلك فذكر بعض الأفراد اهتماماً بشأنه والله أعلم.
قوله: (وروينا في كتاب الترمذي الخ) قال السخاوي في تخريج الأربعين الحديث التي جمعها المصنف بعد تخريجه هذا الحديث: هذا حديث حسن أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي في الأدب المفرد وقال الترمذي حسن صحيح وكل هؤلاء مداره عندهم على أبي وائل عن معاذ قلت: نظر الحافظ المنذري في سماع أبي وائل من معاذ وقال: إنه أدركه بالسن وفي سماعه منه نظر وكان أبو وائل بالكوفة ومعاذ بالشام وقال: قال الدارقطني: هذا الحديث معروف من رواية شهر
ابن حوشب عن معاذ وهو أشبه بالصواب على اختلاف فيه عليه هكذا وقال شهر مع ما قيل فيه لم يسمع معاذاً اهـ، قال السخاوي وممن روى الحديث عن معاذ ميمون بن أبي شبيب وعبد الرحمن بن غنم وعروة بن النزال أو النزال بن عروة وفي إيراد طرق ذلك طول قلت: وقد بينه المنذري في الترغيب ما عدا رواية عروة بن النزال والنزال بن عروة فقال: ورواه البيهقي وغيره عن
قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال:
ــ
ميمون بن شبيب عن معاذ وميمون هذا كوفي ثقة ما أراه سمع معاذاً بل ولا أدركه فإن أبا داود لم يدرك ميمون ابن أبي شبيب وعائشة تأخرت بعد موت معاذ نحواً من ثلاثين سنة وقال عمرو بن علي كان يحدث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندنا في شيء منه يقول: سمعت ولم أخبر أن أحداً يزعم أنه سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورواه أحمد وغيره عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن معاذاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بنحوه اهـ، ولم يتعرض في الترغيب لرواته وقد عزا شيخي يعني الحافظ ابن حجر في تلخيص تخريج أحاديث الكشاف طريق ابن أبي وائل للحاكم وهو سهو فإنما هو عنده من طريق ابن أبي شبيب وليس هو على شرط الشيخين كما قال فميمون لم يدرك معاذاً اهـ. قوله:(قال) قلت كان هذا في السفر كما في أول الحديث عن أحمد ومن معه. قوله: (أخبرني بعمل الخ) فيه عظيم فصاحته فقد أوجز وأبلغ ومن ثم مدح صلى الله عليه وسلم مسألته وعجب من فصاحته حيث قال: لقد سألت عن عظيم أي عن عمل عظيم وعظمته إما لأن عظم المسبب يستدعي عظم السبب والمسبب أي دخول الجنة والتباعد من النار أمر عظيم سببه امتثال الأوامر واجتناب النواهي وذلك عظيم صعب جداً ولذا قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} وأما لأنه صعب على النفوس والغالب عدم وفائها لما يطلب له وفيه من الوسائل والمقاصد الواجبة والمندوبة وأجلها الإخلاص إذ هو روح العمل رأسه المقوم له وأنى به لا يوجد كماله إلا للشاذ النادر من العاملين ولعزته كان مما استأثر به تعالى كما تقدم في الحديث القدسي في أول الكتاب إنه سر بين الله وعبده لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً. قوله: (يدخلني الجنة) مرفوع على أنه صفة عمل إما مخصصة أو مادحة أو كاشفة إذ العمل إذا لم يكن كذلك كأنه لا عمل أو مجزوم جواباً للأمر أي أخبرني بعمل إن تخبرني يدخلني الجمعة بمعنى أن الخبر وسيلة إلى العمل والعمل وسيلة إلى الإدخال وإسناد الإدخال إلى العمل إسناد إلى السبب أو شبه العمل لكونه سبباً للمطلوب بالفاعل الحقيقي وجعل نسبة الإدخال تخييلاً للمكنية. قوله: (ويباعدني) أخرج
"لَقَدْ سألْتَ عَنْ عَظِيم، وإنَّه لَيَسِيرٌ على مَنْ يَسَّرَه الله تَعالى عَلَيْهِ: تَعْبُدُ الله لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصلاةَ، وتُؤْتَي الزكاةَ، وتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ، ثم قال: ألا أدُلُّكَ
ــ
على صيغة المفاعلة مبالغة في البعد. قوله: (وإنه ليسير) أتى بهذه الجملة بعد ما قبلها للإعلام بأنه ليس القصد من تلك استعظام الجزاء ونتيجة العمل بل هو في نفسه لما سبق من وجهيه والذي سهل عليه هو من وفقه الله سبحانه للقيام بالطاعة على ما ينبغي وشرح صدره إلى السعي فيما يكمل له القربة والقرب من ربه. قوله: (تعبد الله الخ) تفسير للعظيم المسؤول عنه وعدل إليه عن صيغة الأمر تنبيهاً على أن المأمور كأنه يسارع إلى الامتثال فهو مخبر عنه إظهاراً للرغبة في وقوعه وقوله: تعبد الله أي توحده وقيل: معناه تأتي بجميع عباداته وقوله: لا تشرك بي شيئاً في محل الحال من الفاعل. قوله: (وتقيم الصلاة) أي تعدل أركانها
وتحفظها عن أن يقع زيغ في أفعالها من أقام العود إذا قومه أو تواظب عليها من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها جعلتها نافقة أو تشمر لأدائها من غير فتور من قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد أو تؤديها عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمال الصلاة على القيام كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح فعلى الأول: استعارة تبعية شبه تعديل أركانها بتقويم الرجل العود واستعير له الإقامة ثم اشتق منه الفعل، وعلى الثاني: كناية عن الدوام، وعلى الثالث: مجار في الإسناد بمعنى تجعلها قائمة فيفيد التشمير، وعلى الرابع: كذلك إذ المعنى توجد قيامها فيكون من إطلاق الجزء وإرادة الكل. قوله: (وتؤتي الزكاة) الإيتاء الإعطاء. قوله: (وتحج البيت) أي إن استطعت إليه سبيلاً فالمطلق محمول على المقيد وحذف لعلم المخاطب به فعلم أن دخول الجنة يتوقف على تلك الأعمال والحكم ليس مقصوراً على معاذ بن جبل بل يعم كل مؤمن إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: (ثم قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من جواب سؤال معاذ مستطرداً أمر النوافل لتكميل الفرائض (ألا أدلك الخ) وهذا عرض أي
عَلى أبْوابِ الخَيْرِ؟ الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ
ــ
أعرض ذلك عليك فهل تحبه وفيه غاية التشويق إلى ما سيذكره له ليكون أوقع في نفسه وأبلغ في ملازمته. وقوله: (على أبواب الخير) فيه زيادة في التشويق والمراد بالخير هنا ضد الشر واللام في الخير للجنس ثم الإضافة إن كانت بيانية كان المراد به الأعمال الصالحة التي يتوصل بها إلى أعمال أخرى أكمل منها كما استفيد من تسميتها أبواباً من المجاز البليغ لما فيه من تشبيه المعقول بالمحسوس وأوثر فيه جمع القلة إشارة إلى تسهيل الأمر على السامع ليزيد نشاطه واقباله وهو أولى مما قيل إنما أوثر لأنه ليس له جمع كثرة كأقلام وآذان وأقسام وإن كانت بمعنى اللام كان المراد به الجزاء العظيم والثواب الجسيم وبها سائر الأعمال الصالحة على طريق الاستعارة المكنية شبه الخير بدار فيها كل ما يتمناه وأثبت لها الباب تخييلاً ويدل للثاني رواية ابن ماجه ألا أدلك على أبواب الخير وللأول تخصيصه بعض الأعمال بالذكر من الصوم والصدقة وغيرهما مما يأتي وإنما لم يتوقف صلى الله عليه وسلم حتى يقول معاذ بلى كما في السؤالين الآتيين بل سرد السلام تنبيهاً على أنه لا ينبغي أن ينتظر تصديقه اهتماماً بشأنه فقال: والصوم جنة الخ. قوله: (الصوم) أي الإكثار من نفله لأن فرضه مر قبله ومثله في التقييد بالنفل لما ذكر قوله الآتي والصدقة فاللام فيه للعهد الخارجي ولا يجب فيه تقديم المعهود كما ظن بل في يستغني عنه بعلم المخاطب بالقرائن كقولك: لمن دخل البيت أغلق الباب قاله الكازروني. قوله: (جنة) بضم الجيم أي وقاية من سورة الشهوة في الدنيا والنار في العقبى كالجنة ففيه تشبيه المعقول بالمحسوس وقيل إن مثله استعارة. قوله: (تطفيء الخطيئة) أي تمحو الخطيئة أي الصغيرة المتعلقة بحق الله تعالى حتى يذهب أثرها ففيه استعارة تبعية شبه إذهاب الصدقة الخطيئة بالإطفاء واستعير له ثم اشتق منه الفعل أو يقال شبه الخطيئة بالنار وأثبت لها ما يلازمها من الإطفاء تخييلاً قاله الكازروني وقال ابن حجر الهيتمي استعار لمحو الخطيئة الإطفاء لمقابلته بقوله كما الخ، أو أن الخطيئة يترتب عليها النار الذي هو أثر الغضب المستعمل فيه الإطفاء يقال: طفيء غضبه لما من أن الغضب فوران دم
كما يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وصلَاةُ الرَّجُلِ في جَوْفِ الليل،
ــ
القلب عند غلبة الحرارة
اهـ. قوله: (كما يطفيء الماء النار) ما فيه مصدرية أي إطفاء مثل إطفاء النار وخصت الصدقة بذلك كأنه لتعدي نفعها ولأن الخلق عيال الله وهي إحسان إليهم والعادة أن الإحسان إلى عيال الشخص يطفيء غضبه وسبب إطفاء الماء النار ما بينهما من غاية التضاد إذ هي حارة يابسة وهو بارد رطب فقد ضادها بكيفيتيه جميعاً والضد يقمع الضدد بإطفاء الخطيئة يتنور القلب وتصفو الأعمال فلذا كانت الصدقة باباً عظيماً كغيرها من الأعمال الفاضلة. قوله: (وصلاة الرجل في جوف الليل) مبتدأ خبره محذوف أي تطفيء الخطيئة أو هي من أبواب الخير والأظهر أن يقدر الخبر شعار الصالحين كما في جامع الأصول والأولى أن يقال: حذف الخبر إشعاراً بأنه لا يكتنه كنهه أي صلاة الرجل في جوف الليل لا تعلم نفس ما أخفى لهم ولفظ من للابتداء أي ابتداء قيامه من جوف الليل ليكون من القائمين لأن من قام فيه قام سائر الأوقات وقيل إنها بمعنى في وبها عبر في نسخة لكن الرواية على الأول وذكر الرجل في الخبر لأنه السائل أو لأن الخير غالب في الرجال إذ أكثر أهل النار النساء لا للاحتراز عن المرأة لأنها مثله في ذلك وقدم الصلاة على الزكاة أولاً وعكس ثانياً لأن الأول مسوق لبيان أمر الدين فقدم الأهم فالأهم والثاني لتكميله فالترقي أولى ولذا شبه الصوم بالجنة التي هي دون الماء لأنها تدفع العدو والماء يعميه ويطفئه ثم النفل في الليل أفضل منه في النهار لأن الخشوع والتضرع فيه أسهل وأكمل ومن ثم كان باباً عظيماً من أبواب الخير لأنه يوصل إلى صفاء السر ودوام الشكر والذكر والذي وهو بعد النوم أفضل منه فيه قبله ويحصل فضل قيامه بصلاة ركعتين وأفضل أجزائه كما دلت عليه الأحاديث النبوية وذهب إليه الشافعي النصف الثاني إن جزأه نصفين والثلث الأخير إن جزأه أثلاثاً والسدس الرابع والخامس إن جزأه أسداساً وهذا هو الأكمل على الإطلاق لأنه الذي واظب عليه صلى الله عليه وسلم وقال: أفضل الصلاة صلاة أخي داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه.
ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16]، ثم قال:"ألا أُخْبِرُكَ بِرأس الأمْرِ، وَعَمودِهِ، وَذِرْوَةِ سنامِهِ؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال: "رأسُ الأمْرِ الإسلامُ، وَعَمُودُه الصلاة، وَذِرْوَةُ سنامه الجهاد ثم قال ألا أخبرك
ــ
قوله: (ثم تلا) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (تتجافى) أي تتنحى وتبتعد (جنوبهم عن المضاجع) أي مواضع الهجوع وهي كناية عن التجهد كما قاله الجمهور وهو الذي يدل عليه سياق الحديث بل والآية حيث قال: {فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الخ على إنهم لما أخفوا عملهم جوزوا بما أخفى لهم من قرة الأعين وإنما يتم إخفاؤه بالصلاة في جوف الليل المصرح به في هذا الحديث لأن المصلي حينئذٍ ترك نومه ولذته وآثر ما يرجوه من ربه عليهما فحق له أن يجازي ذلك الجزاء العظيم وقد جاء أن الله تعالى يباهي بقوام الليل في الظلام الملائكة يقول: انظروا إلى عبادي قد قاموا في ظلم الليل حيث لا يراهم غيري أشهدكم إني قد أبحتهم كرامتي وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي يعبدونه {خَوْفًا} من سخطه {وَطَمَعًا} في رحمته {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في وجوه الخير {فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} لا ملك مقرب ولا نبي مرسل {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} أي ما تقر به عيونهم سروراً من الثواب {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جزوا جزاء وأخفى الجزاء، وقال الراوي (حتى بلغ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (يعملون) للاختصار وجعلت هذه الأشياء أبواباً للخير لما تقدم ولأن من اعتادها مع شدتها يسهل عليه كل خير ولأن العمل إما بدني أو مالي فالصدقة مالية والصلاة والصوم بدنيان نهاري وليلي. قوله:(برأس الأمر) أي الدين وفيه وما بعده من الأوصاف التشويق المرة بعد المرة تحريضاً عليه. قوله: (وعموده) مادة ع م
د للاستناد والقصد ومنه الاعتماد والعمد والقصد عمد إذ المقاصد متوكل على المقصود جزماً والعمود من حيث يعتمد عليه الخيمة ويستعمل مجازاً في كل ما يتخذه الإنسان من أي نوع كان. قوله: (وذروة سنامه الجهاد) إذ به الذب عن الدين ودفع غوائل المشركين فيكون من أعلى شعبه والحديث هكذا في نسخ الأذكار كما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نبه عليه ابن حجر الهيتمي وقال: وكذلك في نسخ الأربعين الحديث للمصنف ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه الجهاد وقد سقط منه شطر ثابت في أصل الترمذي لا يتم الكلام إلا به ومع ذلك لم يتنبه له أكثر الشراح وكأنه انتقل نظره من سنامه إلى سنامه إذ لفظ الترمذي بعد سنامه المذكور قلت: بلى يا رسول الله قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد وكأن المصنف قلد فيه الحافظ ابن الصلاح لما ذكر الأحاديث التي قيل إنها أصول الإسلام أو الدين أو التي عليها مدارهما أو مدار العلم ذكر من جملتها هذا الحديث بالإسقاط المذكور لكن عذر بأن ابن ماجه ذكره كذلك فلا اعتراض عليه لأنه لم يلتزم رواية شخص بخصوصها بخلاف المصنف فإنه إنما ساق لفظ والترمذي ولفظه ليس فيه الإسقاط المذكور ويقع في بعض نسخ الأربعين ذكر ذلك الإسقاط فيحتمل أن المصنف تنبه له بعد فألحقه ويحتمل أنه من فعل بعض تلامذته أو غيرهم اهـ، قلت وعلى نسخة عدم الإسقاط أكثر الشراح وهي نسخة السخاوي التي خرج عليها فلذا لم يذكر ذلك ثم في قوله رأس الأمر الإسلام الخ، استعارة بالكناية تتبعها استعارة ترشيحية لأنه شبه الأمر المذكور بفحل وبالبيت القائم على عمد وأضمر هذا التشبيه في النفس ثم ذكر ما يلائم المشبه به وهو الرأس والسنام والعمود ووجه إيثار الإبل بالذكر أنها خيار أموالهم ومن ثم كانوا يشبهون بها رؤساءهم وإنما كان الإسلام المراد به الإيمان هو الرأس لأنه لا حياة لشيء من الأعمال بدونه كما أنه لا حياة للحيوان بدون رأسه والصلاة هي العمود لأنه الذي يقيم البيت ويرفعه ويهيئه للانتفاع به والصلاة هي التي تقيم الدين وترفعه وتهيئ فاعلها لتحليه بمعالي القرب واستغراقه في أنوار الشهود، والجهاد هو ذروة السنام لأن ذروة الشيء أعلاه والجهاد على أنواع الطاعات من حيث إن به ظهور الإسلام والعلو على سائر الأديان وليس ذلك لغيره من العبادات فهو أعلاها بهذا الاعتبار وإن كان فيها ما هو أفضل منه ووجه رواية ابن ماجه التي جرى عليها المصنف هنا وفي بعض نسخ الأربعين الحديث أن الجهاد مقرون بالهداية قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} والهداية محصلة لمقصود هذا السائل إذ يلزمها دخول
ثم قال: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذا"، قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟ فقال:
ــ
الجنة والمباعدة من النار فكان الجهاد رأس أمر السائل وعموده وذروة سنامه. قوله: (بملاك ذلك) بكسر الميم -قال ابن حجر الهيتمي والفتح- أي بمقصوده وجماعة أي بما يقوم به وقال الكازروني: ملاك الشيء ما به إحكامه وقوامه الذي يملك به م ل ك للربط والشد والملاك بكسر الميم لما يعتمد عليه ويقوم به وبالفتح التماسك ومنه ماله ملاك والذي في الخبر بالكسر اهـ، ومعنى كون قوام الأمر كف اللسان أي عمالاً يعني أنه إذا وجد كانت تلك الأعمال على غاية من الكمال ونهاية من صفات الأحوال وذلك غنيمة وكف اللسان عن المحارم سلامة وهي في نظر العقلاء مقدمة على الغنيمة وفي هذا إشارة إلى أن جهاد النفس بقمعها عن الكلام فيما يؤذيها أشق عليها من جهاد الكفار ولذا كان الجهاد الأكبر وجهاد الكفار الجهاد الأصغر إذ منعها هواها من أجل ما اقتناه الإنسان ومن أعظم الآداب الصمت وترك الكلام فيما لا يعني وسيأتي حديث من صمت نجا. قوله:(كف عليك) أي عنك أو ضمن كف معنى احبس والمراد حبس اللسان عن الشر لقوله في الخير السابق فليقل خيراً أو ليصمت وتقديم المجرور على المنصوب للاهتمام وجمعه صلى الله عليه وسلم بين إمساكه لسانه وقوله: كف الخ، مع أنه كان يمكنه أن يقول كف عليك لسانك لأن النفس بالحسيات أكف منها بالعقليات لتأخر زمن إدراك هذه عن زمن إدراك تلك فكان ذكر المعنى العقلي الجلي ثم تعيينه بالتمثيل الحسي أبلغ وأوقع في النفس لما فيه من زيادة القوة بنقله من الخفاء إلى الظهور على أكمل وجه وأبلغه. قوله:(وإنا لمؤاخذون الخ) قال الكازروني: معطوف على مقدر أي أنعزم على قولك يا نبي الله اهـ، والاستفهام فيه للتثبت والتعجب والاستغراب ولا ينافي خفاء هذا عليه قوله صلى الله عليه وسلم "أعلمكم
"ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النارِ على وُجُوهِهِمْ إلَاّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ؟ ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: الذِّروة بكسر الذال المعجمة وضمها:
ــ
بالحلال والحرام" معاذ لأنه إنما صار أعلمهم بعد هذا السؤال وأمثاله من أنواع التعلم والاستعادة أو المراد بالحلال والحرام المعاملات الظاهرة بين النّاس وهذا في معاملة العبد مع ربه. قوله: (ثكلتك أمك) أي فقدتك لفقدك إدراك المؤاخذة بذلك مع ظهورها والثكل من فقد الشيء والأكثر أنه يستعمل في المصاب بفلذة الكبد ومصدره الثكل بفتح الثاء وضمها يقال: فلان ثاكل وفلانة ثكلى وظاهره الدعاء عليه بالموت وليس المراد بل هذا مما جرت به عادة العرب للتحريض على الشيء والتهييج إليه أو لاستعظامه بحسب المقام وخص الثكل بالأم لقلة صبرها وشدة جزعها عن فقد الولد. قوله: (وهل ويكب الخ) الاستفهام إنكاري معطوف على مقدر أي علمت ما قلت وهل يكب، الاستفهام بمعنى النفي أي ما يكب النّاس أي أكثرهم أي يلقيهم و (حصائد) بالرفع فاعل يكب جمع حصيدة بمعنى محصودة وهي في الأصل ما يحصد من الزرع والمراد منه ما تلفظ به ألسنتهم شبه ما تكسبه الألسنة من الكلام الحرام بحصائد الزرع بجامع الكسب وشبه اللسان في تكميله ذلك بحد المنجل الذي يحصد به الزرع ففيه استعارة بالكناية من حيث تشبيه ذلك الكلام بالزرع المحصود واللسان بالمنجل بجامع أنه يحصد ولا يميز بين الرطب واليابس فكذلك اللسان فتكون الاستعارة مصرحة قاله الكازروني والحصر في ذلك إضافي إذ من النّاس من يكبه عمله لا كلامه لكن خرج ذلك مخرج المبالغة في تعظيم جرم اللسان نحو الحج عرفة أي فعظمه ذلك كما أن معظم أسباب النار الكلام كالكفر والغيبة والنميمة ونحوها ولأن الأعمال يقارنها الكلام غالباً فله حصة في ترتب الجزاء عليه عقلاً وثواباً. قوله:(بكسر الذال وضمها) قال ابن حجر
وهي أعلاه.
وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا
ــ
الهيتمي قيل والقياس فتحها.
قوله (وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه الخ) ورواه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي هريرة
أيضاً قال بعضهم وكذا رواه من حديث البيهقي في الشعب وبه صرح في المشكاة قال في الجامع الصغير وأخرجه أحمد والطبراني في الكبير عن الحسن بن علي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريزة وأخرجه الحاكم في الكنى عن أبي بكر الشيرازي عن أبي نارنجة وأخرجه الحاكم في تاريخه عن علي ابن أبي طالب قلت وأخرجه عن علي أيضاً العسكري كما قاله السخاوي في المقاصد قال في الجامع وأخرجه الطبراني في الأوسط عن زيد بن ثابت وأخرجه ابن عساكر عن الحارث بن هشام اهـ، وقال ميرك: شاه حديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه الخ، رواه ابن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة وقال غريب: لا نعرفه إلا من هذا الوجه قال: وحدثنا قتيبة عن مالك عن الزهري عن علي ابن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من حسن إسلام المرء الخ" قال وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عنه عن علي بن الحسين نحو حديث مالك قال وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة اهـ، كلام الترمذي وطريقه عن أبي سلمة عن أبي هريرة جيدة وقال الشيخ النووي: حديث حسن قاله الشيخ الجزري وقال جماعة من الحفاظ الصواب أنه عن علي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً كذا قاله أحمد وابن معين والبخاري وغيرهم وكذا رواه مالك عن الزهري عن علي بن الحسين ذكره المنذري والله أعلم وسيأتي عقب الكلام على الحديث ترجيح رواية أبي سلمة عن أبي هريرة. قوله: (من حسن إسلام المرء الخ) وجه الإتيان بالحسن الإشارة إلى أنه لا عبرة لأعمال الظاهرة الشاملة للفعل والترك الذي هو مسمى الإسلام فعلاً وتركاً إلا إذا اتصفت بالحسن بأن وجدت شروط مكملاتها فضلاً عن مصححاتها وجعل ترك
يَعْنِيهِ" حديث حسن.
ــ
ما لا يعني من الحسن مبالغة مع الإشارة لما ذكر وعبر بالإسلام دون الإيمان لأنه من الأعمال الظاهرة والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها لأنها حركات اختيارية يتأتيان فيها اختياراً وأما الباطنة الواجعة للإيمان فاضطرارية متابعة لما يخلقه الله في النفوس ويوقعه فيها. وقوله: (يعنيه) هو بفتح التحتية من عني بالأمر تعلقت عنايته به وكان من غرضه والذي يعني به الإنسان من الأمور ما يتعلق بضرورة حياته في معاشه مما يشبعه من جوع ويرويه من عطش ونحو ذلك مما يدفع الضرورة دون ما فيه تلذذ واستمتاع واستكثار وفي معاده هو الإسلام والإيمان والإحسان وذلك يسير بالنسبة إلى ما لا يعنيه فإذا اقتصر على ما يعنيه سلم من سائر الآفات وجميع الشرور والمخاصمات وكان ذلك من الفوائد الدالة على حسن إسلامه ورسوخ إيمانه وحقيقة تقواه ومجانبة هواه لاشتغاله بمصالحه الأخروية وإعراضه عن أغراضه الدنيوية من التوسع في الدنيا وطلب المناصب وغير ذلك مما لا يعود منه نفع أخروي فإنه ضياع للوقت الذي لا يمكن أن يعوض فائته فيما لم يخلق لأجله ثم "من" في الحديث قيل: تبعيضية ويجوز أن تكون بيانية وبيانه أن تركه ما لا يعنيه هو حسن إسلام المرء وكماله فيه وتقديم الخبر لكون التركيب من باب على التمرة مثلها زبداً قال الطيبي: وعلى أن تكون تبعيضية إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه" الحديث بعد الإيمان والإسلام وأنت تعلم أن التحلية مسبوقة بالتخلية فالترك بعض من الإحسان فيكون إشارة إلى الانسلاخ عما يشغله عن الله تعالى فإذا أخذ السالك في السلوك تجرد بحسب أحواله ومقاماته شيئاً فشيئاً مما لا يعنيه إلى أن يتجرد عن جميع أوصافه ويتوجه بكليته إلى الله سبحانه وتعالى وإليه
يلمح قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} وقول إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} اهـ، وفي الحديث إشارة إلى أن الشيء إما أن يعني الإنسان أولاً وعلى كل إما أن يعني بتركه أو بفعله فالأقسام أربعة: فعل ما يعني، ترك ما لا يعني وهما حسنان. ترك ما يعني وفعل ما لا يعني وهما قبيحان. قوله:(حديث حسن) قال ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين
وروينا في كتاب الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ صَمَتَ نَجا" إسناده ضعيف، وإنما
ــ
بل أشار ابن عبد البر إلى صحته وفي الأربعين للمصنف رواه الترمذي وغيره وهكذا قال ابن حجر أي موصولاً ولا ينافيه رواية مالك له في الموطأ عن الزهري مرسلاً لأن للزهري فيه إسنادين أحدهما مرسل وهو ما رواه مالك والآخر موصول وصله عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهو ما رواه الترمذي وغيره قلت: كابن ماجه وأبي يعلى فقد صرح السخاوي بأنه عندهم بهذا السند والله أعلم، والاتصال مقدم على الإرسال وبهذا يجاب عن قول أحمد والبخاري وابن معين والدارقطني لا صح إلا مرسلاً على أن له طرقاً مرفوعة إذا اجتمعت أحدثت له قوة ولعل هذا من أسباب تحسين المصنف له والسخاوي في تخريج الأربعين الحديث موافق لأحمد وغيره وعبارته وفسره آخر ووثقه وإن ضعفه قوم ووثقه آخرون ومن ثم قال ابن عبد البر: رواته ثقات اهـ.
قوله: (وروينا في كتاب الترمذي) زاد في الجامع الصغير ورواه أحمد وفي المقاصد الحسنة للسخاوي رواه الترمذي وقال غريب والدارمي وأحمد وآخرون من حديث عبد الله بن عمرو ومداره على ابن لهيعة رواه عن يزيد بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الحبلي عنه ولو شواهد كثيرة منها: عند الطبراني بسند جيد اهـ، زاد السيوطي في حسن السمت في مخرجيه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب قلت ومن شواهده ما جاء من حديث معاذ عند الطبراني مرفوعاً إنك لن تزال سالماً ما سكت فإذا تكلمت كان لك أو عليك أورده في الترغيب. قوله:(من صمت) أي سكت عن الشر (نجا) أي فاز وظفر بكل خير أو نجا من آفات الدارين قال الراغب: الصمت أبلغ من السكوت لأنه قد يستعمل فيما لا قوة له للنطق وفيما له قوة النطق ولذا قيل: لما لا نطق له للصامت والصمت والسكوت يقال لما له نطق فيترك استعماله قاله الغزالي اعلم أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم من فصل الخطاب وجوامع الكلم وجواهر الحكم ولا يعرف أحد ما تحت كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء
ذكرته لأبينه لكونه مشهوراً، والأحاديث الصحيحة بنحو ما ذكرته كثيرة، وفيما أشرت به كفاية لمن وفق، وسيأتي إن شاء الله في "باب الغيبة" جمل من ذلك، وبالله التوفيق.
وأما الآثار عن السلف وغيرهم في هذا الباب
ــ
وذلك أن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة من الخطأ والكذب والنميمة والغيبة والرياء والسمعة والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل وغيرها ومع ذلك فالنفس مائلة إليها لأنها سباقه إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في النفس وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان والخائض فيها قلما يقدر على أن يزم اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغة للفكر والعبادة والذكر والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في العقبى قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ويدلك على لزوم الصمت أمر هو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم لا ضرر فيه ولا منفعة، أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه وكذا
ما فيه ضرر ونفع لا يفي بالضرر أما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع الوقت وهو عين الخسران فلم يبق إلا القسم الرابع وفيه خطر إذ قد يمتزج به ما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة ونحو ذلك امتزاجاً يخفي مدركه فيكون الإنسان مخاطراً اهـ، وحاصله أن آفات اللسان محصورة وفي الصمت سلامة منها وقد قيل: اللسان جرمه صغير وجرمه كبير وكثير. قوله: (لا يبينه) أي ضعف إسناده. قوله: (لمن وفق) بضم الواو وشدة الفاء وبالقاف آخره مبني للمجهول ولو قريء البناء للمعلوم صح وكان العائد ضميراً منصوباً محذوفاً أي لمن وفقه الله.
قوله: (وأما الآثار) الأثر يطلق مرادفاً للخبر والحديث بمعنى ما أضيف إليه صلى الله عليه وسلم أو إلى من دونه من قول أو فعل أو نحوه ويطلق
فكثيرة، ولا حاجة إليها مع ما سبق، لكن نُنَبِّهُ على عيوب منها، بلغنا أن قُسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خَصلةً إن استعملَها سترتِ العيوب كلَّها، قال:
ــ
مغايراً لهما فالأكثر أن يخص بما جاء عن الصحابي وقد يطلق على ما جاء عن غير الصحابي ومنه قول الشيخ وأما الآثار عن السلف أي من حكماء الجاهلية ومن الصحابة والتابعين وأتباعهم وغيرهم أي من بعدهم. قوله: (بلغنا الخ) لم يذكر المصنف مخرجه ولم أر من تكلم عليه. قوله: (قس بن ساعدة) بضم القاف وتشديد السين المهملة وهو ابن ساعدة بالمهملة الأيادي وقد أورده ابن الأثير في أسد الغابة وقال: وهو مشهور أورده عبدان وابن شاهين وحديثه لما رآه صلى الله عليه وسلم كان قبل المبعث. قوله: (وأكثم بن صيفي) ذكره ابن الأثير في أسد الغابة أيضاً وقال فيه بعد خلاف طويل قدمه في نسب أكثم بن صيفي الصحيح أنه أكثم بن صيفي بن رباح بن الحارث بن مخاش بن معاوية بن شريف بن حروه بن أسيد بن عمرو بن تميم هكذا نسبه غير واحد من العلماء منهم ابن حبيب وابن الكلبي وابن ماكولا لا اختلاف عندهم أنه من تميم ثم من أسيد اهـ، وأكثم بفتح الهمزة وسكون الكاف وبالمثلثة وقد عقدت ما ذكراه في قولي:
عيوب ابن آدم لا تحصر
…
وكثرتها فوق ما تذكر
وحفظ اللسان لها كلها
…
غداً ساتراً فادر ما يستر
قوله: (سترت العيوب كلها) لأن العيوب إنما تبدو بالتنقيب والتفتيش وذلك إنما يكون عند إرسال الإنسان لسانه بما لا يعني وإطلاقه له في الأعراض قال بعضهم من غربل النّاس: نخلوه أي من بحث عن أحوالهم بحثوا عن أحواله حتى صيروه نحالة إلى هذا أشار من قال:
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى
…
وعقلك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امريء
…
فكلك عورات وللناس ألسن
ما هي: قال: حِفْظُ اللسان.
وروينا عن أبي عليّ الفضيل بن عياض رضي الله عنه قال: من عدَّ كلامُه من عمله قلَّ كلامُه فيما لا يعنيه، وقال الإِمام الشافعي رحمه الله لصاحبه الربيع: يا ربيع لا تتكلَّم فيما لا يَعْنِيكَ، فإنك إذا
ــ
قوله: (وروينا عن أبي علي الفضيل) تقدم ضبط اسمه وأنه بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة وسكون التحتية في باب الإخلاص من أول الكتاب وكنى بعلي أكبر أولاده توفي في حياته وعياض بكسر العين المهملة بعدها تحتية وآخره ضاد معجمة. قوله: (من عد كلامه من عمله) أي من تنبه وعلم أن الكلام من جملة ما يحاسب به من العمل ويجازى عليه فعد كلامه من عمله بالغ في التجنب عما لا يعنيه منه لأنه علم أنه محاسب بما قال: مجازي بما لا يليق من ذلك المقال فصان لسانه وأخذ حذره وأمانه وقد نقل مثل ذلك عن عمر بن عبد العزيز قال الأوزاعي كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه ذكره في المرقاة وقد جاء هذا المعنى في خبر مرفوع عند ابن حبان في صحف إبراهيم وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له أربع ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب إلى أن قال: ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه أي خوف أن يجره إلى الوقوع فيما يكون سبب العذاب في المآب. قوله: (وقال الإِمام الشافعي لصاحبه الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية آخره مهملة وهو الربيع بن سليمان المرادي وهذا الأثر مقتبس مما تقدم آنفاً من حديث معاذ مرفوعاً عند الطبراني إنك لن تزال سالماً ما سكت فإذا تكلمت كان ذلك لك أو عليك وقد عقد هذا المعنى محمد بن عبيد الله بن الزنجي البغدادي أخرجه عنه ابن النجار من طريق ابن السني فقال:
أنت من الصمت آمن الزلل
…
ومن كثير الكلام في وجل
لا تقل القول ثم تتبعه
…
يا ليت ما كنت قلت لم أقل
تكلمتَ بالكلمة ملكتك ولم تملكها.
وروينا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالرفع: ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان. وقال غيره: مَثلُ اللسان مَثَلُ السَّبُع إن لم تُوثِقْه عدا عليك.
وروينا عن الأستاذ أبي القاسم القشيري رحمه الله في "رسالته" المشهورة قال: الصمت سلامة، وهو الأصل، والسكوت في وقته صِفَةُ الرِّجال، كما أن النُّطْقَ في موضعه أشرفُ
الخصال، قال:
ــ
قوله: (وروينا الخ) قال ابن عبد البر في التمهيد: روى عن ابن مسعود قال: ما الشر إلا في اللسان وما شيء أحق بطول السجن منه. قوله: (ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان) أي لكثرة البلاء المرتب عليه إذا أطلق فيما لا يعنيه وتقدم في أوائل الباب من حديث البيهقي أن الرجل ليزل على لسانه أشد مما يزل على غيره. قوله: (وقال غيره مثل اللسان الخ) بمعناه ما في شرح الأربعين الحديث لابن حجر الهيتمي في الحكمة لسانك أسدك أن أطلقته فرسك وإن أمسكته حرسك. قوله: (وهو الأصل) قال الشيخ زكريا: الأولى وهي يعني بضمير المؤنث وذلك منه باعتبار إن المرجع
السلامة ولاحظ القشيري اعتبار محط الفائدة وهو الأصل فذكر الضمير لذلك قال: النحاة إذا دار الضمير بين مذكر ومؤنث جاز التذكير والتأنيث زاد بعضهم ومراعاة الخبر أولى لأنه محط الفائدة وإنما كانت السلامة الأصل لأنه لا غنيمة إلا بعد السلامة فكل غانم سالم. قوله: (والسكوت في وقته صفة الرجال) أي كأن يسكت خوفاً من الزلل ثم إن المصنف حذف من كلام الرسالة قوله: والصمت عليه ندامة إذا ورد عنه الزجر فالواجب أن يعتبر فيه الشرع والأمر ولا يظهر فيه وجه حذفه فإنه كما يطلب الصمت في محله بأن لم تتيقن المصلحة فيه يطلب الكلام في محله بأن ترتب عليه مصلحة دينية أو معاشية فالصمت حينئذٍ ليس بمحبوب إلا أنه لما كان مضمون قوله والسكوت في وقته الخ، بمعناه اكتفي به. قوله:(والنطق في موضعه) أي كأن يأمر بمعروف أو بتغيير منكر أو يتكلم بكلمة حق عند من يخاف أو يرجى. قوله: (قال) أي القشيري، لا يحتاج إليه لأن المنقول عنه عن أبي
سمعت أبا علي الدقاق رضي الله عنه يقول: من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس. قال: فأما إيثار أصحاب المجاهدة السكوت، فلما عَلِموا ما في الكلام من الآفات، ثم ما فيه من حظّ النفس وإظهار صفات المدح، والميل إلى أن يتميز بين أشكاله بحسن النطق وغير هذا من الآفات، وذلك نعت أرباب الرياضة، وهو أحد أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخُلُق.
ومما أنشدوه في هذا الباب:
ــ
علي الدقاق متصل بالكلام الذي نقله عن القشيري قبله فيها. قوله: (من سكت عن الحق) أي من أمر بمعروف أو نهي عن منكر. قوله: (فهو شيطان أخرس) أي كشيطان أخرس فهو تشبيه بليغ والجامع أن الشيطان يوسوس بالباطل ويسكت عن الحق فلما سكت من ذكر عن الحق أشبهه. قوله: (قال) أي القشيري وأتى به لئلا يتوهم إن ما بعده من كلام أبي علي. قوله: (علموا ما في الكلام من الآفات) أي وهي كثيرة عد منها جانباً كثيراً في الإحياء وقد أشرنا إلى نقل بعضه في حديث من صمت نجا. قوله: (ثم ما فيه) أي ثم علموا ما فيه. قوله: (وذلك) أي السكوت لما في الكلام من تلك الآفات أي وصف أرباب الرياضة. قوله: (وهو أحد أركانهم في حكم المنازلة) هي من المقامات وتهذيب الأخلاق قال الشيخ زكريا ويدل لذلك الخبر الصحيح إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم وقد قال أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما لما رآه آخذاً بلسانه وقال له عمر: مه غفر الله لك: هذا الذي أوردني الموارد ورؤي ابن عباس آخذاً بثمرة لسانه يقول: قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم فحفظ اللسان من أهم الأمور لأنه ترجمان ما في القلب وسلامته من الزلل تستلزم تثبته بقلبه وينبغي التحفظ أيضاً مما يقوم مقام اللسان من إشارة وكتابة وغيرهما فكم من ساكت هو متكلم اهـ. قوله: (ومما أنشدوه الخ)