الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الأمر بالوفاء بالعهد والوعد
قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:
34] والآيات في
ــ
باب الأمر بالوفاء بالوعد
قوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] قال في النهر: وأوفوا بالعهد عام فيما عقده الإنسان بينه وبين ربه وبينه وبين آدمي في طاعة إن العهد كان مسؤولاً ظاهره إن العهد هو المسؤول من المعاهد أن يفي له فلا يضيعه وقيل هو على حذف مضاف أي إن أداء العهد كان مسؤولاً إن لم يف به واسم كان مضمر يعود على العهد أو على ذي العهد ومسؤولاً خير كان وفيه ضمير المفعول أي مسؤولاً هو أي عدم الإيفاء اهـ. قوله: (بعهد الله) في النهر عهد الله علم لما عقده الإنسان والتزمه وفي الآية كما في الإكليل الحث على الوفاء بالعهود. قوله: (أوفوا بالعقود) العقود جمع عقد وهو ما التزمه الإنسان من مطلوب شرعي وهو عام يندرج تحته ما ربطه الإنسان على نفسه أو مع صاحب له مما يجوز شرعاً وأصل العقد في الإجرام ثم توسع فيه فأطلق في المعاني كذا في النهر وفي الإكليل قال ابن عباس: العقود ما أحل الله يعني ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا، أخرجه ابن أبي حاتم وقيل: هي العهود وقيل ما عقده الإنسان على نفسه من بيع وشراء ويمين ونذر وطلاق ونكاح ونحو ذلك، فيدخل تحتها من المسائل ما لا يحصى وقال زيد بن أسلم: العقود خمس: عقدة النكاح، وعقدة الشركة، وعقدة اليمين، وعقدة العهد، وعقدة الحلف، أخرجه ابن جرير وأخرج مثله عن عبد الله
ذلك كثيرة، ومن أشدِّها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].
وروينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذَا حدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤتُمِنَ خَانَ".
زاد في رواية: "وإنْ صامَ وصَلَّى وزَعَمَ أنهُ مُسْلِمٌ".
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، وفيما ذكرناه
ــ
بن عبيدة وذكر بدل عقدة الشركة عقدة البيع اهـ.
قوله: (ومن أشدها) أي أقواها في طلب الوفاء بالعهد. قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104] أشار في النهر إلى احتمالين في المخاطب بذلك من المؤمنين والمنافقين قال: وعلى الأول يراد به التطلف في العتاب وعلى الثاني فمعنى آمنوا أي بألسنتهم والاستفهام للتقريع والتوبيخ وتهكم بهم في إسناد الإيمان إليهم (لم) يتعلق بالفعل بعده وإذا وقف عليه فبألف أو بسكون الميم ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف قال في النهر: والظاهر انتصاب (مقتاً) على التمييز وفاعل "كبر" أن تقولوا، وهو من التمييز المنقول عن الفاعل والتقدير كبر مقت قولكم ما لا تفعلون.
قوله: (روينا في صحيحي البخاري ومسلم) وكذا رواه أحمد والنسائي كما في الجامع الصغير ورواه أبو عوانة بلفظ علامات المنافق الخ وعند مسلم من علامات المنافق ثلاث الخ. قوله: (آية المنافق) أفرد الآية لإرادة الجنس وعند مسلم من علامات المنافق كما تقدم آنفاً وهي أوضح للزيادة على الثلاث في حديث آخر عند البخاري وغيره، ووجه الاقتصار على الثلاث هنا إنها منبهة على ما عداها إذ أصل الديانات منحصر في القول والفعل والنية فنبه على فساد القول بالكذب وعلى فساد الفعل بالخيانة وعلى فساد النية بالخلف لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارناً للوعد فإن وعد ثم عرض له بعد مانع أو بدا له رأي فليس بصورة النفاق قاله الغزالي وفي الحديث ما يشهد له ففي الطبراني من حديث سلمان إذا وعد وهو يحدث نفسه إنه يخلفه وفي الترمذي من حديث ابن أرقم إذا وعد الرجل
كفاية.
وقد أجمع العلماء على أن من وعد إنساناً شيئاً ليس بمنهيٍّ عنه فينبغي أن يفيَ بوعده، وهل ذلك واجب، أم مستحب؟ فيه خلاف بينهم، ذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور إلى أنه مستحبّ، فلو تركه فاته الفضل، وارتكب المكروه كراهةَ تنزيهٍ شديدةً، ولكن لا يأثم،
ــ
أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه، فإن قلت: قد توجد هذه الخصال في المسلم أجيب بأن المراد نفاق العمل لا نفاق الكفر كما أن الإيمان يطلق على العمل كالاعتقاد وقيل: المراد من اعتاد ذلك وصار ديد ناله وقيل: المراد التحذير من هذه الخصال التي هي صفات المنافقين وإنها خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين ومتخلق بأخلاقهم. قوله: (من وعد إنساناً شيئاً) أي من الوعد فهو مفعول مطلق أو من العطاء فهو مفعول به. قوله (فينبغي) أي يطلب. قوله: (ذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور إلى أنه مستحب الخ) قال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به
مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به الغرماء وتعقب الحافظ دعوى الاتفاق على عدم الفرضية بقول المصنف وذهب جماعة إلى أنه واجب وسيأتي قريباً الجواب عن قوله لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به. قوله: (وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار: لم يذكر جواباً عن الآيات والحديث أي التي صدر بها الباب وقال: الدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع هذا الزجر الشديد الذي لم يرد مثله إلا في المحرمات الشديدة التحريم أي من قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} وخلف الوعد من آية المنافق اهـ، قال السخاوي في جزئه المسمى:"التماس السعد في الوفاة بالوعد" لم ينفرد والد شيخنا بالبحث في ذلك فقد قال الشيخ تقي الدين السبكي: وناهيك به قول الأصحاب لا يجب الوفاء بالشرط مشكل لأن ظواهر الآيات والسنة تقتضي وجوبه وإخلاف الوعد كذب والخلف والكذب ليسا من أخلاق المؤمنين قال:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولا أقول بقي ديناً حتى يقضي من تركته وإنما أقول يجب الوفاء تحقيقاً للصدق وعدم الإخلاف وتصير الواجبات ثلاثة: منها ما هو ثابت في الذمة ويطالب بإدائه وهو الدين على موسر وكل عبادة وجبت وتمكن منها، ومنها ما يثبت في الذمة ولا يجب أداؤه كهذا، قلت: قال الشيخ تاج الدين بن السبكي في توشيح التوشيح بعد أن حكى عن والده أن أدلة الكتاب تقضي بوجوب الوفاء بالوعد وأذكر أني كتبت إليه مرة إنقاضاه وعداً:
يا مالكاً في وفاء الوعد مذهبه
…
كما لك هات قد قلت الوفا يجب
كذا تلقيت هذا منك واسمي
…
لم يزل إلى مثله التلقين ينتسب
يا من له أنا كسب وهو لي سبب
…
فيما أروم ونعم الوالد السبب
أشرت إلى تلقين القاضي عبد الوهاب في مذهب الإِمام مالك رضي الله عنه، وبكوني كسباً له إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"وإن أولادكم من كسبكم"، وبكونه سبباً إلى قول الفقهاء إن الوالد سبب وجود الولد اهـ، قال السخاوي: وسلك شيخنا أي الحافظ طريقاً أخرى قال: وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك قال: قلت ونظير ذلك نفقة القريب فإنها إذا مضت مدة يأثم بعدم الدفع ولا يلزم به ونحوه قولهم في فائدة القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة تضعيف العذاب عليهم في الآخرة مع عدم إلزامهم بالإتيان بها والله المستعان وقد أشار إلى هذا الاستشكال صاحب الخادم في آخر الهبة فقال: فإن قيل: فيجب الوفاء بالعهد للخروج عن الكذب فإنه حرام وترك الحرام واجب وقد ذكر الماوردي في الشهادات في الكلام على المروءة أن مخالفة الوعد كذب ترد به الشهادة، فالجواب ما قاله الغزالي في الإحياء إن إخلاف الوعد إنما يكون كذباً إذا لم يكن في عزمه حين الوعد الوفاء به أما لو كان عازماً عليه ثم بدا له ألا يفعل فليس بكذب لأنه حينئذٍ إخبار عما في نفسه وكان مطابقاً له فيكون صدقاً اهـ، وفي
وذهب جماعة إلى أنه واجب، قال الإِمام أبو بكر بن العربي المالكي: أجلُّ من ذهب هذا المذهب عمر بن عبد العزيز،
ــ
إحياء الغزالي من حقوق المسلم ألا يعد مسلماً إلا ويفي به، والخلاف في الوعد بالخير أما الوعد بالشر
فيستحب إخلافه وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة اهـ. قوله: (وذهب جماعة إلى أنه واجب) خرج البخاري في صحيحه تعليقاً أن ابن أشوع قضى بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب اهـ. وقد أسنده وكيع في العزو من الأخبار إلى محمد بن عبيد عن أبيه قضى له ابن أشوع بعده وابن أشوع سعيد بن عمرو بن أشوع الهمذاني الكوفي القاضي حدث عن الشعبي وقد اتفقا عليه مات في ولاية خالد القسري على العراق وكانت ولايته في سنة خمس ومائة إلى أن عزل عنها في سنة عشرين ومائة كذا نقله السخاوي عن خط الحافظ الدمياطي قال السخاوي ولخصه شيخنا يعني الحافظ حيث قال: كان قاضي الكوفة: في زمن إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة وقال في الفتح وقعت رواية ابن أشوع للوفاء بالوعد عن سمرة في تفسير إسحاق بن راهويه قال: ورأيت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه يحتج بحديث ابن أشوع يعني عن سمرة في القول بوجوب إنجاز الوعد الحسن وترجم البخاري من أمر بإنجاز الوعد قال: وفعله أي الأمر بإنجاز الوعد الحسن وكأنه البصري راوي حديث العدة عطية. قوله: (أجل من ذهب إلى هذا المذهب الخ) صرح ابن عبد البر أيضاً بأن المذكور أجل من قال به وحكى القول بوجوب الوفاء بالوعد عن الإِمام أحمد هذا وقد عد في الزواجر عدم الوفاء بالعهد من الكبائر ثم قال: وعده منها هو ما وقع في كلام غير واحد لكن منهم من عبر بما مر ومنهم من عبر بخلف الوعد والعبارتان إما متحدتان أو متغايرتان وعلى كل فقد استشكل عدهما من الكبائر بأنه قد تقرر في مذهبنا أن الوفاء بالوعد مندوب لا واجب وفي العهد أنه ما أوجبه الله أو حرمه ومخالفة المندوب جائزة والوجب والحرام تارة يكون كبيرة وتارة يكون صغيرة فكيف يطلق أن عدم الوفاء بذلك كبيرة ويجاب بحمل الأول أي الوعد بناء على تغايرهما على الملتزم بالنذر ونحوه