الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المدح
اعلم أن مدح الإنسان والثناء عليه بجميل صفاته قد يكون في حضور الممدوح، وقد يكون
بغير حضوره، فأما الذي في غير حضوره، فلا منع منه
ــ
رأيت الكرماني ذكر ذلك فقال لمجرده وذلك إما بتطبيق الشفتين لئلا يبلغ الشيطان مراده منه من الضحك عليه من تشويه صورته وقال بعد ذلك بيسير: الرد أي للتثاؤب يكون بوضع اليد على الفم كما يكون بتطبيق الشفة على الأخرى والوضع أسهل وأحسن قال ابن بطال ليس في الحديث أي حديث البخاري الوضع ولكن ثبت في بعض الروايات إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه اهـ. وقضية الأحسنية أفضلية الوضع على التطبيق وكأنه للنص عليه في هذا الحديث.
باب المدح
هو في اللغة باللسان على الجميل اختياريّاً كان أو غيره على جهة التعظيم وفي العرف ما يدل على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل والفواضل والحمد اللفظي في اللغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التعظيم وفي العرف فعل ينبيء عن تعظيم المنعم بسبب إنعامه فنسبة الحمد اللغوي مع كل من المدحين العموم المطلق لصدق الحمد اللغوي بالاختياري فقط وصدق المدحين بالاختياري وغيره ونسبة الحمد العرفي للمدح اللغوي العموم والخصوص الوجهي لاجتماعهما في الثناء باللسان على النعمة وانفراد الحمد العرفي بصدقه بالثناء بغير اللسان والمدح اللغوي بصدقه بالثناء على غير النعمة وقيل: بل المدح والحمد مترادفان قال الزمخشري في الكشاف المدح والحمد أخوان قال العلامة الثاني السعد التفتازاني في كتبه إنه يريد يكون اللفظين أخوين أن يكون بينهما اشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب كالحمد والمدح أو أكبر بأن يشتركا في أكثر الحروف الأصول فقط كالفلق والفلح والفلذ مع اتحاد في المعنى أو تناسب فمجرد كون المدح والحمد أخوين لا يدل على ترادفهما لكن سوق كلامه هنا وصريح كلامه في الفائق يدلان عليه اهـ. وعبارة الفائق الحمد هو المدح والوصف بالجميل. قوله: (والثناء عليه بجميل صفاته) عطف على مدح من عطف العام على الخاص. قوله: (في يكون في وجه الممدوح) أي بحضوره
بدليل المقابلة أي بمحل يسمع فيه الثناء عليه
إلا أن يجازف المادح ويدخل في الكذب، فيحرم عليه بسبب الكذب لا لكونه مدحاً، ويستحب هذا المدح الذي لا كذب فيه إذا ترتب عليه مصلحة ولم يجرَّ إلى مفسدة بأن يبلغ الممدوح فيفتتن به، أو غير ذلك. وأما المدح في وجه الممدوح فقد جاءت فيه أحاديث تقتضي إباحته أو استحبابة، وأحاديث تقتضي المنع منه.
قال العلماء: وطريق الجمع بين الأحاديث أن يقال: إن كان الممدوح عنده كمال إيمان، وحسن يقين، ورياضة
ــ
بحيث يقال ذكر بين يديه وهل مثله فيما يأتي مدحه في غيبته عند من يتحقق تبليغه له ذلك أولاً والأول أقرب نظراً للمعنى ثم رأيت قوله ولم يجر إلى مفسدة بأن يبلغ الممدوح الخ مصرحاً بما ذكرته فلله الحمد. قوله: (إلا أن يجازف المادح) الجزاف والجزاف المجهول مكيلاً كان أو موزوناً ومنه حديث لا تبتاعوا الطعام جزافاً هذا معناه بحسب اللغة والمراد منه هنا مجازفة القدر اللائق بجناب الممدوح من المدح بغلو أو كذب. قوله: (إذا ترتبت عليه مصلحة) بأن ينشط السامعين ذكر ذلك للإقبال على التحلي بما يتحلى به من الكمال وقال شيخ الإسلام زكريا في تحفة القاريء على صحيح البخاري في باب من أثنى على أخيه بما يعلم من غير مبالغة، في أثناء الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم للصديق لما ذكر استرخاء إزاره لست منهم أي ممن يجره خيلاء: فيه جواز مدح الإنسان بما فيه من الفضل على وجه الإعلام ليقتدي به فيه اهـ. أو للتخلي عما كانوا فيه من سوء الأحوال والأفعال ومن ثم ذكر أصحابنا أنه لو ترتب على المدح مفسدة امتنع كأن ذكر ما ظهر من صورة محاسن ذي بدعة لئلا يؤدي ذكرها إلى ترويج بدعته والتدنس بسوء رزيته.
قوله: (تقتضي إباحته) بأن لم يترتب على عدم ذكر الوصف الممدوح به مخل بكمال. قوله: (أو استحبابه) أي كما إذا ترتب عليه ذلك. قوله: (وأحاديث تقتضي المنع منه) أي على سبيل التحريم إن تحقق أو ظن ترتب المفسدة المذكورة في كلامه على المدح أو على سبيل التنزيه إن توهم ذلك أو شك فيه. قوله: (كمال إيمان الخ) أي ليمنعه ذلك
نفس، ومعرفة تامة، بحيث لا يفتتن، ولا يغتر بذلك، ولا تلعب به نفسه، فليس بحرام ولا مكروه، وإن خيف عليه شيء من هذه الأمور،
ــ
عن رؤية نفسه في صدر الممدوح به فلا تحصل له به فتنة فإن العبد إذا نور الله بصيرته وشهد ما يجب اعتقاده من أنه سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد كلها كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} كان ذلك زاجراً له عن الإعجاب بتلك الطاعات والأوصاف المستحسنات وكيف يفخر بما ليس له بل إنما هو مظهر أبداه فيه مولاه وذلك التنوير يحصل بفضل الله تعالى للعبد عند رياضة نفسه بأمور التكاليف الشرعية وقيامه في مقام المجاهدة السنية قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وهذا هو السالك المجذوب وقد تبغته الفيوض الربانية وتفجؤه الجذبات الروحانية ابتداء من غير جد وتعب وهو الذي شرف بمقام الجذب ثم تارة يرجع إلى مقام السلوك فيصير من أرباب الكمال إذ الذين يقتدي بهم السالك المجذوب والمجذوب السالك، وغيرهما من السالك غير المجذوب والمجذوب غير السالك لا يقتدي بهما بحال والله أعلم. قوله:(بحيث لا يفتتن) هذا بيان المعرفة التامة الحاصلة لذلك العبد المؤيد بالنور الإلهي الذي يجوز أن يمدح في وجهه وفتنته بثناء النّاس عليه لصالح العمل أن يركن لذلك في كون سبب عطبه وهذا فيمن هو موصوف بالحقيقة بما وصف به. قوله: (أو يغتر بذلك) بأن يغره ثناء النّاس عليه
بوصف ليس هو قائماً به فتخيل له نفسه الخداعة وتغره بأن ذلك قائم به وأنه موصوف به ولذا مدح به قال بعض العارفين الغبي من ترك يقين ما عنده لظن ما عند النّاس وكان الصديق الأكبر رضي الله عنه يقول لما يمدح اللهم اجعلني كما يظنون واغفر لي ولهم ما لا يعلمون. قوله: (ولا تلعب به نفسه) فيعجب بما وصف به مما هو قائم به فيكون سبب هلكته ففي الحديث ثلاث منجيات وثلاث مهلكات إلى أن قال: وأما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن وكان بعض أكابر الصالحين مقبلاً على العمل الصالح مع الدأب فيه فرأى إنساناً ينظر إليه فيعجب من مزيد اجتهاده فقال له: يا أخي لا يعجبك من أمري ما ترى فقد عبد إبليس ربه سبعين ألف عام فلم يفده ذلك يعني لا يكن نظرك إلي سبباً لإدخال العجب علي بما أنا فيه من العمل فإن العمل لا يوصل إلى الجنة بنفسه إنما يوصل إليها مجرد الفضل الإلهي والإحسان فالأعمال الصالحة
كره مدحه كراهة شديدة.
فمن أحاديث المنع ما رويناه في "صحيح مسلم" عن المقداد رضي الله عنه "أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمَد المقداد فجثا على ركبتيه فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيْتُمُ المَدَّاحِينَ فاحْثُوا في وجوهِهمُ
ــ
أمارات وليست مؤثرات فالاعتماد والركون لا يكون عليها إنما الاعتماد على مَنْ مَنَّ بها بفضله وإحسانه. قوله: (كره مدحه كراهة شديدة) يحتمل أن يكون وصف الكراهة بالشدة إشارة إلى الكراهة التحريمية ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في الكراهة من غير انتهاء إلى التحريم وهذا الثاني أقرب لظاهر كلامه هنا ولو قيل بما سبق أول الباب من التفصيل لم يبعد والله أعلم.
قوله: (فمن أحاديث المنع ما رويناه في صحيح مسلم الخ) هو فيه من رواية همام بن الحارث عن المقداد ورواه أبو داود في سننه عن همام بن الحارث قال جاء رجل الخ وأخرج الترمذي عن عبد الله بن سخبرة قال: قام رجل يثني على بعض الخلفاء فجعل المقداد يحثي عليه التراب. قوله: (فعمد المقداد) أي قصد ردع المادح عمداً. قوله: (فجثا على ركبتيه) أي جلس عليهما وفعل ذلك لأنه كان ضخماً كما في رواية فلا يتمكن من حسو التراب على ما يريد إلا بذلك. قوله: (فجعل يحثو في وجهه الحصباء) هو بالواو من الحثو عند جميع رواته قال المصنف في شرح مسلم في أواخر الكتاب قال أهل اللغة: يقال حثيت احثي حثياً وحثوت أحثو حثواً لغتان وقد جاءت كلمات لأماتها وأوتارة
وياء أخرى جمعتها في مؤلف سميته "منهج من ألف فيما يرسم بالياء وبالألف" والحثو هو الحفن باليدين اهـ. والحصباء الحصى الصغار كما في النهاية والمراد به هنا ما كان قريباً من الرمل لأنه جاء في حديث الترمذي فجعل يحثو عليه التراب وفي حديث الباب أن المقداد استدل لفعله ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم أن يحثو في وجوه المداحين التراب. قوله: (إذا رأيتم المداحين الخ) قال الديبع في تيسير الوصول المداحون هم الذين اتخذوا مدح النّاس عادة يستأكلون به الممدوح أما من مدح على الأمر
الحسن أو الفعل المحمود ترغيباً له في امتثاله وتحريضاً للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح وهذا الأمر بالحثو قد حمله على ظاهره
التُّرابَ".
وروينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويُطريه في المِدْحة فقال: "أهْلَكْتُمْ أوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ".
قلت: قوله: يُطريه، بضم الياء وإسكان الطاء المهملة وكسر الراء وبعدها ياء مثناة تحت. والإطراء: المبالغة في المدح ومجاوزة الحد، وقيل: هو المدح.
وروينا في "صحيحيهما" عن أبي بكرة
ــ
المقداد الذي هو راويه ووافقه طائفة وكانوا يحثون التراب في وجهه وقال آخرون: معناه خيبوهم ولا تعطوهم شيئاً لمدحهم وقيل إذا مدحتم فاذكروا أنكم من تراب فتواضعوا ولا تعجبوا قال المصنف في شرح مسلم: وهذا ضعيف اهـ. وقيل: المراد منه عيبوا المداح كما ذكره الربيع. قوله: (وروينا في صحيحي البخاري ومسلم الخ) رواه البخاري في الشهادات في الأدب وفي الرقائق ومسلم في آخر الكتاب. قوله: (يثني على رجل) أي يذكر أوصافه الجميلة. قوله: (ويطريه في المدحة) بكسر الميم أي جاوز الحد في مدحه وقول الشيخ فيما بعد: وقيل هو أي الإطراء المدح، تفسير له لا خصوص هذا الحديب كما يظهر إذ يبعده أنه بصير تقدير الخبر يمدح في المدحة وهو غير مراد. قوله:(أهلكتم الرجل أو قطعتم ظهره) شك من الراوي في اللفظ الصادر منه صلى الله عليه وسلم والمراد من الجملتين هنا معنى واحد قال شيخ الإسلام زكريا في حاشية البخاري قطعتم ظهره أي أهلكتموه استعارة من قطع العنق الذي هو القتل لاشتراكهما في الهلاك لكن هذا هلاك في الدين وذلك في الدنيا اهـ. قال المصنف في شرح مسلم وقد يكون في الدنيا لما يشتبه عليه من حاله بالإعجاب ثم قوله في الحديث أهلكتم الخ بضمير الجمع مع أن فاعل ذلك الثناء والإطراء واحد منهم إما لكسوتهم عن إنكار ذلك عليه فكأنهم فاعلوه فقال ذلك أو تكرر ذلك من أقوام وذكر أبو موسى ما رأى من فعل آخرهم وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ما ذكره والله أعلم.
قوله: (روينا في صحيحيهما الخ) ورواه أبو داود وقال في حديثه فقال له قطعت عنق صاحبك ثلاث مرات ورواه ابن ماجه وقال فيه كما عند الشيخين يقوله مراراً وباقيه عندهما بنحوه. قوله:
رضي الله عنه "أن رجلاً ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رَجُلٌ خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ -يقوله مراراً- إن كانَ أحَدُكُمْ مادِحاً أخاه لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أحْسِبُ كَذَا وَكَذَا
ــ
(أن رجلاً ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم) ذكر فيه بصيغة المجهول. قوله: (فقال صلى الله عليه وسلم ويحك الخ) يحتمل أن سبب ذلك كون المادح جاوز في مدحته ودخل في الإطراء المنهي عنه لما فيه من الكذب كما سبق أول الباب ويحتمل أنه خشي على الممدوح أن يبلغه الثناء عليه فتحصل له به فتنة من عجب ونحوه والله أعلم، وويح كلمة ترحم وتوجع تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها كما سبق وأخرجه الشيخان في كتاب الشهادات وفي باب قول الرجل ويلك بلفظ فقال: ويلك وهو منصوب بمقدر من غير لفظه وهو في الأصل الحزن والمشقة من العذاب ويستعمل بمعنى التفجع والتعجب وهو هنا يصلح للأمرين كذا في تحفة القاري للشيخ زكريا. قوله: (يقوله مراراً) أخرجه البخاري هكذا في باب ما
يكره من التمادح وأقل ما يصدق به ثلاث مرات وقد جاء مصرحاً به بلفظ ثلاث مرات عند البخاري في باب قول الرجل ويلك وكذا أخرجه أبو داود ووقع عند البخاري في آخر كتاب الشهادات فقال صلى الله عليه وسلم: "قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك مراراً" قال الشيخ زكريا: ظاهره أنه قال الكلمتين مراراً فيصدق بأنه قال كلا منهما ست مرات بناء على أن أقل الجمع ثلاثة اهـ. قلت: بل ظاهر اللفظ أن التكرار مرة ثانية من كلام الراوي أراد ابتداء التكرار بقدر مرات تكراره صلى الله عليه وسلم فلما رأى طول ذلك اقتصر على الثانية وأشار إلى الكثرة بقوله مراراً فالذي يفيد الحديث حينئذٍ تكرار هذا المقال منه صلى الله عليه وسلم مراراً المحتمل للثلاث وما فوقها والله أعلم وبتقدير ثبوت ذلك فلا ينافي ما جاء من أنه قال ذلك ثلاثاً إما لأن ذكر الأقل لا ينفي الزائد وإما لاحتمال تعدد القصة والله أعلم. قوله: (لا محالة) هي بفتح الميم أي لا بد. قوله: (أحسب كذا وكذا الخ) أحسب بفتح السين أفصح من كسرها أي أظن وماضيه بكسرها فيهما ومصدره محسبة بفتح السين وكسرها وحسبان وأما
إن كانَ يَرَى أنَّهُ كَذَلِكَ، وحَسِيبُهُ اللهُ ولَا يُزكي على اللَّهِ أحَداً".
وأما أحاديث الإباحة فكثيرة لا تنحصر، لكن نشير إلى أطراف منها.
فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لأبي بكر رضي الله عنه: "ما ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالثهُما؟ ".
ــ
حسبت بمعنى العدد فبفتح السين في الماضي وضمها في المضارع ومصدره حسب وحساب وحسابة وحسبان بالضم في الأخير كذا في تحفة القاري للشيخ زكريا. قوله: (إن كان الخ) أي يقول المادح أحسب كذا وكذا أي علم وكرم فلان إن كان المادح يرى أي يعلم أن الممدوح كذلك وإلا كان إطراء ومجاوزة للحد أو كذباً. قوله: (وحسيبه الله) أي محاسبه ربه على علمه وقيل معناه كافيه فهو فعيل بمعنى فاعل والمراد من علم ذلك ظنه كما يدل عليه قوله فليقل: أحسبه كذا الخ إذ القطع لا يعلمه إلا الله والجملة اعتراضية بين المتعاطفين تحريضاً على تحري الصدق والتثبت في ذلك. قوله: (ولا يزكي على الله أحداً) هكذا رواه البخاري في باب ما يكره من التمادح ورواه في آخر الشهادات ولا أزكي ويزكي بالبناء للفاعل وأحداً منصوب وفي نسخة من البخاري بالبناء للمفعول ورفع أحد والغرص من هذه الجملة منعه من الجزم بالتزكية على الله تعالى لأنه الذي يعلم السرائر ثم هم على رواية ولا أزكي معطوف على أحسب من جملة المقول أي فليقل: أحسب الخ ولا أزكي على الله أحداً أي لا أقطع له بعاقبة ولا بما في ضميره لأن ذلك مغيب عني وظاهر كلام الشيخ زكريا أنه كذلك على رواية التحتية لأنه أعرب جملة والله حسيبه معترضة بين المتعاطفين أي أحسب ولا يزكي والله أعلم.
قوله: (وأما أحاديث الإباحة الخ) يوهم حصر أحاديث المنع فيما ذكر وهو غير مراد نعم أحاديث المنع أقل من أحاديث الإباحة ولم يعدل إلى الترجيح بالكثرة لأن محل العدول ما لم يمكن إعمال الدليلين وإلا فهو الأولى. قوله: (قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الخ) أخرجه الشيخان والترمذي كما في جامع الأصول كلهم من حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام
المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحداً نظر إلى قدميه أبصرنا
تحت قدميه فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما اهـ.
وقوله (الله ثالثهما) قال المصنف معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وفيه بيان عظيم
وفي الحديث الآخر: "لَسْتَ مِنْهُمْ" أي لست من الذين يُسْبِلُون أُزُرَهم خُيَلاء.
وفي الحديث الآخر: "يا أبا بَكْرٍ لا تَبْكِ،
ــ
توكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه وهي من أجل مناقبه والفضيلة من أوجه منها هذا الفضل ومنها بذل نفسه ومفارقة أهله وماله ورياسته في طاعة الله ورسوله وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة النّاس فيه ومنها جعله نفسه وقاية عنه وغير ذلك اهـ.
قوله: (وفي الحديث الآخر لست منهم الخ) أي وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه هو حديث صحيح رواه البخاري وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه فقال صلى الله عليه وسلم: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء كذا في جامع الأصول وقال الربيع في التفسير بعد إيراده بهذا اللفظ أخرجه الخمسة إلا الترمذي ومراده بالخمسة الصحيحان والسنن غير سنن ابن ماجه ثم ظاهر إيراد الحديث عند من ذكر أنه بهذا اللفظ أي لست ممن يجر إزاره الخ وقضية تعبير المصنف أن لفظ الخبر لست منهم أي بضمير الجمع المذكر الغائب أورده كذا في كتاب الإيمان من شرح مسلم ولعله كذلك عند بعض رواته والله أعلم قال ابن النحوي في شرح البخاري في الحديث منقبة للصديق رضي الله عنه حيث شهد له الشارع بأنه ليس منهم قال الكرماني قال ابن قتيبة في كتاب المعارف كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه نحيفا أحني لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه أقول لفظ أحني بالحاء المهملة وبالجيم يقال رجل أحنى الظهر بالمهملة أي في ظهره أحديداب ورجل أجنأ بالجيم مهموز أي أحدب الظهر ثم الاسترخاء يحتمل أن يكون من طرف القدم نظراً إلى الأحديداب ويحتمل أن يكون من اليمين أو الشمال نظراً إلى النحافة إذ الغالب أن النحيف لا يستمسك إزاره على السواء والله أعلم.
قوله: (وفي الحديث الآخر) أي وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر لأبي بكر أي عنه مخبراً بما له عنده من المرتبة وهو حديث صحيح رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم النّاس وقال: "إن الله تعالى خير عبداً
إن أمَنَّ النَّاس عليَّ في صحبته وماله
أبو بكر، ولَوْ كُنتُ مُتَّخِذاً مِنْ أُمَّتي خَلِيلاً لاتخَذْتُ أبا بَكْرِ خَلِيلاً".
ــ
بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله قال: فبكى أبو بكر فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبداً بين الدنيا وبين عنده فاختار ما عنده فكان صلى الله عليه وسلم هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر لا تبك إن أمن النّاس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته" والحديث قال المزي في الأطراف: أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ومسلم في الفضائل والترمذي والنسائي في المناقب وقال الترمذي حسن صحيح. قوله: (إن أمن النّاس) بفتح الميم وتشديد النون أي أكثرهم جوداً بنفسه وماله بلا استثابة أي لا تعطي لتأخذ أكثر مما أعطيت فليس هو من السنن الذي يفسد
الصنيعة فإنه لا منة عليه صلى الله عليه وسلم لأحد بل منته على جميع الخلق ووقع في نسخة من البخاري إن من أمن النّاس على الخ وعليها فتؤول لأجل رفع أبي بكر بأن من أمن صفة لمحذوف أي إن رجلاً من أمن النّاس أو يجعل اسم إن ضمير الشأن كما قيل به في حديث إن من أشد النّاس عذاباً يوم القيامة المصورون. قوله: (ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) هكذا هو في رواية للبخاري وفي رواة أخرى ولو كنت متخذاً خليلاً وفي رواية لاتخذت أبا بكر بحذف خليلاً وفي أخرى يعني خليلاً والخليل فعيل بمعنى مفعول وهو كما قال الزمخشري المخال الذي يخالك أي يوافقك في خلالك أو يسايرك طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل أو تسد خللك كما يسد خلله وقيل أصل الخلة الانقطاع فخليل الله المنقطع إليه والمعنى ها هنا لو كنت منقطعاً إلى غير الله لانقطعت إلا أبي بكر ولو اتسع قلبي لغير الله لاتسع له، وأما قول بعض الصحابة سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم فانقطاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك انقطاع إلى الله مع أن البعض هو الذي اتخذ النبي خليلاً لا أن النبي اتخذه خليلاً.
ثم الحديث نظير حديث السيدة فاطمة حيث بكت لما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بقرب وفاته وأزال عنها أثر ذللك الحزن حيث بشرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة فكذا الصديق لما حزن وبكى على ما فهمه من الإيذان بفراق المصطفى صلى الله عليه وسلم جبر الرسول صلى الله عليه وسلم قلبه فكأنه قال:
وفي الحديث الآخر: "أرْجُو أنْ تَكُون مِنْهُمْ" أي من الذين يُدْعَون من جميع أبواب الجنة لدخولها.
وفي الحديث الآخر: "ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرهُ بالجنَّةِ".
ــ
"لا تبك يا أبا بكر وأعلمه بما يسر به بقوله إن أمن النّاس على الخ" وهذا مما فتح الله علي به ولم أجده لأحد وهو واضح جلي والله أعلم. قوله: (وفي الحديث الآخر) أي وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر لأبي بكر وهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم والترمذي واقتصر المصنف على قوله (وأرجو أن تكون منهم) ولم يقل: يا أبا بكر وعند البخاري بزيادة ذلك والحديث عند جميع من ذكر من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعى من أبواب يعني أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعى من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعى من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الصيام باب الريان" فقال أبو بكر ما على الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة وهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله فقال: نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر قال المصنف في شرح مسلم وفي الحديث منقبة لأبي بكر رضي الله عنه جواز الثناء على الإنسان إذا لم يخف منه إعجاب اهـ. قال السيوطي في التوشيح الرجاء من الله ومن نبيه واقع، ثم إن أبواب الجنة ثمانية وعد في الحديث أعمال أربعة منها وبقي منها باب الحج ولم يرد فيه حديث وباب للمتوكلين وهو باب الأيمن وباب للكاظمين الغيظ وفيه حديث عند أحمد وباب للذكر أو العلم ففي الترمذي ما يوميء إليه اهـ.
قوله: (وفي الحديث الآخر ائذن له وبشره بالجنة) أي ومن أحاديث الإباحة بالشرط السابق
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل في قصة بئر أريس لما جعل أبو موسى الأشعري نفسه ملازماً للباب وفي رواية للترمذي أنه بأمره صلى الله عليه وسلم وجمع بينهما المصنف باحتمال أنه أمره أولاً بذلك لكونه صلى الله عليه وسلم كان يقضي حاجة الإنسان ويتوضأ ثم حفظ الباب أبو موسى من تلقاء نفسه قال: فجاء أبو بكر فدفع الباب فقال أبو موسى: من هذا فقال أبو بكر فقلت: على رسلك ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله أبو بكر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فأقبلت حتى قلت لأبي بكر ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة ووقع مثله لعمر وعثمان رضي الله عنهما الحديث
وفي الحديث الآخر: "اثْبُتْ أُحُدُ
ــ
رواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي موسى وفي بعض طرقه أن كلاًّ منهم قال حين بشر الحمد الله وقال عثمان الحمد الله والله المستعان وفي الحديث منقبة لمن ذكر فيه حيث بشروا بالجنة ولعثمان بزيادة الابتلاء ووقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم وفيه معجزة له صلى الله عليه وسلم.
وفي ترتيب الشيخ الأحاديث المذكورة في فضل الصديق تلميح إلى أن ترتبها في الخارج كذلك فإن داعي الخير سابقة الفضل والإعانة من الله سبحانه المدلول على ذلك بقوله ما ظنك باثنين الله ثالثهما ومن كانت له هذه المكانة من فضل ربه يحفظ من سائر المخالفات ومنها الخيلاء كما قال صلى الله عليه وسلم لست منهم أي من أرباب الخيلاء والتخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل سبب لحلول الفيوض الإلهية والتجليات الربانية على القلب فيصير الإنسان من أرباب الإلهام والتحديث فيفهم ما لا يفهمه غيره من إشارات الخطاب ومنه ما في الحديث الثالث ولما كان منه ما كان من الحزن على فقد المصطفى وغلبه الحال حتى بكى جبر صلى الله عليه وسلم قلبه وبشره بما يسر له من قوله إن من أمن النّاس على الخ أي أسرعهم إجابة بنفسه وماله لداعي الله وهو الرسول ففيه الإيماء إلى أن من بادر لطاعة الرسول فقد بادر لطاعة مولاه وذلك سبب خيره في عاجله وعقباه ومن خير العقبى حلول الجنان خصوصاً مع مزيد الإكرام بأن يدعى من كل أبوابهما الثمان ويخير في الدخول من أيها شاء تنويها بشأنه وإعلاماً بعلى قدره ومكانه والله أعلم. قوله: (وفي الحديث الآخر) أي ومن أحاديث إباحة المدح بشرطه قوله لأحد لما رجف رجفة سرور وطرب بمن عليه وذلك بأن جعل الله فيه من الإدراك ما أدرك به كمال من عليه ويدل لذلك ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم أحد جبل يحبنا ونحبه فلما رجف أحد وكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان قال: اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان والحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي من حديث أنس وفي رواية فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد وفي الحديث فضل عظيم لمن ذكر فيه. قوله: (أثبت أحد) أي يا أحد وهو الجبل المعروف بالمدينة.
فإنَّما عَلَيكَ نَبِيٌّ وَصِدَّيقٌ وَشَهِيدَانِ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَرَأيْتُ قَصْراً، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ قالوا: لِعُمَرَ، فأرَدْتُ أنْ
ــ
قوله: (فإنما عليك نبي الخ) حكمة هذه الجملة تبيين أن هزة أحد ليست من جنس رجفة الجبل بقوم موسى لما حرفوا الكلم لأن تلك رجفة غضب وهذه طرب كذا في تحفة القاري قال وفي نسخة وصديق بالواو في محل أو وفي أخرى وشهيد بالإفراد والمراد منه ما جاء في الثانية شهيدان قال: وصح تفسيره بهما لأن فعيلاً يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع قال الكرماني فإن قلت وصديق بالواو وشهيد بالألف قلت: تغيير الأسلوب للإشعار بمغايرة حالهما لأن النبوة والصدق حاصلتان حينئذٍ بخلاف الشهادة والأولان حقيقة والثالث مجاز وفي بعضها بلفظ أو فيهما قيل أو بمعنى الواو اهـ. وفي ذكر هذا الحديث وما
قبله بين الأحاديث التي في فضل الصديق والتي في فضل عمر لأنه جامع لفضلهما منوه بعلو شأنهما ففي الأول أنهم من أهل الجنة وفي الثاني الإخبار بشأن الصديق من الصديقية التي هي أعلى المراتب بعد وصف النبوة وبما لعمر من حوز الشهادة التي هي من أسنى أسباب السعادة وفي الحديث معجزة له صلى الله عليه وسلم فقد وقع لهم كما ذكر صلى الله عليه وسلم توفي عمر وعثمان شهيدا والصديق صديقاً حميداً.
قوله: (وقال صلى الله عليه وسلم الخ) ينبغي أن يقدر قبله حرف مصدري ينسبك معه الفعل بالقول ليحصل التناسب بين المتعاطفات أو أنه أتى به كذلك لأن قوله في معنى ما قال أي دليل الإباحة ما قال مما تقدم في فضل الصديق وما قال صلى الله عليه وسلم مما يذكر في فضل عمر رضي الله عنه رأيتني دخلت الجنة ورأيت قصراً بفنائه جارية فقلت: لمن هذا فقيل لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك فقال: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار أخرجه مسلم من حديث جابر وأخرجه البخاري من حديثه أيضاً بنحوه وفيه زيادة أنه رأى في الجنة الرميصاء وبلالاً وعند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وفي آخره قال أبو هريرة فبكى عمر ونحن جميعاً في المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال عمر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أعليك أغار وأخرجه الترمذي من حديث أنس وليس فيه قوله فأردت أن أدخل الخ وأخرجه أيضاً من حديث بريدة بطول وفيه ذكر رؤيته لبلال في الجنة. قوله: (فرأيت فيها قصراً) من ذهب كما في حديث بريدة